تشهد الساحة الدولية تحوُّلات إستراتيجية في التسلسل الهرمي للقوى العالمية، ومعضلات اقتصادية معقَّدة بتفاقم أزمات الطاقة والغذاء والديون ذات الطابع العالمي، وفوضى أمنية عالمية عارمة؛ بتصاعد اللجوء إلى القوَّة المسلَّحة سبيلًا لحسم الصراعات الممتدَّة، على خلفية الانسحاب الأمريكي الفوضوي من الساحة الأفغانية، والتحدي الروسي للمعسكر الغربي الأوروبي والأمريكي بشنّ الحرب ضدَّ أوكرانيا. وهو ما نتَجَ عنه اهتزازُ صورة ومكانة الولايات المتحدة؛ كقوَّة دولية حاكمة للنظام الدولي بشكل منفرد، وضعف التزامها تجاه حلفائها.
خلَق اهتزازُ صورة الولايات المتحدة كقوَّة عالمية أزمةَ ثِقة لدى حلفائها حول العالم، في مدى قدرتها ورغبتها في توفير الحماية اللازمة لأمن الدول الحليفة، ولمصالحهم، وأولوية دوائرهم الجغرافية في إستراتيجيتها الخارجية، كما كان الحال في السابق. نتيجةً لذلك، توالت المؤشرات على توجُّه بعض القوى الحليفة في الشرق الأوسط وخارجه للبحث عن حلفاء دوليين جُدد، وعدم الاعتماد على الحليف الأمريكي فقط، وقد عزَّز هذه الصورة تصاعُد تأكيدات صادمة لكبار المنظِّرين في علم السياسة، بل والسياسيين المؤثرين في دوائر صُنع القرار الغربي، مثل جون ميرشايمر وهنري كيسينجر وتوني بلير، على مرور النظام الدولي بتحوُّل يشهدُ نهايةَ الهيمنةِ الغربية والأمريكية على العالم، لصالح تعدُّديةٍ أو ثُنائيةٍ قطبيةٍ قادمة لا محالة.
تُدرك الولايات المتحدة اهتزازَ صورتها في قيادتها العالمية؛ لذلك تتحرَّك على عدَّة مستويات سياسية واقتصادية وعسكرية عالمية، للحفاظ على هيمنتها المنفردة على النظام الدولي، من خلال؛ أوّلًا: تطويق وحصار الخصوم المنافسين على القيادة الدولية مثل الصين وروسيا، ثانيًا: توريطهم في صراعات معقَّدة لاستنزاف قواهم وإشغالهم عن موقع الريادة في النظام الدولي، ثالثًا: التأثير على توجُّهات حلفائها الباحثين عن بدائل دولية بإفقادهم الثقة في القوى الجديدة، مقابل استمرارية اعتمادهم على البديل الأمريكي فقط، رابعًا: الضغط على القوى الإقليمية ذات النزعة التوسُّعية والطموحات النووية، مثل إيران، للعودة للاتفاق النووي حسب الاشتراطات الأمريكية.
مؤخرًا، كثَّفت إدارة بايدن من أنشطتها، التي لم تكُن بمحض الصدفة على الإطلاق، لاستعادة الثقة في قوَّة الولايات المتحدة عالميًا، بدايةً بالترويج للقدرات الأمريكية في مجال الفضاء، بأنَّ ما وصلت إليه البلاد لم تستطِع قوَّةٌ دولية ثانية أنْ تصل إليه، عبر إعلان الرئيس عن أول صورةٍ ملوَّنةٍ بالكامل التقطها تلسكوب جيمس ويب الفضائي في مهمَّةٍ لاستكشاف تاريخ الكون. ثُم هرولت نحوَ الشرق الأوسط لاستعادة ثِقة الحلفاء، ثُم بثَّت رسائل للعالم بأنَّ الانسحاب العسكري من أفغانستان لا يُعيق جهودَ مكافحة الإرهاب هناك، وأنَّ الولايات المتحدة تستطيع اختراق أكثر المناطق تحصينًا في أيّ بقعة على وجه الأرض، وذلك باستهدافها زعيمَ تنظيم القاعدة في كابول أيمن الظواهري بصاروخ متطور، وحرصت على تزامُن ذلك مع قُرب حلول الذكرى الأولى للانسحاب الأمريكي من أفغانستان، بنهاية أغسطس 2022م، وقُرب حلول الذكرى الـ 21 لأحداث 11 سبتمبر، وقُرب انتخابات التجديد النصفي للكونجرس المقرَّرة في نوفمبر 2022م؛ الأمر الذي يُعطي زخمًا للترويج لاستمرارية سيطرة الولايات المتحدة على زمام القيادة الدولية.
