استضافت مدينة جدة السعودية في التاسع عشر من مايو 2023م، أعمال القمة العربية في دورتها الثانية والثلاثين لجامعة الدول العربية، بحضور عدد كبير من قادة وممثلي الدول الأعضاء بالجامعة العربية، وسط أجواء تفاؤلية وتعويل كبير على انعكاس نتائجها وتوصياتها بالإيجاب على العديد من التحدِّيات والأزمات في الشرق الأوسط، والتي تتصدَّرها القضية الفلسطينية، والاشتباكات المسلحة في السودان، وعودة سوريا إلى الجامعة العربية بعد غياب دام اثني عشر عامًا، بالإضافة إلى ملفات حساسة مثل الأزمتين اليمنية والليبية والشغور الرئاسي في لبنان. واختتمت القمة أعمالها بقبول القادة العرب لبنود البيان الختامي تجاه القضايا العربية، وباختيار البحرين لاستضافة نسختها الـ33.
نحاول -من خلال تقدير الموقف- تحليل انعقاد القمة توقيتًا واستضافةً ومضمونًا وهدفًا، وتقديم تفسيرات لتساؤل رئيسي مفاده: ما الذي يميِّز هذه القمة عن قمم عربية سابقة؟ لاسيّما أنَّ القمة انعقدت بينما تمُرّ الساحتان الإقليمية والدولية بأزمات وتحدِّيات وتحوُّلات خطيرة على السِلْم والأمن الإقليميين والدوليين، بالتزامن مع مساعٍ سعودية حثيثة نحو تطوير الدور الدبلوماسي، وتهيئة المناخ لقواعد نظام عربي جديد يقوم على إنهاء الصراعات وإعادة الإعمار والبناء والاستثمار والحفاظ على المصالح المشتركة، وتغيير مجريات الأحداث على المستويين الإقليمي والدولي، بما يسهم في حل وتسوية النزاعات القائمة.
على ضوء التساؤل المطروح -أعلاه- يمكن تقسيم تقدير الموقف إلى عدّة محاور، تناقش البيئة الإقليمية والدولية التي انعقدت فيها القمة، ودور المملكة في تعزيز الأمن الإقليمي ولم الشمل العربي، ثمّ أجندة أعمال القمة وقضاياها، ودلالات القمة ورسائلها الإقليمية والدولية، وأخيرًا، التحدِّيات التي تواجه مخرجات القمة.
أولًا: بيئة وتوقيت انعقاد القمة العربية
جاءت القمة في ظل تطوُّرات سياسية وتحدِّيات وظروف استثنائية تمُرّ بها المنطقة، فقد عُقِدت بعد أيام قليلة من التصعيد العسكري الإسرائيلي في قطاع غزة؛ ما أدّى إلى مقتل 34 فلسطينيًا على الأقلّ، بينهم قادة من حركة الجهاد الإسلامي ونساء وأطفال. وبعد وصول اليمين المتطرِّف في إسرائيل إلى الحكم بزعامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، كثَّفت تل أبيب من استهدافها للفلسطينيين، كما زادت من عمليات بناء المستوطنات، وهو ما يتنافى مع الجهود الدولية لحل الدولتين باعتباره الحل الوحيد.
تنعقد القمة أيضًا، بينما يشهد السودان اشتباكات مسلحة منذ الخامس عشر من أبريل الماضي بين الجيش السوداني، الذي يتزّعمه رئيس مجلس السيادة السوداني والقائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع، التي يتزعمها الفريق أول محمد حمدان دقلو، بعد خلافات حول اندماج الدعم السريع في المؤسسة العسكرية السودانية. وأسفرت هذه الاشتباكات، حتى الآن، عن سقوط مئات القتلى وآلاف الجرحى، وتدمير كبير للبنية التحتية بالعاصمة الخرطوم. ومنذ بدء الأزمة بذلت السعودية جهودًا كبيرة للتوسُّط بين طرفي الصراع، كان آخرها استضافتها لمحادثات بين الطرفين، تمخَّض عنها «إعلان جدة»، الذي ينُص على الالتزام بحماية المدنيين في السودان، والالتزام بسيادة السودان والحفاظ على وحدته وسلامة أراضيه، والاتفاق على أنَّ مصالح وسلامة الشعب السوداني هي أولوية رئيسية، والسماح بمرور آمن للمدنيين في السودان لمغادرة مناطق الأعمال العدائية، والامتناع عن تجنيد الأطفال واستخدامهم في الأعمال العدائية، وإجلاء الجرحى والمرضى دون تمييز والسماح للمنظَّمات الإنسانية بالقيام بذلك.
الجهود المضنية التي تبذلها المملكة لحل الأزمة اليمنية وتوصُّلها لاتفاق تاريخي مع إيران في مارس الماضي، أنهى 7 سنوات من القطيعة الدبلوماسية بين البلدين، فضلًا عن التحرُّكات الدبلوماسية العربية نحو عودة العلاقات مع سوريا، التي توَّجتها السعودية مؤخَّرًا بإقناع القادة العرب بضرورة عودة سوريا إلى الجامعة العربية، تشير بوضوح إلى وجود إرادة سياسية أكثر قوة هذه المرَّة لتفكيك الأزمات العربية لمواجهة التغيُّرات الإقليمية والدولية المتسارعة، والرغبة في الانطلاق لمرحلة جديدة من العمل المشترك.
على المستوى الدولي، جاءت القمة العربية في ظل استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، التي خفَّفت من سياسة الاستقطاب، التي تمارسها الدول الغربية على المنطقة، خاصةً بعدما وجَّهت الولايات المتحدة والدول الأوروبية جُل اهتمامها ومواردها لمواجهة روسيا، وهو ما قاد دول المنطقة لتكون أكثر ميلًا للابتعاد عن سياسة المحاور وتهدئة التوتُّرات فيما بينها.
ونتيجةً لهذه الظروف والمعطيات السابقة، بات الشارع العربي يعقد آمالًا عريضة على قمة جدة، بإحداث تحوُّل جذري في دور الجامعة العربية خلال الفترة المقبلة، وتحوُّلها لساحةٍ لِلَم الصف العربي، ومواجهة التحدِّيات الأمنية والسياسية والاقتصادية، التي يواجهها العالم العربي.
ثانيًا: الدولة المستضيفة للقمة ودورها في تعزيز الأمن الإقليمي
إنَّ أهمّ ما يميِّز قمّة جدة ويجعلها قمةً استثنائية، أنَّ الدولة المستضيفة لها -السعودية- تستضيف القمة في ظل ظروف مغايرة تشهد تبدُّلات في الموازين الإقليمية والدولية، مع مساعٍ سعودية حقيقية فعلية سابقة على انعقاد القمة لحلحلة الصراعات الإقليمية، من منطلق الدور الذي تقوده المملكة على المستويين الإقليمي والدولي، تركِّز خلاله على تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي وفقًا لـ«رؤية المملكة 2030م»، بتوظيف ثقلها السياسي والاقتصادي والإستراتيجي، وتبنِّيها إستراتيجية «تصفير المشاكل»، بعقدها الاتفاقات لتسوية الأزمات العالقة مع الفواعل الإقليمية في العديد من الساحات العربية، ما من شأنه التخفيف من حدَّة التوتُّرات الإقليمية، والحض على تسوية العديد من النزاعات العربية بين الفواعل العربية والإقليمية في العراق وسوريا واليمن، والعمل على إرساء معادلات جديدة داخل هذه الدول، من شأنها إنهاء الصراعات السياسية والمذهبية، والانتقال إلى مرحلة جديدة عنوانها: بناء الدول الوطنية، والتعاون الاقتصادي التكاملي، وهذه غاية سعودية لتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي، بما يعود بالأمن على الجميع.
استضافت مدينة جدة القمة العربية، بينما يشهد الإقليم مرحلةً جديدة، بعد توقيع السعودية على اتفاق أمني كبير مع إيران برعاية صينية، وأبدت الدول الثلاث الموقِّعة على البيان المشترك في بكين عزمها على إنجاح الاتفاق، بعودة العلاقات الدبلوماسية، وحلحلة الصراعات والملفات الإقليمية، لاسيّما أنَّ الصين برعايتها للاتفاق بين القوتين الإقليميتين الكبيرتين، تكون قد حقَّقت نجاحًا كبيرًا في الشرق الأوسط في معركتها الدولية مع الولايات المتحدة من خلال الوساطة بين الرياض وطهران؛ ما يسهم في نجاح هدف المملكة بتحقيق الأمن الإقليمي.
وكذلك تشهد السياسة الخارجية للدولة المستضيفة تحوُّلات تاريخية، من خلال تنويع بدائل علاقاتها الدولية في المحيطين الإقليمي والدولي، وتعزيز أدوات التأثير، وتكثيف أوراق القوة في القضايا الإقليمية والدولية، في وقتٍ تشهد فيه الساحة الدولية تحوُّلات جيوسياسية كبرى وصراعات دولية محتدمة بين أقطابها الكبرى على القيادة الدولية. وبحُكم امتلاكها أدوات تأثير متعدِّدة ومقدّرات هائلة تُهِم الأقطاب الدولية الكبرى المتصارعة، تُتاح للمملكة فرصةٌ تاريخية لممارسة دور أكبر في القضايا الإقليمية بل والدولية، خصوصًا في ظل إدراك قيادتها بضرورة القيام بدور أكبر للمساهمة في تسوية الأزمات الإقليمية، وتعزيز الدور والمكانة السعودية.
كما أنَّ القيادة السعودية كانت حريصةً على بيان ختامي عربي مغاير لبيانات القمم السابقة، حيث حمل بيان قمة جدة تحوُّلات إستراتيجية في مضامين الخطابات العربية عامَة والسعودية خاصّة، بما يعكس رغبةً سعودية في الاتفاق على أنَّ التضامن العربي يشكِّل الطريق الأنجع في مواجهة التحدِّيات، التي تواجهها الدول العربية، حتى أُطلِق عليها «قمة التجديد والتطوير»، كما يعكس أنَّ المملكة باتت لا تحبِّذ لغة العبارات البلاغية في معالجة القضايا العربية، وإنَّما ضرورة الحلول الواقعية العملية ضمن أُطُرها العربية. لذلك؛ فإنَّ ما تتعهَّد به الدول العربية، سيكون له آلية متابعة جادّة؛ لضمان تنفيذه لمواجهة التحدِّيات الأزمات. ولذلك أيضًا؛ فالكثير من الآمال معلَّقة على هذه القمة، بالتحوُّل الكبير في نتائجها ومخرجاتها، على المستويين الإقليمي والدولي.
ثالثًا: القضايا المحورية والمصيرية في أجندة اجتماعات القمة
ملفات عدَّة ناقشتها القمة العربية في جدة، كان على رأسها القضية الفلسطينية، حيث تمَّ التأكيد على محورية هذه القضية بالنسبة للدول العربية. وعلى عكس الكثير من القراءات، التي تحدَّثت عن احتمالات سير المملكة العربية السعودية في مسار التطبيع، الذي سلكته بعض الدول العربية؛ غير أنَّه على النقيض من ذلك، أكَّدت القمة على ضرورة حل القضية «وفقًا للمرجعيات الدولية، وعلى رأسها مبادرة السلام العربية، والقرارات الدولية ذات الصلة ومبادئ القانون الدولي، بما يضمن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلَّة ذات السيادة على الأراضي الفلسطينية، بحدود عام 1967م، وعاصمتها القدس الشرقية». تأكيد القمة على هذه المرجعية، يُشير إلى إخفاق المحاولات الإسرائيلية، التي تهدف إلى عزل القضية الفلسطينية عن محيطها العربي.
وكانت الأزمة السودانية ضمن أهمّ الأجندة، التي ناقشها الزعماء العرب، حيث تمَّ التأكيد على ضرورة التهدئة وتغليب لغة الحوار وتوحيد الصف، ورفع المعاناة عن الشعب السوداني، والمحافظة على مؤسسات الدولة الوطنية، ومنع انهيارها، والحيلولة دون أيّ تدخُّل خارجي في الشأن السوداني يؤجِّج الصراع ويهدِّد السلم والأمن الإقليميين. واعتبرت القمة أنَّ اجتماعات جدة بين الفرقاء السودانيين خطوة مهمة يمكن البناء عليها؛ لإنهاء هذه الأزمة، وعودة الأمن والاستقرار إلى السودان، وحماية مقدّرات شعبه.
أمّا سوريا، فقد شاركت في قمة جدة، للمرة الأولى منذ 2011م، وذلك بعد تعليق عضويتها في الجامعة وسحب الدول العربية لسفرائها من دمشق وفرض عقوبات اقتصادية وسياسية عليها، وذلك على خلفية تعامل الحكومة السورية مع أزمتها الداخلية من قمع للاحتجاجات والمظاهرات، التي عمّت الدولة السورية، وتداعيات هذه الأزمة على دول المنطقة، بعد تنامي ظواهر الإرهاب، والميليشيات العسكرية، وقضية أزمة اللاجئين والنازحين، وتنامي تجارة المخدّرات وانعكاساتها على المنطقة العربية.
مشاركة سوريا في قمة جدة اكتسبت أهمِّيةً خاصّة، بعد التحوُّل الكبير، الذي شهدته العلاقات السورية مع عدد من الدول العربية خلال الفترة الأخيرة، وذلك كجزء من إرادة عربية أكبر تتمحور حول ضرورة التئام الصف العربي، وإنهاء حالة الانقسام العربي حول الموقف من سوريا عبر إعادتها إلى محيطها العربي، فضلًا عن وجود قناعة بأنَّ الوضع على الساحة الدولية يتطلَّب مزيدًا من التنسيق العربي-العربي، لاسيّما أنَّ لدمشق دورٌ مهم في الملف الإقليمي، خاصّةً أنَّها ترتبط بعلاقات جِّيدة بكلٍّ من موسكو وطهران، اللتان باتتا من اللاعبين المؤثِّرين في ملفات المنطقة العربية.
وكذلك، حظِيت القضية اليمنية، بأهمِّية كبيرة في خطابات القادة والبيان الختامي للقمة، بالتأكيد على ضرورة مساعدة الأطراف اليمنية على الوصول إلى حل سياسي شامل ينهي الأزمة، ورفض منطق الصراعات، ورفض دعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلَّحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة، ورفض التدخُّلات الخارجية، التي لم تجلب لليمن سوى التمزُّق والصراع والفرقة بين أبناء البلد الواحد، وكذلك التأكيد على تداعيات الاتفاق السعودي-الإيراني الإيجابية على الأزمة اليمنية. وطالب الجانب اليمني في القمة بضرورة دعم مؤسسات الدولة، والضغط على «الحوثيين» لوصول السفن للموانئ اليمنية، وأثنى على دور المملكة في ردع التهديدات المحدِّقة بالأمة العربية، ولم الشمل العربي، وعلى مساعيها الحثيثة وسلطنة عُمان لإحياء الهدنة، التي التزمت بها الحكومة اليمنية من طرفٍ واحد، لتفويت أيّ فرصة على «الحوثيين»، وعدم العودة إلى التصعيد الشامل.
كما تمّت الإشادة في القمة بالاتفاق السعودي-الإيراني لعودة العلاقات الدبلوماسية، وتفعيل الاتفاقيات السابقة حول التعاون الأمني والاقتصادي بين البلدين. وقد تجلَّت آثار هذا الاتفاق في التطوُّرات، التي عرفها الملفان اليمني والسوري، وهو ما يُظهِر أهمِّيةَ الدور الذي سيلعبُه الاتفاق السعودي-الإيراني في تسوية الصراعات بالمنطقة. تجدُر الإشارة في هذا السياق إلى أنَّ الأمين العام لجامعة الدول العربية، أشاد عبر تغريدات بالاتفاق السعودي-الإيراني في حينه، مؤكدًا على دوره في تحقيق قدرٍ من الاستقرار إقليميًا.
رابعًا: دلالات وتداعيات انعقاد القمة ورسائلها الإقليمية والدولية
دلالات ورسائل مهمة يمكن استخلاصها من الحراك العربي الإقليمي السابق للقمة، وطبيعة القضايا والملفات، التي طُرِحت أثناء وما بعد انتهاء القمة، والتي يمكن ترتيبها في النقاط التالية:
1.تضامن عربي في مواجهة تحدِّيات المنطقة:
أكد البيان الختامي لقمة جدة، على تعزيز التضامن العربي في مواجهة التحدِّيات والأزمات، التي تشهدها المنطقة، وحظِيت هذه الأزمات، على غرار القضية الفلسطينية لبنان واليمن وليبيا والملف الجديد المتعلِّق بأزمة السودان، باهتمامٍ بارز. كما أكد البيان على ضرورة دعم كل ما يضمن أمن واستقرار دول المنطقة، وتعزيز العمل العربي المشترك لحماية الأمن القومي العربي، والمساهمة في حل وإنهاء الأزمات، التي تمُرّ بها بعض الدول العربية، ودعم مبدأ عدم التدخُّل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول العربية.
