في خضمّ الاحتجاجات الشعبية التي يشهدها عديد من المدن الإيرانية منذ أكثر من أسبوعين، بعد مقتل الفتاه الكردية مهسا أميني، صعَّد النظام الإيراني ضد المحتجّين البلوش في إقليم سيستان وبلوشستان الحدودي مع باكستان وأفغانستان، وحوَّل مسار الاحتجاجات الشعبية في الإقليم ذي الأهمية الجيوسياسية إلى اشتباكات دامية بين القوّات الأمنية ومحتجّين بلوش أسفرت عن 63 قتيلًا ونحو 270 جريحًا في صفوف المحتجين البلوش، وهو الرقم الأعلى مقارنةً بإجمالي عدد القتلى في بقية محافظات الاحتجاجات الشعبية البالغ نحو 91 قتيلًا، وعدد قتلى كل محافظة التي بلغت أعدادًا أقل مقارنةً بعدد القتلى في سيستان وبلوشستان، وهو ما يعطي الاحتجاجات في بلوشستان طابعًا خاصًّا ومميزًا عن بقية الاحتجاجات، ويكسبها أهمية كبيرة لدى المتابعين للشأن الإيراني، ويطرح تساؤلًا حول تفسيرات ودوافع التصعيد الأمني ضد احتجاجات البلوش، وعَلاقة تصعيد النظام ضد المحتجين البلوش بسياساته المتَّبعة لإحباط وقمع الحركات الاحتجاجية، التي تشهدها البلاد من وقتٍ إلى آخر.
أولًا: ملامح التصعيد بين قوّات الأمن والمحتجين في بلوشستان
انطلقت الاحتجاجات الحاشدة في إقليم سيستان وبلوشستان ضمن الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي تشهدها إيران منذ أكثر من أسبوعين على التوالي، على خلفية أسباب مباشرة تتعلق بمقتل مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق. وساهم في اتّساع نطاق تلك المظاهرات حالة الاحتقان الجماهيري، على خلفية تردِّي الأوضاع المعيشية والاقتصادية والاجتماعية بالبلاد، وسياسات القمع والإقصاء والتهميش، وغياب العدالة، والتمييز الطبقي، إلا أن حدّة تلك المواجهات تصاعدت بشكل أكبر في بلوشستان، حسبما أفاد نشطاء بلوش. وتجمَّع عدد من المواطنين بعد صلاة الجمعة يوم 30 سبتمبر 2022م، حول مركز للشرطة بمدينة زاهدان، احتجاجًا على اغتصاب فتاة من البلوش تبلغ من العمر 15 عامًا من قِبَل أحد أفراد الشرطة، ودعمًا للاحتجاجات المناهضة للحكومة في جميع أنحاء البلاد، وهو ما يتناقض مع رواية النظام التي اتّهمت من سمّتهم مثيري الشغب والانفصاليين (في إشارة إلى منظمة جيش العدل البلوشية المعارضة) بمهاجمة مركز الشرطة، بغرض السيطرة عليه.
من ناحيتها زعمت الشرطة أن أحد المعتقلين اعترف بأنّ مجهولين وزَّعوا الأسلحة على عناصر كانوا يقفون أمامه، غير أن مكتب رجل الدين السنِّي البارز المولوي عبد الحميد إسماعيل زهي قدَّم رواية أخرى تقول إنّ بعض الشباب أطلقوا بعد صلاة الجمعة هتافات، وتوجَّه عدد قليل منهم نحو المركز ورموه بالحجارة، فردَّت عليهم قوّات الشرطة بإطلاق النار، ما أدى إلى سقوط العشرات من القتلى والجرحى.
ثانيًا: سياسات التهميش والإقصاء الإيرانية المتَّبعة ضد البلوش
منذ سيطرته على زمام الأمور في إيران قبل نحو أكثر من أربعين عامًا، يتّبِع النظام الإيراني سياسات إقصائية وتهميشية تتماشى مع طبيعة النظام الديني ضد كل من لا ينتمون إلى العرق الفارسي أو المذهب الشيعي، بل وضد من ينتمون إلى الفرس أو إلى الشيعة، الذين يختلفون أو يناوئون النظام ويعارضون سياساته في الداخل أو في الخارج. ويُعتبَر البلوش مثل بقية الأقليات التي يقصيها ويهمِّشها النظام، بل يتعامل معهم بأبشع الطرق الأمنية، لتطويق وإخماد احتجاجاتهم. ومن أبرز ممارسات النظام في هذا الجانب، ما يلي:
1. الإقصاء السياسي: تُعتبَر ممارسة رئيسية من سياسات تعامُل النظام الإيراني مع الأقليات عامةً، والبلوش خاصةً، عبر إقصاء الإقليم سياسيًّا، من خلال الدستور الذي يمنع السنَّة من تقلد المناصب السياسية العليا في البلاد. وحتى محافظو هذه الأقاليم ذات الغالبية العرقية المحدّدة، عادةً ما يجري تعيينهم من أشخاص ذوي أصول فارسية، رغم أن البلوش يشكِّلون الأغلبية في الإقليم، وتُوجَد أقليات أخرى مثل الأكراد والسيستانيين الذين يتبعون المذهب الشيعي، فالإقليم ذو أغلبية سُنِّية ساحقة.
2. التهميش الاقتصادي: إذ يُخصَّص لها كغيرها من المحافظات الحدودية، التي تقطنها أقليات كالكرد والعرب، نسبة محدودة للغاية من المشاريع التنموية، مقارنةً بطهران والمحافظات الشمالية. ومن المفارقات العجيبة أنه على الرغم من احتواء بلوشستان، التي تُعَدّ ثاني أكبر محافظة بعد كرمان من بين 31 محافظة إيرانية، على موارد طبيعية هائلة من النفط والغاز والذهب واليورانيوم والنحاس، ما أكسب الإقليم أهمية اقتصادية كبرى، فإنّ مواطنيها يعانون من أوضاع معيشية واقتصادية متردِّية للغاية، ونِسَب عالية من الفقر والتخلُّف والأُمِّية. كما يأتي الإقليم في المراتب الدنيا ضمن مؤشرات إيران لمحو أُمِّية الكبار، والالتحاق بالمدارس الابتدائية، والحصول على مصادر مياه الشرب والصرف الصحي، مع معدلات مرتفعة للغاية في وَفَيَات الرضَّع والأطفال. ولدى الإقليم أقل معدل دخل للفرد، إذ يعيش نحو 80% من البلوش تحت خط الفقر، حسب تقديرات عام 2021م، ما جعله يتبوأ أدنى مستوى في مؤشر التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي خلال 2021م. وبفعل سياسات النظام وظاهرة التغيُّر المناخي شهِد الإقليم خلال السنوات الماضية موجات جفاف شديدة، أفرزت شُحًّا في الموارد، وحالة عوز واسعة للمواطنين.
3. الحلول الأمنية: يطغى على عقلية القادة الإيرانيين خطر انفصال الأقاليم ذات الأغلبية العرقية بشكل عامّ، لذلك تولِّي الأجهزة القمعية في إيران الحلول الأمنية كالقمع والاعتقال والقتل أولوية في إدارتها للأزمات التي تشهدها هذه الأقاليم، ومن بينها إقليم سيستان وبلوشستان ذو الغالبية السنية. وأفرزت هذه القبضة الأمنية العنيفة بروز عدد من التنظيمات المسلحة المعارضة للنظام الإيراني في بلوشستان. وكانت تلك التنظيمات في العقود السابقة تنطلق من الخلفية التاريخية، وتبحث عن استقلال دولة بلوشستان، وفي العقود الأخيرة ظهرت تنظيمات مسلحة من مشارب دينية جهادية، كان بعضها ينشط في أفغانستان وباكستان المجاورتين لإقليم بلوشستان، ولها فيها امتدادات اجتماعية بهذا المثلث الحدودي. ويتمثَّل أبرز التنظيمات المعارضة للنظام الإيراني بالإقليم في: «جند الله»، «جيش العدل»، «أنصار الفرقان الجهادية»، «رابطة أهل السنّة في إيران»، «منظمة تحرير بلوشستان الغربية»، «حزب الشعب البلوشي». وخاض جُلّ هذه التنظيمات عديدًا من المواجهات مع الحرس الثوري، أسفرت عن اغتيال عديد من عناصره وقياداته، لعل آخرهم قائد الحرس في المحافظة. من جانبه، استطاع الحرس أيضًا اغتيال عديد من قادة تلك التنظيمات واعتقال بعضهم، وكان أبرزهم عبد الملك ريغي مؤسس تنظيم «جند الله». وعلى الرغم من نجاح إيران في تفكيك بعض هذه التنظيمات المسلحة، فإنها سرعان ما تعيد هيكلة نفسها، وتظهر بقيادات وأسماء جديدة.
ثالثًا. دوافع وأبعاد تصعيد النظام الإيراني ضد المحتجين البلوش
لجأ النظام الإيراني بواسطة الحرس الثوري، المعني الأول بإخماد الاحتجاجات في بلوشستان، إلى سياسة أمنية تصعيدية (القمع والاعتقالات والغاز المسيل للدموع واستخدام الرصاص الحي) ضد المحتجين البلوش، مقارنةً بتصعيده ضد المحتجين في عموم المحافظات الإيرانية، التي شهدت احتجاجات شعبية بعد مقتل أميني، لعدة أسباب رئيسية، بينها:
أ. إضفاء الطابع الانفصالي للاحتجاجات: أحد أبرز الملامح الهامة في إدارة النظام للأزمة خلال احتجاجات 2022م محاولة إضفاء الطابع الانفصالي على مطالب المحتجين، لا سيما في المحافظات ذات الأغلبية العرقية. وظهر ذلك في عدة دلائل، أولها في تصعيده ضد المحتجين في إقليم كردستان إيران مسقط رأس أميني، وثانيها في شنّه الهجمات العسكرية على جماعات إيرانية معارضة بإقليم كردستان العراق، بحجة تقديمها الدعم للمحتجين في كردستان إيران ضد النظام الإيراني، وثالثها في تصعيده المكثَّف ضد المحتجين البلوش في سيستان وبلوشستان، للتقليل من أهمية الاحتجاجات وضرب رواية المطالب من كونها مطالب شعبية إلى مطالب انفصالية أمام الرأي العام العالمي، ما يعطي النظام مساحة أوسع لممارسة القمع والإقصاء والتهميش من ناحية، وترسيخ نظرية المؤامرة بأن المحتجين مدفوعون من الخارج من ناحية ثانية، فضلًا عن مساعيه لحصر رقعة الاحتجاج، وعدم خلق بؤر جديدة.
ب. الأهمية الجيوسياسية لإقليم بلوشستان: يخشى النظام تصاعُد الاحتجاجات والنزعة الانفصالية لدى البلوش، بما يخلق بؤرة توتُّر قد تقلِّص أهمية هذا الإقليم في إستراتيجيات إيران العالمية، لأن هذا الإقليم يمثل لإيران أوراق قوة وضغط عديدة، خصوصًا عند مدّ خطوط الطاقة والمشاريع الدولية العابرة للحدود، إذ يحظى الإقليم بموقع إستراتيجي على بحر العرب بدايةً من مضيق هرمز حتى كراتشي الباكستانية (انظر الخريطة). ويربط الإقليم بين وسط وجنوب آسيا والشرق الأوسط، ما جعله منطقة جذب إستراتيجي هام للدول الكبرى الطامحة إلى تنفيذ مشاريع وموانٍ اقتصادية وتجارية، وتدشين خطوط نقل الطاقة. وهُنا تأتي أهمية ميناءَي تشابهار وجوادار الواقعين بالإقليم، لوقوعهما في دائرة الصراع الأمريكي-الصيني في المحيط الهندي ووسط وجنوب آسيا، فضلًا عن احتوائه على احتياطات هائلة من المعادن، التي تجذب القوى الدولية إلى بلوشستان، كالنفط والغاز واليورانيوم والذهب والفضة والفحم والبلاتينيوم. ويتيح الإقليم لإيران أوراق ضغط قوية ضد الفواعل الإقليمية والدولية، توظِّفها لتعزيز سياساتها الإقليمية ومواقفها الدولية تجاه الملفات العالقة مع الغرب، ومِن ثَمّ لن يقبل النظام بتحويله إلى بؤرة توتُّر تؤثِّر في أوراقه القوية.
خريطة توضِّح حدود إقليم سيستان وبلوشستان المظلَّلة باللون الأحمر
ونظرًا إلى توزُّع العرقية البلوشية بين إيران وباكستان وأفغانستان، فقد جرى تتبُّع بعض ردود الأفعال تجاه ما يحدث في إقليم بلوشستان من مظاهرات، إذ تراوحت ردود الفعل الباكستانية بين غضب عميق في أوساط الأغلبية السنية، ظهر على وسائل التواصل الاجتماعي، وبين تجاهُل تغطية تلك التطوّرات في وسائل الإعلام الباكستانية الرئيسية، ربما بسبب سيطرة بعض الشخصيات الموالية لإيران على مناصب رئيسية في الإعلام الباكستاني. وكذلك التزم المسؤولون عدم الإدلاء بأي تصريحات تجاه ما يجري في بلوشستان، إلا أنه وبشكل عامّ هناك انتقاد من الباكستانيين بسبب ما يروْنه من تضييق واضطهاد للبلوش في إقليم بلوشستان من قِبَل السلطات الإيرانية على ضوء انتماءاتهم الدينية. ولاحظ شهود عيان تشديد الإجراءات الأمنية على الحدود الباكستانية-الإيرانية، وسط مخاوف من تفاعُل الباكستانيين البلوش مع ما يجري في بلوشستان وسيستان، فيما لم يتضح وجود ردود أفعال على الحدود مع أفغانستان، عدا رصد تجمُّع لمجموعة من الأفغانيات أمام سفارة إيران في كابول في مظاهرة احتجاجًا على مقتل أميني، إذ عبَّرن عن دعمهن لانتفاضة الشعب الإيراني على مستوى البلاد.
خاتمة
طغى الطابع الأمني على سياسات النظام الإيراني في إدارته لأزمة الاحتجاجات الشعبية المستمرة منذ 14 سبتمبر 2022م في مختلف المحافظات الإيرانية، وتجلَّت المقاربة الأمنية بشكل أكثر حدة في تعاطيه مع المحتجين من الشعوب غير الفارسية، خصوصًا في بلوشستان، بعد سقوط أكثر من خمسين قتيلًا في يوم واحد. ويمثِّل إسراع النظام الإيراني في اتهام الجماعات البلوشية المسلحة بالضلوع في الأحداث واستخدام القوة المفرطة ضد المحتجين البلوش، محاولة منه لتحقيق عدد من الأهداف، كالتأثير في مجريات الاحتجاجات التي تشهدها مختلف المدن الإيرانية بعد مقتل أميني، وبثّ رسالة إلى الخارج بأن احتجاجات بلوشستان ليست شعبية، وإنما انفصالية، فضلًا عن الترويج لروايته بأن الاحتجاجات التي تشهدها إيران بشكل عامّ مدفوعة من الخارج (نظرية المؤامرة) لإلحاق الضرر بالدولة الإيرانية وإسقاط النظام.