لم ترَ الإدارةُ الأمريكية ما سبق من تحرُّكاتٍ كافيًا لاستعادة الثقة في قوَّتها الدولية دون منازع، بل سعت لزعزعة ثِقة الحلفاء الراغبين في الانضمام إلى الفلك الصيني، ولتوريط الصين في حرب استنزاف في تايوان، على غرارِ حرب الروس في أوكرانيا، عبر تنفيذ زيارةِ رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي لتايوان -ضمن جولة آسيوية لليابان وكوريا الجنوبية- على الرغم من التحذيرات الصينية لمنع اندلاع حربٍ في بحر الصين الجنوبي، وذلك لمخالفتها -بحسب الصينيين- مبدأ الصين الواحدة، وحملها إشاراتٍ عملية خاطئة لتايوان بالدعم الأمريكي للانفصال، على الرغم من الاعتراف النظري الأمريكي بالمبدأ.
ردودُ فعل الصين -الصاعدة بقوة على الساحة الدولية- على زيارة بيلوسي لتايوان، أثبتت للقوى الراغبة في موازنة العلاقة بين واشنطن وبكين أنها في محلها، وأنها قطبٌ دوليٌ كبير ذو ثقل ومكانة وتأثير في الشؤون الدولية لا يُستهان به، بعكس ما أرادت واشنطن إثباته للعالم، وعبر تبنِّي مقاربات تعديلية، أثبتت للعالم أنها ذات فطنة عالية للفخ، بتفويتها الفرصة على الولايات المتحدة بعدم التورُّط في الحرب.
قامت الصين بردودٍ تصعيدية محسوبة، بدايةً من إجرائها مناورات عسكرية بالذخيرة الحية، في 6 أماكن حيوية في المياه الإقليمية التايوانية لمدَّة ثلاثة أيام، قُبالة الموانئ الحيوية التايوانية؛ لبثِّ رسائل لتايوان وحلفائها من الغرب الأوروبي والأمريكي بسهولة التحكم في صادراتها ووارداتها، وإحكام الحصار عليها وخنقها، بل واجتياحها والسيطرة عليها، حال تطلَّب الأمر ذلك؛ ما مِن شأنه خلقُ أزمةٍ إضافية لواشنطن والعواصم الأوروبية مع الأزمات الناتجة عن الحرب في أوكرانيا، خاصةً في مجال الرقائق الإلكترونية الضرورية للجانبين الأوروبي والأمريكي.
كذلك، أطلقت بكين صواريخ باليستية فوق تايوان، ورصدت الصحافة العالمية تخطِّي هذه الصواريخ للمجال الجوي التايواني نحوَ المنطقة الاقتصادية اليابانية، التي تبعُد عن تايوان نحو 2000 كلم، وأكَّد محلّلون أنَّ مدى هذه الصواريخ ليس لإيصال الرسائل لتايوان وحدها، بل لحلفاء واشنطن الذين استقبلوا بيلوسي، مثل طوكيو وسيئول، بأنهم في مرمى الصواريخ الصينية، بل لواشنطن أيضًا، بأنَّ الصواريخ الصينية قادرة على الوصول إلى قواعدهم العسكرية في اليابان. هذه الإجراءات أجبرت واشنطن على تحريك قطعٍ عسكريةٍ كبيرة من أسطولها البحري نحوَ تايوان؛ تحسُّبًا لأيّ هجومٍ صيني. لم تتوقَّف بكين عند حدِّ التصعيدات العسكرية المحسوبة، بل كسرت قاعدة الاحتكار الأمريكي المؤثر لفرض العقوبات بفرضها العقوبات على بيلوسي، وأعلنت تخفيضَ مستويات التعاون الأمريكية-الصينية، في مجالات مكافحة الجريمة عبر الحدود، والسلامة البحرية، ومكافحة المخدرات، وإعادة المهاجرين غير الشرعيين، والتغيُّرات المناخية.
وفي الختام، يمكن القول إنَّ الإستراتيجيةَ الأمريكية لزعزعة ثِقة حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وخارجه في القوى الدولية المنافِسة للحليف الأمريكي، وكذلك سياساتها التوريطية للقوى الدولية التعديلية كالصين وروسيا، لم تؤتِ أُكُلها بعد، فلم يثنِ سلاحُ العقوبات الروسَ عن إيقاف تحقيق أهدافهم من الحرب في أوكرانيا، بل وضعت هذه الحرب القارةَ الأوروبية في مأزقٍ إستراتيجي، على خلفية استخدام الروس ورقةَ الغاز ضدَّهم؛ لثني الأوروبيين عن تقديم السلاح والمدد لأوكرانيا. كما لم تنجح زيارة بيلوسي لتايوان في توريط الصين في الحرب ضدَّ هذه الجزيرة، أو في هزِّ ثِقة الحلفاء في القوة الصينية. كل ذلك قد يُثبت للقوى الإقليمية في الشرق الأوسط، بأنَّ هناك واقعًا إقليميًا ودوليًا جديدًا يتشكَّل بالفعل، يتحدَّى الهيمنةَ الأمريكية المنفردة على العالم، على الرغم من السياسات الأمريكية المشار إليها للحفاظ على الهيمنة المنفردة على النظام الدولي، وأنَّ الصين قطبٌ وبديلٌ دولي يمكن التعويلُ عليه، بعد اختبار قوَّته وأدوات تأثيره في الشؤون الدولية؛ ما يُؤكِّد منطقيةَ خيارِ مُضي القوى الإقليمية في تعدُّد بدائل سياستها الخارجية.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد