أعلنَ القصر الملكي البريطاني قَبل أيام، وفاةَ الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا. وهو أمرٌ كان متوقَّعًا، لا سيّما أنَّ الملكة قد ناهزت الـ 96 من العمر، وكانت تعاني من بعض المشاكل الصحية في الآونة الأخيرة، وكان من الطبيعي لأسبابٍ كثيرة أن نشهدَ اهتمامًا كبيرًا بهذا الأمر على الصعيدين الرسمي والشعبي، ليس في بريطانيا فقط، بل على مستوى العالم. حيث أعربَ معظمُ الزعماء والقادة عن تعازيهم بوفاة الملكة، بمن فيهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي تخوضُ بلاده، عمليًا، حربًا واسعة ضدَّ الغرب، ومنه بريطانيا، منذ شهور. وكانت إيران كعادتها من الدول القليلة التي تشذّ عن الأعراف الدبلوماسية والبروتوكولات، حيث فضَّلت السلطاتُ الرسمية الصمتَ إزاءَ الحدث، ولم تُصدِر أيَّ بيان أو برقية عزاء أو تصريحات. أما على المستوى شبه الرسمي، فقد كانت السعادة والشماتة والتشفِّي والمقارنات الغريبة، هي الصبغة السائدة في الإعلام المقرَّب من النظام.
يمكن من خلال إلقاء نظرةٍ خاطفة على العناوين والمصطلحات، التي استخدمها الإعلام الإيراني المقرَّب من النظام والحرس الثوري لوصف الحدث، الخروجُ بفكرةٍ عامة حول تعاطي إيران مع الأمر. فمن العناوين التي استخدمتها الوكالات والصحف: «الإرث الدموي لملكة بريطانيا للإنسانية» [وكالة فارس]، «وفاة ملكة الانقلابات- عقرب في النار- وفاة الملكة، بريطانيا في مهلكة- سبعون عامًا من السلطة مع الفضائح» [صحيفة جام جم]، «وفاة ملكة المَكَرة، وفاة آخر رمز للاستعمار العجوز» [صحيفة وطن أمروز]، «نهاية ملكة النار» [صحيفة فرهيختكان]، و«نهاية قرن من الشر» [صحيفة جوان].
شكَّلت الحادثة ذريعةً للإعلام الإيراني؛ للغور في الماضي، والحديث عن تاريخ بريطانيا الاستعماري، ودور المملكة المتحدة في إيران. فاعتبرت وكالة «إيرنا» أنَّ النظرةَ السلبية التي يحملها الإيرانيون تجاه بريطانيا ترتكزُ على أحداث تاريخية مريرة، واستعرضت بعضَ هذه الأحداث لتُثبت مقولةَ «فتِّش عن الإنجليز وراءَ كلّ مصيبة»، ومن ذلك: احتلال إيران والتسبُّب بمجاعة لسكانها، تحريض الحكومات الأجنبية والانفصاليين ضدَّ إيران، الهيمنة على النفط الإيراني والانقلاب على رئيس الوزراء محمد مصدق، وضع معوقات في طريق الثورة وممارسة الضغوط على إيران بعد انتصارها، الوقوف إلى جانب صدام حسين في الحرب العراقية-الإيرانية، التماهي مع أمريكا في العقوبات ضدَّ إيران … إلخ.
وفي سياق نظرية المؤامرة وتحميل الآخر مسؤوليةَ الفشل وانعدام الكفاءة، اعتبرت وكالة «فارس» أنَّ جزءًا كبيرًا من المشاكل التي يعاني منها الإيرانيون اليوم بسبب بريطانيا والملكة نفسها.
وعلى الرغم من أنَّ منصِبَ الملك أو الملكة في بريطانيا فخريٌ إلى حدٍ بعيد، والصلاحيات السياسية التي يتمتَّع بها رمزية، وأنَّ دورَ العائلة المالكة قد انحسرَ منذ عقود طويلة، وأنَّ السلطة السياسية في البلاد بيد البرلمان والحكومة المنبثقة عنه، إلَّا أنَّ صحيفة «كيهان» رأت أنَّ الملكة كانت تلعبُ دورًا محوريًا في توجيه السياسات الخارجية والداخلية وتتولَّى دفَّة القيادة في بريطانيا، وأنَّ يديها ملطختان بدماء آلاف الأبرياء في العالم الثالث، ووصلَ بها الأمر إلى أن اعتبرت أنَّ رئيسَ الوزراء هو من يشغلُ منصبًا فخريًا وينفِّذ الأوامر الملكية. وأسهبت صحيفة «جام جم» في تفنيدِ عدم تدخُّل العائلة المالكة في السياسة، وذكرت أنَّ الملكة كانت ترى في الزعيم السابق لحزب العمَّال جيرمي كوربن خطرًا على العائلة المالكة، لذلك دعمت بصورةٍ غير رسمية وفي الخفاء عمليةَ إقصائه عن قيادة حزب العمَّال.
وبينما يُهدرُ النظام الإيراني نفقاتٍ هائلة خارجَ حدود إيران لصالح مشاريع أيديولوجية هدّامة وعبثية، كان آخرها إنفاق أموالٍ طائلة في الأسابيع القليلة الماضية لاستعراض القوَّة والعضلات في مسيرة أربعينية الحسين في العراق -رغم سوء التنظيم والإدارة- في وقتٍ يحتاجُ فيه ما لا يقل عن 40 مليونًا منهم إلى مساعدة فورية، بحسب رئيس لجنة التخطيط والموازنة بالبرلمان محسن حاج بابائي في العام الماضي. رغم كلّ ذلك، انتقدَ الإعلام الإيراني بشكلٍ حادّ التكاليف الباهظة لمراسم تشييع الملكة من جيوب دافعي الضرائب البريطانيين، والتي ستُكلِّف في المجموع 6 مليارات جنيه إسترليني، بحسب صحيفة «كيهان»، في ظلّ الأزمة الاقتصادية وارتفاع قيمة فواتير الطاقة، بينما تعاني 20% من العائلات البريطانية من الفقر، بحسب صحيفة «جوان».
وبعد أن شهدنا مؤخرًا خطوات تبدو تمهيدًا لإعداد مجتبى خامنئي النجل الثاني للمرشد، لخلافةِ والده في دولةٍ تسمّي نفسها «جمهورية»، بما في ذلك منحهُ فجأةً لقب «آية الله» من قِبَل موقع الحوزة الدينية في قُم، والإعلان عن قيامِه بتدريس دروس «الخارج في الفقه والأصول»، وكذلك دفاعُ خطيب الجمعة في منطقة بهارستان بمحافظة أصفهان عن تسلُّمه المنصب بعد والده. بعد كلّ ذلك، كانت انتقاداتُ الإعلام الإيراني للنظام الملكي وتوريث الحُكم في بريطانيا لافتةً للانتباه.
فقد وجَّهت صحيفة «كيهان» انتقاداتٍ لصمت البعض عن توريث الحُكم في بريطانيا، وإعرابهم عن القلق من توريث منصب المرشد في إيران، على الرغم من أنَّ المقارنةَ خاطئةٌ من الأساس. وسخِرت صحيفة «رسالت» من نظام الحُكم في بريطانيا، وأشادت بالديمقراطية التي تشهدها إيران مقارنةً ببريطانيا. واعتبرت صحيفة «وطن أمروز» أنَّ تأييد 63% فقط من البريطانيين لاستمرار النظام الملكي مؤشرٌ على أُفول شعبية هذا النظام، فيما تحدَّثت صحيفة «جام جم» عن القمع الذي يتعرَّض له أنصار النظام الجمهوري من المطالبين بإجراء استفتاءٍ شعبي على شكلِ النظام في البلاد. يأتي ذلك في حين أنَّ النظام الإيراني يرفضُ بأي شكلٍ من الأشكال إجراءَ استفتاءٍ شعبي؛ لأنه يُدرك أنه لم يعُد مقبولًا من قِبل غالبيةِ مواطنيه. هذا ما تؤكدُه استطلاعاتُ رأيٍ تحظى بنسبةٍ جيدة من المصداقية، حيث أظهرَ استطلاعٌ للرأي نُشِر قَبل شهور من قِبَل مؤسسة «غمان»، أنَّ نسبةَ الإيرانيين الذين يريدون الحفاظَ على النظام الحالي لم تتجاوز 25% في أحسن الأحوال.
وفي سياق تبرير الصمت الرسمي إزاءَ الحدث، اعتبرت صحيفة «آرمان ملي» عدمَ تعليق السلطات على الحدث ردَّ فعلٍ مناسب ومعاملةً بالمثل، وتساءلت في مقارنةٍ غريبة: هل أصدرت الحكومة البريطانية برقيةَ عزاء بمناسبة مقتل [المجرم] قاسم سليماني!!! وخلُصت إلى أنَّ الحكومة كانت محقّةً بهذا التصرُّف.
يبقى أن نقول إنه وعلى الرغم من مشاعر العداء لبريطانيا لدى بعض المسؤولين الإيرانيين، إلَّا أننا لم نشهد مسؤولًا كبيرًا يهنئ بوفاة الملكة -وهو أمرٌ مرفوضٌ بالتأكيد- كما فعلَ أمين مجلس صيانة الدستور وخطيب جمعة طهران أحمد جنتي، الذي لم يتمكَّن من إخفاءِ سعادتهِ بوفاةِ جلالة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز عام 2015م، فهنَّأ بشكلٍ رسميٍ وعلني ومِن على منبرِ الجمعة «المؤمنين والمسلمين» بوفاةِ جلالة الملك الراحل. كما لم نشهد توزيعَ الحلوى أمامَ السفارة البريطانية في طهران، كما جرى عندَ وفاةِ سمو ولي العهد الراحل الأمير نايف بن عبد العزيز عام 2012م. هذا الأمر وإن دلَّ على شيء، فإنه يدُلّ على أنَّ عداءَ النظامِ الإيراني للمملكة أشدّ وأعتى من عدائه لبريطانيا.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد