جاءت محاولة اغتيال الروائي سلمان رشدي في أثناء محاضرة بنيويورك، بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة عن صدور فتوى الخميني بقتله، وتخصيص الدولة الإيرانية مكافأة مالية لمنفِّذها. الشاب اللبناني الأصل الذي نفَّذ العملية يُدعى هادي مطر، ويصغر فتوى الخميني بتسع سنوات! لم تتضح بعدُ دوافع ارتكابه الجريمة. الإيرانيون لم ينفوا عَلاقتهم بالحادثة فحسب، بل اتهموا الولايات المتحدة بتدبيرها لإفشال التوصل إلى اتفاق نووي، كما عبَّر عن ذلك مستشار فريق التفاوض النووي الإيراني محمد مرندي، بتغريدة استغرب فيها تزامُن الهجوم على رشدي مع قُرب إحياء الاتفاق النووي والإعلان عن إحباط محاولة اغتيال جون بولتون. يبدو واضحًا أن هذا الربط ضعيف جدًّا، فمحاولة اغتيال بولتون تكفي واشنطن إذا كانت تبحث عن ذريعة لعدم التوقيع على الاتفاق. قد يمكن حصر ما حصل بين فرضيتين: إما تورُّط الحرس الثوري الإيراني بالوقوف وراءها، وهناك أدلة كثيرة تؤيد ذلك، منها محاولة الحرس التخطيط لاغتيال شخصيات سياسية ودبلوماسية داخل الولايات المتحدة وخارجها، لعله ليس آخرها جون بولتون. وإما أن الفعل كان فرديًّا ومعزولًا، كما تشير التحقيقات الأولية انطلاقًا من خلفية متطرفة. ومن يقومون بمثل هذه الأعمال يُصطلَح عليهم بـ«الذئاب المنفردة»، وهي طريقة يقوم فيها أشخاص متطرفون بعمليات تتقاطع مع أهداف جماعات وحركات متطرفة يشاركونها نفس الانتماء الفكري، دون أن تكون لهم عَلاقة تنظيمية بها، فهل يمثِّل هادي مطر إرهاصات الظاهرة في المجال الشيعي؟
ذهبت التحقيقات الأولية إلى أن ما قام به هادي مطر فعل منفرد ومعزول، ولا توجد إشارات على عَلاقته بالحرس الثوري، ثم تبيَّن لاحقًا أنه كان على تواصل مع أعضاء من الحرس على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد تكشف التحقيقات مستقبلًا عن معلومات وأدلة جديدة، ولكن إلى أن يثبت العكس هناك جملة من المؤشرات التي لا تستبعد فرضية «الذئاب المنفردة»، يمكن الاشارة إلى أهمها في ما يلي:
أوّلًا-الخلفية الدينية: تنطلق «الذئاب المنفردة» من قناعات دينية تدفعها إلى القيام بهجماتها، وهذا ينطبق على هادي مطر الذي ينحدر من عائلة شيعية، فقد وُلِد وعاش في أمريكا، ومكث في لبنان شهرًا واحدًا فقط، إذ كان يزور والده المنفصل عن أمه. وقد ذكرت والدته أن تلك الزيارة كانت منعطفًا في حياته، إذ تحوَّل من شخص اجتماعي محبوب إلى انطوائي ومعزول يُمضي جُل وقته في قبو بيتهم، لا يكلّم عائلته لفترات طويلة، ويؤنب والدته التي لم تهتمّ بتنشئته على الإسلام. كما كشفت منشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي ميوله المتطرفة، واستند في تنفيذ عمليته إلى مرجعية دينية ممثلة في فتوى الخميني، ومن وجهة نظره هذا السلوك واجب دينيّ سيُثاب على القيام به.
ثانيًا-السلوك الانتحاري: يبدو واضحًا أن الشاب كان يدرك سهولة القبض عليه، والتُّهَم التي ستُوجَّه إليه، لكنه لم يكُن عابئًا بذلك، ما يعكس قناعته وتشبُّعه بالفكرة دينيًّا، لدرجة عدم اكتراثه لعواقبها. وحتى المصالح المادية الممثلة في المكافأة المالية مُستبعدَة، لأنه لن يستفيد منها، وهذا ينطبق على «الذئاب المنفردة» والانتحاريين، الذين يكونون مستعدّين للتضحية بأنفسهم من أجل الأفكار التي يؤمنون بها.
ثالثًا-ضعف التخطيط: عادةً ما تفشل «الذئاب المنفردة» في تحقيق الأهداف من عملياتها، لافتقادها إلى المهارات التي تمتلكها العناصر المؤطَّرة في تنظيمات، والتي تخضع للتدريب وتقوم بالعمليات بشكل جماعيّ، من التخطيط إلى التنفيذ ثم إخلاء ساحة الجريمة، فيما تكون عمليات «الذئاب المنفردة» بسيطة وفيها قدر كبير من التهوُّر، وهو ما ينطبق على عملية هادي مطر الذي لم يحسن حتى التخفي، باختياره لقب «مغنية» في رخصة قيادته المزوَّرة، علمًا بأن اللقب يجلب الشبهات الأمنية، كونه مرتبطًا باسم القائد العسكري الأسبق لحزب الله، عماد مغنية. كما أنه كان يضع منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي تبيِّن انتماءه بسهولة، وهو سلوك لا يقوم به أشخاص مدرَّبون، لأنه يكشف أمرهم بسهولة للأجهزة الأمنية. أو أنه انتحاريّ وجد فيه الحرس الثوري المواصفات المناسبة، فجرى اصطياده وغسل دماغه خلال زيارته للبنان، وتواصلت تغذيته الفكرية عبر مواقع التواصل الاجتماعي حتى وصوله إلى مرحلة القابلية لتنفيذ مهمات انتحارية.
النقاط المُشار إليها أعلاه ترجِّح فرضية «الذئاب المنفردة»، كما لا تستبعد في الوقت نفسه وقوف الحرس الثوري وراء محاولة قتل مؤلف «آيات شيطانية»، لأن جُل الاغتيالات التي قام بها الحرس في الخارج كان يجري بواسطة عناصره الذين يحرص على حمايتهم وعدم القبض عليهم، أو بالتعاقد مع عصابات الجريمة المنظمة، وهو ما لم يظهر في العملية. وإذا أثبتت التحقيقات انتماء هادي مطر إلى الحرس الثوري، فهذا مؤشر إلى تبنِّيه إستراتيجية «تجنيد الانتحاريين». أما إذا تأكد عدم وجود عَلاقة بين الطرفين فإن ذلك مؤشر على بداية تشكُّل ظاهرة «الذئاب المنفردة» في المجال الشيعي.ختامًا، يمكن القول إنّ الفصل بين ما قام به المغترب اللبناني والحرس الثوري الإيراني ليست تبرئة للأخير، بل دليل إدانة له، لأنه في المجال السنِّي تكافح الدول التطرف وتحارب التنظيمات الجهادية وتحاصرها وتضيّق عليها، وهذا كان من أسباب بروز ظاهرة «الذئاب المنفردة» عندما بات المتطرفون يفتقدون القدرة على الانخراط في التنظيمات الجهادية، لضعفها وانحصارها. لكن في الحالة الشيعية تجري رعاية التطرف والتعبئة له من طرف الدولة الإيرانية، لذلك يجد المتطرفون حواضن تتوافق مع معتقداتهم وأفكارهم، فيجري تجنيدهم في شبكات الحرس الثوري، ما يؤدي إلى انعدام أسباب بروز ظاهرة «الذئاب المنفردة» بشكل كبير، في ظل قطعان الميليشيات الشيعية المتطرفة. وقد يكون هادي مطر حالة معزولة عنها، لكنها قابلة للتمدّد والانتشار، نظرًا إلى وجود منظومة فكرية وعقدية في المؤسسة الدينية الشيعية تؤصل للتطرف وقبوله في البيئة المجتمعية، الذي عَكَسه الاحتفاء بالعملية وتأييدها، كما ظهر ذلك في الإعلام الإيراني على الأقل.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد