الجهود الأمريكية لمراجعة العلاقات مع الفواعل العربية.. التقييم والمآلات

https://rasanah-iiis.org/?p=31245

تتوالى المؤشِّرات الإيجابية على جهودٍ أمريكية لمراجعة سياسات الولايات المتحدة الإستراتيجية تجاه الفواعل العربية والخليجية بمنطقة الشرق الأوسط، خصوصًا سياساتها ومواقفها تجاه حلفائها التقليديين والإستراتيجيين في الشرق الأوسط، مثل المملكة العربية السعودية، وذلك من خلال التصريحات البنّاءة، وطرح المبادرات، وإجراء الزيارات، على ضوء إدراك صُنّاع القرار الأمريكيين لمخاطر تداعيات الانسحاب من الساحة الشرق أوسطية، نظرًا لتنامي العلاقات العربية-الصينية على خلفية تراجُع الدور الأمريكي في المنطقة، وإدراك الإدارة الأمريكية المتأخِّر لثِقَل ومكانة المملكة العربية السعودية كدولة مركزية في العالم العربي والإسلامي، تقوم بدورٍ فاعل في القضايا الإقليمية والشؤون الدولية، خصوصًا في أعقاب التحوُّلات الكبرى، التي أحدثتها الأزمة الأوكرانية.

تُعَدُّ زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان للرياض، في السابع من مايو 2023م، ولقاءه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان للتباحث حول العلاقات الثنائية والملفات الإقليمية، من أبرز تلك المؤشِّرات، لاسيّما بعد مباحثاته مع المسؤولين في الرياض حول مشروع إنشاء شبكة سكة حديدية تربط بين دول عربية وخليجية مع الهند عبر ممرّات الشحن من الموانئ في المنطقة، ودعوة السعودية بالتأكيد على الانخراط في تحالف I2U2(*). وتأتي زيارة سوليفان للرياض، ضمن جهود أمريكية لمراجعة العلاقات تجاه الحلفاء الخليجيين؛ ما يطرح التساؤلات حول مظاهرها ومآلاتها، على ضوء التحوُّلات الإقليمية والدولية الراهنة.

أولًا: التحرُّكات الأمريكية لمراجعة العلاقة مع السعودية

1. إدراك أمريكي لأدوار المملكة الإقليمية والدولية

توالت المراجعات الأمريكية تجاه المملكة بشكل تدريجي، منذ زيارة الرئيس بايدن للمملكة في يوليو 2022م، وتأكيده على متانة العلاقات مع دول المنطقة، وعلى رأسها السعودية، في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية. وقبيل الزيارة، نشرت «واشنطن بوست» مقالًا للرئيس بايدن بعنوان «لماذا أنا ذاهبٌ إلى السعودية»، أكَّد خلاله على الشراكة الممتدَّة بين بلاده والسعودية لمدّة 80 عامًا، مؤكدًا أنَّ زيارته تهدُف إلى إعادة توجيه العلاقات مع السعودية، وعلى دور المملكة الهام مع واشنطن في القضايا الإقليمية والدولية.

تبِع موقف بايدن الإيجابي العديد من التصريحات الإيجابية من قِبَل وزرائه ومستشاريه؛ لإضفاء طابع الود في العلاقات مع دول المنطقة، خاصةً السعودية. فقد صرَّح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، بأنَّ العلاقات مع السعودية مهمّة، وأنَّ هناك شراكة ومصالح مشتركة تجمع البلدين؛ للتصدي للعديد من القضايا، وعلى رأسها الإرهاب.

ورغم خفض «أوبك+» إنتاج النفط مطلع أكتوبر 2022م، فقد صرَّح بلينكن بشأن اتّهامات السعودية بالانحياز إلى روسيا، بأنَّ الرياض أرسلت مؤشِّرات إيجابية إلى واشنطن، كإدانة الغزو الروسي، وتقديم 400 مليون دولار كمساعدات إنسانية لأوكرانيا.

كما صرَّح وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، بأنَّ الولايات المتحدة تجمعها شراكة قوية مع السعودية، وهي ملتزمة بذلك، كما أكَّد ترحيب الولايات المتحدة بجهود المملكة في عقد الهدنة في اليمن، ومشاطرة مخاوف المملكة من الأنشطة المزعزعة للاستقرار في المنطقة. كما صرَّح مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، بأنَّه ينوي تعزيز العلاقات المتوتِّرة مع الرياض، في مستهلّ زيارته في السابع من شهر مايو الجاري.

وتحدَّث الرئيس بايدن صراحةً في أكتوبر 2022م، بأنَّ واشنطن تجري تقييم لعلاقاتها مع السعودية، على خلفية قرار منظَّمة أوبك+ بخفض إنتاجها من النفط، لكن أجمع المراقبون للسياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، على أنَّ سلوك السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المملكة يغلُب عليه طابع التهدئة والتراجع عن بعض المواقف الحادّة، بعكس سلوكها وتصرُّفاتها منذ وصول إدارة بايدن للبيت الأبيض مطلع عام 2021م، في مسعى أمريكي لإعادة احتواء وكسب الدول العربية والخليجية الفاعلة إلى جانبها، في معركتها الكبرى مع الفواعل الدولية على القيادة الدولية.

2. تحوُّل المملكة إلى قِبلة لكبار المسؤولين الأمريكيين

لم تكتفِ إدارة الرئيس بايدن بالتصريحات الإيجابية عن المملكة وأدوارها الإقليمية والدولية، وإنَّما تحوَّلت المملكة إلى قِبلة لزيارة كبار المسؤولين الأمريكيين؛ ما يؤشِّر إلى رغبة أمريكية للرجوع والتقارب وكسر الجمود والفتور بين واشنطن والرياض.

منذ زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للسعودية، التي استمرَّت لمدة يومين في يوليو من العام 2022م، والتي استهلّها بالتنسيق مع المسؤولين السعوديين بإقامة قمم سعودية وخليجية وعربية، تبِعتها زيارات مهمة، كزيارة عضو الكونجرس الأمريكي السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، الذي كان من أشدّ المنتقدين للسعودية، غير أنَّه صرَّح بأنَّ مباحثاته مع ولي العهد السعودي كانت «مثمرة للغاية»، مطالبًا الكونجرس بغرفتيه بالارتقاء بالعلاقات الأمريكية-السعودية.

ثمّ جاءت زيارة كبير مستشاري البيت الأبيض للشرق الأوسط بريت ماكغورك، بصحبة المبعوث الأمريكي لشؤون أمن الطاقة العالمي آموس هوكستين، للمملكة، وعقدا مباحثات مع المسؤولين السعوديين. وجاءت الزيارة بعد شهر واحد من الاتفاق المُبرَم بين السعودية وإيران في بكين، لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

وكذلك، التقى جيك سوليفان يوم 07 مايو 2023م، بولي العهد السعودي، واستعرض الجانبان جهود السلام في اليمن، والذي عبَّر عنه البيت الأبيض بأنَّه شهِد تقدُّمًا كبيرًا. كما تفيد مصادر مطّلعة لـ«بلومبيرغ»، بنيّة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن زيارة السعودية في شهر يونيو المقبل؛ لحضور اجتماع التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش، فيما لم تؤكد وزارة الخارجية في البلدين تلك الزيارة من عدمها. إلّا أنَّ تسلسُل تلك الزيارات، التي تُوصَف بأنَّها «رفيعة المستوى»، تركت انطباعًا بأنَّ هناك مبادرات أمريكية حقيقية، تسعى من خلالها لإعادة كسب ثقة شركائها الفاعلين في المنطقة، وأخذ مصالحهم بعين الاعتبار، ومحاولة مواءمة وجهة النظر بين دول المنطقة والولايات المتحدة إزاء القضايا والأزمات المعقَّدة.

3. الوساطة الأمريكية-السعودية لوقف إطلاق النار في السودان

انطلاقًا من الدور القيادي والمحوري للمملكة في المنطقة بجانب الرغبة الأمريكية لاستعادة دورها المتراجع في منطقة الشرق الأوسط، قدَّمت واشنطن والرياض مبادرة مشتركة لوقف إطلاق النار في السودان، ضمن المواجهات المسلحة بين طرفي النزاع؛ القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، ودعتا طرفي النزاع لمفاوضات في جدة، لإنهاء الحرب الدائرة رحاها في السودان. وتلقَّى وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان اتصالًا هاتفيًا من نظيرة الأمريكي أنتوني بلينكن، شدَّد فيه الجانبان على ضرورة وقف التصعيد العسكري وإنهاء حالة العنف التي تشهدها السودان منذ اندلاع المواجهات المسلحة في 15 أبريل 2023م.

وعلى ما يبدو أنَّ التعاون السعودي-الأمريكي في السودان، يمثِّل بداية جديدة لدور الولايات المتحدة الحيوي في التنسيق مع الشركاء من الدول الإقليمية الفاعلة.

ثانيًا: محفِّزات الجهود الأمريكية لمراجعة العلاقة مع السعودية

1. تنامي دور الصين في الشرق الأوسط وعالميًا

يجمِع العديد من المراقبين على أنَّ الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط لم يكُن في صالح واشنطن؛ لأنَّ من شأنه الدفع نحو تغيير ميزان القوة الدولية لغير صالح الولايات المتحدة، كما أنَّ القوى الدولية كالصين وروسيا لن تقف مكتوفةَ الأيدي، بل سوف تملأ الفراغ، الذي تركته واشنطن في المنطقة، والتي تعتقد إدارة بايدن –التي تنسجم مع عقيدة أوباما– بأنَّ المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط لم تعُد كما كانت في العقود الأربعة الماضية، بل تقتضي المصالح الأمريكية العليا بالتحوُّل نحو الشرق، واحتواء التهديد الحقيقي المتمثِّل في الصين، التي تنمو تدريجيًا، من خلال مفهوم الشراكة التجارية والاقتصادية الدولية.

ولأنَّ دول المنطقة وعلى رأسها المملكة، تشهد تحوُّلات تنموية طموحة –رؤية 2030م– وتبحث عن مصالحها، فقد تلاقت المصالح الصينية-العربية، بعدما تراجعت أمريكا عن دورها كضامن أمني في المنطقة، والذي خلق انكشافًـا أمنيًا لبقية الدول في المنطقة. أصبح للصين دورًا أكبر مع دول المنطقة، هذا الدور رسّخته زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ للرياض في ديسمبر 2022م، وعقده ثلاث قمم مع القادة العرب؛ هي القمة السعودية-الصينية، القمة الخليجية-الصينية، والقمة العربية-الصينية.

خلال القمم الثلاث، وقّعت الصين عشرات الصفقات العسكرية والاقتصادية، بقيمة تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات. مما لا شكّ فيه أنَّ هذه التحوُّلات، التي ظهرت بصورة واضحة بعد زيارة الرئيس الصيني، كان المتوقَّع أن تثير حفيظة الجانب الأمريكي، لاسيّما أنَّه يرى أنَّ بكين تهدِّد نفوذها الطويل، وانعكس ذلك في تأكيد الرئيس جو بايدن أثناء زيارته للرياض، بأنَّ بلاده لا تنوي ترك فراغ في الشرق الأوسط تملأه الصين أو روسيا.

2. الاتفاق بين الرياض وطهران برعاية صينية

تمكَّنت بكين من إحداث تحوُّل هام، عندما رعت الوساطة الهامة لإعادة للعلاقات الدبلوماسية بين القوتين الإقليميتين الكبيرتين؛ السعودية وإيران، واستئناف علاقتهما المقطوعة منذ عام 2016م. وقد وصف العديد من المراقبين نتائج الاتفاقية، بأنَّها أهمّ خطوة ناجحة لإدارة الأزمات في المنطقة، دون رعاية أمريكية، منذ انتهاء الحرب الباردة مطلع تسعينات القرن المنصرم. والأهم من ذلك، وفقًا لوجهة نظر واشنطن، هو نجاح الدبلوماسية الصينية كضامن دولي تُعقَد على أرضه المفاوضات والمصالحات بين الدول؛ وتتِم بالتالي خارج أروقة العواصم الغربية، وهذا مثَّل تحوُّلًا خطيرًا بالنسبة لواشنطن في إدارة بكين للأزمات الدولية، بالإضافة إلى استعداد بكين لأن تكون لاعبًا دوليًا فعّالًا ومنخرِطًا في الأزمات الدولية، ولعلّ الأهم هُنا أزمات منطقة الشرق الأوسط، التي تُعتبَر منطقة نفوذ تقليدية بالنسبة للولايات المتحدة.

وعلى الرغم من ترحيب البيت الأبيض بالاتفاق السعودي-الإيراني، فقد حاول منسِّق مجلس الأمن القومي للاتصالات الإستراتيجية الأمريكية جون كيربي التقليل من جدوى الخطوة الصينية، بقوله إنَّ واشنطن لعِبت دورًا مهمًّا في السابق لخفض التصعيد بين الخصمين الإقليميين، من خلال مزجها بين الردع والدبلوماسية، وأنَّ خارطة الطريق الصينية مشابهة للخطط، التي تمّ التفاوض عليها في مسقط وبغداد عامي 2021م و2022م.

إنَّ عودة العلاقات بين القوتين الإقليميتين؛ السعودية وإيران، تخفِّض حدّة التصعيد في المنطقة وتمثِّل بدايةً جادّة لحلحلة ملفات المنطقة الشائكة، ودفع البلدين لتبنِّي وصياغة اتفاقيات أمنية جديدة تحفظ أمن المنطقة، دون تدخُّل لاعبين دوليين من خارج المنطقة. كما أنَّه من شأن عودة العلاقات بين البلدين، أن تؤدِّي إلى التأثير الإيجابي على دول المنطقة، خصوصًا الدول الهشّة، التي أصبحت بؤرًا للإرهاب وتجارة المخدّرات والميليشيات.

3.  تنامي الرغبة العربية في تحقيق استقلالية في السياسة الخارجية

مرَّت دول المنطقة بالعديد من الأزمات، وكانت تعوِّل على الدعم من الشريك الأمريكي للخروج من هذه الأزمات، لكن واشنطن لم تكُن في الموعد، بدايةً من أحداث ما يُسمَّى بالربيع العربي، من خلال دورها السلبي تجاه الأزمات، ثمّ التراخي الأمريكي تجاه حادثة استهداف المنشآت النفطية السعودية في بقيق وخريص عام 2019م، بالإضافة إلى الإصرار الأمريكي على عقد الاتفاق النووي مع إيران دون مراعاة لمصالح الشركاء في المنطقة أو إشراكهم في المحادثات، ومماطلة الحلفاء في عقد الصفقات العسكرية وعدم مراعاة مصالح الشركاء الاقتصادية، ناهيك عن الانسحاب الأمريكي التدريجي من المنطقة وتغيير أولوياتها الإستراتيجية وسحب المعدّات والدفاعات الجوِّية من المنطقة، متخلِّيةً عن التزاماتها التقليدية تجاه شركائها.

جميع تلك السلوكيات، عمَّقت ورسَّخت الفجوة العربية-الأمريكية، ومن هُنا بدأت دول المنطقة، وعلى رأسها السعودية، بالبحث عن أولوية مصالحها، فعمدت هذه الدول لتنويع تحالفاتها الخارجية مع القوى الدولية الأخرى، وأهمّها الصين وروسيا. بعد بدء الحرب الروسية-الأوكرانية، وجدت واشنطن نفسها بحاجة إلى الدعم من قِبَل الشركاء، أولًا من خلال تقليل أسعار النفط؛ نظرًا لدورهم المحوري في منظمة أوبك+، بالإضافة إلى الدعم الكامل والاصطفاف مع الغرب تجاه روسيا. وهذا يتناقض مع المصالح العربية، التي ترى أنَّ كلا الجانبين صديقان بالنسبة لها؛ وبالتالي فقد اتّخذت السعودية في اجتماع منظَّمة أوبك+ في أكتوبر 2022م، بجانب دول العربية الأعضاء في المنظَّمة، قرارًا مستقلًّا لتنحية محاولة تسييس إنتاج النفط، بعيدًا عن تدخُّل الولايات المتحدة، يحفظ مصالحها ويؤدِّي للمحافظة على الاستقرار بأسواق النفط العالمية.

4. اتجاهات المصالحة لتسوية النزاعات العربية-العربية

نظرًا لحاجة دول المنطقة للاستقرار وعدم قُدرتها على تحمُّل صراعات ونزاعات جديدة تعيق التنمية والازدهار فيها، أخذت السعودية على عاتقها زمام المبادرة، انطلاقًا من مكانتها كلاعب أقليمي ودولي مهم ودورها الريادي الإسلامي والعربي، بلعب أدوار قيادية تقرِّب بين الدول العربية وغير العربية في المنطقة؛ لتحقيق رؤية ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بأنَّ الشرق الأوسط سوف يكون أوروبا الجديدة.

ولتحقيق هذه الرؤية على أرض الواقع، توصَّلت السعودية إلى اتفاق مع إيران، حيث مهَّد هذا لاتفاق لسلسلة من المصالحات والتقاربات مع الدول العربية الأخرى، التي كانت تدور حول النفوذ الإيراني. بدأت السعودية من اليمن عن طريق إجراء مباحثات رسمية مع الحوثيين في صنعاء، في نفس الوقت قامت السعودية بجهود كبيرة لإعادة سوريا إلى الحضن العربي، بعد زيارة وزير الخارجية السعودي إلى دمشق للمرة الأولى منذ الأزمة السورية ولقائه بالرئيس السوري بشار الأسد، ثمّ عرضْ الرياض لخطّة استعادة سوريا مقعدها في جامعة الدول العربية، ودعوة الرئيس الأسد لحضور القمة العربية الثانية والثلاثين المنعقدة في جدة بالمملكة العربية السعودية. هذه الجهود لم تلقَ ترحيبًا من الولايات المتحدة، حيث صرَّح المتحدِّث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، بأنَّ الولايات المتحدة لا تدعم قرار الدول العربية بتطبيع علاقاتها مع سوريا، وأنَّها لن تطبِّع العلاقات مع نظام الأسد، لكن ستجِد الولايات المتحدة نفسها مرةً أخرى تلاحق تسارع التغيُّرات المتلاحقة، التي تحدث في المنطقة دون إستراتيجية واضحة، لمحاولة استعادة زمام الأمور في تسيير الأحداث.

ثالثًا: تقييم الجهود الأمريكية لمراجعة العلاقة مع السعودية

عند تقييم الجهود الأمريكية، يبدو بشكل واضح أنَّ هناك إدراكًا متأخِّرًا من قِبَل إدارة بايدن، لضرورة تقارُب وتصحيح السياسات الأمريكية تجاه الدول العربية في الشرق الأوسط، بعد الجفاء وعدم التزام واشنطن بمصالح حلفائها التقليديين والإستراتيجيين في المنطقة طوال العقود السابقة. وتمثَّلت ملامح هذا الإدراك، في الزيارات المكثَّفة للمسؤولين الأمريكيين إلى السعودية في محاولة لإعادة الدفء لعلاقات البلدين. لكن ثقة الدول العربية بقيادة السعودية تجاه الولايات المتحدة قد تراجعت كثيرًا، خلال الفترة الأخيرة؛ لذا عمِلت هذه الدول على تحويل بوصلة سياساتها وتحالفاتها الخارجية تجاه بعض القوى الدولية الأخرى، مثل الصين وروسيا، مع الاحتفاظ بعلاقات متوازنة مع الولايات المتحدة. كما أنَّ التطوُّرات والظروف الإقليمية، مكَّنت دول المنطقة، على رأسها السعودية، من لعِب أدوار مهمَّة تتعلَّق بحماية مصالحها وأمنها. 

هناك عوامل تشجِّع وتدفع الدول العربية لإحداث توازُن للحفاظ على مصالحها مع الولايات المتحدة، باعتبارها قطبًا دوليًا مهمًا ومؤثِّرًا في مجريات الشؤون الدولية، من هذه العوامل:

1. الحاجة إلى التنسيق والتعاون في مكافحة الإرهاب، الذي يمثِّل تهديدًا مشتركًا وخطرًا على الساحتين الدولية والإقليمية.

طوال الفترة الماضية، كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تُثني على التعاون والتنسيق الأمني الموحَّد مع دول الخليج في مكافحة الإرهاب، وقد صرَّح الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بأنَّ دور دول مجلس التعاون الخليجي حاسمٌ في هزيمة الإرهاب وتعزيز الاستقرار في المنطقة، كما أنَّ الدول العربية كانت أعضاءً في التحالف الدولي لمحاربة داعش، بقيادة الولايات المتحدة، من خلال العمليات العسكرية المشتركة في العراق وسوريا. لذا فإنَّ أحد أقوى الملفات التي تجمع الدول العربية مع واشنطن هو ملف مكافحة الإرهاب.

 2. التسليح الأمريكي للدول العربية. بِنية وتسليح معظم المؤسسات العسكرية العربية، وتحديدًا الدول الخليجية، هي أمريكية بامتياز، من ناحية نوعية ومنظومة الأسلحة والمعدّات، أو التدريبات الميدانية، وحتى تبنِّي المدرسة الإستراتيجية الأمريكية، والتكتيكات الدفاعية والهجومية. كما أنَّ الأدوار الاستشارية والترتيبات الأمنية والمعلومات الاستخباراتية، جزءٌ من علاقة التعاقدات الدفاعية العربية-الأمريكية، التي كان لها دورٌ ملموس، سواءً في الحرب على الإرهاب، أو استهداف الميليشيات في المنطقة. من جانب آخر، تعتبر الولايات المتحدة بأنَّها رابحة في معادلة تسليح الدول العربية؛ فيُعتبَر قطاع الدفاع في الولايات المتحدة من أهم مصادر كسب الضرائب والتوظيف في الاقتصاد الأمريكي. وتعود أسباب التعويل العربي على الأسلحة الأمريكية؛ لكونها أكثر جودةً وتقدُّمًا من أسلحة القوى الكبرى الأخرى، كروسيا والصين.

3. المصالح الاقتصادية العربية والأمريكية. هذه المصالح كبيرة جدًّا، وتتركَّز حول أسواق الطاقة، وعلاقات الاستثمار، والاهتمام المشترك بالاقتصاد العالمي. كما أنَّ مبيعات الأسلحة الأمريكية، حتى إن كانت داخل النطاق العسكري، إلّا أنَّ لها تأثيرٌ كبير على الاقتصاد الأمريكي. كما أنَّ أسواق الأسهم الأمريكية تُعتبَر جاذبةً للاستثمارات الخليجية الغنية، التي ترى في الشركات الأمريكية، سواءً في القطاعات التكنولوجية أو في قطاعات السياحة والطيران، فرصًا استثمارية من الممكن استغلالها لتحقيق المنافع المشتركة.

وبجانب العلاقات التاريخية والسياسية الطويلة والممتدَّة مع الولايات المتحدة، فإنَّ السعودية لها حضور اقتصادي وتجاري مهم في الاقتصاد الأمريكي، وكان آخره التوقيع على صفقة كبرى مع شركة بوينغ الأمريكية لتصنيع 121 طائرة بقيمة 37 مليار دولار. 

4. المصالح الاقتصادية السعودية مع الولايات المتحدة. رؤية المملكة 2030م تتضمَّن إحدى أهدافها تنويع اقتصادها –اقتصاد ما بعد النفط– وهي رؤية تنموية تستهدف الداخل والمنطقة، وتتبنَّى مشاريع ومدنًا صناعية خلّاقة مغايرة لمثيلاتها في عدد كبير من دول العالم؛ لتكون في المستقبل القريب وجهات استثمارية وسياحية فريدة، كمدينة نيوم، ومدينة أوكساجون، ومدينة ذا لاين، وغيرها من المشاريع الإبداعية والرائدة إقليميًا ودوليًا. ومع ذلك، فإنَّ تلك المشاريع الضخمة لا تزال بحاجة إلى خبرة الشركات التكنولوجية الأمريكية المرموقة في المقاولات والاستشارات وإنشاء البُنى التحتية، بالإضافة إلى التعاون مع المؤسسات التعليمية العريقة، مثل معهد ماساشوستس للتكنولوجيا «MIT»، والجامعات العريقة الأخرى. وحول العلاقات التجارية بين السعودية والولايات المتحدة، فقد قُدِّر تدفُّق البضائع في عام 2019م بنحو 38.7 مليار دولار. لذا يمكن القول إنَّ العلاقات الاقتصادية الأمريكية-العربية، على الرغم من كونها كانت تقليدية مقتصرة على العقود الدفاعية مقابل تبادُل النفط، غير أنَّها تشهد الآن نموًا، من حيث الوصول إلى التقنيات المتطوِّرة، التي تربط مسارات النمو بعضها ببعض.

رابعًا: تحدِّيات العلاقات العربية-الأمريكية

العوامل التي تدفع بالدول العربية وتدفعها لإحداث توازن في علاقاتها مع الولايات المتحدة، تواجهها بعض العراقيل والتحدِّيات، كما أنَّها تصطدم ببعض الأهداف الامريكية، نذكر منها ما يلي:

1. تحاول الولايات المتحدة إقناع بعض الدول العربية بالانضمام لبعض الأحلاف والترتيبات الأمنية والاقتصادية، التي تستهدف إبعاد الصين ونفوذها المتنامي في المنطقة، كحلف I2U2، الذي يضُم الهند وإسرائيل. لكن الرغبة الأمريكية هذه تعترضها بعض التحدِّيات والمعوِّقات، التي قد تحولُ دون مشاركة الدول العربية في هكذا ترتيبات أو أحلاف. فمثلًا؛ الدول العربية ليست على وفاق مع إسرائيل، وبعض تلك الدول غير مطبِّعة مع إسرائيل، كالسعودية، والبعض الآخر لا يثِق بإسرائيل لدرجة الدخول معها في تحالفات؛ ما يجعل انضمامَ الدول العربية لحلف I2U2 أمرًا في غاية الصعوبة. ناهيك عن أنَّ الدول العربية لم تعُد تثِق في النوايا الأمريكية؛ لِما رأته من مواقف أمريكية محبطة تجاهها خلال السنوات القليلة الماضية.

2. هناك تناقُض في المواقف الأمريكية تجاه دول المنطقة، فتارةً تتحدَّث عن تبنِّي سياسة التوجُّه شرقًا بدلًا من التركيز على منطقة الشرق الاوسط، وتارةً أخرى يصرِّح مسؤولوها بأنَّهم باقون في المنطقة لعدم ترك فراغ تملأه القوى الأخرى، كالصين وروسيا. هذا التناقض ترك انطباعًا راسخًا لدى دول المنطقة بعدم الشعور بالثقة من الحليف الأمريكي، وكان البديل للدول العربية هو ضرورة تنويع التحالفات، وإيجاد بدائل لسياساتها الخارجية، مع الإبقاء على علاقات جيِّدة ومتساوية مع الولايات المتحدة، بجانب القوى الدولية الأخرى، كالصين وروسيا.

3. تنبَّهت الدول العربية إلى القُدرات الصاروخية الروسية كخيار لتنويع قُدراتها التسليحية ومنظوماتها العسكرية، لاسيّما أنَّها تستهدف تحقيق مساعي نقل التقنية، بعكس الولايات المتحدة الأمريكية، التي تبيع أسلحتها مع التحفُّظ على نقل التكنولوجيا. والأمر كذلك ينطبق على الصين، فالعلاقات العربية-الصينية تنمو بشكل متسارع، وتستهدف الاستثمارات والتوقيع على عقود طويلة مع الشركات الصينية بمليارات الدولارات؛ لتعزيز البنى التحتية للدول العربية، وكذلك في الجوانب العسكرية؛ فالصينيين يظهرون مرونة أكبر في المفاوضات لبيع الأسلحة، ولديهم مرونة كبيرة في الصفقات العسكرية بشكل عام، بعكس الطرف الأمريكي، الذي يتلكّأ غالبًا في عقد صفقات الأسلحة مع الدول العربية، ويربطها بقضايا أخرى، والمساومة في صفقات سياسية -كالتطبيع مع إسرائيل- أو الصعوبة في الكونجرس بالموافقة.

ختامًا، تدرك الدول العربية أنَّ النظام الدولي يشهد تحوُّلات جذرية، قد يتمخَّض عنها نظام دولي متعدِّد الأقطاب، وذلك على خلفية تطوُّرات الأزمة الجيوسياسية واجتياح روسيا لأوكرانيا، وتسارُع الأحداث بعدها، التي استنزفت الغرب وروسيا؛ وبالتالي، أدركت الدول العربية أنَّها في وضع يُمكِّنها من لعب أدوار مؤثِّرة في القضايا الإقليمية والدولية. وبالفعل، لعبت المملكة العربية السعودية أدوارًا سياسية ودبلوماسية بارزه، مكَّنتها من خلق علاقات وبدائل دولية متعدِّدة مع العديد من القوى الدولية، بالإضافة إلى جهودها الكبيرة في تسوية الأزمات والقضايا المحتدمة، التي تشهدها دول المنطقة. هذا الوضع يفرض على الولايات المتحدة -إذا أرادت بالفعل العودة إلى دول المنطقة- التعاطي بجدِّية مع المصالح العربية، فضلًا عن القيام بخطوات عملية تعزِّز من الثقة في النوايا الأمريكية؛ لتدارُك مسار الأحداث، الذي يبدو أنَّه يبتعد عنها بشكل مضطرد.


*  هو تحالف جيواقتصادي يضم الولايات المتحدة والإمارات وإسرائيل والهند يهدُف إلى التعاون في استثمارات مشتركة ومبادرات جديدة في مجالات المياه والطاقة والنقل والفضاء والصحة والأمن الغذائي.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير