حسابات اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل

https://rasanah-iiis.org/?p=29228

مقدّمة

 يتصدَّر ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية بين لبنان وإسرائيل المشهدَ الداخلي في كلا الدولتين، إثر التطوُّر النوعي الذي طرأ على الملف، مع إعلان حكومة الدولتين موافقتهما على المقترح الخطي المقدَّم من الوسيط الأمريكي آموس هوكستين، بعد عامين من انطلاق هذه الوساطة. وأجمعت الأطراف الثلاثة على توصيف مقترح الاتفاقية بأنه «إنجاز تاريخي»، أما التوظيف السياسي للاتفاق، فإنه مختلف وفق الحسابات الخاصة لكل طرف، وإن كانت الوظيفة الاقتصادية واحدة: وهي استثمار الثروة الغازية والنفطية، وسط ما تمُر به دول العالم من أزمات اقتصادية متتالية.

أعلنت لبنان وإسرائيل أن مطالبهما قد تحقَّقت في المقترح الأمريكي المقدَّم، وأكدت الرئاسة اللبنانية، وبعد التشاور مع رئيسيْ الحكومة والبرلمان، أن «الصيغة النهائية للاتفاق مُرضية للبنان، ولاسيّما أنها تُلبِّي المطالب اللبنانية»، و«حافظت على حقوق لبنان في ثروته الطبيعية». فيما صادق المجلس الوزاري الإسرائيلي للشؤون السياسية والأمنية (الكابينيت)، في 12 أكتوبر 2022م، على الصيغة النهائية للاتفاق، وتمَّت إحالته لـ «الكنيست» لدراسة بنوده، على أن تعود الحكومة وتصادق عليه رسميًا ونهائيًا في غضون 14 يومًا.

أشعلت الموافقة المعلنة من بيروت وتل أبيب على المقترح الأمريكي سِجالًا في الساحة السياسية والحزبية في كلا الدولتين، وانقسمت على نفسها بين مؤيدٍ له يراه «إنجازًا تاريخيًا» لمصالحهما الأمنية والاقتصادية، ومعسكر معارض يراه «استسلامًا تاريخيًا»، وتنازلًا للطرف الآخر. ويستوجب هذا الجدل القائم وقوفًا على البيئة التي صاحبت هذا الإعلان، وحسابات كل طرف الدافعة في هذا الإعلان، وكذلك حدود الربح والخسارة عند أيّ من الطرفين، لنقف بعدها عند موقف «حزب الله» من اتفاقية الترسيم، والاتجاهات المحتملة لمستقبل هذه الاتفاقية، وفق المحاور التالية في تقدير الموقف هذا:

أولًا: اتفاقية الترسيم في بيئة اقتصادية وسياسية متشابكة

رافق الإعلان عن اتفاق الطرفين اللبناني والإسرائيلي على المقترح الأمريكي المقدَّم عددٌ من العوامل والتحديات، التي تشهدها الساحتان الداخلية والخارجية، في كلٍّ من بيروت وتل أبيب، ومن أبرز ملامحها:

1.أزمة اقتصادية لبنانية: يمُر الاقتصاد اللبناني بأزمة طاحنة متشابكة الأسباب والأطراف؛ فاقتصاد الدولة يعاني من إفلاس كامل ومتعطِّش للكهرباء، وتقلُّص الناتج المحلي الإجمالي للبنان بنسبة 10.5%، في عام 2021م؛ ما يجعلها من بين البلدان الأكثر تضرُّرًا في العالم، وفقًا للبنك الدولي. ومن المتوقع أن يبلغ معدل التضخم 120% في العام الجاري، وهو ما أثار احتجاجات واسعة النطاق ضد سوء إدارة الحكومة والفساد. وفي ظل هذا الوضع الاقتصادي المتردِّي، تأمل القيادة السياسية بأن تمثِّل الموافقة على إبرام اتفاق طوق نجاة هو الأقرب، في الوقت الذي يعوِّل فيه الكثيرون على الثروات الكامنة تحت البحر لانتشال لبنان من أزمته الاقتصادية.

2.حسابات سياسية متباينة: تلعب الحسابات السياسية الداخلية دورًا في سعي الأطراف الثلاثة -لبنان وإسرائيل والوسيط الأمريكي- في استعجال التوصُّل إلى اتفاق ينهي النزاع على ترسيم الحدود البحرية بينهما.

أ. لبنانيًا، تترافق الأزمة الاقتصادية مع أزمة سياسية تحولُ دون تشكيل حكومة منذ أشهر، وتُنذر بدخول لبنان مرحلةً جديدة من الفراغ الرئاسي، ما لم يتم التوصُّل إلى تسوية تقودُ إلى انتخاب رئيس خلفًا للرئيس ميشال عون، الذي تنتهي ولايته بنهاية الشهر الحالي؛ 31 أكتوبر 2022م. ويحولُ هذا الجمود دون اتّخاذ تدابير تحِدّ من تنامي التدهور الاقتصادي والمعيشي للدولة، لذا تعوِّلُ كل القوى السياسية في لبنان، سواءً تلك التي في المعارضة أو في السلطة، على إنجاز اتفاق ترسيم الحدود البحرية.

ب. أما إسرائيليًا، فتعاني تل أبيب من حالة إرباك سياسي؛ بسبب الاضطرابات السياسية والتجاذبات الداخلية بين معسكر حكومة تصريف الأعمال الحالية برئاسة يائير لابيد ومعسكر المعارضة برئاسة بنيامين نتنياهو لحسم ملف انتخابات «الكنيست»، التي ستُجرى في الأول من نوفمبر المقبل. لذا، يسعى كل طرف إلى إدخال مسألة ترسيم الحدود البحرية في معترك النقاش والمنافسة حول مستقبل الحكومة الإسرائيلية المقبلة، وتوظيف هذا الملف كلٌّ لصالحه باستمالة جمهور الناخبين.

ج. النشاط الأمريكي في استعجال إبرام الاتفاق بين الطرفين المتنازعين ودخول فرنسا على خط الوساطة، تحكمُه اعتبارات لا تقف فقط على الحسابات السياسية الداخلية في بيروت وتل أبيب، وذلك مخافة نشوء فراغ رئاسي للأولى يحولُ دون توقيع اتفاق الترسيم في الأشهر المقبلة، وواقع إسرائيلي متصل بالانتخابات المبكِّرة، وما يمكن أن تفرزه من معطيات قد تُفشِل هذا الاتفاق، بل تتجاوزه لتدخل في سياق صراعها القائم مع روسيا في الأزمة الأوكرانية، وما يرتبط به من ملفات اقتصادية وسياسية.

المصدر: الحرة، https://arbne.ws/3CzGItz

3. توتُّر بحري متجذِّر: تُعَدّ الخلافات البحرية بين إسرائيل ولبنان واحدةً من القضايا العالقة بين الطرفين، خاصةً منذ اكتشاف الغاز الطبيعي في منطقة شرق البحر المتوسط عام 2009م؛ إذ إن تلك الاكتشافات وما أعقبها، أشعلت تنافُس دول المنطقة وكثَّفت من جهودها للتنقيب عن الغاز الطبيعي؛ بهدف تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب. من هُنا بدأت إرهاصات الخلاف بين الدولتين على أثر النزاع المتواصل حول الخط البحري الفاصل بين الدولتين، وتبدَّلت الخرائط التي قدَّمها الجانبان للتفاوض على أساسها أكثر من مرة، حيث طالب لبنان رسميًا منذ عام 2011م بحدود بحرية تبدأ من الخط المسمى «خط 23»، ويضمن للبنان الفوز بمساحة إضافية تقارب 860 كيلومترٍ مكعب من المياه الإقليمية، ولاحقًا أعادت الحكومة اللبنانية المطالبة بمساحة إضافية تعادل 1430كيلو مترٍ مربع، عبر تحريك خط الحدود جنوبًا إلى «الخط 29».

 ولتقريب وجهات النظر بين الطرفين، عمِلت الولايات المتحدة الأمريكية على بحث جهود الوساطة، ومحاولة تحقيق اختراق من شأنه أن يحدّ من التوتُّرات بين الجانبين، إلا أن جهود الوساطة لم تؤتِ ثمارها إلا مؤخَّرًا، وعبر المقترح المُعلَن من هوكستين وتوافُق باقي الأطراف على بنوده.

4.أزمة طاقة عالمية: أهم العوامل الدافعة باتجاه حل الأزمة الحدودية البحرية، هو ارتباطها بمسألة التحوُّلات الطارئة على نظام الطاقة العالمي جرَّاء الحرب الروسية-الأوكرانية، والصراع الدولي الراهن حول خطوط الطاقة البديلة من «نفط وغاز وفحم حجري»، خاصةً على الغاز. وتدفع اليوم الحاجة الأوروبية المتنامية للغاز في العودة للتفكير مجدَّدًا بخطوط بديلة، وإيجاد إمدادات مستقبلية أكثر استقرارًا وأقل تكلفة، وهو ما رفع من الأهمية الجيو-سياسية لمنطقة شرق المتوسط في نظام الطاقة العالمي الجديد الذي بدأ بالتشكُّل بعد هذه الأزمة. وبالنظر إلى القرب الجغرافي لمنطقة شرق المتوسط من أوروبا، تُعَدّ حقول الغاز الإسرائيلية في مياه المتوسط، وحقل كاريش بالتحديد، إحدى الحلول الأوروبية/الأمريكية لتعويض نقص إمدادات الغاز الأوروبية، وحرمان موسكو من أحد أبرز عناصر قوتها التي تملكها، وهي ورقة الطاقة. هذه المسألة تحديدًا، هي ما تفسِّر الجهد الذي وضعته الولايات المتحدة لإنجاز الاتفاق، والضغط الذي مارسته على جميع الجهات لتسريع وتيرة المحادثات، وخفْض أي توتُّر أمني من شأنه أن يطال جميع الرهانات الأوروبية على الغاز الإسرائيلي، في سياق حرب الطاقة القائم. كما يفسِّر هذا العامل أيضًا الإجراءات الإسرائيلية والأمريكية السابقة، في إيجاد حلول متنوعة لإمداد أوروبا بالغاز في عدَّة اجتماعات إقليمية، بما في ذلك اجتماع «قمة النقب»، في مارس لعام 2022م، بجانب توقيع مذكرة تفاهم ثلاثية بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي في منتصف يوليو الماضي.

5.الحاجة الأمريكية إلى مكاسب عاجلة: صاحَب أجواء الإعلان عن اتفاق ترسيم الحدود البحرية حاجة أمريكية إلى مكسب في الشرق الأوسط، مع اقتراب انتخابات التجديد النصفية، وفي ظل تعثُّر العلاقة مع المملكة العربية السعودية، على الرغم من القمة التي عقدها الرئيس الأمريكي في جدة. وجاء قرار مجموعة «أوبك بلس» بخفض الإنتاج النفطي بحدود مليوني برميل يوميًا بداية شهر أكتوبر 2022م، ليُشعِل موجةً من الغضب لدى عدد من المؤسسات السياسية الأمريكية، باتهام الرياض بدخولها عاملًا مؤثرًا في هذه الانتخابات من باب رفع تكلفة الوقود على الناخب الأمريكي، والتخفيف عن موسكو على خلفية حربها مع أوكرانيا ونزاعها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وبالتالي، فإن نجاح اتفاق الغاز يمثِّل نقطة تحوُّل مهمة في سياق الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة، من منعٍ لاندلاع نزاعٍ إقليمي قد يُربك حساباتها ويُشغلها عن أولوياتها الدولية، وكذلك يمثِّل ارتفاعًا في حظوظ الدبلوماسية الأمريكية، في وقت هي في أشدّ الحاجة فيه إلى تأكيد عدم تراجع دورها في المنطقة مع ما تتعرَّض له من انتقادات، وعدم ترك الساحة لمنافسين للعب دورٍ دبلوماسي قد يُفقدها تأثيرها.

ثانيًا: المقترح الأمريكي والملاحظات اللبنانية

تحاول الولايات المتحدة الأمريكية لعب دور الوسيط بين لبنان وإسرائيل، فيما يخُص ترسيم الحدود البحرية، وتحديدًا فيما يتعلَّق في موضوع الغاز في الحقول الواقعة بين الطرفين، وفي الأول من أكتوبر 2022م سلَّمت السفيرة الأمريكية في بيروت دورثي شيا، مقترحًا خطيًّا للرئاسة اللبنانية للمرة الأولى لترسيم الحدود البحرية، غير أنّ الرئاسة اللبنانية لم تكشف عن طبيعة المقترح ولا ما تضمَّنه، بل اكتفت بالقول إنها ستدرسه. لاحقًا، سلَّمت الرئاسة اللبنانية ملاحظاتٍ عليه إلى الوسيط الأمريكي. وخلال الإعلان عن التوصُّل إلى اتفاق ظلَّ الوضع مبهمًا، إذ أشارت الرئاسة اللبنانية إلى الاستجابة لأغلب الملاحظات، فيما أشارت الصحافة الإسرائيلية إلى أن لبنان عاد وتراجع عن معظم الملاحظات، التي وضعها على المقترح الأمريكي، قبل صياغته بالشكل النهائي، الذي تم الحديث عن الموافقة عليه في كلٍ من بيروت وتل أبيب.

وفي قراءة لتفاعُل الأطراف المشاركة في مسودة الاتفاق، يمكن استخلاص النقاط التالية:

1. يُعَد الترسيم محطة إستراتيجية ونقلة نوعية على مستوى الأطراف المشاركة فيه، فالبعض هلَّلَ له، والبعض الآخر عدَّهُ تنازلًا للطرف الآخر، إلّا أن الأمر المفروغ منه، أن الاتفاق على مسوَّدة الترسيم التي تمَّت بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي، هي صفقة مربحة للبنان، كما لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، في التوقيت وحتى في المكاسب، فهي أتت في شدَّة العاصفة الاقتصادية والحاجة اللبنانية الشديدة لخشبة خلاص منعًا من الغرق. وسط التأكيدات والتلميحات المتواترة من الخارج، بقرُب الفرج الاقتصادي والكهربائي والمالي والأمني للبنان، وهذا ما ألمحت إليه السفيرة الأمريكية في لقاءاتها الأخيرة مع المسؤولين اللبنانيين، وكذلك في جولاتها، ومن خلال ما تضمَّنه كلامها في بيان التهنئة الذي عبَّرت فيه عن أملها بمستقبل واعد للبنان، بعد أن وصل اتفاق الترسيم إلى توافُق مبدئي بين الأطراف. إلا أن ذلك لم يمنع من إبداء بعض المحاذير من هذه الاتفاقية، من بينها:

أ. تعطي الصفقة الجديدة للبنان السيطرة على حقل «قانا» للغاز، في وسط المنطقة المُتنازع عليها، لكنها تعطي إسرائيل نسبةً من أي أرباح مستقبلية من هذا الحقل، تبلغ نحو 17% من الأرباح، بحسب الوثائق المسرَّبة لمسوَّدة الاتفاق. بينما تسيطر إسرائيل على حقل غاز «كاريش»، وهو أقرب إلى حقليْ الغاز تمار وليفياثان المملوكين لإسرائيل.

ب. قُوبِلت بنود الاتفاقية بانتقادات من جهات داخلية لدى الطرفين، ففي لبنان اعتبرت القوى السياسية أن الحكومة اللبنانية قد تنازلت عن النقطة الحدودية في الناقورة، وتاليًا عن «الخط 29»، والذي يبدأ من نقطة البرّ في رأس الناقورة ويمتدّ نحو البحر، قاطعًا حقل «كاريش»، الذي أصبح تحت السيادة الكاملة لإسرائيل، وارتضى لبنان بـ «الخط 23»، مع بعض التحفُّظ أو الشروط، من خلال إلزام الشركة القائمة بعمليات الاستخراج، بإعطاء تل أبيب بعضًا من عوائد الغاز المتوقَّع استخراجها من الجزء الواقع جنوب «الخط 23».

ج. يُضاف إلى كل ذلك، أن مسألة وفرة الغاز في الحقل الممنوح للبنان لا تزال تحت الاستكشاف، كما أن استخراج الغاز تجاريًا من لبنان سيحتاج إلى مدة زمنية ليست بالقصيرة، على اعتبار أن العمليات اللوجستية تتطلَّب وقتًا طويلًا، في حين أن عملية الضخ الإسرائيلية من حقل «كاريش» قد بدأت فعليًّا، قبل الإعلان الرسمي عن اتفاق الأطراف الثلاثة على مسوَّدة الترسيم.

2. خرجت إسرائيل بمكاسب تتجاوز المكاسب اللبنانية؛ فبهذا الاتفاق تكون تل أبيب ضمِنت تهدئةً واستقرارًا تحكمهما المصالح الاقتصادية للجانبين، وأصبحت أيضًا مهيَّأةً للدخول في سوق البلدان المنتجة للنفط، وباتت أحد المصادر المهيئة لتزويد أوروبا بالغاز، بعد أن بدأت فعليًا في التنقيب في الحقل الممنوح لها قبل الإعلان الرسمي، وبالفعل أعلنت «شركة إنرجيان» للطاقة بداية أكتوبر عن بدء ضخ الغاز لمنصة الإنتاج العائمة في حقل «كاريش». إلا أن هناك تبايُن وتصاعُد لحدَّة الانقسام الداخلي بين الأطراف والقوى السياسية في إسرائيل، كما في لبنان، حول بنود الاتفاقية؛ ففي حين بدا أن الحكومة الحالية متحمِّسة للتوصُّل إلى هذه الصفقة السريعة مع لبنان، تصاعدت حدَّة المعارضة اليمينية ضد مسوَّدة الاتفاق المقترحة، واحتمالية عرقلة التوقيع النهائي على الاتفاق الرسمي، وهو ما يُمكن استعراضه على النحو التالي:

أ. اتهام بنيامين نتنياهو، المرشَّح الآخر في انتخابات «الكنيست» المقبلة، حكومة لابيد بالخضوع لـ «حزب الله»، وهدَّد بعدم الالتزام بالاتفاقية إذا تمكَّن من تشكيل حكومة يمينية جديدة، وهو ما من شأنه وضع المزيد من الضغوط على الحكومة الحالية. ولم تقِف انتقادات نتنياهو عند ذلك، بل وجَّه انتقادات لـلولايات المتحدة الأمريكية لتوسُّطها في النزاع البحري بين دولته ولبنان، معتبرًا أن الوساطة الأمريكية ترقى إلى مستوى التدخُّل في الانتخابات الإسرائيلية.

ب. تقديم رئيس المفاوضين الإسرائيليين استقالته، وهو تطوُّر لافت يؤكِّد عُمق الانقسام داخل إسرائيل بشأن مسودة الاتفاق المقترح، حيث أكدت وزارة الطاقة الإسرائيلية استقالة رئيس وفد المفاوضات الإسرائيلي مع لبنان، أودي أديري من منصبه في 3 أكتوبر 2022م. وعلى الرغم من تأكيد مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي أن الاستقالة جاءت احتجاجًا على تجاهُل مكانته رئيسًا للوفد المفاوض، وإسناد مهمة التفويض لرئيس مجلس الأمن القومي إيلي هولتا، فإن بعض المصادر أشارت إلى أن السبب الحقيقي للاستقالة يعود إلى معارضته للاتفاق الذي تم التوصُّل إليه.   

ثالثًا: «حزب الله» من التهديد إلى الترحيب

وسط دوي الترحيب بالحدث، اتّسم موقف الحزب بتأييده لقيام الحكومة اللبنانية بالتفاوض وإنجاز الاتفاق، حيث أشار نصر الله في كلمة له، بقوله: «نحن يجب أن نحتاط؛ لأن هناك من يمكن أن يغيِّر رأيه في كل لحظة، وكانت مفاوضات صعبة وعسيرة.. من البداية، قُلنا نقِف خلف الدولة في موضوع المطالب اللبنانية، ودائمًا كنت أقول نحن نريد أكل العنب واستخراج النفط.. عندما يقول المسؤولون اللبنانيون ويعلن فخامة الرئيس الموقف الرسمي المؤيد للتفاهم، بالنسبة للمقاومة تكون الأمور قد أُنجِزت، وإلى ذلك الحين يجب أن نبقى يقظين».

وتأتي هذه الموافقة الضمنية للحزب، بعد مواقف سابقة أظهر فيها الحزب تشدُّدًا في التعاطي مع مفاوضات الترسيم، والرفض المُعلَن للتنازل عن «الخط 29»، وضرورة الحصول على ضمان أكبر وعدم الاكتفاء بـ «الخط 23» كحد فاصل لترسيم الحدود بين الجانبين. وبعد أن مارَس خلال الأشهر القليلة الماضية أشكالًا وأنماطًا مختلفة من التهديد والوعيد عبر أداته العسكرية، التي تمثَّلت بعدد من المسيرات التي رفدها بأكبر حملة دعائية عن استعداده لخوض «حرب ضروس» من أجل حقوق لبنان. لتُطرَح أسئلة عن أسباب المرونة والمباركة، التي أبداها الحزب تجاه اتفاق ترسيم الحدود البحرية، على الرغم من مواقفِه المتشدِّدة السابقة.

مباركة «حزب الله» للاتفاق، هو موقف اقترن بعدد من الاعتبارات الداخلية والإقليمية والدولية، من أهمها ما يلي:

1. فرصة لكسب نقاط لدى الرأي العام: يعكس الاتفاق تغييرًا في موقف «حزب الله»، الذي يحظر التفاوض مع إسرائيل، وهو تغيير يأتي وسط إدراك الحزب جيدًا أن الوضع اللبناني، معيشيًا واقتصاديًا، كارثي، وأن معالجته باتت الأولوية المطلقة لدى اللبنانيين عمومًا، ولدى بيئته الحاضنة، خصوصًا أنها باتت تُحمِّله مسؤوليةَ الانهيار الجاري في لبنان، عبر السكوت عمّا يجري وتغطيته الفاسدين ودعمهم والتحالف معهم؛ وبالتالي، تمثِّل تهدئة الجبهة اللبنانية والحديث عن المسؤولية الحصرية للدولة اللبنانية في ترسيم حدودها البحرية مع إسرائيل، وما قد يصاحب ذلك من انتعاش اقتصادي للبنان، بمثابة تحصيل نقاط لصالحه، ومكاسب فئوية بتجنُّب الانتقادات لمحاولتها منع استخراج ثروة لبنان الطبيعية في زمن الأزمة الاقتصادية.

2. إبداء حُسن النية الإيرانية وتوجيه للرسائل: تدفع الانتخابات النصفية المقبلة في الكونجرس الأمريكي بالجميع للعودة إلى الوراء قليلًا، والتفكير كثيرًا في كيفية التوصُّل إلى إنجاز يعزِّز من موقفها. ولعلَّ هذا سببٌ رئيسي في قرار طهران إبداء حُسن النية الإيرانية، وعدم تعطيل اتفاق ترسيم الحدود البحرية؛ من أجل استخراج النفط والغاز. فأوروبا لا تزال مهمةً لإيران وهي تتكِل عليها، من أجل الدفع بإدارة بايدن إلى الصفقة النووية. ولا يُستبعَد أن تكون الليونة الحزبية تأتي ضمن صفقة ترتيبات وراء الكواليس بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة، ضمن المساعي المستمرة لإحياء الصفقة النووية (JCPOA)، ولاسيّما أن ملامحها بدأت تظهر في طهران، من إطلاق سراح معتقلين أمريكيين لدى إيران، كما أن هناك حديثٌ حول نية واشنطن الإفراج عن حسابات مصرفية مُحتجَزة للحكومة الإيرانية، إضافةً لحديث البعض عن إعطاء ضوء أخضر أمريكي لإيران من أجل تصدير مزيد من نفطها إلى الخارج.

3. معادلة الاقتصاد مقابل السلاح: إذا كان «حزب الله» يعتبر أن سلاحه ساهم في تحقيق إنجاز نوعي للبنان، وهو ترسيم الحدود البحرية، إلا أن المصالح الاقتصادية المنتظرة من الاتفاقية مستقبلًا، لا تنسجم مع الأسلحة والصواريخ وإمكانية توظيفها في تهديد المنشآت وحقول الإنتاج، لذا قد تشهد المرحلة المقبلة تغييبًا لمعادلة السلاح في العلاقات اللبنانية-الخارجية لصالح معادلة الاقتصاد والطاقة.

رابعًا: اتجاهات وعقبات

في ظل التعقيدات السابقة وتقاطع المصالح بين أطراف الاتفاق، من المحتمل أن يمُر مسار توقيع الصيغة النهائية للاتفاق، بأحد الاتجاهات التالية:

1.الاتجاه الأول: إتمام الاتفاق وتوقيعه بين لبنان وإسرائيل قبل نهاية الرئاسة اللبنانية الحالية، التي تدفع بقوة نحو إتمامه، مستندةً بذلك إلى الضغوطات التي تمارسها واشنطن على كلٍّ من بيروت وتل أبيب، وفي ظل التأييد الدولي ومباركته على توافُق أطراف الاتفاق على المقترح الأمريكي.

فضلًا عن ذلك، فإن السِجالات الحالية في تل أبيب لا تزال لم تحسم بعد بشأن الموافقة على توقيع الاتفاقية، إلا أنه حتى في حال حدوث مفاجآت انتخابية في الانتخابات، التي ستُجرى أول الشهر المقبل، فإن وقوف واشنطن بقوة وراء الاتفاق، يمنع أيَّ حكومة إسرائيلية مقبلة من محاولة فتح الملف من جديد لتعديل شروطه، ولن يكون الرئيس المنتخب قادرًا على إلغاء الصفقة بالكامل.

2.الاتجاه الثاني: عرقلة إتمام الاتفاق، وتأجيله لما بعد الرئاسة الحالية في الدولتين. فجملة المعطيات السابقة من تعقُّد الحسابات المحلية والإقليمية والدولية، تضعُ عصيًا في عجلة التقدُّم باتفاق نحو التوقيع النهائي. فضلًا عن أن الأطراف المعنية تبدو أمام معادلة الوقت، وهو وقت ليس بطويل، فلبنان قد يدخل في فراغ رئاسي، في ظل عدم وجود ملامح توافُق حتى الآن على مَن سيخلُف الرئيس الحالي، وفي ظل عدم التوافُق على تشكيل الحكومة، وكذلك الحال في إسرائيل التي تمُر بتجاذبات سياسية بين الحكومة والمعارضة.

وأخيرًا، يمكن القول إن الاتفاق كان بمثابة حاجة لكُلّ الأطراف المعنية داخليًا وخارجيًا. فداخليًا، الحاجة الرئاسية في بيروت وتل أبيب إلى تسجيل إنجازات داخلية على مشارف نهاية رئاستهما لحكومة الدولتين، والتخفيف من وطأة الأزمة الاقتصادية الضاغطة، التي باتت تُنذر بفوضى عارمة. وفي الوقت ذاته، فإن هناك محاذير ومعرقلات عدَّة قد ترفع من مستوى التحدي أمام إتمام هذا الاتفاق، سواءً معرقلات في الداخل اللبناني وكذلك الإسرائيلي، أو معرقلات خارجية من الاضطرابات الجيو-سياسية التي لا تزال تعصف بالمنطقة، وتحولُ في المستقبل المنظور دون إمكانية إنشاء مشاريع واسعة للتعاون في مجال الطاقة؛ وبالتالي، زيادة التحديات أمام هذا الاتفاق.

وتكشف مباركة «حزب الله» لاتفاق مع إسرائيل، عن براغماتيته وتَبدِيته لمصالحه على حساب عقيدته التي يُظهِرها، وتكشف أن سقوف مطالب «المقاومة» اللفظية، وشعاراتها الثورية الأيديولوجية، تسقط أمام خط المصالح التي يمكن تحقيقها. ولا يمكن إخراج عملية الترسيم من إطار التطبيع، مع ما يترتَّب من تطورات تتعلَّق بمستقبل علاقات لبنان بإسرائيل، وإن اتّخذت شكل التعاون والمصالح المشتركة، وتفاهمات اقتصادية ومالية وتشابُكًا لا مفرّ منه، في سوق بيع وشراء واستخراج وتصدير النفط والغاز، إلا أنه يتطلَّب اتفاق سلام طويل الأمد، خصوصًا أن لا استثمار ستُقدِّمه الشركات الأجنبية في الاتفاقية دون هذه الضمانات، وهذا يشكِّل بمضمونه اعترافًا بالتطبيع، وتعهُّدًا بالحفاظ على الأمن والسلام بين الدولتين، وإن جرت عبر وسيط أمريكي.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير