اندلع حريق في سجن إيفين «سيئ السمعة»، في 16 أكتوبر، محوِّلًا مبنى السجن إلى كتلة لهب تراها العين من أميال، وسارعت الحكومة الإيرانية على أثر هذا الحريق إلى قطع خدمات الإنترنت في البلاد. وفي خضمّ ما تشهده إيران من تعتيم إعلاميّ، توجَّهت جموع أقارب السجناء المفزوعين إلى السجن المحترق وهم يهتفون «الموت لخامنئي» و«الموت للديكتاتور». ولجأت حكومة رئيسي منذ منتصف سبتمبر إلى قطع الإنترنت، غالبًا ما بين الساعة 4 مساءً وحتى منتصف الليل، ومن الساعة 10 صباحًا حتى منتصف الليل في عطلة نهاية الأسبوع، سعيًا منها لقمع الاحتجاجات التي نشبت إثر مقتل الشابة مهسا أميني البالغة من العمر 22 عامًا، في أثناء احتجازها على يد شرطة الأخلاق. وفي هذا الفترة اندلعت شرارة الاحتجاجات بسرعة في جميع أنحاء البلاد، متجاوزةً حدود الانقسامات العرقية والطائفية. وتنامت مخاوف من قمع موجة الاحتجاجات هذه، التي تصدّرَت مواقع التواصل الاجتماعي تحت وسم #مهسا_أميني، خصوصًا أنها بلا قيادة، وتُدار فقط عبر مجموعات «تويتر» و«تليغرام» و«واتس آب».
وحسب ما أفادت به وكالة الأنباء الإيرانية «إيرنا»، نقلًا عن وزير الاتصالات الإيراني عيسى زريبور، قال: «في الأيام الأخيرة فُرِض بعض القيود المؤقتة في بعض المناطق، وفي ساعات محدّدة، الأمر الذي جرت تسويته لاحقًا. وحاليًّا لا تُعاني شبكة الاتصالات من أي مشكلات من حيث السرعة أو الجودة»، لكن بالطبع ما يجري على الأرض ينفي تصريح الوزير.
تُقدَّر خسائر إغلاق الإنترنت لبضع ساعات بنحو 37 مليون دولار يوميًّا، ويؤثِّر في معيشة نحو 9 ملايين إيراني بمستويات مختلفة.
سعى مؤسس «سبيس إكس» (SpaceX) إيلون ماسك للحصول على إعفاء من العقوبات الأمريكية المفروضة على توفير خدمات الإنترنت عبر الأقمار الصناعية للشعب الإيراني، عن طريق شبكته «ستارلنك» (Starlink)، لا سيما أنه استشعر من هذه الأجواء فرصة استثمارية. وبالفعل سارع البيت الأبيض برفع العقوبات، عكس ما قامت به حكومة أوباما في مظاهرات عام 2009م. وفي تغريدة على حسابه في «تويتر» أكد إيلون ماسك توفير الخدمة في إيران قائلًا: «تفعيل (ستارلنك)». وعلى عكس ما يُشاع عن هذه الخدمة فهي تحتاج فقط إلى جهازَي استقبال بأطباقٍ «بحجم علبة بيتزا»، حسب ما وصفها إيلون ماسك في تصريح سابق. وفي نهاية أكتوبر جرى تهريب عشرات من أجهزة استقبال هوائية لشبكة «ستارلنك» ومن المفترض أنها فعّالة، ولكنها تبقى مكلفة وعرضةً للتشويش؛ فهي تستقبل الإشارات ثُم تبثها. وحتى إذا تمكّنوا من تهريب هذه المستقبلات إلى داخل إيران، تبقى الخدمة مُكلِفة وعُرضة للتشويش، لأن أطباق الاستقبال الهوائية تستقبل الإشارات ثم تبّثها. وعلى الرغم من الضجة الإعلامية حول هذه الخدمة، فإنّ قِلّةً من العامّة داخل إيران أكدوا وجودها على الأراضي الإيرانية، أو دورها في ربط شبكات الإنترنت بصورة شاملة.
ونقلت وكالة الأخبار «وايرد» عن مدير أمن الإنترنت والحقوق الرقمية في «مجموعة ميان»، أمير رشيدي، قوله: «لا يمكنك وضع مستقبل الاتصال بـ(ستارلنك) في حقيبة ظهرك ومِن ثَمّ الذهاب إلى مظاهرة، ومع أن خدمة الإنترنت عبر الأقمار الصناعية ستكون مفيدة جدًّا، لكنها لا تحلّ المشكلات».
قبل الخوض كثيرًا في خيارات الإنترنت المتاحة للمتظاهرين الإيرانيين، يجب البحث في طرق تعامُل الحكومة الإيرانية مع مسألة الاتصال بالإنترنت، فمنذ أن شهدت وسائل التواصل الاجتماعي والرسائل النصية القصيرة والخدمات الخلوية إقبالًا شديدًا في أثناء الاحتجاجات التي أعقبت انتخابات عام 2009م، ضخَّت طهران ملايين الدولارات لحجب المواقع على شبكة الإنترنت، وأنشأت شبكة إنترنت محلية خاصة بها.
