في 22 أغسطس 2022م، وفي خطوة مفاجئة وغير مسبوقة، أعلن المرجع الشيعي كاظم الحائري استقالته من المرجعية؛ لأسباب تتعلَّق بكبر سنه ومرضه. هزَّت استقالة الحائري الساحة السياسية في العراق، فقد سحبت البساط من تحت أقدام التيار الصدري، لاسيّما قائدهم مقتدى الصدر، الذي كان يستمد غطاءه الشرعي من الحائري. الآن، وبعد الاستقالة، تتصاعد شكوك حول الأهلية الدينية للصدر وصفاته القيادية، إذ شكَّك الحائري في خطاب استقالته بقدرة الصدر للقيادة؛ نظرًا لعدم تمتُّعه بصفات المجتهد، وقلَّل من شأنه، ومن مكانة النجف، التي تُعَدّ مدينةً مقدسةً للشيعة، بدعوة الشيعة في العراق لتقليد المرشد الإيراني علي خامنئي.
وبلا شك، كانت استقالة الحائري مفاجئةً للصدر، الذي لم يستعد، ولم يمتلك حينها وقتًا كافيًا لمواجهة هذا الخبر الصادم. وكانت ردَّة فعل الصدر -كما العادة- الابتعاد عن المشهد السياسي؛ إذ أعلن انسحابه من الحياة السياسية في 29 أغسطس 2022م، متسبِّبًا بحالة فوضى كبيرة في الشارع العراقي. تُثير هاتان الحادثتان مجموعةً من الأسئلة حول دلالات الانسحاب/الاستقالة، وما تحمله من سناريوهات محتملة لمستقبل العراق. وبإجابتنا على هذه الأسئلة، يمكننا تحديد ماهية المشهد السياسي على المدى القريب في العراق، الذي سيُفضي إلى تبِعات إيجابية أو سلبية على الدول في المنطقة.
أولًا: وكما أسلفنا في المقدمة، فَقَد الصدر غطاءه الشرعي بفقد دعم الحائري له بالفتاوى الدينية ومنحه لقب «حجة الإسلام»، وهو لقبٌ لرجال الدين الشيعة ممَّن لم يبلغوا بعد مرحلة «الاجتهاد». وبتجريده من عباءته الدينية هذه، يواجه الصدر صعوبات في قيادة الشيعة في العراق، الذين يقدِّرون القادة ممَّن يتمتعون بشرعية ومؤهلات دينية. وللخروج من هذا المأزق، قد يلجأ الصدر للحصول على غطاء ديني بديل من المرجعية في النجف. لكن، لهذه الخطوة خطورتها على الصدر؛ فقد سبق أن دخلت مرجعية النجف في خلافات مع الصدر، من جرّاء مواقفه السياسية، ولأن مرجعية النجف تُدرِك شخصية الصدر المستقلة، حاولت الاحتفاظ بعلاقات ودِّية معه. ومن المستبعد أن تستجيب مرجعية النجف لجميع مطالب الصدر وشروطه؛ لكن ستسعى للحصول عل بعض التنازلات والمرونة من الصدر، مقابل منحه الشرعية الدينية. ومع ذلك، الصدر بطبيعته رجلٌ مستقل، ولن يرضى أن يكون رهينةً داخل أسوار النجف، ولن يقبل بالإملاءات من المرجعيات الدينية فيها؛ لذلك أيُّ اتفاق مصلحة بين الطرفين سيفشل فشلًا ذريعًا في النهاية. ثانيًا: يُشير انسحاب الصدر المباشر من الحياة السياسية بعد استقالة الحائري، وما نشب من عنف في أعقابها في المنطقة الخضراء وغيرها من المناطق بين الصدريين والجماعات الشيعية المسلحة، إلى أوراق الضغط بين يدي الصدر؛ بيده التصعيد وبيده التهدئة. هذا أُثبِت على الأرض، عندما أمر أنصاره بالانسحاب الفوري من المنطقة الخضراء؛ فانسحبوا خلال ستين دقيقة فقط. يُشير هذا الانسحاب السريع إلى مدى النفوذ الذي يتمتع به الصدر، وكيف يوجّه الشارع العراقي بتغريدة واحدة منه، ويُرسل بتدخُّله السياسي رغم انسحابه رسالةً إلى أعدائه، أنه لن يغادر الساحة السياسية بهدوء، وأن عليهم أخذ مطالبه بكل جدية، وإلّا سيُشعل أزمةً أخرى بإيماءة من إصبعه. ثالثًا: كان من المحتمل أن تظهر مشاكل داخل التيار الصدري، مع استمرار الصدر دون دعم من المرجعيات الشيعية، وأن يشكِّل هذا الواقع تحدِّيًا للقيادة الصدر، خصوصًا أن الحائري ذكر في خطاب استقالته أن قيادة الصدر تعتمد فقط على الإحسان والأعمال الخيرية، وهذه من شأنه أن يفتح الباب لمنافسين على زعامة «التيار». لكن الصدر أوصدَ بسرعة هذا الباب، بتأكيده أن قيادة عائلة الصدر ممنوحة من الله مباشرةً. رابعًا: أظهرت استقالة الحائري وانسحاب الصدر مدى هشاشةَ المجتمع الشيعي في العراق؛ إذ سُرعان ما اشتبكت الفصائل الشيعية بعضها ببعض. ولا يصُبّ الخلاف الشيعي-الشيعي في مصلحة العراق ولا النجف؛ كلاهما تدخَّلا بسرعة لوقف إراقة الدم. وتفيد مصادر أن الصدر تلقّى اتصالًا هاتفيًا من الأمين العام لــــ «حزب الله» المدعوم من إيران حسن نصر الله، وأرسلت له مرجعية النجف خطابًا؛ إذ طالبوه بسحب أنصاره فورًا وتهدئة الشارع العراقي.
ومن الجدير بعد مناقشتنا الدلالات المهمة لهذين الحدثين أن نستشرف ما سيتمخّض عنها من سيناريوهات لمستقبل العراق، التي نراها في ثلاثة مسارات:
أولًا: من المحتمل أن نرى بعد استقالة الحائري عددًا من الصدريين يقلِّدون خامنئي، وهذا من شأنه أن يقضي على الصدر، ويقوِّض بشكل كبير قيادة النجف، ويحوِّل المشهد لصالح خامنئي وقُم؛ فهذا السيناريو إن وقع سيفتح الباب على مصراعيه لتصدير الأيديولوجية الثورية الإيرانية للصدريين، الذين سيعودون إلى أحضان إيران، بعد الحملة الوطنية التي قادها الصدر لتحقيق استقلال وسيادة العراق. لكن هذا السناريو مستبعد، نظرًا لتنامي حنَقِ الشارع العراقي على الوجود الإيراني، لاسيّما بين الشباب الذين يبغضون تدخُّلات إيران، وحشر أنفها في الشأن العراقي.
ثانيًا: لن يقبل أيّ فصيل أن يُلام على انقسام البيت الشيعي وإراقة الدماء فيه، وأيضًا من المستبعد أن يتوصَّلوا إلى أيّ اتفاق أو يظهروا بعض المرونة؛ نظرًا لتشبُّث كل طرف بشروطه وموقفه. سيحبط الانسداد السياسي هذا إيران؛ فهي تحاول توحيدَ القطبين الشيعيين، والتوصُّل إلى اتفاق؛ لأن فشلها في هذا المسلك يُشير إلى خفوت نفوذها على التحالفات والميليشيات الشيعية، بعد مقتل القائد السابق لـ «فيلق القدس» قاسم سليماني.
ثالثًا: نشوب عنف لفترة طويلة بين الفصائل الشيعية؛ هذا السيناريو لا يصُبّ في مصلحة أيٍّ من الأطراف، إذ للنجف أهمية كبيرة بالعراق وإيران ودول المنطقة، الذين سيحرصون على ألّا يحدث هذا السيناريو مهما كلفهم الأمر، لما يحمل من عواقب وخيمة اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا. وبالنسبة لإيران، يجب تجنُّب نشوب هذا العنف الشيعي-الشيعي، ليس لأنها تكترث لحياة البشر، والشاهد ما أراقت من دماء في المنطقة، لكن لأنها ترى أن نشوب العنف سيُضعِف البيت الشيعي، ويُعيد السنة إلى سدَّة القيادة في العراق من جديد، وهذا أسوأ سيناريو ممكن أن يحصل لإيران؛ إذ يُشير لنا تدخُّل نصر الله السريع، عن مدى استماتة إيران لإخماد هذا العنف الشيعي-الشيعي في مهده. وفي الختام، يمُر العراق بمنعطفٍ خطير، حيث يتنازع فيه قطبان شيعيان، يرفض كلامها تقديم أيّ تنازلات لإيجاد مخرج لهذا الطريق المسدود. من المحتمل أن يُعيد الصدر خلطَ الأوراق من جديد، ويوجِّه أنصاره للنزول للشارع من جديد وتصعيد الفوضى؛ أملًا في إرغام الإطار التنسيقي لتقديم تنازلات، والتجاوب مع مطالب الصدريين. يعي الصدر جيدًا أن إيران ستكبح ميليشيات الإطار التنسيقي وغيرها من الميليشيات الشيعية عن إشعال صراعٍ شامل مع الصدريين؛ خوفًا من تعميق هوَّة الخلاف في البيت الشيعي؛ وبالتالي خسارة سيطرتها على المشهد العراقي برمَّته. أما انسحاب الصدر من الحياة السياسية سيكون لفترة قصيرة، وإن طالت سيستمر الصدر في مراقبة المشهد، والتأثير على التطورات السياسية في العراق بما يخدم مصالحه. ولا تزال صورة المشهد السياسي في العراق ضبابية جدًا، ونحن الآن في مرحلة ترقُّب لمن سيبدأ خلط الأوراق من جديد، ويخضع للضغوطات الداخلية أو الخارجية؛ لتبديد التوترات السياسية والخروج من هذا المأزق.