2.إعادة الزخم للجامعة العربية والعمل العربي المشترك:
اكتسبت قمة جدة قيمةً مضافة، ليس فقط بسبب عودة المقعد السوري إلى المنظومة العربية، لكن أيضًا بسبب أن هذا التطوُّر يُعتبَر دليلًا واضحًا على عودة الروح للتضامن العربي والعمل العربي المشترك، خاصّةً أنَّ هذه العودة كانت حصيلةَ جهود مشتركة قامت بها العديد من الدول القيادية العربية، كالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر والأردن، وتحرُّكات حثيثة قام بها خلال الفترة الماضية وزراء خارجية هذه الدول.
3. القمة العربية تبعث رسالةً فارقة في المسار الدبلوماسي السعودي:
يعكس تواجُد كلٌّ من الرئيس السوري بشار الأسد والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، عن توجُّهٍ سعوديٍ نحو تثبيت رؤية المملكة المستقلَّة لشؤونها وشؤون العالم، انطلاقًا من المصلحة الوطنية والعربية العليا، ومن دورها في التأثير الإيجابي في مسار الخلافات الدولية، وحل النزاعات، وتغيير مجريات الأحداث السياسية إقليميًا وعالميًا. فإقليميًا، لعبت الرياض مؤخَّرًا دورًا دبلوماسيًا رائدًا في السياسة الإقليمية، ومحاولة البحث عن حلول توافقية لمعظم قضاياها الشائكة. استبقت الرياض القمة بمبادرة صُلح وتفاوض بين المتقاتلين في السودان، وقبل ذلك رحَّبت السعودية بعودة سوريا إلى الصف العربي ضمن خارطة طريق عربية واضحة، وأعادت العلاقات مع إيران، ودعمت الحوار بين المكوِّنات اليمنية، في توجُّهٍ سعودي يهدف لتخفيف التوتُّرات، وإبرام المصالحات، وتسوية المشاكل، وتهيئة المناخ لقواعد نظام عربي جديد يعتمد على التعاون والتنمية والبناء والاستثمار والتجارة المتبادلة والمصالح المشتركة.
أمّا دوليًا، فساهمت الرياض في التوصُّل لاتفاق بين روسيا وأوكرانيا، في سبتمبر الماضي، تمخَّضت عنه عملية تبادُل أسرى. ويمثِّل حضور الرئيس الأوكراني للقمة، كرسالة سعودية بأنَّها جزءٌ مهم في المنظومة الدولية، وذات تأثير دولي، وشريك لا يمكن الاستغناء عنه في مجال حفظ الأمن والسِلْم الدوليين، خصوصًا في ظل وصول تأثيرات وتداعيات الأزمة الأوكرانية وحالة الاستقطاب الدولي للمنطقة، سواءً على مستوى الغذاء، أو أزمة الطاقة، أو القلق من استقطاب دولي جديد يضرّ بأمن واستقرار المنطقة العربية. كما تمِّثل البرقية، التي بعث بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الموجَّهة للمشاركين في القمة العربية، التي أشار فيها إلى اهتمام روسيا بتطوير العلاقات الروسية مع الدول العربية، دليلًا على البُعد الدولي للقمة، واستشعارًا للجهود التي قامت بها السعودية لعقد هذه القمة الهامّة.
خامسًا: التحدِّيات المواجِهة لمخرجات القمة العربية
تواجِه مخرجات القمة العربية في جدة جملةً من التحدِّيات، التي يتوجَّب التأكيد على آليات المتابعة لتجاوزها، ويمكن إجمال هذه التحدِّيات فيما يلي:
1. الخلافات الثنائية بين الدول العربية:
أثَّرت الخلافات الثنائية بين الحكومات على عمل الجامعة العربية منذ تأسيسها؛ حيث لطالما كانت تلك الصراعات الجانبية تطغى على فعالية قرارات الجامعة، وتحول دون تجسيدها. من هذا المنطلق، فإنَّ تحييد تلك الخلافات، والفصل بين الأبعاد الثنائية والجماعية في العلاقات، من شأنه أن يساهم في تجسيد القرارات المُتَّخَذة على أرض الواقع، خاصّةً مع ما تمتلكُه المملكة العربية السعودية من قُدرات وإمكانات للتأثير، سواءً على المستوى الإقليمي أو الدولي.
2. التعقيدات المحلِّية للصراعات:
تشتبك العديد من الفواعل المحلِّية في الصراعات، التي تعيشها الكثير من الدول العربية، سواءً في سوريا أو اليمن أو السودان أو ليبيا، والتوصُّل إلى تسويات بين هذه الأطراف يحتاج لتكاتُف الجهود العربية؛ للضغط على الفاعلين المحلِّيين، ودفعهم لاتّخاذ إجراءات تنسجم مع مخرجات القمة، التي تؤكد على أولوية عودة الاستقرار إلى هذه الدول، والإعلاء من أهمِّية الجهود الدبلوماسية والحلول السلمية، بما يضمن مشاركة مختلف المكوِّنات السياسية؛ لتجنُّب دورات صراع جديدة، والتوصُّل لهكذا نتائج تقتضي بكل تأكيد جهودًا مكثَّفة على مستوى الجامعة العربية؛ لأنَّ كلَّ الدول معنيةٌ بتلك الصراعات، كما أثبتت التجارب السابقة، ولعلَّ الحالة السودانية مؤشِّرٌ مهم على مدى المخاطر، التي تحيط بالمنطقة العربية.
3. دور القوى الإقليمية والدولية:
تساهم القوى الإقليمية والدولية، على غرار إيران وتركيا وإسرائيل وإثيوبيا، فضلًا عن الولايات المتحدة وروسيا وغيرها من الدول، في الصراعات بالمنطقة العربية. ومن هُنا، تكمُن أهمِّية انعقاد قمة الجامعة العربية في المملكة العربية السعودية؛ ذلك لأنَّ تحييد دور القوى الأجنبية يتطلَّب وجود مسارات موازية للجهود، التي تُبذَل داخل الجامعة العربية، تستطيع رفدها باتفاقات وتفاهمات، كما حصل بين السعودية وإيران مؤخَّرًا. كما تشتبك العلاقات مع مصالح القوى الكبرى؛ لخلق توازنات بينها، تمكِّن من إبعاد دول المنطقة عن دائرة الصراعات وحروب الوكالة، كما أشار إلى ذلك ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في كلمته خلال القمة. ولعلَّ دعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، من المؤشِّرات على المسارات الجديدة، التي يمكن أن تقوم بها الدول العربية عامّةً، والسعودية خاصّة، على مستوى النظام الدولي، والذي كشفت الأزمة الأوكرانية عن أنَّ الفضاءات المحايدة يمكن أنْ يكون لها تأثيرٌ مهم، خاصّةً عندما تصبح المعادلة صفرية بين القوى الكبرى.
خاتمة
على ضوء توقيت انعقاد القمة ودلالاتها ورسائلها الإقليمية والدولية، يمكن القول إنَّ مضامين الخطابات العربية عامّةً، والخطاب السعودي خاصّة، تشهد تحوُّلات هامة للغاية تجاه القضايا العربية، وتكشف عن رغبة عربية-عربية برعاية سعودية في إعادة ترتيب البيت العربي، والدخول في مرحلة جديدة للبناء والتنمية والمصالح المشتركة تكون مغايرةً للمراحل الماضية، مع ملاحظة إبراز القمة لإجماع عربي على أنَّ مسألة حلول القضايا العربية تكون داخل البيت العربي، برفض التدخُّلات الإقليمية والدولية في الصراعات العربية، والدور العربي الحاسم في حل الأزمات، فضلًا عن الإعلان عن رغبة جماعية عربية لوقف التعاطي الدولي مع القضية الفلسطينية على أنَّها قضية إنسانية، بالتأكيد الجماعي على أنَّها قضية سياسية بامتياز تتطلَّب إقامة الدولة الفلسطينية على حدود يونيو 1967م، بل والأهمّ خلال هذه القمة، التي تُعَدُّ استثنائيةً بكل المقاييس، امتلاك الدولة المستضيفة لأدوات تأثير تُمكِّنها من متابعة وتنفيذ مخرجات القمة تجاه حلحلة القضايا العربية، والتأكيد على قُدرتها ليس فقط على الانخراط في تسوية الأزمات والصراعات الإقليمية، وإنّما على الانخراط في جهودٍ دولية لتسوية الصراعات والحروب الدولية الراهنة.