الشبكة الإيرانية الموازية، أي شبكة الإنترنت المحلية، شبكة مغلقة ومصمَّمة للبيانات والمعلومات المُصرَّح بها من الدولة، وتقريبًا كل ما يجري داخلها تحت الرقابة. أما شبكة الإنترنت العالمية فهي أيضًا تخضع لرقابة حكومية شديدة مع الحظر الدائم لمنصات التواصل الاجتماعي مثل «يوتيوب» و«فيسبوك» و«تويتر». وطوَّرت شبكة الإنترنت المحلية إصدارات مستنسخة لمنصات التواصل الاجتماعي الشهيرة، أما خدمة الهواتف النقالة فتقدِّم حِزَمًا للشبكة المحلية، يُطلَق عليها اسم «الإنترنت الحلال»، تُراقَب فيها أي انتهاكات لـ«الآداب»، سواء كانت بالمظهر أو الآراء، ويجري التعامل معها حسب القوانين الشيعية.
وبدهاءٍ منها، تمنح الحكومة الإيرانية الأفراد المهمين بعض الاستثناءات للترويج لرواية المؤسسة الثورية، فيما تحرم موطنيها من الوصول إلى أكثر من 5 ملايين موقع. لم تكُن هذه أول مرة يُحجَب فيها الإنترنت في إيران، فقد حدث انقطاع كامل للخدمة في مظاهرات عام 2019م، وفي الفترة من 2017م إلى 2018م حُظِر أيضًا تطبيق المراسلات الشهير «تيلغرام»، مع تطبيقات أخرى.
وإن تمكَّن بعض الأشخاص من الوصول إلى الإنترنت بطريقةٍ ما، فسوف يجدون أن مواقع «Google» و«Gmail» و«Yahoo» و«Mail.com» و«Discord» و«LinkedIn» محظورة، وكذلك الحال مع أي ألعاب فيديو تحتوي على خدمات الدردشة. وقد يتمكن بعض الأشخاص من الوصول إلى «ProtonMail» و«iCloud»، ويُعَدّ تطبيق المراسلة الآمن «Signal» الأكثر فاعلية أمنيًّا، لما يحتويه من خصائص تمكِّن المستخدم من تجاوُز الرقابة الحكومية. وفي الأماكن التي يتعذَّر بها تحميل تطبيق «Signal» فإنّ الشركة توفر طريقةً آمنة للتحميل، بمراسلتها عبر بريدها الإلكتروني «getsignalsignal.org». وثمّة تطبيق آخر مهمّ أيضًا، وهو «Gershad» الذي يتيح للمستخدمين جمع المعلومات حول تحرُّكات شرطة الأخلاق، ونقاط تفتيش البسيج.
يتّجه الإيرانيون المواكبون لتكنولوجيا المعلومات إلى شبكة «The Onion Router (TOR)»، وهي شبكة عالية السرّية مصمَّمة لتوفير برامج مجانية ومفتوحة المصدر، وتمكِّن من إخفاء هوية المستخدم. ونجح البعض في إنشاء قنوات «TOR» التي تربط الشبكات المحلية بالويب. ويحتفظ «GitHub» أيضًا بصفحة لإتاحة استخدام الإنترنت في إيران. وقد نجحت «#OpIran»، وهي حملة لمجموعة قراصنة ناشطين يديرها حساب «AnonOpsSE» على «تويتر»، في اختراق عدد كبير من المواقع الإلكترونية والقنوات التلفزيونية الرسمية. وأصبح بعض الشبان الإيرانيين، الذين كانوا حتى وقت قريب يخترقون الأنظمة الغربية لصالح حكومتهم، يبيعون الآن بيانات رسمية على الشبكة المظلمة، أو ما يُعرَف بـ«Dark Web». وعلى الرغم من أن استخدام الشبكات الافتراضية الخاصة أو ما يُعرَف اختصارًا بـ«VPN» ليس جديدًا، فإنّ موجة الاحتجاجات الأخيرة تحت وسم «#MahsaAmini» قد جعلتها شائعة الاستخدام في الشارع الإيراني، بالإضافة إلى تطبيقات أخرى مثل «Signal» و«TOR» و«GitHub».
وعلى الرغم من حظر المواقع وقطع الاتصال بالإنترنت، فإن الشكوك بدأت تساور الحكومة الإيرانية إزاء فرقها السيبرانية الشابة والطموحة، التي لديها اتصال على المستوى العالمي، فقد انتشرت مقاطع فيديو تُظهِر قوّات البسيج وهي تداهم منازل الشبّان وتسوق آخرين إلى سيارات الاعتقال في الشوارع. في الختام، فإنّ شركات تكنولوجيا المعلومات الرائدة في العالم مثل «Facebook» و«Starlink» و«Amazon» و«Microsoft» كانت دون مستوى طموحاتها، ولم تفِ بتعهُّداتها، من مواقفها في الجانب التكنولوجي والأخلاقي. ومع ذلك لا تزال براعة وإرادة الشعب الإيراني البائس، خصوصًا الفتيات والنساء منهم، تحرِّك موجة المظاهرات على الرغم ممّا تواجهه من قيود وصعوبات إدارية وتكنولوجية.