كيف ستتعاطى الولايات المتحدة مع الاتفاق السعودي-الإيراني؟

https://rasanah-iiis.org/?p=30753

عُدَّت الاتفاقية التي وقَّعتها المملكة العربية السعودية وإيران في العاصمة الصينية بكين، بتاريخ العاشر من مارس 2023م، مفاجأةً من العيار الثقيل، وفتحت الباب للعديد من التساؤلات والاستفسارات، بما في ذلك انعكاسات هذه الاتفاقية على السياسة الأمريكية، باعتبار مكانتها ودورها الإقليمي وعلاقاتها مع الأطراف الموقِّعة على الاتفاق، وارتباطها بقضايا الصراع والأمن الإقليمي.

واعتُبِرت الاتفاقية مفاجأةً لم تتوقَّعها الولايات المتحدة، ومبادرةً خصَمت من رصيدها الدولي ونفوذها الإقليمي؛ الأمر الذي قد يكون له تأثير على الموقف الأمريكي من الاتفاق، سلبًا أو إيجابًا.

أولًا: الاتفاق كتهديد لمكانة ومصالح الولايات المتحدة

قد يُنظَر إلى الاتفاقية السعودية-الإيرانية، التي رعتها الصين، على أنَّها في غير صالح الولايات المتحدة، وفق أكثر من منظور:

1. التأثير على المكانة الدولية: فالاتفاقية تعكس تحوُّلًا نوعيًا في التوجُّهات الصينية على الساحة الدولية، حيث يُعَدُّ دور بكين في الاتفاقية السعودية-الإيرانية، أحد مظاهر النفوذ المتزايد للصين على الساحة الدولية. فهذه الوساطة صورة من صور التحوُّل في سياسات الصين الخارجية نحوَ مراجعة النظام الدولي، وإظهار مزيد من التحدِّي للولايات المتحدة، وفي الأصل التخلِّي عن سياساتها تجاه العالم الخارجي، من منظور الاقتصاد إلى منظور الأمن والسياسة، وهي رؤية صينية تنسجم مع ما جاء في «مبادرة الأمن العالمي»، التي تطرحها بديلًا عن الأُطُر الدولية، التي أقرَّتها الولايات المتحدة على مدى عقود. وفي ظل المنافسة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين، فإنَّ الاتفاقية تُعتبَر مؤشِّرًا على تصاعُد التهديد الصيني للمكانة الأمريكية على الساحة الدولية.

2. الخصم من النفوذ الإقليمي: لأنَّ الاتفاقية تعكس الدورَ المتنامي للصين في المنطقة، الذي يسعى إلى ملء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة خلفها، ويعطيها قدَم سبق؛ لأنَّها باتت طرفًا مقبولًا لدى أهم قوتين إقليميتين، بل يعطيها ميزةً في أنَّ الاتفاقية قد تضمن تدفُّق مصالحها من الجانبين دون عوائق، بعدما كانت لعبة التوازنات تُخضِع دورَ الصين عبر ضفتي الخليج لحسابات معقَّدة. وبينما أكد بايدن أنَّ الأولوية الأمريكية بالمنطقة في عدم ترك فراغ بالشرق الأوسط قد تملؤه الصين، فإنَّ الاتفاقية، التي جاءت بعد الزيارة التاريخية للرئيس الصيني شين جين بينغ إلى المنطقة، وبعد زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي للصين، تشير إلى أنَّ النفوذ الصيني يتزايد على حساب نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة، وقد يشجِّع نجاح الخطوة الصينية على مزيد من الإجراءات والخطوات المؤثِّرة.

3. الهيمنة وتزايُد نزعة الاستقلالية: كانت غالبية دول المنطقة تدور في فلك الولايات المتحدة لتاريخ طويل من المصالح المشتركة، لكن مجرَّد إبقاء الولايات المتحدة على عِلم بالمفاوضات، التي جرت في بكين، يشير إلى تزايُد نزعة دول المنطقة إلى الاستقلالية، وإخضاع سياساتها لمعايير ذاتية تخُص تقديراتها لمصالحها الوطنية، في مقابل تغيُّر سياسة الولايات المتحدة وتفضيلها لسياسة «أمريكا أولًا». هذا التغيير الواضح، الذي بدأ في الفترة الأخيرة، لاسيّما في التوجُّهات السعودية، يشير إلى أنَّ هيمنة الولايات المتحدة تواجه نزعةَ استقلالٍ حقيقي على الصعيد الإقليمي والدولي. فبعدما ربطت المملكة سياساتها تجاه إيران بالولايات المتحدة لعقود، فإنَّها اتّخذت قرارًا براجماتيًا مفاجئًا بعقد اتفاق لتطبيع العلاقات مع إيران. هذا نموذج لنزعة استقلال سعوديةٍ أصبحت ترى العالم بمنظور مختلف، وهو ما قد يجعل البلدين في المستقبل ليسا على خلاف، ولكن على ضفتين متقابلتين يربطهما تنافس منضبط، قد يتطوَّر إلى ما هو أبعد من ذلك.

4. المفهوم الأمريكي للأمن الإقليمي: كانت الولايات المتحدة تسعى إلى تنسيق أمني أوسع في المنطقة يضُم إسرائيل؛ من أجل مواجهة خطر إيران، وهو مشروع مطروح منذ زيارة بايدن للمنطقة في منتصف العام 2022م. وكانت فلسفتُه تقوم على نقل مسؤولية الأمن الإقليمي إلى الحلفاء، بمن فيهم إسرائيل، ويتّفِق ذلك مع الإستراتيجية الأمريكية تجاه إيران، التي ترتكز إلى: العمل مع الحلفاء لردع أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة، والتصدِّي لها، وإعطاء الدبلوماسية أولويةً لمعالجة الملف النووي، مع عدم استبعاد أيّ أدوات أخرى. لكن مع تزايُد الشكوك حول جدية وفاعلية الإستراتيجية الأمريكية، جاءت الاتفاقية السعودية-الإيرانية لتضع حدًّا لهذا المنظور الأمني، الذي قد يتأجَّل تنفيذه، أو تُعاد صياغته في مرحلة قادمة؛ هذه الصياغة الجديدة رُبما لن تُلغي الشراكة الأمنية الأمريكية مع دول الخليج والمملكة على وجه الخصوص، ولن يُغلَق الباب أمام انضمام مزيد من الدول لاتفاقية إبراهام، لكنّه سيُعيد هيكلة المفهوم الأمريكي للأمن الإقليمي ويقيِّده إلى حدٍّ بعيد، ما دام الاتفاق ساريًا ويجني ثماره.

5. إدارة الصراع بين القوى الإقليمية: كان هناك رأي أنَّ الولايات المتحدة تمارس نفوذها في المنطقة، من خلال إدارة الصراع بين إيران ودول الخليج، وتوظيف هذا الصراع؛ لضمان تدفُّق مصالحها الحيوية. لهذا؛ فإنَّ اتّجاه إيران إلى تصفية خلافاتها مع منافستها الرئيسية في المنطقة، ينزعُ من يد الولايات المتحدة بعضًا من أدوات إدارة المشهد الإقليمي، بل يفتح الباب أمام تأثيرات سلبية، على القضايا الخلافية مع إيران.

6. الإستراتيجية الأمريكية تجاه إيران: بعد التراجع عن خيار الدبلوماسية، تسعى الولايات المتحدة إلى استعادة فاعلية الضغوط القصوى على إيران؛ وبالتالي دعم الحراك الاحتجاجي في الداخل بصورة غير مباشرة. والهدف الأخير هو إجبار النظام على العودة للاتفاق النووي، وتعديل سلوكه المعادي للولايات المتحدة والغرب. لكن الاتفاق يعطي إيران بعض الميزات، فيما يتعلَّق بكسر العزلة الإقليمية، وخلْق مسافة بين الموقف الأمريكي وموقف السعودية فيما يتعلَّق بإيران. كما أنَّ الاتفاق كان له مردودٌ إيجابي، فيما يتعلَّق بالوضع الاقتصادي الداخلي، حيث ارتفع سعر العملة المحلِّية. ولو كان للاتفاق مردودٌ على تهدئة الاحتجاجات، فإنَّ المحتمل أن يكون موقف إيران من الاتفاق النووي أكثر تشدُّدًا.

ثانيًا: الفرص الكامنة للولايات المتحدة في الاتفاق

وفق المنظور أعلاه، فإنَّ الولايات المتحدة قد تقيِّم الاتفاق على أنَّه تحدٍّ لمصالحها، وتغيير كبير يُضِرّ بإستراتيجيتها في الشرق الأوسط، وفضلًا عن كونه تحدّيًا صينيًا، فإنَّه صياغة جديدة للشرق الأوسط بقيادة السعودية، وفق رؤية محلِّية مغايرة للسياسة الأمريكية على مدى عقود، تستبدل الفوضى بالاستقرار، وتضع حدًّا لحروب الوكالة وصناعة ميليشيات وجماعات العنف، ومن ثمَّ قد لا تباركه، ورُبما تضع عراقيل من أجل أن يصل الطرفان إلى طريق مسدود.

لكن هناك قراءةٌ معاكسة بألّا تّتِجه الولايات المتحدة لعرقلة الاتفاق، والسماح للطرفين لاختبار مبادراتهما بتطبيع العلاقات، وتشجيعهما على الحد من التنافس والصراع، ومحاولة الاستفادة من هذا التحوُّل وإدارته؛ ليصُبّ في صالح الولايات المتحدة في النهاية. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى عدد من الحجج والفرص الكامنة في الاتفاق، التي تدعم التقييم الأمريكي الإيجابي له، أهمّها ما يأتي:

1. يمكن قراءة الاتفاق بمعزل عن التنافس الإستراتيجي مع الصين: على الرغم من بروز الصين كراعٍ للاتفاق، وأنَّه يأتي في إطار تصاعُد المنافسة الإستراتيجية بين الجانبين، غير أنَّ ذلك قد لا يكون دافعًا قويًا من جانب الولايات المتحدة لإحباط الاتفاق السعودي-الإيراني، فلا الولايات المتحدة ولا الغرب كانا يمكن أن يكونا بديلًا للصين في هذا الاتفاق. فضلًا عن هذا، فإنَّ الاتفاق ينسجم مع التوجُّهات الأمريكية نحو الشرق الأوسط، وقد سبق أن دعمت واشنطن جولات التفاهم السعودي-الإيراني التمهيدية في العراق وعُمان، كذلك يحقِّق الاتفاق الهدفَ الأمريكي في تحقيق الاستقرار، بصرف النظر عن دور الصين. فالولايات المتحدة لا تزال تثِق بأنَّها أهم شريك أمني لدول المنطقة، وأنَّه لا يمكن لقوى أخرى أن تملأ هذا الفراغ، على المدى المنظور. وأنَّ الوجود الصيني في المنطقة يسبق هذا الاتفاق، سواءً في حماية أمن الممرات البحرية، أو مواجهة بعض التهديدات غير التقليدية، كمواجهة القرصنة البحرية.ناهيك عن أنَّ دول المنطقة نفسها لديها محاذير تجاه أهداف الصين وطموحاتها.

2. أنَّ الاتفاق يحقِّق الأهداف الأمريكية في المنطقة: إنَّ الإستراتيجية الأمريكية ركَّزت على اتّباع سياسية عدم التدخُّل، وتقليل الانخراط في الأزمات والصراعات، وبدلًا عن ذلك اعتمدت على الردع والانتشار العسكري، والدبلوماسية والأدوات الذكية؛ لدرء المخاطر المحتملة، وضمان تدفُّق المصالح الحيوية. وشجَّعت القوى الإقليمية على الحوار بدلًا عن الصراع، وعلى تحُّمل تكلفة تأمين حدودها ومصالحها بدلًا عن مظلة الحماية التقليدية. وتحديدًا التهدئة بين السعودية وإيران، باعتبار أنَّ خلافاتهما فجَّرت الصراعات والمنافسة الإقليمية، وسمحت بأدوار أكبر لقوى دولية منافسة؛ وبالتالي فإنَّ الاتفاق ينسجم مع التوجُّه الأمريكي العام في المنطقة. ولأنَّ التوقعات الأمريكية قد تكون مبنيةً على أنَّ الاتفاق سيقود إلى حالة من اللا حرب واللا سلم؛ فإنَّها سترى أنَّ الاتفاق لن يعرقل نفوذها في إدارة الصراع بين الجانبين لصالحها، بل يمكن توظيفه؛ من أجل تهدئة التوتُّرات، التي تخدم المصالح الأمريكية كتسوية الصراع في اليمن.

3. الشراكة مع السعودية لا تزال فاعلة وحاجة متبادلة: على الرغم من أنَّ السعودية حريصة على الاستقلالية، وأنَّها قطعت خطوات نحو تنويع شراكاتها الدولية، لكنّها تدير سياساتها الخارجية ببراجماتية وإدراك لحدود ومساحات التحرُّك الممكنة، مع تنويع ينسجم مع الديناميات الجارية في هيكل النظام وتحوُّلاته، وبما لا يضعها في صراع مع أيٍّ من القوى الدولية، بما فيها الولايات المتحدة. وفيما يخُص الاتفاق، فإنَّ المملكة أطلَعت الولايات المتحدة على خطواتها بوصفها شريكًا، كما تعكس صفقة طائرات «البوينج»، التي وقَّعتها المملكة وأعلن عنها الرئيس الأمريكي شخصيًا، أنَّ العلاقات لا تزال تحتفظ بقنواتها وأدواتها المؤثِّرة. ناهيك عن أنَّ الاتفاق قد لا يعرقل اتفاق إبراهام وتوسيعه في المستقبل، إذا ما توفَّرت الشروط المناسبة لذلك، ومعلوم أنَّ المملكة لا تمانع، لكن لديها شروطٌ طرحتها بالفعل على الجانبين الأمريكي والإسرائيلي.

4. إمكانية توظيف الاتفاق لتعزيز فرص إحياء الاتفاق النووي وتغيير سلوك إيران: كانت القوى الإقليمية ترغب في توسيع الاتفاق النووي؛ ليشمل معالجة تهديدات إيران الإقليمية، لكن لم تستطِع الولايات المتحدة تنفيذ ذلك. اليوم قد ترى الولايات المتحدة أنَّ الصفقة السعودية-الإيرانية، قد تكون مقدِّمةً جيِّدة لإعادة إحياء الاتفاق النووي، فبعد الاتفاق السعودي-الإيراني، لم يعُد هناك مبِّررٌ للضغوط الإقليمية بعدم العودة لإحياء الاتفاق النووي دون الأخذ بالاعتبار سلوك إيران الإقليمي. كذلك قد يدفع الاتفاق «المتشدِّدين» في إيران إلى تغيير سلوكهم، حيث شكَّل الاتفاق ورقة ضغط على الحكومة الإيرانية، سواءً في الداخل، من أجل المُضي قُدُمًا في العودة لإحياء الاتفاق النووي، وإعادة تقييم العلاقات مع الولايات المتحدة، وإنهاء حالة النزاع غير المبرَّر، الذي حرم الإيرانيين من الاستفادة من مواردهم وحرمهم التنمية والرفاهية على غرار جيرانهم الخليجيين. وقد يكون ذلك دافعًا لمراجعة النظام الإيراني لموقفه من العودة للاتفاق النووي، أو من الخارج من جانب الصين والسعودية، حيث يمثِّلُ وضعُ حدٍ لطموح إيران النووي هدفًا تتشارك فيه الصين والسعودية مع الولايات المتحدة.

خلاصة: الاستفادة من اتفاق قد لا يذهب بعيدًا

بناء على التهديدات والفرص الكامنة في الاتفاق يمكن القول إنه على الرغم من أن الاتفاق قد شكل مفاجأة وحرجا كبيرا للولايات المتحدة، وأظهر طبيعة التحولات الجارية في العالم والمنطقة، والتي قد لا تصب في صالح الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أنّ الصين نجحت في هذا الاتفاق مستفيدةً من الانسحاب الأمريكي من المنطقة وتخليها عن حلفائها، غير أن الولايات المتحدة قد ترى أنها ليست بحاجة إلى تحدي الصين في هذه القضية تحديدا، أولا: لجهة تغير طبيعة المواجهة بين الأقطاب الدولية وتغير أدواتها، وثانيا: لجهة تركيز المواجهة على مناطق بعينها وعدم الاستعداد لتحمل تكلفة المواجهة في مناطق تراها ثانوية، وأخيرا انه في بعض الحالات قد تكون جهود الصين وعن دون قصد تحقق المصالح الأمريكية نفسها، فعلى سبيل المثال إذا أفضت الاتفاقية إلى تسوية الأزمة في اليمن أو غيرها من النزاعات الإقليمية فسيكون ذلك المصلحة الامريكية عينها. كذلك على الرغم من التحدي الذي يفرضه الاتفاق على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، لكن في الأغلب لن تقف الولايات المتحدة حجر عثرة أمام الاتفاق، لا سيما إذا كان التقدير أن الاتفاق لن يغير من نظرتها للمنطقة ولا مبادراتها، وسياساتها التي تتمحور حول: الالتزام الأمريكي بعدم امتلاك إيران سلاح نووي، وعدم تهديد إيران للمصالح الأمريكية في المنطقة بما في ذلك استهداف قواتها المنتشرة في الخليج، وعدم تهديد أمن وسلامة الممرات البحرية وتدفق حركة التجارة، وإعادة الهدوء إلى دول المنطقة بما يسمح للولايات المتحدة بمتابعة أولوياتها على الساحة الدولية. وعلى هذا، قد لا تعرقل الولايات المتحدة الاتفاق بحسب تقديرات المراقبين لأنه لأسباب أيديولوجية وجيوسياسية لن يذهب بعيدًا، واستئناف الصراع أمر وارد إلى حد بعيد، حيث لا يزال مستوى انعدام الثقة بين السعودية وإيران مرتفعاً، وطموحات إيران النووية خير مثال، كذلك مع اندلاع أي أزمة طارئة أو خلافات بين السعودية وإيران، فإن بكين ستجد نفسها عالقة وعاجزة عن موازنة العلاقة بين الجانبين.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير