تعرَّضَت إيران على مَرّ السنين لهجمات إلكترونية، واستهدف القراصنة الأجهزة والمنشآت الحكومية الرئيسية، لكن الاختراق الناجح للبريد الإلكتروني الذي استهدف شركة إنتاج وتطوير الطاقة النووية الإيرانية، شكَّل منعطفًا جديدًا في خِضَمّ الاحتجاجات المستمرَّة على مقتل مهسا أميني. أعلنت مجموعة القراصنة «بلاك ريوارد/ Black Reward» مسؤوليتها، ولوَّحت بتسريب الوثائق المُخترَقة، وهي بيانات بسعة 50 غيغابايت، إذا لم تُفرِج الحكومة الإيرانية عن جميع السجناء السياسيين والمتظاهرين المعتقلين خلال الشهر الماضي. وذكرت المجموعة على وسائل التواصل الاجتماعي أنَّ الوثائق المنشورة «تحتوي على عقود شركة إنتاج وتطوير الطاقة الذرية الإيرانية مع شركاء محليين وأجانب، والجداول الزمنية الإدارية والتشغيلية لمحطة بوشهر للطاقة، وتفاصيل الهُوية ودفع رواتب المهندسين والعاملين في الشركة أيضًا، كجوازات سفر، وتأشيرات للمختصين الإيرانيين والروس في محطة بوشهر للطاقة». وصرَّحت المجموعة أيضًا بأنها «على عكس الغربيين، لا تغازل رجال الدين المجرمين، وأنها إذا قالت شيئًا فإنها تنفِّذه بنسبة 100%». ومن غير المعروف حاليًّا ما إذا كانت الوثائق تتضمَّن معلومات حساسة حول برنامج إيران النووي أم لا، وهناك حاجة إلى مزيد من الوقت لدراسة الوثائق وتحليلها، إلا أن عملية القرصنة تتّسِم بالأهمية البالغة، ولها تداعيات هامّة على قوة وسلطة النظام الإيراني، الذي يمارس القمع على الشعب الإيراني، خصوصًا في خِضَمّ الاحتجاجات الشعبية الإيرانية المستمرة، والتوتُّرات الإيرانية-الغربية بسبب تعثُّر المحادثات النووية في فيينا.
أولًا: ينطوي توقيت عملية القرصنة على أهمية بالغة، لأنه جاء بالتزامن مع تعرُّض النظام الإيراني لضغوط داخلية واسعة، ردًّا على مقتل مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق الإيرانية. انتشرت الاحتجاجات المتواصلة كالنار في الهشيم، ولا تزال مستمرة بنزول مزيد من الإيرانيين إلى الشوارع، على الرغم من أنهم يواجهون أعمالًا وحشية على يد الشرطة. وتشكِّل هذه الاحتجاجات تهديدًا داخليًّا كبيرًا على النظام الإيراني، إذ تُعَدّ الأخطر منذ الثورة الإيرانية عام 1979م، خصوصًا مع ظهور خلافات ما بين رجال الدين والموالين السابقين للنظام إزاء الرؤية الرسمية للدولة في ما يخُصّ إلزامية ارتداء الحجاب، وقد انتقد هؤلاء الموالون عنف النظام ضد المتظاهرين. ومع تنامي الضغوط الداخلية، كان آخِرُ ما يحتاج إليه النظام هو اختراقًا آخَرَ لآلية حماية برنامجها النووي السرّي. ويشكِّل هذه الاختراق إحراجًا آخر للنظام، الذي لطالما كان يتباهى بتطوير برامج حماية لا يمكن اختراقها، ويُبرِز نفسه على أنه نظام خارق محترف لا يمكن اختراقه، ويتصدَّى لجميع التهديدات الخارجية. سوف يُصاب النظام الإيراني بحالة من عدم الاستقرار وبالارتياب في هذا الوقت، إذ يواجه خروقات وتهديدات أمنية داخلية وخارجية.
ثانيًا: بالنظر إلى تفاصيل الوثائق المسرَّبة فإنها من الممكن أن تنهي أيّ أمل إيرانيّ في إحياء الاتفاق النووي، بعد وصول المحادثات إلى طريق مسدود منذ شهور. قد يمارس الشركاء الغربيون ضغوطًا على الأمريكيين من أجل إجبار إيران على تقديم تنازلات وضمانات قد تكون غير مُرضية وغير مُرحَّب بها من قِبَل الإيرانيين. وعلى الرغم من خضوع محطة بوشهر لإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإنّ تفاصيل العقود والشركاء الأجانب والمشتريات قد تُحرِج النظام الإيراني، وتضع ضغوطًا إضافية عليه، وذلك في حال انكشف أنها تنتهك التزاماتها النووية فيما تجري محادثات لإحياء الاتفاق النووي في فيينا.
ثالثًا: تردَّد كثيرًا أن النظام الإيراني استثمر موارد ضخمة من أجل تعزيز قدرات الأمن السيبراني في البلاد. وعلى الرغم من تلك المزاعم، فإن الأجهزة والمنشآت الإيرانية الرئيسية لا تزال مُستهدَفة وتتعرَّض للاختراق، ما يكشف عن وجود الثغرات ومَواطن الضعف في البنية التحتية للأمن السيبراني في البلاد. وقد تزيد عمليات القرصنة حالة انعدام الثقة في قدرات النظام، ولاسيّما أن الشعب الإيراني يتّهِم النظام بعدم الكفاءة وسوء الإدارة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية. تتعرَّض كل عناصر القوة والسلطة، التي لطالما تباهى بها النظام، لخطر الانهيار، وقد يظهر النظام أوهن من بيت العنكبوت. يعيش النظام الإيراني أوقاتًا محفوفة بالمخاطر، وبات يخوض معارك صعبة على جميع الجبهات.
رابعًا: اتّهم النظام الإيراني عناصر أجنبية بالتورُّط في عملية القرصنة الأخيرة، فيما وجَّه أصابع الاتهام إلى إسرائيل. نتيجةً لذلك، من المرجَّح أن نرى مزيدًا من الصراع السيبراني الإيراني-الإسرائيلي، وقد يتحوَّل ميدان هذا الصراع إلى معادلة ميزان القوى في المنطقة. وتسعى كلٌّ من طهران وتل أبيب إلى تحويل المعادلة لصالحها من خلال استعراض قدراتها الفنية. وعلى الرغم من أن قدرات إسرائيل السيبرانية تفوق بكثير قدرات إيران، فإنها قد لا تستطيع أن تردع إيران عن القيام بردّ فعلٍ ما. وفي الواقع سيكون رد الفعل في مصلحة النظام الإيراني، لأنه سيَصرِف الانتباه عن مخاوفها في الداخل، ويُسهِم في تعزيز النزعة القومية المفرطة من خلال التصدي للتهديدات الإسرائيلية، كما حدث مؤخرًا عندما هاجم النظام الإيراني قواعد المعارضة الإيرانية الكردية في كردستان العراق. دائمًا ما كان النظام يستخدم الورقة القومية في الأوقات الصعبة، لكن هذه المرة قد لا ينجح، خصوصًا أن تكتيكات النظام وألاعيبه باتت معروفة جيدًا للشعب الإيراني، الذي سئم ويريد تغييرًا سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا جذريًّا من أجل تحسين حياتهم وحياة الأجيال القادمة.
وفي الختام، أيامٌ عصيبة تنتظر النظامَ الإيرانيَّ، مع وجود مساحة ضيّقة أمامه للمناورة، ويتكشَّف يومًا بعد يوم النقص الحادّ في ترسانة النظام العسكرية، إذ لم يعُد يمتلك الموارد أو القدرة على خوض المعارك على جبهات متعدّدة. ويُعَدّ هذا الخرق الأمني دافعًا للمتظاهرين لأنه يكشف نقاط الضعف الفعلية للنظام، الذي لطالما تباهى بأنه على درجة عالية من القوة الطاغية طَوال العقود الماضية.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد