تتنافس اليوم القوى الكبرى في العالم لبسط نفوذها في آسيا الوسطى، ففي ربيع هذا العام، وصلت العلاقات الإيرانية مع دول المنطقة إلى ذروتها، بزيارة رؤساء طاجيكستان وتركمانستان وكازاخستان إلى طهران. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، زار الرئيس الطاجيكي إمام علي رحمون طهران لأول مرة منذ عام 2013م، وقبل هذه الزيارة افتتح البلدان مصنعًا للطائرات المسيَّرة الإيرانية من طراز «أبابيل-2» في طاجيكستان. وأتت هذه الخطوة من دونشبه، ردًّا على شراء قيرغيزستان الطائرات المسيَّرة التركية من طراز «بيرقدار» العام الماضي. كذلك تقع أوزبكستان أيضًا في نطاق الاهتمام الإيراني، على الرغم من أن رئيسها شوكت ميرضيايف لم يزُر طهران بعد، لكن بادر وزير الخارجية الإيراني في 20 يونيو بالاتصال هاتفيًّا بنظيره الأوزبكي، لتعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين في مختلف المجالات. ويبقى اهتمام أوزبكستان، كشقيقتها كازاخستان، حول مميزات موقع إيران، كونها حلقة وصل بين آسيا وأوروبا. ومن أولويات السياسة الخارجية للحكومة الحالية في أوزبكستان، الوصول إلى المواني في إيران والخليج وجنوب آسيا. وزار الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في 14 سبتمبر أوزبكستان زيارة رسمية، لحضور قمة «منظمة شانغهاي للتعاون»، حيث عُقِدت محادثات ثنائية بين أوزبكستان وإيران، انتهت بتوقيع 18 وثيقة تغطِّي مجالات تعاون مختلفة، كان أبرزَها:
1- اتفاقية لتسهيل إجراءات التأشيرات لرجال الأعمال والدوائر العلمية والمجموعات السياحية.
2- اتفاقية ثنائية لإلغاء متطلبات التأشيرة لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية.
3- برنامج تعاون في القطاع السياحي.
4- مذكّرة تعاون في النفط والغاز والصناعات البتروكيميائية.
5- مذكرة تفاهُم لنقل البضائع والعبور من ميناء « تشابهار».
6- برنامج تعاون بين وزارتَي الخارجية.
بالإضافة إلى هذه الاتفاقيات، فتح حصول إيران على عضوية كاملة في «منظمة شانغهاي للتعاون» فُرَصًا جديدةً أمام دول منطقة آسيا الوسطى لتوسيع علاقاتها مع النظام الإيراني، إذ ستتيح هذه المنظمة متعدِّدة الأطراف فتْح الحوار والتعاون في ملفات محورية، مثل الأمن والاستثمار في المشاريع الاقتصادية. أما إيران، فستتمكن من زيادة تأثيرها السياسي بين المجتمعات الشيعية في منطقة آسيا الوسطى، من خلال البرامج الثقافية، وستوظِّف قوتها الناعمة لنشر صورة إيجابية في المنطقة، بما سيساعدها على التغلُّب على العُزلة المفروضة عليها بسبب برنامجها النووي وتدخُّلاتها في شؤون الدول الداخلية، وسجِلّها السيِّئ في حقوق الإنسان.
وعلى الرغم مما تعانيه إيران من عُزلة، فإن موقعها الجغرافي يجعلها دائمًا مَحَطَّ جذْب كثير من الدول الراغبة في الوصول إلى ممرات التجارة البرِّية والبحرية. وهذا ينطبق على حالة دول آسيا الوسطى الحبيسة، إذ سيساعد تشييد ممرّاتِ ربْطٍ مع إيران دولَ آسيا الوسطى على الوصول إلى الخليج. وتُرجِمَ هذا الإصرار على إنشاء الممرّات مع إيران، بتوقيع «اتفاقية عشق آباد» في أبريل 2016م، التي أرست إجراءات إنشاء ممرّ متعدِّد الوسائط (أي بطُرُق النقل البري أو البحري)، بين أوزبكستان وكازاخستان وتركمنستان وإيران وعُمان والهند وباكستان، لتسهيل نقل البضائع من منطقة آسيا الوسطى إلى الخليج. ومن المرجَّح أن تنضمّ الصين إلى الاتفاقية، بهدف تثبيت وجودها بمنطقة آسيا الوسطى، لا سيّما أن طريق «مبادرة الحزام والطريق» الصينية يمُرّ عبر المنطقة. ومع وجود الهند تزداد رغبة الصين في الانضمام إلى الاتفاقية، وزيادة نفوذها في هذه المنطقة الشاسعة والمهمَّة جيوسياسيًّا، خصوصًا أن الهند منافس للصين، وتنظر إليها بكين على أنها طَرَف في المحور الأمريكي لاحتواء توسُّع الصين الاقتصادي.
يُذكَر هُنا أن حكومة رئيسي تبنَّت سياسة خارجية بـ«التوجُّه شرقًا»، لتخفيف آثار العقوبات التي أنهكت اقتصاد البلاد، وجزءٌ من هذه السياسة الخارجية كان إحياء العلاقات الإيرانية مع دول آسيا الوسطى. لذا، يمكننا قراءة التحركات الأخيرة، سواء من الجانب الإيراني أو من قادة آسيا الوسطى، من خلال هذا التوجُّه الإيراني الذي تسعى طهران من خلاله لتخفيف وطأة الضغوط عليها وكسر العزلة على الصعيدَين الإقليمي والدولي.
الخليج يكثِّف خطواته للوصول إلى آسيا الوسطى
التقى وزراء الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي نظراءهم من جمهوريات آسيا الوسطى في الرياض في 7 سبتمبر، على خلفية توسيع إيران علاقاتها مع منطقة آسيا الوسطى. حضر اللقاء وزراء خارجية السعودية وقطر والكويت والإمارات والبحرين وعُمان وتركمانستان وأوزبكستان وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان، واستُهِلّ «الحوار الإستراتيجي بين مجلس التعاون الخليجي ودول آسيا الوسطى»، وهي مبادرة جديدة تهدُف إلى توسيع التعاون بين الجانبين في مجالات متعدِّدة. وعلى الرغم من أن المبادرة بقيت في مرحلة التخطيط لبعض الوقت، فإن التطورات الأخيرة تشير إلى ضرورة سرعة تنفيذها.
اعتمد وزراء الخارجية «خطة العمل المشترك للحوار الإستراتيجي والتعاون بين دول مجلس التعاون ودول آسيا الوسطى (2023-2027م)»، في المجالات الأمنية والاقتصادية والاستثمار، وخطط سريعة لتعزيز العلاقات الثنائية ومتعدِّدة الأطراف بين الجانبين. ومن المتوقَّع أن يجني الجانبان فوائد ضخمة، فكلتا المنطقتين غنية بموارد طبيعية، على رأسها النفط والغاز، بما قد يجعلهما عاملًا مساهمًا في استقرار أمن الطاقة عالميًّا.
وعلى الرغم من هذه الفوائد الجلية، فإن الجانبين يواجهان عددًا من التحديات، تتمثَّل في بُعد المسافة جغرافيًّا، وتنفيذ مشاريع الطاقة والبنية التحتية. لذلك قد ترغب أطراف أخرى في المشاركة بمشاريع طموحة في المنطقة، بتقديم المعرفة والمعلومات التقنية. ناهيك بأن دول آسيا الوسطى كثّفَت علاقاتها مع إيران الراغبة جدًّا في بسط نفوذها في هذه المنطقة بالغة الأهمية إستراتيجيًّا وجيوسياسيًّا، إذ تشهد أيضًا منافسة بين الولايات المتحدة وروسيا. وسيكون من المثير للاهتمام أن نرى هذه الدول توازِن علاقاتها بين الخصوم، لا سيّما بين دول مجلس التعاون والخليجي وإيران، في ظلّ التوتُّرات بين الجانبين على خلفية برنامج إيران النووي وسياساتها العدائية في المنطقة. ويجدُر بدول آسيا الوسطى أن تُدرِك أن جميع مشاريعها المشتركة قد تنهار، إذا فشلت محادثات فيينا في التوصُّل إلى اتفاق نووي وفُرِض مزيد من العقوبات على إيران. لذلك عليهم التفكير بحكمة وحذر، والتوجُّه نحو شركاء أكثر موثوقية في الخليج يقدِّمون للمنطقة فُرَصًا اقتصادية كبيرة.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد