شهدت إيران مظاهرات حاشدة منذ مقتل الفتاة العشرينية مهسا أميني، بعد ضربها بوحشية على يد شرطة الأخلاق «سيئة السمعة» في البلاد. وسرعان ما انتشرت المظاهرات في جميع أرجاء إيران، حتى وصلت لأكثر محافظات إيران اضطرابًا، مثل الأحواز وسيستان وبلوشستان، حيث سبق أن هبَّت فيها مظاهرات مناوئة للحكومة في السنوات الماضية. وقمع النظام الإيراني العام الماضي بوحشية المظاهرات في محافظة سيستان وبلوشستان، التي نشبت بعد مقتل مهرِّبي وقود على الحدود الإيرانية مع باكستان برصاص الحرس الثوري. لدى أهالي المحافظة غضبٌ متجذِّر على النظام الإيراني؛ لإهماله وقمعه محافظتهم. تفاقم هذا الحنق بعد التعدِّي الجنسي على فتاة تبلغ من العمر 15 عامًا، على يد أحد كبار ضباط الشرطة منذ قرابة شهر؛ لذا كانت مسألة وقتٍ فحسب، لنشهد حادثةً جديدة تُشعِل فتيل المظاهرات مرَّةً أخرى. وهُنا أتى مقتل الفتاة أميني كذريعة مناسبة لأهالي سيستان وبلوشستان؛ للحشد من جديد للمظاهرات ضد «وحشية» النظام، ولتفريغ جام غضبهم على أدوات قمعها، وعلى رأسها الحرس الثوري.
لم يتوانَ الحرس الثوري بإطلاق عنان كامل قوته لكبح المظاهرات، في خضم ما تشهده المحافظة من وضع أمني مضطرب. ففي يوم الجمعة الموافق 30 سبتمبر 2022م، أطلق الحرس الثوري الرصاص الحي على المصلِّين بجامع مكي في زاهدان، وقُتِل ما لا يقِل عن 58 مصلِّيًا، وجُرِح العشرات. لا سقف للعنف مع الحرس الثوري؛ فهو يعتقد أن هذه الوحشية ستُخيف الشعب، وستدفعهم للخضوع والتوقف عن التظاهر. لكن هذه الحادثة الوحشية فاقمت الغضب الشعبي وحِدَّة المظاهرات، خصوًصا بين الشباب، الذين ردَّدوا هتافات مناهضة للحكومة، أبرزها هتاف «الموت لخامنئي»، في إشارة مباشرة إلى أنه هو مرتكب الجريمة المروِّعة في جامع مكي. وما يقلق النظام هُنا، أن الهجوم على الجامع ردًّا على المظاهرات الحاشدة في البلاد عزَّز قوة الجماعات الانفصالية، التي استغلَّت الفوضى الأمنية، واستهدفت أحد مقرات الشرطة في المحافظة.
وحسب ما أفادت به وكالة الأنباء الرسمية في إيران «إيرنا»، جُرِح 32 عنصرًا من الحرس الثوري، من بينهم متطوِّعون في الباسيج، في هجوم على أحد مراكز الشرطة في المحافظة. ليس مستغربًا أن ينشُر النظام الإيراني قوات الحرس الثوري على مراكز الشرطة في جميع المحافظات، فهذا يمكِّنهم من الحشد السريع، والرد الآني لأي تهديدات ضد النظام. وأفادت تقارير بمقتل قائد استخبارات الحرس الثوري في محافظة سيستان وبلوشستان العقيد علي موسوي، الذي مات متأثرًا برصاصة تلقَّاها في الصدر أثناء الهجوم. يُعَدُّ هذا الهجوم مكسبًا مهمًا للانفصاليين؛ نظرًا للمنصب المهم الذي كان يتضلع به موسوي في جهاز المخابرات الإيرانية. وصرَّح القائد العام للحرس الثوري اللواء حسين سلامي، أن الحرس سينتقم من قتلة عناصره في زاهدان، قائلًا: إن «الثأر لدماء شهداء الحرس الثوري والباسيج، وضحايا جريمة الجمعة السوداء في زاهدان، على جدول أعمالنا».
ونشر النظام المزيد من قوات الحرس الثوري والطائرات المسيَّرة في سماء مدينة زاهدان، حسب بعض التقارير. ونشط أيضًا في الترويج أن ثمّة قوات خارجية تسعى لخلق حالة أشبه بالحالة السورية في إيران. دائمًا وكالمعتاد يُلقي النظام باللوم على جهاتٍ خارجية، دونما النظر إلى نفسها، ودورها في عُزلة الشعب الإيراني. لكن، في حقيقة الأمر، لا يمكن إلقاء اللائمة على جهاتٍ خارجية إزاء القمع وسوء المعاملة وسوء الإدارة والإهمال والفساد، الذي تجرَّعه أهالي سيستان وبلوشستان. المسؤول الوحيد هُنا؛ النظام الإيراني الذي عبث بمقدرات الشعب في مشاريع إقليمية كارثية، لم يخلق سوى ظروفًا معيشية صعبة تعيشها الأقليات في أرجاء البلاد. ثمّة حركة شعبية قوية تزداد رقعتها اتساعًا ضد النظام، وحظيت بأعداد متنامية من المشاركين وزخم متصاعد؛ فلن يتراجع المتظاهرون بعد الآن عن التظاهر ضد العنف الصادر من رموز القمع في النظام.
وستبقى محافظة سيستان وبلوشستان، وغيرها من محافظات الأقليات، شوكةً في حلق النظام الإيراني، فهي والمظاهرات التي عمَّت البلاد والمنظور لها بالتنامي أكثر وأكثر دون خوفٍ من مهاجمة أو مواجهة رموز النظام، من المرجح أن تفاقم زعزعة الاستقرار داخليًا؛ ما يجعل النظام الإيراني بالمحصلة يحفر قبره بيده. بدأ غطاء الشرعية الذي يدّعيه النظام الإيراني بالتآكل، بعدما تعرَّى النظام أمام شعبه. والشاهد الآخر وما يدعم أكثر هذا الاستنتاج، أحداث العنف التي نشبت في جامعة شريف التكنولوجية.
ما ينقذ النظام الإيراني الآن، أنه لم يصدر المجتمع الدولي قرارًا بعد ضد إيران، خصوصًا من جانب القوى العظمى، لاسيّما أن الولايات المتحدة حريصة الآن على إحياء الاتفاق النووي. لذلك، حرصًا على عدم استثارة غضب إيران، لم تُتَّخَذ بعد أي إجراءات ملموسة لضغط أكثر على النظام الإيراني. ولعل خروج ردٍ دولي حاسم سيقدِّم الداعم الكافي للمتظاهرين في كفاحهم، وسيكون بارقة أمل لهم في هذه الأوقات الصعبة. تناثرت المظاهرات في جميع أرجاء إيران دون قيادة مركزية، لكن لدى المتظاهرين مطالب مشتركة وخاصة أيضًا. وجرت العادة مع النظام الإيراني في أوقات تزايُد الضغط الشعبي، أن يفسحوا المجال بصورة أكبر لــــ «الإصلاحيين» للتحدُّث في المنصات الإعلامية، وظهر هذا جليًا في «التصريحات المأذون بها» من النظام على لسان «الإصلاحيين» حول المظاهرات. ويساعد «الإصلاحيون» في تخفيف حدة الغضب، ويمثِّلون الوجه الألطف للنظام، لكن في جوهرهم يتمسّكون بنظام ولاية الفقيه ويدينون بالولاء للمرشد الأعلى. وما هي إلا مسألة وقت فحسب، حتى يدرك الشعب الإيراني هذه الحقيقة، حينها سيفقد النظام أي تكتيكات أو عناصر للتلاعُب بالشعب، وسينتهي به المطاف لوحده، ولا سبيل له إلَّا الغرق.