أصدر الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي مرسومًا في 22 مايو 2023م، عيَّن بموجبه علي أكبر أحمديان أمينًا عامًّا جديدًا للأمن القومي الإيراني خلفًا لعلي شمخاني، الذي قدّم استقالته بعد عشر سنوات قضاها في المنصب. وكما جرت العادة مع الأمناء السابقين للمجلس، لم يُبعَد شمخاني بصورة نهائية، إذ فور إعلان استقالة شمخاني عيَّنه المرشد علي خامنئي عضوًا بمجلس تشخيص مصلحة النظام، ومستشارًا سياسيًّا له. وبينما يُعَدّ دور المجلس وأمينه العامّ مهمًّا في عملية صنع القرارات الداخلية والخارجية المتعلقة بالأمن القومي الإيراني، فإن هناك عديدًا من العوامل والدلالات والتداعيات المحتملة على الصعيدين الداخلي والخارجي لعملية التغيير تلك، وهو ما سيحاول هذا التقرير التحليلي متابعته.
أولًا: الأهمية والسياق
لقد كان تغيير الأمين العام لمجلس الأمن القوي مفاجأة غير متوقعة، فشمخاني يُعتبر من الساسة المحنكين في دوائر صنع القرار الإيراني، وله دور بارز في رسم سياسة إيران الخارجية، بما في ذلك المفاوضات النووية. وقد سطع نجمه خلال الشهور الأخيرة، وتحديدًا منذ أن لعب دورًا بارزًا في المحادثات التي استضافتها بكين في مارس 2023م، والتي انتهت بتوقيع اتفاق عودة العلاقات السعودية-الإيرانية، وهي الاتفاقية التي منحت إيران فرصة للتخلص من العزلة الإقليمية ومراجعة علاقاتها مع دول الجوار، وكانت تحركات شمخاني مؤشرًا على دوره البارز والمؤثر.
1. أهمية المجلس في صناعة القرار الخارجي:
يكتسب هذا التغيير أهميته بالنظر إلى الدور البارز الذي يضطلع به المجلس الأعلى للأمن القومي في صناعة السياسة الخارجية، فمنذ نشأته كان المجلس من المؤسسات الرئيسية التي تجري فيها مناقشة السياسة الخارجية، وكانت المهمة الأكثر أهمية للمجلس منذ عام 2003م هي إدارة برنامج إيران النووي. وجدير بالذكر الإشارة إلى أن المرشد علي خامنئي يهيمن على المجلس الأعلى للأمن القومي، الذي يتولى مسؤولية رسم سياسات إيران الدفاعية والأمنية، والردّ على التهديدات الداخلية والخارجية، إذ على الرغم من حقيقة أن «رئيس الجمهورية» هو رئيس المجلس فإنّ الأمين العامّ، الذي يُعَدّ كذلك الممثل الشخصي للمرشد في هذا المجلس، هو الذي يقود بالفعل مداولاته.
2. تأثير صعود «المتشددين» في دور المجلس:
برز دور المجلس تحديدًا مع هيمنة «المتشددين» على السلطة، بدايةً من انتخابات البرلمان في فبراير 2020م، ثم فوز رئيسي بالرئاسة، من خلال إعادة صياغة السياسة الخارجية الإيرانية وفق توجهات أكثر تشددًا، وذلك بعد سنوات من كبح حكومة روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف لدور المجلس وقيادته، خصوصًا في ما يتعلق بالمفاوضات مع الغرب وتوقيع الاتفاق النووي، إذ أسهم المجلس في وضع قيود تشريعية على فرص إعادة إحياء الاتفاق النووي بعد رحيل ترامب، بل لعب المجلس وأمينه العامّ شمخاني دورًا في رسم ملامح سياسة خارجية قائمة على التحدي والمواجهة، كانت أهم ملامحها التشدد بشأن المفاوضات النووية في فيينا، والتحرك بعيدًا عن الغرب، لتحييد أثر العقوبات، والتخلص من الضغوط، وكان هذا الدور المتنامي على حساب وزارة الخارجية.
كان من ثمار هذه السياسة تعثر مفاوضات فيينا بشأن إحياء الاتفاق النووي، وعودة إدارة بايدن لممارسة مزيد من الضغوط والعقوبات على إيران، ما دفعها نحو سياسة أكثر عدائية تجسدت في مشاركتها إلى جانب روسيا في الحرب على أوكرانيا، والتركيز على سياسة التوجه نحو الشرق. ولم تسعف هذه السياسات النظام في الداخل، إذ انفجرت موجة جديدة من الاحتجاجات الشعبية، اختلطت فيها الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بالأوضاع الحقوقية، لا سيما بعد وفاة الشابة مهسا أميني داخل أحد معتقلات ما يسمى بشرطة الأخلاق.
وجد النظام في تغيير سلوكه ونهجه على الصعيد الإقليمي، من خلال المصالحة وتطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية، فرصة من أجل تخفيف حدة العزلة، وإحباط تشكيل هياكل أمنية إقليمية بمشاركة الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد لعب مجلس الأمن القومي بقيادة شمخاني دورًا بارزًا في هذا الاتفاق، وما أعقبه من جهود دبلوماسية للمجلس على الصعيد الإقليمي، ظهر فيه أن دور المجلس قد توغل على دور وزارة الخارجية، وأن دور شمخاني تجاوز دور عبد اللهيان. ولا تزال إيران بصدد مراجعة سياستها مع دول المنطقة، وفي مناطق نفوذها، وفقًا لذلك. ولا تزال دول المنطقة بصدد مراقبة مواقف إيران، وترصد حدود التغيير والاستمرارية في السياسة الإيرانية، وهناك توقع بأن تكون إيران أكثر جدية في التعاون من أجل تحقيق الاستقرار وإدارة التنافس بعقلانية ورشادة، في ظل الظروف المحيطة بها في الداخل والخارج.
ثانيًا: دوافع التغيير
قرار النظام الإيراني باستبعاد شمخاني، أو دفعه إلى تقديم استقالته، له عدة أسباب، أهمها:
1. انتماءات شمخاني ومواقفه:
نظرًا إلى أن شمخاني كان قريبًا في توجهاته من التيار «الإصلاحي»، فإنه كان محلّ انتقاد من جانب العناصر «المتشددة»، خصوصًا أنه قد سبق له توجيه انتقادات إلى النظام، بما فيه حكومة رئيسي الحالية. فخلال الاحتجاجات التي أعقبت وفاة مهسا أميني في سبتمبر 2022م، انتقد شمخاني تعاطي النظام مع الاحتجاجات من خلال القمع. وقد فتح هذا الموقف نار الهجوم عليه، بما في ذلك المطالبة بإقالته، باعتبار أن مجلس الأمن القومي لم ينجح في مواجهة الاحتجاجات، وتوجيه اتهامات إليه وإلى أفراد أسرته بالتورط في قضايا فساد لم يجرِ التحقيق فيها أو إثباتها.
2. الخلاف حول إدارة الملف الإقليمي:
أشارت تقارير إلى أن سبب إقالة شمخاني هو وجود خلاف مع رئيسي حول الجهة التي تدير ملف العلاقات العربية، إذ أراد رئيسي استعادة سلطته وسلطة وزارته في إدارة هذا الملف الذي استحوذ عليه شمخاني خلال الفترة الأخيرة. وهو موقف يضاف إلى مواقف شمخاني الجريئة في تحدي دوائر صنع القرار، بما فيها الحرس الثوري والرئاسة، إذ طالب بتغيير السياسات، الأمر الذي يعني وجود خلافات في وجهات النظر حول قضايا السياسة الخارجية. وتجلى هذا الخلاف في التباين في موقفين: الأول: دعوة شمخاني في ختام الملتقى الدولي الذي استضافته جامعة الدفاع الوطني العليا بالعاصمة طهران مطلع هذا الشهر، مايو 2023م، القيادة الإيرانية بشكل غير مباشر إلى استيعاب التطورات الحاصلة على المسرح الدولي، قائلًا: «علينا إحداث التغييرات المناسبة»، محذرًا في الوقت نفسه من أن الافتقار إلى الجاهزية والقوة سيجعل البلاد عرضةً لصعوبات لا تريدها. والثاني: تأكيد كبير مفاوضي طهران للملف النووي ونائب وزير الخارجية علي باقري كني في مقال على الموقع الرسمي لوزارة الخارجية بعنوان «منظور السياسة الخارجية في ضوء النظام العالمي الجديد»، الذي سبق استقالة شمخاني بيوم، إذ أشار فيه إلى التغيير الحاصل في النظام الدولي، لكنه أكد فيه التزام إيران مواقفها الراسخة حيال عدد من القضايا، على الصعيدين الإقليمي والدولي.
3. قضية أكبري وترتيبات ما بعد خامنئي:
لم تكن هذه هي المرة الوحيدة للمطالبة بإقالة شمخاني، إذ إنّ إدانة مساعده علي رضا أكبري عززت فرص الإطاحة بشمخاني ومنحت خصومه داخل النظام فرصةً كبيرة للهجوم عليه، بما فيها الصحف والمواقع المحسوبة على الحرس الثوري، بل يذهب بعض المصادر إلى أن قضية أكبري كانت مدبرة بالأساس من أجل تبرير عملية الإطاحة بشمخاني، الذي خشيت دوائر «المتشددين» صعود نجمه، حتى إنّ البعض توقَّع أن يغري هذا الصعود شمخاني بالتفكير في الترشح لمنصب الرئاسة في الانتخابات المقبلة.
وبينما يستعدّ النظام لعملية خلافة مرتقبة لخامنئي قد تأتي في أي وقت، فإنه لا يرغب في وجود نزاع بين مؤسساته ونخبته، وهو توجه بدأ منذ أن أطلق المرشد الأعلى ما يُعرف بالخطوة الثانية للثورة، التي اعتمدت على رفد مؤسسات السلطة المختفة بعناصر شابة، لتأكيد الخط الثوري، والحفاظ على النظام لأطول فترة ممكنة. وجدير بالذكر الإشارة إلى أن شمخاني يُعتبر آخر المسؤولين الذين عيَّنهم روحاني في مراكز السلطة العليا في البلاد.
4. التوجس من طموحات شمخاني:
ربما كانت لدى الدولة العميقة مخاوف من صعود نجم شمخاني، وهو ما قد يعزز احتمال دفع «المعتدلين» و«الإصلاحيين» به للمنافسة على الرئاسة، ومن ثم إفساد عملية الانتقال المرتقبة بعد خامنئي. وقراءة أخرى قد ترى أن النظام رأى أنّ شمخاني أكثر اندفاعًا مما ينبغي في ما يتعلق بالعلاقات مع دول الجوار، وهو ما ظهر في امتعاض عناصر من التيار «المحافظ» من الدور الذي لعبه شمخاني في إنهاء القطيعة السياسية مع السعودية والتقارب الإيراني-العربي، ما أدى إلى زيادة الضغط على رئيسي لإبعاده من منصبه.
5. مميزات أحمديان:
في المقابل، فإنّ الأمين العامّ الجديد يحمل مؤهلات وتاريخًا مقنعًا لـ«المتشددين» لوضعه في هذا المنصب بديلًا لشمخاني، فوفقاً لوكالة فارس الايرانية، فإن أحمديان وُلد في عام 1961م بمدينة كرمان، ومن ثم هو من الجيل الثاني للثورة، واختياره مناسب لخطة المرشد والرئيس لتحقيق الخطوة الثانية للثورة، كما يُعتبر من القيادات الملتزمة خط النظام، إذ كان من المقربين من القائد السابق للحرس الثوري قاسم سليماني، إذ عملا معًا في «الوحدة 41 ثأر الله». فضلًا عن ذلك فإن أحمديان يملك خبرة طويلة في العمل داخل مؤسسات صنع القرار، ولدية مؤهلات وإسهامات مهمة، فبعد بدء الحرب الإيرانية-العراقية ترك مقاعد الدراسة بكلية طب الأسنان والتحق بجبهات القتال، وفي السنوات الأخيرة من الحرب أصبح أحمديان أحد مهندسي التحول في بحرية الحرس الثوري الإيراني، وفرض نفسه باعتباره أحد المنظِّرين لفكرة الدفاع غير المتكافئ.
بالإضافة إلى ذلك، خلال فترة ولاية أحمديان نائبًا وقائدًا في بحرية الحرس الثوري، أصبحت فكرة الدفاع غير المتكافئ في البحرية جاهزة للعمل بشكل كامل، وتسبَّب بقاؤه لمدة 15 عامًا متواصلة في سلاح البحرية التابع للحرس الثوري في جعله معروفًا بوصفه خبيرًا في مجال الملاحة والصواريخ. وبعدما غادر أحمديان البحرية في الحرس الثوري عام 2000م ترأس هيئة الأركان المشتركة للحرس الثوري. وخلال فترة ولايته، التي استمرت سبع سنوات رئيسًا لهيئة الأركان المشتركة للحرس الثوري، أحدث تحوّلًا كبيًرا في الهيكل الإداري والقدرة التنظيمية للحرس الثوري في أبعاد مختلفة، وبات يُعرف بأنه من أميز المتخصصين الإيرانيين في المسائل المتعلقة بالأمن القومي.
بعد انتهاء الحرب، تخرَّج في كلية طب الأسنان بجامعة طهران، كما حصل على درجة الدكتوراه في الإدارة الإستراتيجية من جامعة الدفاع الوطني العليا، كما كان رئيسًا للمركز الإستراتيجي للحرس الثوري الإسلامي لمدة 16 عامًا، أي منذ عام 2007م. وفي سبتمبر 2022م كان أحد الأعضاء الخمسة الجدد الذين أضافهم المرشد الأعلى علي خامنئي إلى مجمع تشخيص مصلحة النظام، وبهذا يحمل أحمديان سجلًّا حافلًا في خدمة النظام، ويحوز ثقة المرشد ومؤسسات الحكم الفعلية في إيران.
ثالثًا: الانعكاسات الداخلية والخارجية لاستبعاد شمخاني من المجلس الأعلى للأمن القومي
نظرًا إلى طبيعة المهامّ الموكلة إلى المجلس الأعلى للأمن القومي، والأدوار التي أُنيطت بعلي شمخاني طيلة مشواره السياسي، والتي زاوجت بين المهام الداخلية والخارجية، فإن انعكاسات التغيير الأخير بدورها تأخذ منحنيات مختلفة على المستويين الداخلي والخارجي، يمكن توضيحهما على النحو الآتي:
- الانعكاسات الداخلية:
في السياق الداخلي، تشير عملية التغيير التي اتبعها النظام إلى أنها أقرب إلى الإقالة منها إلى الاستقالة، وأن تعيين شمخاني في مجلس تشخيص مصلحة النظام ومستشارًا للمرشد ليس سوى ترضية، ودليل ذلك بيت الشعر الذي نشره شمخاني على صفحته بموقع «تويتر» للشاعر الإيراني كمال الدين علي محتشم الكاشاني، الذي يقول فيه إنّ «الكلام الذي كان يقال من وراء حجاب.. قيل رمزًا.. وفي نهاية المطاف سمع بالإيماءات، فغادر».
كما تعكس عملية التغيير في مضمونها الرغبة في الهيمنة الكاملة على مؤسسات صنع القرار من جانب «المتشددين»، والدفع بالعناصر الأكثر موثوقية لمراكز التأثير، فأحمديان محسوب على التيار «المتشدد»، بعكس شمخاني الذي يعتبره البعض من بقايا حكومة روحاني. ويؤشر التغيير أيضًا إلى نمط الصراع في المرحلة الحالية بين أطراف العملية السياسية، فالمحافظون يخوضون معركة سياسية يرون أنه لا مجال فيها لترك أي مساحة للمشاركة في السلطة من جانب أي أطراف معارضة، وهذا بدوره يعطي مؤشرًا على مساعيهم لتقويض أي فرصة لصعود «الإصلاحيين» في الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية، كما حدث في انتخابات 2020م البرلمانية وانتخابات 2021م الرئاسية.
كذلك يعزز هذا التغيير احتمال لعب وزارة الخارجية دورًا أكبر في صنع وتنفيذ القرار الخارجي، بعد فترة من هيمنة المجلس الأعلى للأمن القومي، ممثلًا في أمينه العامّ علي شمخاني، الذي كانت له أدوار بارزة طغت على دور الوزارة، على عكس الوافد الجديد الذي يخلو تاريخه من خبرات دبلوماسية، وهو ما يجعله في حاجة إلى التعاون مع وزارة الخارجية.
أما بخصوص شمخاني شخصيًّا فسيتوقف مستقبله ودوره على الخطوات السياسية التي سيتخذها مستقبلًا، ففي حالة تفضيله خط التعيين في المناصب فإنّ التنافس سيبقى ضمن الغرف المغلقة بين مختلف الأجنحة التي يحسن المرشد علي خامنئي إدارتها بما يخدم مصالح النظام، حسب التطورات الداخلية والخارجية وما تقتضيه من تغييرات في الواجهات. أما في حالة انتقال شمخاني إلى خط الانتخاب ودخوله حلبة التنافس، سواء في البرلمان أو الرئاسة كما أشار إلى ذلك بعض التقديرات، فإن خطوة من هذا القبيل ستنقل التنافس إلى مرحلة تالية، من المرجح أن ينحاز فيها شمخاني إلى الكتلة «الإصلاحية»، كما سبقت الإشارة.
- الانعكاسات الخارجية:
أمام التكتم والغموض الرسمي الذي اكتنف أسباب استقالة شمخاني من منصبه، تتأرجح القراءات بين الحسابات الداخلية في الصندوق الأسود للنظام الإيراني وبين الاعتبارات الخارجية. وبغض النظر عن تلك الأسباب فإنه بكل تأكيد ستكون هناك بعض الانعكاسات على السياسة الخارجية الإيرانية، نظرًا إلى أهمية منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي في صنع القرار السياسي والأمني. كما تجدر الإشارة في السياق ذاته إلى أن إزاحة شمخاني من المجلس بُعَيد نجاحه في توقيع اتفاقٍ أعادَ العلاقات السعودية-الإيرانية إلى مسار التواصل الطبيعي تطرح كثيرًا من التساؤلات حول وجود علاقة ارتباطية بين الحدثين، وإن كانت أحاديث استبعاد شمخاني وردت قبل عقد الاتفاق، لأن اسمه ارتبط بقضية علي رضا أكبري في 2019م، عندما اتهم بالحصول على معلومات استخبارية سرية للغاية من شمخاني وبتسريبها لبريطانيا، وأُعدم قبل أشهُر للسبب ذاته، فضلًا عن الامتعاض من انتقاداته للحكومة. لكن من زاوية أخرى يُفترض أن يتواصل تهميش شمخاني إلى غاية استبعاده، ولا توكل إليه مهمة دبلوماسية كبيرة جدًّا، ثم يُدفع إلى الاستقالة بعدها.
من هذا المدخل تشير عملية التغيير إلى أن وجهات النظر الأكثر تحفظًا وتشددًا داخل النظام تجاه نهج إيران الإقليمي قد انتصرت ونجحت في فرض وجهة نظرها وإبعاد شمخاني، وقد يكون لذلك تأثير متوقع في الحد من اندفاعة إيران نحو تطبيع علاقاتها الإقليمية، لا سيما العلاقات مع المملكة، وربما إعادة النظر في سياساتها الإقليمية، لأن هناك تيارًا لا يزال يرى أن إيران دفعت ثمنًا كبيرًا من أجل مشروعها ونفوذها الإقليمي، وأن عملية الانفتاح وتطبيع العلاقات تهدد هذه المكتسبات.
كما أن هذا التيار يرى أن نجاح شمخاني في إحداث هذا الاختراق قد كثف الضغوط الداخلية من أجل متابعة سياسة دولية مماثلة بالانفتاح على الغرب والولايات المتحدة. وقد أشار تغيير شمخاني إلى رغبة في وقف تمدد هذا الاتجاه، ووأد هذه المطالبات بوصفها تتعارض مع القواعد المتأصلة للسياسة الخارجية الإيرانية، وهو ما ظهر في مقال باقري كني المشار إليه على موقع وزارة الخارجية.
وفي ما يخص واحدة من أهم قضايا السياسة الخارجية، وهي المفاوضات النووية، فبينما تتمسك كل من إيران والولايات المتحدة بالمفاوضات باعتبارها وسيلة لإحياء الاتفاق النووي، فإن إبعاد شمخاني، الذي وضعته الولايات المتحدة على قائمة عقوباتها في عام 2020م خلال ولاية ترامب، قد يكون مقدمة لتغيير نهج إيران بشأن المفاوضات النووية، وهو نهج لا يتناقض مع تطبيع العلاقات مع دول المنطقة، لكنه يعزز موقف إيران الإقليمي ويحدّ من الضغوط الدولية عليها.
لكن هناك قراءة مغايرة ترى أن إيران قد لا تتراجع عن توجهاتها الإقليمية الجديدة بتطبيع العلاقات مع المملكة والتعاون من أجل دفع السلام والاستقرار الإقليمي، وأن التغيير الجاري في مجلس الأمن القومي، الذي قاد إلى توقيع الاتفاق السعودي وعملية التطبيع، لن يكون له تأثير كبير في موقف إيران، باعتبار هذا التوجه جاء بمباركة المرشد والرئيس، وأن هذا النهج يعكس مصلحة حيوية لإيران، ولا يمكن التراجع عنه. وبين هذه القراءات المتناقضة يمكن القول إنّ هناك احتمالًا لتحقيق توازن بين مسار تطبيع العلاقات والحفاظ على النفوذ الإقليمي والعلاقات التي كلفت إيران جهدًا لبنائها على مدار أكثر من أربعة عقود.
خلاصة
قد يكون النظام بصدد إعادة بناء الإجماع الداخلي بشأن السياسة الخارجية، وذلك بعد التناقضات الهيكلية التي أظهرها الصراع بين مؤسسات الحكم، وتحديدًا المؤسسات التابعة للمرشد وتلك التابعة للرئيس، وهذا الإجماع قد يؤجل خطوات تنفيذ الاتفاق الإيراني-السعودي حول تطبيع العلاقات ودفع عملية الاستقرار الإقليمي. وبشكل عامّ، فإنّ تطورات السياسة الخارجية في المرحلة المقبلة ومدى التزامها الاتفاق مع المملكة العربية السعودية ستكون اختبارًا عمليًّا للنظام الإيراني ومؤسساته، فاستمرار التهدئة وتسوية الخلافات يؤكدان أن الأطر المؤسسية هي المسيطرة على صناعة القرار في إيران، ويمكن البناء عليها للدفع بالعلاقات معها أكثر. أما في حالة العودة إلى الممارسات السابقة فإن ذلك سيكون دليلًا على أن النظام الإيراني سيبقى أسير الرؤى الأيديولوجية الثورية، التي تحُول دون ترسيخ علاقات ودّية مع محيطه الجغرافي وعلاقاته الدولية.