مقدِّمة
أحدَثَ الاتفاق السعودي-الإيراني، الذي جرى توقيعه في بكين في مارس 2023م، صدمةً وردود فعل متباينة في الغرب، ولم يُقرأ الحدث من زاوية محايدة في أغلب الأحيان، خصوصًا تقييم السياسة السعودية، إذ ركَّزت التحليلات على زوايا محدَّدة تتعلَّق بالجوانب الأمنية والجيوسياسية، متغافِلةً السياقات الداخلية والخارجية الأشمل، التي تحرَّكت فيها سياسة السعودية على الصعيدين الإقليمي والعالمي، إذ يُشير الواقع إلى أنَّ السياسة السعودية تجاه إيران شهِدَت تحوُّلات جوهرية منذ عام 2015م. هذه التغييرات ظهرت بالأساس كرَدّ فعل على تنامي تطلُّعات إيران المتزايدة للهيمنة الإقليمية، وسعيها الحثيث إلى إضعاف دور ومكانة المملكة، في وقتٍ كانت فيه المنطقة تمُرّ بتحوُّلات عاصفة تصُبّ في صالح إيران، إلى جانب تغييرات داخلية مهمَّة تمُرّ بها المملكة في ظل رؤية 2030.
هذه التحوُّلات ظهرت بدورها في نهجين أساسيين تبنَّتهما الرياض، لا يمكن بحالٍ من الأحوال فصلهما عن بعضهما، الأول: هو مواجهة تهديدات إيران، التي بدأت في عام 2015م بالتزامن مع العمليات، التي قادتها المملكة ضد نفوذ إيران في اليمن من خلال تحالُف دعم الشرعية، والثاني: الدبلوماسية، التي بدأت بالمفاوضات برعاية العراق في أبريل 2021م وانتهت بعودة العلاقات الدبلوماسية في مارس 2023م برعاية الصين، إذ يُلاحَظ أنَّ هذين النهجين ظهرا خلال هذا الإطار الزمني بصورة واضحة، وفي الوقت نفسه تركا بصمةً واضحة على مسيرة العلاقات، وتحوُّلها من القطيعة والتصعيد الشامل منذ عام 2016م إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية، وبحث سُبُل التعاون وتطوير العلاقات المُتبادَلة، وخفْض التوتُّرات، وتسوية الأزمات على الصعيد الإقليمي. وهُنا يمكن الجدال بأنَّ مزيجًا من سياسات القوة والحوار، التي تبنّتها السعودية تجاه التعاطي مع إيران، لعِبت دورًا بارزًا في الوصول إلى التفاهمات الجارية بين البلدين، وإلى التحوُّلات الجارية في قضايا الصراع المختلفة.
ومع أنَّ تأثير هذه السياسة قد ظهر جليًّا، لكن لا تزال تأثيرات هذه السياسة السعودية تجاه إيران قيد التدقيق، بالنظر إلى تاريخ العلاقات المضطرب، وفجوة الثقة بين الجانبين، وطبيعة السياسة الخارجية الإيرانية ومبادئها المتأصِّلة، فضلًا عن المصالح الإقليمية المتناقضة منذ عقود، وشبكة علاقات الطرفين بالقوى الدولية. وبالتالي، يمكن طرح عدد من الأسئلة، أهمّها: ما طبيعة التغييرات، التي جرت على نهْج السعودية الخارجي من منطلق الاستجابة لتصاعُد تهديدات إيران للمملكة؟، وما حدود الاستمرارية والتغيير في السياسة السعودية تجاه إيران؟، وكيف تغيَّرت سِمات السياسة الخارجية السعودية في هذا السياق؟، وما الذي جنته السعودية من وراء هذه السياسية؟، وما العواقب على إيران وقضايا الصراع في المنطقة؟، وما حدود التأثير في ميزان القوى إقليميًّا وفي نفوذ القوى الدولية في المنطقة؟
ستحاول هذه الدراسة أن تجيب عن هذه التساؤلات من منظور الواقعية الكلاسيكية الجديدة، بوصفها إطارًا ملائمًا لتحليل طبيعة التحوُّلات، التي جرت على السياسة الخارجية السعودية، وسلوك الدولة على الصعيد الخارجي خلال العقد الأخير، استنادًا إلى مقولتها الرئيسية، التي تتمحور حول تأثير العوامل الداخلية على مستوى الدولة، والعوامل النظامية الدولية، في تحديد سلوك المملكة على الصعيد الخارجي، وتحديدًا تجاه إيران. وسيعتمد هذا البحث على المنهج الاستقرائي، الذي يركز على جمع البيانات والعلاقات المترابطة بطريقة دقيقة من أجل الربط بينها بمجموعة من العلاقات الكلِّية العامّة. وهو كغيره من المناهج العلمية يحدِّد الإشكالية أو الظاهرة محل البحث من أجل متابعة تفاصيلها والتعرُّف إلى مسبِّباتها، من ثمَّ الانتقال من الأمور الجُزئية إلى الأمور الكلِّية، أو بمعنى آخر، من المفهوم الخاص إلى العام. وفي إطار هذا المنهج، يمكن الاستعانة بدراسة الحالة كأداة لاستقراء أثر العوامل الداخلية والخارجية في السياسة الخارجية السعودية، وفي العلاقة مع إيران تحديدًا.
أولًا: السعودية وإيران.. المنطلقات والأُطر العامّة للعلاقات
بعدما اندلعت الثورة الإيرانية عام 1979م، أُعيدت صياغة العلاقات بين دول الشرق الأوسط، وروجعت بالكلِّية، وقد كانت العلاقات السعودية-الإيرانية هي الأكثر تأثرًا بهذا التغيير، استنادًا إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
1. الهوية المتنازعة:
كان البُعد الثوري والعقائدي، الذي تبنّاه النظام الإيراني الأساس، الذي حدَّد نمط وطبيعة العلاقات، فإيران وفقًا لنظرية «أم القرى»، أرادت أن تجعل مدينة «قُم» الشيعية «المقدَّسة» مركزًا لمشروعها الأُممي العابر للحدود وبديلًا عن مكة المكرمة، التي تُعتبر قِبلة المسلمين، كما قدَّمت الثورة «ولاية الفقيه» نموذجًا بديلًا عن قيادة الأُمّة. فيما لا تبادل المملكة إيران هذه التطلُّعات القِيمية، وإن كانت تستفيد بصورة تلقائية من مكانتها الروحية والمقدَّسة لدى المسلمين عامّة، بوصفها حاضنة الحرمين الشريفين ومهْد الرسالة ومعقل أهل السُّنَّة، وهذا واقع أملاه التاريخ، وقد رعت وفقًا لهذه المكانة دورها الحتمي في إطار إسلامي وعربي واسع يتجاوز الشرق الأوسط، دون تسييس أو توظيف. لقد ألقى هذا التناقض بظلاله على العلاقات والصراع، وبلوَرَه في إطار مذهبي وديني، في ظل تطلُّعات إيران إلى هيمنة دينية على العالم الإسلامي بعد «إزاحة» السعودية عن مكانتها الراسخة[1].
ويتّصِل بنزاع الهوية البُعدُ القومي والثقافي، إذ توظِّف إيران تاريخها العِرْقي واللغوي لخدمة تطلُّعاتها للهيمنة الإقليمية، وفضلًا عن أنَّها تجِد مناطق نفوذ على أساس هذا البُعد الهوياتي في بعض المناطق، فهي بالتوازي مع ذلك تحاول نشر الفارسية كهويّة منافسة للمملكة في بعض ساحات المنافسة، في حين تشكِّل العربية ببُعدَيْها العِرْقي والثقافي مصدرًا مهمًّا لنفوذ المملكة وتأثيرها، وهي مُستمَدَّة من الثقافة والتقاليد العربية، التي أثَّرت في جزء كبير من تاريخ المملكة، وهو عنصر حيوي يمنحها سُلطة في دائرة أضيق من الدائرة الإسلامية، يمكن على أساسها إنشاء اتصال مع مختلف الدول العربية في الشرق الأوسط وإفريقيا. ويتّصِل بهذا النزاع الهويّاتي بُعدٌ جديد يتمثَّل في صعود هويّة سعودية ذات نزعة حداثية، تقودها المملكة في إطار مشروع 2030 لتحقيق نقلة اجتماعية وثقافية نوعية، وهي هويّة سعودية جديدة تتعارض مع هويّة إيرانية تقليدية محافظة. ويُثار حاليًّا جدل كبير بين تأثير النزعتين المتناقضين في النهضة التي تشهدها السعودية، والأزمة التي تعيشها إيران، على مستوى النُّخبة، وعلى مستوى الرأي العام الداخلي والخارجي. هذا النزاع الشامل حول الهويّة بأبعادها المختلفة، شكَّل طبيعة علاقات السعودية بإيران كقوتين متنافستين على الصعيد الإقليمي، وعلى مستوى العالم الإسلامي[2].
2. المكانة الإقليمية وتقاطُع المصالح:
تشترك إيران والسعودية في فضاء جغرافي واحد، وتنتميان إلى مجالات حيوية متشابكة، ومِن ثمَّ تتقاطع مصالحهما ومشروعاتهما، فإيران لديها مشروع خارجي يهدف إلى حيازة التأثير والنفوذ ضمن أطروحات الثورة، وهذا المشروع هو مشروع تحرِّكه نزعة وحلم تاريخي إمبراطوري قديم، ومحيطه الحيوي هو الشرق الأوسط، وتحديدًا الجزيرة العربية والمشرق العربي، الذي تملك فيه المملكة نفوذًا تقليديًّا واسعًا. وقد سَعَت إيران إلى تنفيذ هذا المشروع عبر تبنِّي تصدير الثورة، وهو الهدف الذي انبثق عنه تشكيل «فيلق القدس»، الذي وكَلت إليه مدّ علاقة إيران بالبؤر الشيعية المنتشرة في دول المنطقة، بما في ذلك الشيعة في المملكة، وربطهم بإيران أيديولوجيًّا وعقائديًّا وعسكريًّا، ثم سياسيًّا، حتى تكون إيران في الأخير نواة لحكومة إسلامية مركزية وحكومات مشابهة خارج الحدود. وقد تسبَّب ذلك في تناقُض مصالح سياسية واقتصادية، وقضايا صراع شديدة التعقيد، ومعضلات أمنية امتدَّت من اليمن جنوبًا حتى لبنان شمالًا، ومن البحرين شرقًا حتى المغرب العربي غربًا، بل امتدَّت إلى عديد من دول العالم الإسلامي[3].
3. المكانة في هيكل النظام الدولي:
حدَّدت إيران بعد عام 1979م وجهة نظرها العالمية من منظور أيديولوجي، وتبنَّت وجهة نظر معادية للهيمنة الأمريكية، وبالتالي العداء للولايات المتحدة، ومِن ثمَّ باتت قوّة متحدِّية للقواعد، التي أرستها الولايات المتحدة للنظامين الإقليمي والدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأدَّى ذلك إلى تعزيز الحضور العسكري الأمريكي في المنطقة، وتأسيس شراكة وتعاون مع دول الخليج بقيادة السعودية، التي أصبحت حليفًا إستراتيجيًّا وتاريخيًّا للولايات المتحدة، وهو ما كان سببًا في تأجيج الصراع بين الجانبين السعودي والإيراني.
انعكس تأثير العوامل السابقة على العلاقات السعودية-الإيرانية، على مدى أكثر من أربعة عقود، وتجلَّت تأثيراتها فيما يأتي:
أ. إيران كمصدر تهديد: منذ مرحلة مبكِّرة، حفَّز التوجُّه العقائدي تطلُّعات إيران للتدخُّل في شؤون المملكة، إذ استهدفت إيران أمن واستقرار المملكة من خلال الأقلِّية الشيعية، التي دائمًا ما كانت بعيدة عن أجندة التسييس قبل الثورة الإيرانية. وظهر ذلك في أكثر من حادث وموقف خلال العقد الأول للثورة، من بينها تأجيج مشاعر الأقلِّية الشيعية في الداخل، وتحريضها على التمرُّد والشغْب على السلطة الحاكمة، بالإضافة إلى خلْق الأزمات خلال مواسم الحج، لأجل نزع وصاية المملكة الكاملة على هذه الشعيرة الدينية ذات الأهمِّية الكبيرة لدى عامّة المسلمين، كما شنَّت إيران الحملات الدعائية ضد المملكة وسياساتها وقاداتها، بجانب التركيز على علاقة الرياض بالولايات المتحدة، وكان الغرض من هذه الحملة، التي ظلَّت مستمرَّة لعقود، زعزعة مكانة المملكة في العالمين العربي والإسلامي، في إطار المنافسة على القيادة الروحية والدينية للمسلمين. وقد أدَّت التوتُّرات واسعة النطاق بين السعودية وإيران إلى حدّ القطيعة في عام 2016م، بعد أن اجتاح محتجُّون مقرّ البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران، على خلفية إعدام السُّلطات السعودية رجل دين شيعيًّا سعوديًّا بارزًا، ولم تكُن هذه الحادثة السبب الرئيسي في قطع العلاقات السعودية-الإيرانية،كونه مواطنًا سعوديًّا ارتكب أعمال تحريض ضد الدولة، بل كان ذلك تعبيرًا عن وصول التوتُّر بين الجانبين إلى حدِّه الأقصى[4].
ولم يكُن أمر تصدير الثورة يستهدف الشيعة في السعودية فحسب، بل دول الخليج كذلك، وأبرز نموذج على ذلك البحرين، ففي عام 1981م شهِدَت البحرين محاولة انقلاب من عدد من الشيعة الموالين لإيران، ثم اشتباكات عنيفة في منتصف التسعينيات، واضطرابات في عام 2004م، وذلك قبل أن تدعم الاحتجاجات ضد النظام في 2011م، التي اضطرَّت معها قوات «درع الجزيرة» للتدخُّل لتفرض الاستقرار في البحرين بقيادة السعودية[5].
ب. إيران منافسًا إقليميًا ذا نظرة توسُّعية مصلحية: تُعتبر منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية مجال نفوذ جغرافي وتاريخي طبيعي للمملكة، وهو ما خلق صِدامًا مع طهران، التي تتطلَّع إلى الهيمنة الإقليمية وفق تطلُّعات قومية قديمة، وتطلُّعات أيديولوجية زاد تأثيرها بعد الثورة، وتجلَّت في محاولة إيران تصدير الثورة الإيرانية خارج الحدود. ألقى هذا التنافس بظلاله على العلاقات، وكان سببًا في اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية خلال الثمانينيات، التي اعتبرتها إيران جُهدًا غربيًّا خليجيًّا مشتركًا لوأْد النظام الإسلامي الوليد، وتقويض الثورة والنظام المنبثق عنها، وقد أدَّت هذه الحرب إلى تكريس «الهويّة المعادية السعودية»[6]. وعلى الرغم من أنَّ التوتُّرات مع السعودية هدأت بفضل سياسة رفسنجاني، الذي تولَّى السُّلطة في أغسطس 1989م، التي انطوت على رغبة في التخلِّي عن مبدأ تصدير الثورة، وتبنِّى سياسة تصالُحية تجاه السعودية، فضلًا عن اقتراح سوق إقليمية مشتركة للتعاون الاقتصادي والفني بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران، بما قد يؤدِّي إلى ترتيب أمني شامل[7]، فقد أخفق مشروع إدراج إيران في ترتيب أمني إقليمي، لأنَّ المرشد والحرس الثوري كانا ولا يزالان يتمسَّكان برؤيتهما الأيديولوجية، وخشِيَت دول مجلس التعاون الخليجي من تطلُّعات إيران المُحتمَلة إلى أن تصبح لاعبًا إقليميًّا مهيمنًا، كما عارضت الولايات المتحدة إدراج إيران في مثل هذا الترتيب، وأدَّت الأولويات المختلفة لدول الخليج وخلافها حول التهديد المشترك إلى استحالة التوصُّل إلى اتفاقية أمنية جماعية، لا سيّما بعد الغزو العراقي للكويت في عام 1990م[8].
وكان محمد خاتمي أكثر حماسًا لإنهاء الخلافات مع السعودية، إذ عمِلَ على تحسين العلاقات مع الرياض، وإنهاء التدخُّل والعمل السرِّي الموجَّه ضد السعودية، وفي عام 1999م، أصبح أول رئيس إيراني في السُّلطة يزور المملكة منذ الثورة. لكن نظرًا إلى أنَّ توجُّهات إيران تجاه المملكة مبنية ومدفوعة بتوجُّهات أيديولوجية، فإنَّ نتائج تلك الزيارة لم يكُن لها صدى أو تأثير، إذ إنَّ المرشد ومؤسَّسات الدولة الأكثر تشدُّدًا، كالحرس الثوري، لم يدعموا أيّ توجُّهات إيجابية نحو المملكة، وزاد تأثير ذلك خلال الفترة الأخيرة من ولاية خاتمي الكشف عن البرنامج النووي الإيراني، الذي أثار حفيظة الولايات المتحدة والغرب، وأثار المخاوف لدى المملكة، وبالتالي جرى التنسيق مع السعودية لكي تتّخِذ موقفًا مؤيِّدًا للعقوبات والضغوط الغربية على إيران.
عندما جاء محمود أحمدي نجاد إلى السُّلطة، أعاد إحياء الخطاب الثوري، ولم يجعل ضمن أولوياته تهدئة العلاقات مع السعودية، بل إنَّ إيران كثَّفت أنشطتها الإقليمية، وتجلَّى ذلك في الدور البارز في العراق ما بعد الغزو الأمريكي 2003م، إذ تمكَّنت إيران من أن توطِّد نفوذها في هذا البلد من خلال تبنِّي دعم المكوِّنات الشيعية، التي هيمنت على السُّلطة. كما عزَّزت علاقاتها مع محور سوريا-«حزب الله»، وهو ما تجلَّى في حرب عام 2006م، التي شنَّتها إسرائيل على لبنان. وكذلك وطَّدت علاقاتها بالفصائل الفلسطينية، التي ظهرت ملامحها خلال حرب إسرائيل على غزة في 2008م. وشكَّلت هذه الأطراف ما يُعرَف بـ«محور المقاومة» بقيادة إيران، وكان هذا المحور مناهضًا لـ«محور الاعتدال»، الذي تنخرط فيه مصر والسعودية والأردن، وقد كرَّس هذا الواقع مدى اتّساع نطاق المواجهة الإقليمية وتعارُض المصالح السعودية-الإيرانية في الإقليم.
ومع اندلاع أحداث ما يُسمَّى بـ«الربيع العربي»، اتّسع نطاق الخلاف بطريقة غير مسبوقة، وتحوَّلت المنافسة إلى الصراع، إذ تباينت وجهات النظر تجاه التطوُّرات في مصر وتونس تحديدًا، فالانتفاضات من وجهة نظر إيران امتدادٌ للثورة الإيرانية وصعودٌ بالقوى الإسلامية غير المتخاصمة معها، ومن وجهة نظر سعودية تعتبر موجة اضطرابات تضرب القواعد المستقرَّة في المنطقة وتؤدِّى إلى حالة من عدم الاستقرار، وتذهب بالمنطقة إلى حالة من عدم اليقين وغياب الأمن، لكن اختلفت مقاربات إيران، عندما لحِقَت سوريا بموجة الانتفاضات العربية، إذ اعتبرت طهران الثورة السورية استهدافًا لـ«محور المقاومة»، وأنَّها «مؤامرة أمريكية»، ودفعت بشريكها «حزب الله» إلى التدخُّل لإنقاذ النظام السوري، وأرسلت مستشاريها لوأد الثورة السورية، وأدخلت سوريا في حرب أهلية بعدما دفعت بمليشياتها إلى ساحة المعركة، في حين دعمت المملكة مطالب الشعب السوري، وقدَّمت الدعم للمعارضة من أجل حل عادل في سوريا، وامتدَّ الصراع إلى لبنان والبحرين واليمن، بعد عام 2011م.
ج. تموضُع إيران في التحالفات الدولية المناهضة للولايات المتحدة: أدَّت الحرب الباردة إلى اقتراب الولايات المتحدة من السعودية، واقتراب إيران من الاتحاد السوفييتي سابقًا وروسيا فيما بعد، الأمر الذي أسهم في تعميق التنافس، ووجود البلدين في محورين دوليين متنافسين. وقد وظَّفت القوى الدولية هذا التنافس/الصراع من أجل ضمان تدفُّق مصالحها، وتعزيز نفوذها في المنطقة، وأدَّى ذلك إلى تشكيل شبكات من التحالفات العابرة للحدود في المنطقة، والاتصال بحلفاء أوسع على الصعيد الدولي. وظهرت تجلِّيات هذه التحالفات في عديد من المجالات والأزمات والقضايا، بما في ذلك لبنان والعراق وسوريا واليمن ولبنان، والخليج العربي، بل امتدَّت هذه التحالفات إلى نطاقات دولية أوسع في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، فضلًا عن وسط وجنوب شرق آسيا، تحت وصف إيران نفسها بـ«قائدة محور المقاومة» على الصعيد الإقليمي. ليس هذا فحسب، فقد طوَّرت إيران علاقاتها مع الصين وروسيا، في إطار خلْق توازُن مع التحالفات المناهضة لها، وقد تطوَّرت ديناميات هذا الحلف، ليصبح ممثِّلًا للقوى الدولية المناهضة للهيمنة الأمريكية، التي تسعى إلى مراجعة النظام الدولي.
ثانيًا: التدافُع وسياسة القوة لصدّ الأطماع
تبنَّت المملكة خيار المواجهة مع إيران وعدم التسامح مع تجاوزاتها، ويمكن تناوُل دوافع ذلك وتأثيره في السياسة الخارجية السعودية وفي إيران، على النحو الآتي:
1. دوافع المواجهة بعد أحداث «الربيع العربي»
بعد اندلاع «ثورات الربيع العربي»، برز عددٌ من التهديدات الرئيسية أمام صانع القرار السعودي، التي كان من أبرزها، تآكُل منظومة الأمن الإقليمي نتيجة حالة الضعف العام، التي انتابت الجسد العربي، وهي الحالة التي بدأت مبكِّرًا بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003م، والتي أفرزت عددًا من التهديدات والمخاطر الجديدة، أبرزها خروج بعض الدول العربية عن منظومة العمل العربي، كالعراق بعد الاحتلال، وسوريا بعد التحالف الإستراتيجي مع إيران عقِب حرب إسرائيل على لبنان في 2006م، ولبنان بعد هيمنة «حزب الله» على السلطة في 2008م، بالإضافة إلى ضعف تأثير منظومات التفاعل الجماعي كجامعة الدول العربية، التي لم تتمكَّن من معالجة أيٍّ من الأزمات، التي شهدتها المنطقة خلال العقدين الأخيرين.. هذا علاوةً على وجود خلافات ضخمة داخل التجمُّعات الإقليمية، الأمر الذي أثَّر في فاعلية العمل والتعاون الجماعي، بما في ذلك الكُتلة الخليجية، التي تقودها السعودية، كذلك جامعة الدول العربية، ومحور الرياض-دمشق-القاهرة، الذي انهار بسقوط سوريا في فخّ إيران، وتراجُع دور بعض القوى الإقليمية الرئيسية، ناهيك بتصاعُد دور الفاعلين من غير الدول واستخدامهم كأدوات لزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، لا سيّما من جانب إيران، وبروز الإرهاب عاملًا لتهديد الاستقرار والأمن وورقة ضغط من جانب القوى الدولية على دول الخليج، والسعودية بالتحديد.
كما دخلت بعض الدول في مربّع الفشل والفوضى، بعد أحداث «الربيع العربي»، وتحوَّلت إلى مصدر تهديد حقيقي ودائم للأمن والاستقرار الإقليمي، وسمَحَ ذلك بالتدخُّل الخارجي وتحوُّل المسرح الإقليمي إلى ساحة لتصفية الخلافات ومسرح للصراع على المصالح والنفوذ بين القوى الدولية والإقليمية الرئيسية، وبات نفوذ المملكة وأمنها في مواجهة تهديدات وتحدِّيات حقيقية، خصوصًا من جهة مكانتها وأمن حدودها وسيادتها الإقليمية.
ليس هذا فحسب، بل لم تجِد السعودية على الصعيد الدولي أيًّا من تحالفاتها قائمة على حالها، فعَلاقاتها مع الولايات المتحدة قد تعرَّضت لتراجُعٍ ملحوظ، في ظل تراجُع مظلَّة الحماية الأمريكية منذ فترة الرئيس السابق باراك أوباما، بل صبَّت مُجمل التحرُّكات الأمريكية في صالح إيران، فالانسحاب الأمريكي من العراق قد تركه لقمةً سائغة لإيران، فوسَّعت وجودها فيه، بل استخدمت إيران العراق منصَّةً لمدّ نفوذها في المحيط الجغرافي للمملكة، كما لم تتبنَّ إدارة أوباما أيّ سياسة واضحة تجاه الأزمات المتفاقمة في المنطقة، سواء في سوريا أو اليمن، فيما تبنَّت نهجًا غريبًا بدعوة دول الخليج للتفاهم مع إيران وفتح حوار معها، ما أعطى مؤشِّرًا على وجود رضا أمريكي بتحرُّكات إيران الإقليمية، التي تضرّ ضررًا بالغًا بأمن واستقرار الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة في المنطقة. وإلى جانب ذلك، عادت روسيا للعِب دور رئيسي في أزمات المنطقة، انطلاقًا من الأزمة السورية. وهذا الدور الروسي أثَّر بصورة رئيسية في التوازنات الإقليمية القائمة، إذا ساعد إيران في تأكيد حضورها ونفوذها من خلال تحالُف إستراتيجي عزَّز نفوذ طهران، حتى عندما تعرَّضت حقول النفط السعودية لهجمات من الحوثيين، حُلفاء إيران، لم تقِف الولايات المتحدة إلى جانب المملكة، بل سحبت بطاريات صواريخها من الأراضي السعودية[9].
وبهذا يمكن القول إنَّ النظام السائد، الذي حقَّقت فيه المملكة العربية السعودية تفوُّقًا مُعترَفًا به قد انهار، ما أدَّى إلى حالة من الارتباك الهائل وعدم اليقين، وأثبت الواقع عدم فاعلية الإستراتيجية القديمة في مواجهة التهديدات المحيطة بالمملكة، خصوصًا من جانب إيران ومليشياتها المنتشرة في المنطقة، التي باتت تهدِّد سُلطة المملكة ومكانتها الإقليمية، خصوصًا أنَّ إيران استغلَّت العوائد المادية والإستراتيجية للاتفاق النووي في 2015م لتعزيز مشروعها الإقليمي، وعزَّزت برنامج الصواريخ الباليستية، وحازت موافقة دولية بتطوير برنامج نووي سِلْمي، ورفْع تدريجي للقيود الدولية، بما في ذلك مبيعات الأسلحة، وحق تخصيب اليورانيوم في المستقبل[10].
في ظل هذه التحدِّيات، بات على المملكة تحقيق عددٍ من الأهداف: أولها حماية أمنها الوطني واستقرارها الداخلي بعدما اقتربت إيران من حدودها الجنوبية، بل وهدَّدت الاستقرار في دول الخليج بمساعدة المحتجِّين في البحرين للانقلاب على النظام الحاكم، ثانيها الدفاع عن مكانتها الإقليمية في ظل تآكُل الهياكل الأمنية التقليدية وتراجُع مظلَّة الحماية الأمريكية، وثالثها التصدِّي لتنامي نفوذ إيران في العالمين العربي والإسلامي ودوائر تقاطُع النفوذ، وأخيرًا، موازنة المساعي الإيرانية في فرْض أجندتها في المنطقة من خلال تطوير مشروعها النووي والدفاعي.
2. أبعاد المواجهة وساحاتها
في مرحلة فارقة من تاريخها، تبنَّت السعودية سياسة حاسمة وحازمة لمواجهة تزايُد نفوذ إيران، وقد كان العامل الأهمّ في بلورة هذا التغيير هو تنصيب الملك سلمان بن عبد العزيز سابع ملوك المملكة العربية السعودية، في 23 يناير 2015م، وكان من أول قراراته تعيين نجله الأمير محمد بن سلمان وزيرًا للدفاع. ومع أنَّه لا يمكن إنكار طابع المواجهة بصورة كلِّية في سياسة السعودية تجاه إيران قبل هذا التاريخ، خصوصًا بعد التدخُّل عبر قوات «درع الجزيرة» في البحرين، لكن المواجهة باتت إستراتيجية هذه المرَّة وأكثر مؤسَّسية، وتوسَّعت كنهج خارجي لمواجهة خطر إيران بصورة لا حياد عنها منذ ذلك الوقت، إذ سخَّرت المملكة عناصر قوّتها الناعمة والصُّلبة للحدّ من تمدُّد إيران ونفوذها في دوائر الاهتمام المشترك، وكان ذلك بمثابة رسالة سعودية واضحة للخارج ولإيران، بأنَّها لن تسمح لإيران بالتدخُّل ونشر الفوضى وعدم الاستقرار في تلك المساحات، التي تعتبرها من أولوياتها القصوى[11].
على سبيل المثال، في سوريا قادت المملكة جهودًا داخل الجامعة العربية وفي المؤسَّسات الدولية، فضلًا عن دعم كبير على الأرض للمعارضة الوطنية السورية، لمواجهة نفوذ إيران المتنامي على هذه الساحة، وكادت أن تُلحِق بإيران هزيمة كبيرة، لولا أنَّ الولايات المتحدة قد سحبت دعمها، لأنَّ ذلك لم يكُن في صالح إسرائيل ولا صالحها، لكن أسهمت الجهود السعودية في ألّا تحظى إيران بانتصار كامل في هذه الساحة، وبات هناك توازُن جمَّد الصراع، وقسَّم سوريا بين النظام والمعارضة.
وفي لبنان، قدَّمت إيران دعمًا ماليًّا وعسكريًّا متزايدًا لـ«حـزب الله» للهيمنة على الساحة اللبنانية كوسيلة لتوسيع انتشارها في الشرق الأوسط وامتلاك ورقة ضغط ضد خصومها، فيما كانت المملكة العربية السعودية تسحب دعمها للحكومة اللبنانية، التي يشارك فيها «حزب الله»، وهو ما أدخل لبنان في دوامة انهيار اقتصادي، وأصبحت العملية السياسية مشلولة، ودخلت الأطراف الداخلية في صراع صفري أخذ لبنان نحو الفشل، وبالتالي أصبح الوضع في لبنان عبئًا متزايدًا على طهران، وعلى «حزب الله»، خصوصًا بعد الاحتجاجات الشعبية المناهضة لهما، التي حمَّلتهما مسؤولة انهيار الأوضاع[12].
على الساحة اليمنية أُطلقت العملية العسكرية «عاصفة الحزم»، وبتحالُف كبير تقوده السعودية، لأنَّ السعوديين باتوا يدركون الخطر المتزايد من احتمال وصول الحوثيين إلى السلطة في بلد حدودي، فضلًا عن وصول نفوذ إيران إلى جنوب شبه الجزيرة العربية. وكانت هذه العملية هي أعنف مواجهة شبه مباشرة مع إيران، التي تدعم الحوثيين بالمال والسلاح والخبراء والمقاتلين، إذ أرسلت المملكة العربية السعودية في عام 2015م عشرات الآلاف من القوّات و100 طائرة حربية إلى اليمن، لمحاولة عكس سيطرة الحوثيين على البلاد، فـ«عاصفة الحزم» التي قادتها السعودية في اليمن عكست عقيدة السعودية الجديدة في السياسة الخارجية[13].
وبينما تبسط إيران، من خلال حلفائها الشيعة، نفوذها على العراق منذ عام 2003م، أضافت السعودية إلى سياساتها التقليدية في العراق، في إطار توجُّهاتها الجديدة، خططًا لزيادة ثقلها في العراق، من خلال إعادة بناء العلاقات مع مختلف الأطراف والقوى، بما في ذلك الشيعة الأقلّ ارتباطًا بإيران، وكذلك عبر الاستثمارات والتعاون الاقتصادي، ومحاولة إعادة العراق إلى محيطه العربي وانتمائه القومي، وهو ما أثمر وضع قيود وحدود أمام نفوذ إيران ونفوذ حلفائها المتنامي على الساحة العراقية.
والحقيقة لم تقتصر إستراتيجية المواجهة على مناطق تقاطع النفوذ المباشرة، بل إنَّها امتدَّت إلى ساحات أبعد، بما في ذلك الدول العربية غير الآسيوية، كدول المغرب العربي، التي التزم أغلبها الموقف السعودي تجاه إيران، خصوصًا بعد عام 2015م. كذلك امتدَّت المواجهة إلى بعض الدول الإفريقية، ومنطقة البحر الأحمر وشرق إفريقيا، فضلًا عن المواجهة في بُلدان آسيا الوسطى والقوقاز، وقد كان لهذه السياسة السعودية تأثير كبير في إيران من جهة إظهار طبيعة تهديداتها لأمن الدول واستقرارها.
ولا يفوت القول إنَّ المملكة استكملت ضغوطها على إيران بإقناع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليجري تغييرات جوهرية على سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران. ففي أول زيارة خارجية له في مايو 2017م، ألقى ترامب خطابًا خلال القمة العربية-الإسلامية-الأمريكية أمام القادة العرب في الرياض، أدان فيه إيران، لـ«نشرها الدمار والفوضى في المنطقة»، كما عقَدَ الطرفان أكبر صفقة أسلحة من نوعها بقيمة 400 مليار دولار، وكان هذا تأكيدًا لتحالُف عميق ودعم إدارة ترامب لجهود المملكة في مواجهة إيران، وقد ظهرت تأثيرات هذا التحالف فيما بعد في الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، وفي تبنِّي إستراتيجية الضغوط القصوى على إيران، التي تركت تحدِّيات واسعة النطاق أمام النظام الإيراني، أبرزها تراجُع شرعية النظام في الداخل، ومواجهته موجات متتالية من الاحتجاجات الشعبية، التي تطالب بتغيير النظام لفشله في الداخل وتبديد موارد البلاد في مشروع خارجي لا طائل منه، وحدَّت العقوبات بصورة كبيرة من المساعدات الإيرانية لمليشياتها في المنطقة. كما تشكَّل تحالُفٌ بحري دولي واسع لحماية الممرّات البحرية، بما في ذلك أمن الخليج ومضيق هرمز، من الهجمات الإيرانية. ولم تغفل المملكة عن تبنِّي إستراتيجية إعلامية وحملة دبلوماسية لمواجهة مشروع إيران في العالمين العربي والإسلامي، بما في ذلك مواجهة السياسات المذهبية، ومواجهة جهود نشر التشيُّع والتغلغُل المذهبي، الذي تعتبره إيران أرضية لمدّ نفوذها في دول العالم الإسلامي، بل وبين المسلمين في مختلف بلدان العالم.
3. نتائج السياسات.. الردع ورفع تكلفة الصراع على إيران
آتت هذه السياسة بعض ثمارها، إذ أدركت إيران أنَّ العداء مع المملكة على هذا النحو تصاحبه تكلفة باهظة، وأنَّه بالفعل أضرَّ بسمعة إيران، وفرَضَ عليها ضغوطًا كبيرة، وجعلها في مواجهة تحاُلف إسلامي بل وتحالفات دولية وإقليمية شديدة التأثير، رُبّما وصلت إلى حد تهديد بقاء النظام وشرعيته في الداخل، فضلًا عن أنَّ المشروع الإيراني في ظل المواجهة السعودية بدأ يواجه الجمود. فعلى الرغم من تغيير هيكل السلطة في العراق، على سبيل المثال، ومنْح الشيعة العراقيين المدعومين من إيران والجماعات الكُردية موطئ قدم قويًّا في هيكل السلطة العراقية، فإن نفوذ إيران المتّسِع بدأ يتآكل، وقوّتها الناعمة تراجعت إلى حدٍّ بعيد، في ظل التركيز السعودي على كشف مخطَّطات إيران وسياساتها التدخُّلية، وهو ما ظهرت مؤشِّراته في الاحتجاجات الشعبية ضد وكلاء إيران في هذه البلدان، وهكذا الحال في سوريا ولبنان واليمن.
بناءً على ذلك، بدأت إيران تُبدي اهتمامها بمحادثة متجدِّدة، من خلال مجموعة متنوِّعة من الرسائل الرمزية العامّة بدأت في مايو عام 2019م، عندما نشر كلُّ من المتحدِّث النووي الإيراني حسين موسويان، من جهة، والباحث والمحلِّل السعودي عبد العزيز صقر، من جهةٍ أخرى، مقالتين، الأولى في صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية في 14 مايو 2019م حملت عنوان «حان الوقت ليتحدَّث قادة السعودية وإيران»، والثانية في صحيفة «الجارديان» البريطانية في 31 يناير 2021م بعنوان «يمكننا الهروب من صراع محصّلته صفر بين إيران والمملكة العربية السعودية-إذا تحرَّكنا الآن»[14]. هذه المقالة الأخيرة تواكبت مع إعلان الخارجية الإيرانية استعدادها لإجراء حوار مع المملكة، وأبدت قطر استعدادها للتوسُّط في هذا الحوار[15]، وخلال هذه الفترة كان عديد من الرسائل، من بينها «مبادرة هرمز للسلام»، التي دعا إليها الرئيس الإيراني حسن روحاني في سبتمبر 2019م، وهي تقوم على مبادئ رئيسية، هي: عدم التدخُّل في شؤون الغير، وعدم الاعتداء، والتزام أمن الطاقة، والاحتكام إلى القانون الدولي، وقد كانت مدفوعة بضغوط داخلية على حكومة روحاني، فضلًا عن الضغوط الخارجية في إطار إستراتيجية الضغوط القصوى[16].
ثالثًا: الدبلوماسية وسياسة التهدئة في إطار رؤية المملكة للشرق الأوسط الجديد
نظرا إلى أنَّ السياسة الخارجية السعودية أصبحت أكثر تفاعلية وذات طابع استباقي وعملي، فإنَّها بدلًا عن التصعيد الشامل، الذي تابعته مع إيران منذ تصاعُد دور إيران بعد أحداث «الربيع العربي» حتى 2020م، فإنَّها قد بدأت استكشاف فُرص الحوار والدبلوماسية. يمكن تناول هذا الخيار، من خلال ما يأتي:
1. بيئة جديدة محفِّزة للحوار والتعاون بدلًا عن التصعيد
كانت الدوافع الرئيسية وراء هذا التحوُّل الجديد والنوعي مرتبطة بعوامل داخلية وأخرى خارجية. فعلى الصعيد الدولي، أدركت الرياض أنَّه لا يمكن لها الاعتماد على دعم الولايات المتحدة ووجودها في المعادلة الإقليمية، وأنَّه يجب عليها أن تتولَّى زمام المبادرة الإقليمية، وأن تُعيد تقييم علاقاتها مع واشنطن، وأن تراجِع موقفها من حرب اليمن، التي تزايدت تكلفتها على المملكة بصورة كبيرة، خصوصًا بعد هجمات 14 سبتمبر 2019م على منشآت «آرامكو»، ومن الاتفاق النووي، لا سيّما بعدما خسِرَ الجمهوريون الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، وجاءت إدارة ديمقراطية برئاسة جو بايدن، وتوقَّف التنسيق رفيع المستوى بين السعودية والولايات المتحدة بشأن إيران، وبدأت حملة الضغوط الأمريكية القصوى على إيران تتآكل، في ظل عودة بايدن إلى متابعة مسار الدبلوماسية مع إيران لإحياء الاتفاق النووي، مع التغاضي عن المحاذير السعودية بشأن تأثير هذه السياسة الجديدة في المنطقة[17].
أمّا إقليميًّا، فقد ظهر أنَّ سياسات القوة قد نجحت في وضع حدٍّ لطموحات إيران وتطلُّعاتها، بل فرضت المواجهة تحدِّيات أمام النظام، سواء على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الدولي، وعزَّز ذلك وجهة النظر بأنَّ الاستمرار في الصراع لا طائل منه، وأنَّ النزاع وصل إلى نقطة توازُن لن يستطيع معها أيّ طرف أن يحقِّق انتصارًا حاسمًا، وسيظل الجمود والاستنزاف هو سِمة الصراعات، التي يشتبك فيها الطرفان، فدول العراق وسوريا ولبنان تواجه فشلًا مزمنًا تحت وطأة الحرب الإقليمية الباردة والتدخُّلات من جانب القوى الدولية، كما أدرك صانع القرار السعودي أنَّه دون التهدئة وإعادة النظر في السياسات من الصعب وقْف التأثير المدمِّر للتنافس وضمان استدامة المصالح، بل على العكس ستؤدِّي المواجهة إلى مزيد من استنزاف الموارد، واستغلال الخصوم لهذا العداء، وتغيير مجريات الصراع في المنطقة.
وأخيرًا على الصعيد المحلِّي، باتت المملكة تدرك، في ظل رؤية 2030، التكلفة الكبيرة والفرص الضائعة نتيجة المواجهة، ومن ثمَّ طرحت رؤيتها للتهدئة والحوار لتوظيف الموارد لإنجاز الازدهار الداخلي، إذ حقَّقت المملكة خلال السنوات الأخيرة في إطار هذه الرؤية تقدُّمًا مهمًّا على الأصعدة كافة، إذ أصبحت من أسرع الاقتصادات نموًّا في العالم، واحتلَّت المرتبة 15 بين أكبر اقتصادات العالم، وتنامى لأوّل مرَّة في تاريخها ناتجها المحلِّي الإجمالي إلى تريليون دولار، وتتطلَّع إلى أن تصبح بحلول 2030م ضمن أكبر عشرة اقتصادات في العالم[18]. وبينما كانت المملكة تتطلَّع إلى تنفيذ «رؤية 2030» الطموحة، فإنَّ جائحة كورونا تركت تأثيرًا كبيرًا في الاقتصاد، إذ واجهت السعودية تحدِّيًا فيما يتعلَّق بانخفاض الاحتياطي الأجنبي، حينما أدَّى انكماش الاقتصاد العالمي إلى انخفاض كبير في الطلب على النفط. ليس هذا فحسب، بل إنَّ الاستقرار الداخلي في المملكة ووضع «رؤية 2030» موضع التنفيذ يتطلَّب أجواء هادئة في المنطقة، بما في ذلك تخفيف حدَّة التوتُّرات مع إيران[19].
2. ركائز خارجية جديدة في إطار «رؤية 2030»
في إطار «رؤية 2030»، اتّجهت بوصلة السياسة الخارجية نحو العمل على وضع حد للنزاعات، ودفع القوى الإقليمية نحو التنمية والتعاون بدلًا عن الفوضى والفشل، وذلك ضمن «رؤية 2030»، التي جاءت استكمالًا لتغيُّر نهج السعودية على الصعيد الخارجي، ورؤيتها الجديدة للشرق الأوسط[20]، وقد تمحورت وجهة النظر السعودية حول عدد من الركائز:
الأولى: السعي إلى تحقيق الاستقرار وخفْض التوتُّرات الإقليمية، وهو الذي تجلَّى في مسار خفْض التوتُّر مع طهران واستعادة العلاقات الدبلوماسية، بل دعوة الرئيس الإيراني إلى زيارة المملكة بعد توقيع الاتفاق السعودي-الإيراني في بكين، في مارس 2023م. وكذلك الاستعداد لمرحلة جديدة من العلاقات أعادت سوريا إلى محيطها العربي، من خلال القمّة العربية، التي انعقدت برئاسة المملكة في مدينة جدة في 19 مايو 2023م، فضلًا عن الوساطة وغيرها من الأدوار التقليدية للمملكة، كما هو الحال في الوساطة بين الفُرقاء السودانيين لإخراج السودان من أزمته الراهنة، وغيرها من الجهود من أجل نزع فتيل الأزمات ودفع مسار السلام قُدُمًا.
والثانية: تنويع الشراكة مع القوى الدولية وإعادة التموضُع في ظل التحوُّلات التي يشهدها النظام الدولي، إذ عزَّزت المملكة علاقاتها مع القوى الآسيوية، خصوصًا الصين، فعلى مدى السنوات القليلة الماضية، دمجت الصين مبادرة «الحزام والطريق» في إستراتيجيات التنمية الوطنية لدول مجلس التعاون الخليجي، مثل رؤية المملكة العربية السعودية 2030، وتسارع هذا الاتّجاه في عام 2022م، حينما برزت المملكة العربية السعودية باعتبارها ثاني أكبر متلقٍّ للاستثمار الصيني في مبادرة «الحزام والطريق» عالميًّا.[21] كما حرصت على الحصول على عضوية بعض المنظِّمات متعدِّدة الأطراف، كمنظَّمة شنغهاي للتعاون ومنظَّمة بريكس. ولا يعني ذلك أنَّ السعودية في طريقها إلى قطيعة مع الغرب، لكنّها تحاول إثبات نفسها كقوّة دولية جديدة صاعدة، ضمن نظام عالمي قيد التشكُّل، استنادًا إلى تنامي التأثير الجيو-سياسي وحرِّية الحركة المتاحة لها، وممارسة سياسة خارجية واقعية نتيجة التحرُّر من الانتماءات والإملاءات الأيديولوجية، والاحتفاظ بسياسة غير منُحازة إلى أيٍّ من القوى الدولية المتصارعة، بل توظيفها الصراع الراهن في المناورة وتعزيز المكانة والتأثير، والتحوُّل إلى مركز قوّة عالمي جديد من منطلق المكانة الاقتصادية وتزايُد أهمِّية النفط في ظل الديناميات الدولية الراهنة. لقد ظهر تأثير المملكة، في هذا الإطار، في موقفها من الأزمة الأوكرانية، خصوصًا المبادرة الخاصَّة بها لتسوية الصراع، وسياساتها النفطية الأكثر ارتباطًا بمصلحتها الوطنية، بعيدًا عن الضغوط الأمريكية[22].
الثالثة: بناء النموذج وتقديم المبادرات لوضع المنطقة على طريق الازدهار والرخاء، إذ تقدِّم المملكة نموذجًا رائدًا في التنمية والتحوُّل إلى مركز قوّة سياسي، ومركز جذب للاستثمارات ومجتمع الأعمال العالمي. ولن تتمكَّن المملكة من تحقيق رؤيتها إلّا من خلال وجود بيئة إقليمية مستقرَّة، لهذا لا تتوَّقف الرؤية السعودية عند تسوية الأزمات، بل تدفع بلدان المنطقة نحو البدائل الآمنة للعبور نحو المستقبل. فالمملكة ترى أنَّ نمو الأسواق ونمو اقتصادات الدول يتيح الفرص لتنفيذ رؤية المملكة، والعكس، وهي لديها الاستعداد للتعاون لإنجاز هذا الهدف، الذي سيربح فيه الجميع، في إطار من المنافسة الخلّاقة، بدلًا عن الفوضى المدمِّرة. وعلى سبيل المثال، كانت مبادراتها للشرق الأوسط الأخضر أكبر من مجرَّد تعاطٍ مع أزمة مُناخية، بل مضمون المبادرة هو تجهيز المنطقة لمرحلة ما بعد النفط، وهي رؤية متقدِّمة تهدف المملكة من خلالها لتكون المنطقة في المستقبل موردًا للطاقة المتجدِّدة للعالم، كما كانت موردًا للنفط.
3. الدبلوماسية واختبار نهج التهدئة مع إيران
لم تكُن السعودية تتبنَّى معركة صفرية مع إيران، بل كان على رأس أولوياتها أن تقود هذه المواجهة الطرف المقابل إلى تغيير سلوكه، لهذا لم يتردَّد الأمير محمد بن سلمان في دعوة إيران في يوليو 2022م، «باعتبارها دولة جارة، إلى التعاون مع دول المنطقة، لتكون جزءًا من هذه الرؤية (السعودية للشرق الأوسط)، من خلال التزام مبادئ الشرعية الدولية، وعدم التدخُّل في شؤون الدول الأخرى، والتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية»[23]. إضافةً إلى المبادرة السعودية، قادت تطوُّرات الأوضاع إلى مشاورات بين الرياض وطهران بدأت في أبريل 2021م برعاية العراق، وعكست التصريحات المتبادلة الرغبة في المُضي قُدُمًا في حلحلة الخلافات، إذ قال ولي العهد السعودي إنَّ حكومته تسعى إلى إقامة «علاقات حسنة» مع إيران، و«إنَّنا نعمل مع شركائنا في المنطقة للتغلُّب على خلافاتنا مع إيران». وقد لقِيَت تلك الدعوات صدىً لدى الإيرانيين، إذ قال أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني: «إنَّ حضور إيران الفاعل في المحادثات الثنائية مع السعودية، التي تستضيفها العراق، ينطلق من إستراتيجية الجمهورية المبدئية في مجال التعاون والصداقة مع جيرانها»[24] وعبَّر وزير الخارجية الإيراني، حينذاك، محمد جواد ظريف، عن «استعداد الجمهورية الإسلامية الإيرانية الدائم للعلاقات مع السعودية إنْ قرَّرت هي ذلك أيضًا»[25].
وفي تحوُّل مهم يجسِّد حدود التغيير في ميزان القوة الإقليمي، مهَّدت هذه الجولات الطريق أمام الصين للعِب دور فعّال في إنجاز اتفاق بين الطرفين في العاشر من مارس 2023م، وهو الاتفاق الذي بموجبه تعهَّد الجانبان السعودي والإيراني بعدم التدخُّل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام سيادة الدول، وحُسن الجوار بين دول المنطقة، واستعاد البَلَدان العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ عام 2015م. كما تضمَّن الاتفاق إجراءات بشأن إعادة العلاقات الدبلوماسية، وقد بعث هذا الاتفاق التفاؤل إقليميًّا ودوليًّا، لأنَّه يُعوَّل عليه في أن يُحدث تأثيرًا مُهمًّا على صعيد العلاقات الثنائية، وعلى صعيد الأمن والاستقرار الإقليمي، بعد أكثر من عقد من الاضطراب والفوضى.
لا شكَّ في أنَّ العقيدة السعودية الخارجية الجديدة كانت فعّالة في تحويل مجرى العلاقات الإيرانية من القطيعة والصراع إلى استئناف العلاقات واستكشاف فرص تهدئة التوتُّرات والخلافات البينية. على مستوى العلاقات الثنائية، استعاد الطرفان العَلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ عام 2016م، وجرى الاتفاق على إحياء الاتفاقيات الثنائية السابقة، مثل اتفاقية الأمن والتعاون لعام 2001م، التي تعاملت مع غسْل الأموال ومحاربة الإرهاب، واتفاقية التعاون الاقتصادي، فضلًا عن تعهُّدات متبادلة بالتوقُّف عن التدخُّل في الشؤون الداخلية لبعضهما.
كما أنَّ مكانة الصين أسهمت في التأثير في الطرفين لتوقيع الاتفاق، وفتحت الأُفق لوضع حدٍّ للتصعيد بينهما، كما أنَّ الوساطة وضعت حدًّا للمفاوضات، التي خاضها البلدان على مدى عامين. لكن لا تزال تأثيرات الوساطة الصينية وتأثيرها في فاعلية الاتفاق السعودي-الإيراني محل اختبار، فبحسب وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، فإنَّ الاتفاق «لا يعني حل الخلافات القائمة بين البلدين، إنَّما يعكس الرغبة في الحوار والتهدئة وانتهاج مسار تسوية الخلافات سِلْميًا». مع ذلك، فقد كان للاتفاق صدىً داخلي كبير في البلدين، كما لقِيَ تأييدًا ودعمًا إقليميًّا ودوليًّا ملحوظًا، وهذا التأييد شمِلَ القوى الحليفة للسعودية، وكذلك القوى المحسوبة على إيران، وهو ما يوفِّر بيئة مناسبة لأن تأخُذ التفاهمات السعودية-الإيرانية مجراها، إذا ما صدقت النيَّات.
رابعًا: مردود السياسات على البلدين
من خلال سياسات تراوحت بين القوة والدبلوماسية، يمكن ملاحظة مردود السياسة الخارجية السعودية على مستويات عدَّة:
1. سياسة خارجية سعودية نشِطة «المملكة كمحفِّز للاستقرار الإقليمي»
في السابق، اتّسمت السياسة الخارجية السعودية بأنَّها كانت محافظة للغاية، إذ سعت في الغالب إلى التأثير في العالم الإسلامي والعالم العربي من خلال القوّة الناعمة والمساعدات الاقتصادية. لكن حاليًّا تغيَّرت سِمات السياسة الخارجية السعودية، وأصبحت ذات طابع استباقي تشارُكي حاسم، كما اتّسمت بالمرونة والتكيُّف، بحسب مستوى التهديد أو الخطر، فيما يمكن أن نسمِّيه «العقيدة السعودية الخارجية الجديدة»[26].
وقد عُدَّ تنشيط السياسة الإقليمية لاستعادة الدور وتأكيد النفوذ أبرز سِمات هذه الإستراتيجية، إذ اتّجهت المملكة إلى مواجهة التهديدات، بما فيها تهديد إيران، في أكثر النقاط صراعًا وحسمًا في الشرق الأوسط، وصوَّرت هذه الإستراتيجية السعودية محفِّزًا للاستقرار الإقليمي. وبالتوازي مع ذلك، لم تتخلَّ المملكة عن دورها التقليدي وسيطًا في عديد من النزاعات الإقليمية، في إطار مؤسَّسي، وغالبًا مع ضجَّة أقلّ وأكثر حذرًا، مقارنةً بوساطات إقليمية أخرى.
بالإضافة إلى ذلك، أوضحت هذه الإستراتيجية إلى أيّ مدى يمكن للمملكة الانخراط في مواجهة واسعة النطاق، تشمل جبهات متعدِّدة في آنٍ، من خلال أدوات مختلفة اقتصادية وعسكرية وسياسية ودبلوماسية ودينية، حتى إنَّ المواجهة وصلت إلى مناطق جغرافية أبعد، في إفريقيا ووسط آسيا. وقد أدَّت هذه السياسة بدورها إلى مراجعات دولية مهمَّة لعلاقات بعض الدول مع إيران، كالمغرب وموريتانيا وجزر القمر والسودان وبعض دول غرب إفريقيا، والصين وروسيا مؤخَّرًا، كما ظهر في موقفهما من مسألة الجزر الثلاث محل النزاع بين الإمارات وإيران.
والحقيقة لم يسبق للمملكة أن تحمَّلت شبه منفردة عبء الانخراط في صراعات وأزمات مع إيران، على هذا النحو وبهذه الصورة المباشرة، في رسالة واضحة أنَّ أيّ قضية تتطلَّب مشاركة المملكة، فإنَّها ستكون حاضرة بأدواتها لتأكيد نفوذها، حتى إنَّ المملكة لم تستبعد نقل معركتها إلى داخل حدود من يستهدف سيادتها وأمنها، في رسالة بالغة التعبير عن حدود التغيير في نهج السعودية الخارجي.
علاوةً على ذلك، كانت المملكة حريصة على أن تكون تحرُّكاتها ضمن أُطُر تشارُكية جديدة وإجماع دولي أو إقليمي. ومن هُنا، ظهر للعلن التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، وتحالُف دعم الشرعية في اليمن، وتحوُّل المملكة إلى قِبلة إقليمية ودولية، إذ استضافت عديدًا من القِمَم والاجتماعات المهمَّة، بما في ذلك القمّة الصينية-الخليجية، والصينية-العربية، والقمّة الخليجية بدول آسيا الوسطى، وغيرها من المبادرات والاجتماعات. وهذه المحاولات عكست في مضمونها حيوية واستعدادًا للتكيُّف مع المتغيِّرات، واختبار أدوات وآليات متعدِّدة لمواجهة الأزمات، والأهمّ أنَّ هذه التحركُّات كانت تأكيدًا لدور المملكة باعتبارها قائدًا إقليميًّا يمتلك الشجاعة والجرأة في تجاوز الأُسُس، التي استقرَّت عليها الدبلوماسية السعودية في المنطقة، والأهمّ امتلاك الإمكانات لمنح هذه الهياكل والمؤسَّسات الزخْم والدعم المطلوب لتنفيذ مهامها.
وفضلًا عن ذلك، وفي تحُّول جوهري للسياسة الخارجية السعودية، التي لم يُعهد عليها استخدام القوّة العسكرية إلا في حدود ضيِّقة، لجأت السعودية من أجل حماية أمنها ومصالحها إلى القوّة العسكرية، وتحمُّل عبء ذلك دون مساعدة كافية لأوّل مرة من الولايات المتحدة، أو حتى بعض أقرب حلفائها الإقليميين، وخصوصية العملية العسكرية في اليمن، هي أنَّ السعودية قررت استخدام قوّاتها الصُّلبة كعنصر آخر في سياستها الخارجية.
في الوقت نفسه، اتّضح أنَّ صانع القرار السعودي لديه براغماتية ومرونة كبيرتان تجاه تكييف السياسة الخارجية، وفقًا للمتطلَّبات والأولويات والمصالح الرئيسية. فعلى الرغم من تبنِّي المواجهة كإستراتيجية للتصدِّي للتحدِّيات، فإنَّها في الوقت نفسه لم تتغاضَ عن خِيار الحوار والتهدئة، فرسالة المملكة الأساسية إلى إيران تحديدًا، والتي أكدها ولي العهد، أنَّه ليس للمملكة مشكلة مع الشعب الإيراني، أو مع إيران كقوّة إقليمية لها تطلُّعاتها ومصالحها، لكن المشكلة كانت مع النظام، الذي تهيمن الأيديولوجيا على توجُّهاته الخارجية، وأنَّه من الممكن إدارة التنافس بدلًا عن تأجيج الصراع.
ويبدو أنَّ التزام السعودية خارجيًّا تهدئة التوتُّرات مدفوع بتغيُّرات داخلية، في إطار مشروع انتقال نوعي على الأصعدة السياسة والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافَّة، وفي مضمونها عكست هذه التغييرات نزعة لتنويع الشراكات، التي أصبحت سِمة مهمَّة وعنوانًا لتغيير جوهري في سياسة المملكة، إذ باتت أكثر إلحاحًا بعد حالة البرود، التي باتت عليها علاقة السعودية بالولايات المتحدة. وهكذا يتّضِح أنَّ السعودية لم تعُد تشعر بأنَّها مقيَّدة بأجندة واشنطن الدبلوماسية، في المنطقة والعالم[27]، وليس أدلَّ على ذلك من الخلافات التي نشبت على خلفية رفض المملكة الضغوط الأمريكية بعدم دعم قرار «أوبك بلس» بخفض إنتاج النفط، وكذلك تطوير العلاقات الإستراتيجية مع الصين، وهذه العوامل بلا شكَّ حفَّزت إيران على الانخراط في الحوار مع السعودية، إذ إنَّ هناك فرصة لفكّ الارتباط الأمريكي-السعودي فيما يتعلَّق بإيران، وتغيير هيكل التحالفات الإقليمية، التي هدفها عزْل إيران وإضعافها[28].
أخيرًا ثبت أنَّ المملكة مستعدَّة لأن تنهض بعبء القيادة الإقليمية، وأن تلعب هذا الدور دون غطاء من أيّ قوّة دولية، فيما يمكن وصفه بسياسة «الاعتماد على الذات»، وهذا ظهر في اتّجاه السعودية لتعزيز قُدراتها العسكرية، واعتماد أقلّ على مظلَّة الحماية الأمريكية. ويشير تطوُّر الميزانية العسكرية للمملكة خلال السنوات الأخيرة إلى هذا التوجُّه، فبحسب معهد ستوكهولم للسلام، احتلَّت المملكة في عام 2015م المركز الثالث من حيث الإنفاق العسكري بعد الولايات المتحدة والصين، وظلَّت ضمن العشرة الأكثر إنفاقًا منذ ذلك الحين، حتى إنَّها في عام 2023م احتلَّت المركز الخامس، وذلك على الرغم من الصراع الدائر في أوروبا، وما تبِعه من إنفاق عسكري هائل من جانب الدول المُنخرِطة في الحرب. وبعكس الاعتماد على استيراد الأسلحة المتطوِّرة من الولايات المتحدة، سعت المملكة إلى تنويع مصادر السلاح وتبنِّي إستراتيجية لتوطين الصناعات العسكرية، وتصدير جزء من أسلحتها إلى دول أخرى[29]. هذا الواقع منَحَ المملكة سُلطة إقليمية وقيادة مُستحَقَّة على المستوى الإقليمي والدولي، بل بات دورها في هذا الصدد يلقى قبولًا بوصفه موثوقًا ويتمتَّع بالمصداقية.
ومع ذلك، لا يعني متابعة نهْج الدبلوماسية كبديل أنَّ المملكة تخلَّت على غير إرادتها عن نهج مقاومة مشروع إيران، بل إنَّها تمنح للتعاون فرصة من أجل تحقيق الاستقرار الإقليمي، من خلال تحييد بعض الملفّات، وهذا بدوره يعزِّز مكانة المملكة ودورها كقائد إقليمي، وهو دور تتطلَّع إليه المملكة في ظل رؤية 2023. وقد ثبت بالفعل أنَّ مزيجًا من سياسات القوّة والدبلوماسية قد جعل من المملكة مُوازِنًا إقليميًّا قادرًا على ردع التهديدات، وقِبلة إقليمية، ومركز ثقل وازِنًا في التفاعلات كافّة، ويشهد بذلك عديدٌ من المؤتمرات واللقاءات والاجتماعات، التي استضافتها المملكة، والتحالفات التي تحاول بناءها خلال الفترة الأخيرة، ولا شكَّ في أنَّ كل هذا كانت له تأثيراته في موقف إيران لمراجعة سياساتها تجاه المملكة.
2. تغيير المُدرَكات والصور النمطية حول القوّتين المتنافستين
أسهمت سياسة المملكة في تحسين صورتها إقليميًّا ودوليًّا، بحسب عديد من استطلاعات الرأي، كاستطلاع مؤسَّسة «جالوب». ولا يعود ذلك إلى التغييرات، التي تقودها المملكة في الداخل فحسب، وكونها أكبر داعم اقتصادي لدول العالم الإسلامي، لكن أيضًا بحسبانها قوّة استقرار إقليمي، بل وقوّة صاعدة أكثر استقلالًا عن ضغوط القوى الكبرى، والدلالة هُنا أنَّ السعودية تفوَّقت على إيران في هذه الاستطلاعات، وهو ما يعني أنَّ المملكة لا تزال تحظى بشعبية كبيرة، فيما أسهمت تدخُّلات إيران ودورها المناهض للسعودية باعتبارها قائدًا للعالم الإسلامي في التأثير سلبًا على سُمعتها الإقليمية، وعلى مستوى العالم الإسلامي، وربما قاد تراجُع قوّة إيران الناعمة إلى مراجعة سياساتها تجاه المملكة[30].
نتائج استطلاع مؤسَّسة جالوب يوضِّح مدى قبول قيادة السعودية وإيران في بعض الدول
Source: https://bit.ly/3rmUGxf
لقد قادت سياسة المملكة إلى مقارنة مُحرِجة للنظام الإيراني، على صعيد المكانة الاقتصادية، وتعزيز الهوية الوطنية، وصناعة السلام الإقليمي، إذ تعزِّز المبادرات الاقتصادية للسعودية مكانتها، وتمنحها نفوذًا إقليميًّا ودوليًّا، بينما تقود سياسات النظام الإيراني البلاد في إيران إلى العُزلة والعقوبات والاضطرابات الداخلية. فبينما كانت إيران تواجه عُزلة دولية وعقوبات وضغوطًا قصوى، كان المجتمع الدولي مستعدًّا لقبول المملكة ضمن «مجموعة العشرين»، حتى باتت النُّخَب والجماهير في إيران تنظُر إلى السياسة السعودية على أنَّها رائدة، وأنَّها نجحت في توطين التحديث والتطوُّر، الذي ظهر على سبيل المثال في المقارنة بين تعاطي حكومتي البلدين مع أزمة كورونا، وما تركته من أثر كارثي داخل إيران، في حين نالت المملكة إشادة دولية في التعامل مع الأزمة. وكذلك على مستوى الشراكات والتحالفات الدولية، إذ تتحرَّك إيران في إطار ما يمكن تسميته بـ«تحالف الضعفاء»، فيما أصبحت المملكة قِبلة ومركزًا نشِطًا للسياسات الإقليمية والدولية، وفاعلًا مؤثِّرًا في السياسات العالمية، حتى إنَّها باتت تخصم من رصيد طهران لدى بعض حلفائها، كالصين وروسيا، اللتين باتتا تتبنّيان بعض وجهات نظر السعودية ودول الخليج في بعض القضايا الخلافية الحسّاسة مع إيران، كما جرى في موقفهما المتماشي مع موقف دول الخليج العربي من الجزر الثلاث المحتلَّة في الخليج العربي من جانب إيران. ففي مرحلة حاسمة يمُرُّ بها النظام الدولي، تمكَّنت المملكة من إعادة التموضُع، وبات الجميع ينظر إليها باعتبارها القوّة الإقليمية الأكثر أهمِّية وتأثيرًا ونفوذًا والأكثر حرصًا على تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي.
3. الاستيعاب وتعزيز الفُرص أمام إيران
كان لنهج السعودية بمتابعة سياسة تجمع بين الاستيعاب والإقناع، كلَّما كان ذلك ممكنًا، مع عدم التخلِّي عن القوّة والإكراه إذا اقتضت المصالح ذلك، مردودٌ في دفع إيران نحو مراجعة مواقفها وسلوكها العدائي تجاه المملكة. لقد كانت المواجهة فعّالة في تحقيق ردْع وتوازُن إستراتيجيين مع إيران، وإيصال رسالة واضحة مفادها أنَّ المملكة تتغيَّر ولن تدّخِر جهدًا في مواجهة مشروع إيران الإقليمي، إذا استلزم الأمر، إذ كانت إيران تعتقد أنَّ السعودية تفتقر إلى القُدرات اللازمة لحماية نفسها دون مساعدة الولايات المتحدة. ولا شكَّ في أنَّ هذا التغيير أسهم في إعادة تشكيل هذه الصورة النمطية، بل بات يُنظَر إلى التحوُّلات، التي تشهدها المملكة، داخل إيران باندهاش، ورُبّما بإعجاب داخل إيران نفسها، إذ تقود المملكة مبادرات خلّاقة في المنطقة، وتحقق نجاحات وقفزات فيما يتعلَّق بالنمو الاقتصادي، وتنويع الأنشطة، فيما أصبح الاقتصاد الإيراني أسير هيمنة الأيديولوجيا ومشروع الهيمنة الإقليمية.
ولا شكَّ في أنَّ تطبيع العلاقات الإيرانية مع المملكة يساعد في الحد من العُزلة الدولية، التي خلقتها العقوبات المفروضة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تجاه إيران، وسيكون لذلك مردود على الأوضاع الاقتصادية المتأزِّمة في الداخل. إذ قد يسهم الاتفاق في تهدئة التوتُّرات الداخلية، ومنح النظام شريان حياة لترميم شرعيته، التي كانت قد تآكلت إلى حدٍّ بعيد في ظل الاحتجاجات الشعبية بعد مقتل الشابة مهسا أميني على يد «شرطة الأخلاق». ويعزِّز الاتفاق كذلك من فُرص إدماج إيران في منظَّمتي شنغهاي وبريكس، إذ ستتلقَّى دعمًا من الصين من أجل مساعدتها على مواجهة العقوبات الغربية المتزايدة، ويوفِّر لها الاتفاق الأرضية لشراكة أمتن مع الصين، سينعكس أثرها على المفاوضات النووية، التي تخوضها إيران مع القوى الغربية.
وبما أنَّ المنطقة قد شهِدَت خلال السنوات الأخيرة ترتيبات أمنية من جانب الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، ارتكزت على أساس المواجهة مع إيران، بما في ذلك الترتيبات القديمة والانتشار العسكري الأمريكي التقليدي أو محاولة إنشاء «ناتو عربي» لمواجهة إيران، فضلًا عن عديدٍ من صِيَغ التعاون بشأن حماية الملاحة البحرية في الخليج العربي، وكذلك الترتيبات الأمريكية الجديدة بخلق هيكل أمني إقليمي بمشاركة إسرائيل، فإنَّ الانفتاح السعودي على الحوار مع إيران يتيح المجال أمام واقع جديد في المنطقة، إذ تصاحب الاتفاق تهدئة وخفْض لمستوى التصعيد، وتفاهمات بشأن عدد من قضايا الأمن الإقليمي، كما أنَّه رُبّما يقطع الطريق أمام أيّ ترتيب أمني إقليمي يضُمّ إسرائيل ويكون هدفه مواجهة إيران، بالإضافة إلى ذلك، سيخفض التوقُّعات بشأن توسيع اتفاقيات «إبراهام»، ويؤثِّر في تطبيع العلاقات الخليجية-الإسرائيلية، وما كانت إيران لتطرح مبادرتها بتعاون بحري خليجي دون أجواء الانفتاح، التي قادتها السعودية[31].
ويبدو حتى الآن أنَّ السعودية لا ترى أيّ مصلحة في أن تكون في جبهة مع إسرائيل مناهضة لإيران، وهذا ينسجم مع سياسة المملكة تجاه المنطقة، فلا توجد رغبة لدى صانع القرار السعودي في تقسيم المنطقة إلى محاور متصارِعة، لأنَّ ذلك يعرقل مشروع المملكة التنموي، ويستنزف جهودها في صراع لا طائل منه، بل تستغلّه القوى الكبرى من أجل استمرار تأزُّم المنطقة وضمان تدفُّق مصالحها. ولعلَّ هذا ما جعل المملكة، حتّى في ظل اشتعال المواجهة، ترحِّب بأيّ جهود من شأنها أن تحدّ من التوتُّرات، وكان شرط المملكة هو إظهار إيران حُسن نياتها وتغيير سلوكها، بأن تتحرَّك المنطقة من مربّع الأزمات إلى مربّع الاستقرار[32].
كما تُعقِّد الانفراجة في العلاقات السعودية-الإيرانية مقاربة واشنطن الدبلوماسية لمعالجة برنامج إيران النووي، فالضغوط الأمريكية تتراجع، بينما تنمو علاقات إيران مع جيرانها في الخليج، وهذا يُفقد الضغوط الأمريكية بعض تأثيرها، ويمنح إيران مزيدًا من أوراق الضغط على طاولة المفاوضات. على سبيل المثال، تسعى الإمارات العربية المتحدة إلى زيادة التجارة مع إيران، ووفقًا لمسؤول إماراتي، فهي تتفوَّق على الصين باعتبارها الشريك التجاري الأول لإيران. ويُشار هُنا إلى ما قاله وزير المالية السعودي محمد الجدعان بعد فترة وجيزة من إعلان اتفاق التطبيع، «يوجد كثير من الفرص للاستثمارات السعودية في إيران»، إذ زار وزير الشؤون الاقتصادية والمالية الإيراني إحسان خاندوزي الرياض في مايو 2023م لمناقشة توسيع الروابط الاقتصادية[33].
وبعد التطوُّرات الراهنة في العلاقات الإيرانية-السعودية، فإنَّ الضغوط، التي كانت تمارسها الرياض على الولايات المتحدة والقوى المشاركة في الاتفاق النووي، ستتراجع، بما في ذلك المطالب السعودية والخليجية بضرورة إدماج بعض القضايا الأخرى في المفاوضات، وهي: سلوك إيران الإقليمي وبرنامجها الصاروخي، إذ «إنَّ هذه القضايا كانت أحد أسباب عرقلة المفاوضات، بحسب ما أقرَّ وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف بقوله: (حصلت إيران على مسوَّدة اتفاقية تتجاوز خطَّة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015م مع 4+1… لكن كانت أوروبا تصرّ بشدَّة على إدماج القضايا الإقليمية في المفاوضات)، رُبّما تكون الولايات المتحدة ومعها بقية شركاء الاتفاق النووي قد تحرَّروا من بعض هذه الضغوط، عند أي مفاوضات قادمة»[34].
4. خلْق أُفُق لشرق أوسط جديد
عانى الشرق الأوسط من التنافس الإقليمي واسع النطاق، الذي تجلَّت آثاره في بؤر الصراع الساخنة في اليمن وسوريا، وعدم الاستقرار في العراق ولبنان، ولا شكَّ في أنَّ زيادة الحوار والتعاون بين المملكة العربية السعودية وإيران بدلًا عن المواجهة من شأنه أن يضع حدًّا للأزمات، لكن على الرغم من بعض التقدُّم، لا تزال هذه المقاربة قيْد الاختبار[35].
رُبّما يكون اليمن هو القضية الأكثر تأثُّرًا بالسياسة السعودية، فبعد أكثر من عشر سنوات من المواجهة، أصبح من الواضح أنَّ إنهاء الحرب في اليمن أولوية للجانبين السعودي والإيراني، ليس للضغوط السعودية على هذه الساحة فحسب، ولكن لأنَّ المملكة اعتبرتها قضية معيارية في نجاح سياساتها الخارجية، وشرطًا لقبول أيّ تفاهمات مع إيران. ومن جانبها، فإنَّ إيران وفي ظل الضغوط والعقوبات والعُزلة والاحتجاجات الداخلية المناهضة للتدخُّل الخارجي، فإنَّها لم تعُد قادرة على تقديم الدعم اللازم للحوثيين للاستمرار في الحرب، كما أنَّ تهدئة التوتُّر في هذه الساحة قد يصُبّ في صالح طهران، لأنَّ علاقة طهران بالحوثيين بعيدة نسبيًّا مقارنةً بالعلاقات الخاصة مع جماعات كـ«حزب الله» في لبنان أو «قوات الحشد الشعبي» الموالية لإيران في العراق. وبالتالي، يمكن معالجة الصراع الأكثر استعصاءً، وتمهيد الطريق نحو الدبلوماسية. يُعتبر اليمن أقرب المرشَّحين لتأثيرات الاتفاق، بوصفه أكثر بؤر تقاطع المصالح توتُّرًا خلال السنوات الأخيرة، فالتقارب قد يحدّ من تهريب الأسلحة إلى الحوثيين في اليمن، ويزيد الضغط على المتمرِّدين بعد ثماني سنوات من الحرب الشاقة، وهو ما قد يزيد الضغط على الحوثيين لوقف اعتداءاتهم المتكرِّرة على الأراضي ومنشآت النفط السعودية. وأكد مندوب إيران الدائم لدى الأمم المتحدة «أنَّ الاتفاق بين إيران والسعودية سيساعد في تحقيق هُدنة في اليمن». إذا ما حدث ذلك، فإنَّ الاتفاق يكون قد أنهى واحدة من أعقد القضايا بين البلدين، وهو أمر مُحتمَل، لأنَّ المملكة ما كانت لتوقِّع الاتفاق دون ضمانات بشأن هذا الملف، الذي يخُص أمنها القومي بصورة مباشرة، والذي يُعَدُّ بادرة حُسن نية من جانب إيران، وبداية مهمَّة لمسار طويل من المأمول أن ينتهي بالتفاهم، وتسوية عديد من الأزمات، واستعادة الاستقرار الإقليمي.
ويبدو أنَّ فاعلية الاتفاق قد وصلت إلى عديد من عواصم المنطقة سريعًا، فقد أعقبت الاتفاق زيارة مهمَّة لأمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني على شمخاني إلى الإمارات، ثم عيَّنت إيران في الرابع من أبريل 2023م سفيرًا لدى لإمارات لأول مرة منذ 2016م، وسط إعادة ترتيب للعلاقات بين دول الخليج وإيران، فضلًا عن زيارة وفد إيراني من وزارة الخارجية البحرين، وقال المتحدِّث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني بعد توقيع الاتفاق إنَّه «يمكن أن يحدث هذا التطوُّر الإيجابي مع دول أخرى في المنطقة، بما في ذلك البحرين». وكذلك زار كمال خرازي سوريا، وأعقب ذلك إعلان الرياض ودمشق مباحثات تتعلَّق باستئناف الخدمات القنصلية بين البلدين، وهو ما مهَّد الطريق نحو إعادة سوريا إلى محيطها العربي بدعوة الرياض «الأسد» إلى قمة جامعة الدول العربية، التي استضافتها الرياض في مايو 2023م، إذ سبق أن قال وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان إنَّ «إجماعًا بدأ يتشكَّل في العالم العربي على أنَّه لا جدوى من عزل سوريا، وأنَّ الحوار مع دمشق مطلوب في وقتٍ ما»[36]. تشير هذه التطوُّرات إلى أنَّ تغييرًا كبيرًا حدث بالفعل في التفاعلات الإقليمية، لا سيمّا علاقات إيران بدول الخليج، التي يمكن أن تشهد تطوُّرات مهمَّة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وهو ما سيُعَدُّ اختراقًا مهمًّا.
وعلى الرغم من الجدل داخل إيران بين التيّارين «المتشدِّد» و«الإصلاحي» حول دور إيران الإقليمي، لكن يمثِّل تغيير نهج إيران في ظل سيطرة «المتشدِّدين» على السلطة أهمِّية خاصة في دعم مسار تطبيع العلاقات مع المملكة، والتفاهم بشأن الخلافات الجوهرية. وفي هذا السياق، يشكِّل موقف إيران الهادئ من القضية المُثارة بشأن حقل الدرّة المشترك بين السعودية والكويت، واحدًا من النزاعات، التي ستتأثَّر بأجواء الانفتاح بقيادة السعودية مع إيران، فثمَّة هدوء في سياسة إيران وفي خطابها الإعلامي، إذ قال المتحدِّث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني إنَّ سياسة الحكومة الحالية تركز على الحوار والتعاون والمشاركة، وستجري متابعة القضايا الثنائية في هذا الإطار، ويعني ذلك أنَّ إيران ترى في الاتفاق مع السعودية فرصة لا يجب التفريط فيها، ومن ثمَّ فإنَّ سياسة السعودية قد آتت ثمارها في تحويل مجرى العلاقات من الصراع إلى التهدئة، أو بالأحرى إدارة التنافس بدلًا عن المواجهة على الصعيد الإقليمي[37].
5. إعادة صياغة علاقة القوى الدولية بالمنطقة
على مدى العقود الثلاثة الماضية، كانت الولايات المتحدة لديها نفوذ مهيمن في المنطقة، إذ شكَّلت المشهد الإستراتيجي والسياسي للمنطقة حسب مصلحتها، لكن مع التوجُّهات السعودية الجديدة، وتحديدًا السياسة تجاه إيران، وجد الأمريكيون أنفسهم غير قادرين على الإحاطة بالمستجدَّات، التي لا تتوافق مع المصلحة الأمريكية، لقد حدث تغيُّر هائل، وانقلبت الخصومات والتحالفات، التي كانت تدير من خلالها الولايات المتحدة المشهد الإقليمي. وبدلًا عن ذلك، وجدت الصين فرصةً تاريخية لأن تمدّ نفوذها إلى المنطقة، ويصبح الشرق الأوسط جزءًا من التنافس الجيو-سياسي والجيو-اقتصادي مع واشنطن على المسرح الدولي.
لقد شجَّع نهج الاستقلالية وتنويع الشراكات، الذي تتبعه السعودية، إيران على المُضي قُدُمًا في تطبيع العلاقات وبحث إمكانية التعاون، فنهج السعودية الخارجي يشير إلى وجود مصالح وطنية باتت تؤثِّر بصورة كبيرة في خيارات دول المنطقة بعيدًا عن الإملاءات الدولية، يتماشى هذا التغيير مع طموحات إيران بخفْض مشاركة الولايات المتحدة في القضايا والصراعات الإقليمية، مع نزعتها الإقليمية، التي تستهدف من ورائها إنهاء العزلة والتغلُّب على العقوبات المفروضة عليها من جانب الولايات المتحدة، وإذا نجحت المباحثات في تعزيز التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري بين البلدين، فإنَّ إيران ستكون قد حقَّقت مكسبًا مهمًّا، إذ إنَّ تطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية يجعل جهود عزل إيران أكثر صعوبة، ويمكن أن يؤدِّي إلى تقليص النفوذ الأمريكي في المنطقة[38].
فبعد تحسين العلاقة مع المملكة، عمِلَت طهران على تقويض ما تبقَّى من التحالف الإقليمي المناهض لإيران في المنطقة، الذي تقوده الولايات المتحدة. وإذ يتقدَّم التفاهم السعودي-الإيراني بشأن العلاقات الثنائية، بما في ذلك التعاون الاقتصادي، الذي لا شكَّ في أنه سيمثِّل نقطة ضعف في سياسة العقوبات الأمريكية، جرى التفاهم بشأن عدد من الملفّات، كالبحرين واليمن إلى حدٍّ ما، فإنَّ إيران ستركِّز جهودها بصورة أكبر على الحفاظ على مكتسباتها الإقليمية في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل، ليس أدلّ على ذلك من هجمات مليشيات إيران على القواعد الأمريكية في سوريا، والعودة إلى الهجمات البحرية في الخليج ضد السفن الأمريكية، فضلًا عن تطوير البرنامج الصاروخي، واستكمال مسار الاقتراب من العتبة النووية، ومواصلة سياسة «التوجُّه شرقًا»، بتعزيز العلاقة مع الصين وروسيا والتحالفات المناهضة للولايات المتحدة على الصعيد الدولي، بما في ذلك الانضمام إلى منظَّمة شنغهاي، وكذلك زيارة رئيسي لأمريكا اللاتينية وإفريقيا، التي تأتي في إطار التحرُّك بعيدًا عن الغرب وتعزيز النفوذ في الساحات الخلفية للولايات المتحدة. وهكذا يتّضِح أنَّ الاتفاق، على غير توقُّع البعض، منَحَ إيران فرصة لترتيبات إقليمية ودولية مناهضة للولايات المتحدة[39].
خلاصة
لا شكَّ أنَّ تطبيع العلاقات بين السعودية وإيران يتيح بيئة أمنية مستقرَّة لتنفيذ خُططهما في الداخل، فالاتفاق يتيح أمام السعودية فرصة لتنفيذ رؤيتها الطموحة 2030، التي تستهدف بها التحوُّل إلى واحد من أكبر عشرة اقتصادات في العالم خلال السنوات المقبلة، فضلًا عن دعم تطلُّعاتها في الريادة الإقليمية، ونقْل المنطقة من حالة التوتر إلى حالة الاستقرار والازدهار، فضلًا عن لعِب دور أكبر على المستوى العالمي، سواء دبلوماسيًّا، كما توسَّطت في صفقة تبادُل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، أو بتحولها إلى مركز إقليمي للطاقة المتجدِّدة، بل تجهيز المنطقة ككُل لمرحلة ما بعد النفط، من خلال مبادرة الشرق الأوسط الأخضر.
لكن يبرُز عديد من التحدِّيات، إذ على الرغم من أنَّ سياسة المملكة قد أدَّت إلى خلْق توازُن قوّة لم يعُد معه أيّ طرف قادر على حسم الصراع لصالحه، لكن كثافة الصراع وامتداداته وخلفيته التاريخية قد تلعب دورًا سلبيًّا، فالنزاع بين الرياض وإيران على الرغم من أنَّه كان غير مباشر، لكنّه قد امتدّ إلى المنطقة ككُل، بل وصل إلى أبعد من ذلك، إذ امتدَّت المواجهة إلى ساحات أخرى في إفريقيا ومنطقة آسيا الوسطى والقوقاز، فضلًا عن النزاع بشأن ملف إيران النووي. يمكن القول إنَّ التحدِّيات، التي تواجه العلاقات السعودية-الإيرانية، معقَّدة وكثيفة، تتداخل فيها القضايا ذات البُعد الأيديولوجي مع المصالح الأمنية والنفوذ الإقليمي والعلاقات مع الدول العظمى، ومن الصعب الفصل بينها، ولهذا قد تواجه الوساطة الصينية تحدِّيات فيما يتعلَّق بعلاقة إيران بالمليشيات المسلَّحة، والجماعات، التي ترعاها إيران وتقدِّم لها الدعم، وتقليص نفوذ الأذرع الإيرانية يعتبر قضية أساسية لتثمر الدبلوماسية ما هو أبعد من مجرد التهدئة والاتفاق، وصولًا إلى تجميد الصراع وتعزيز فُرص التعاون.
توجد شكوك في أنَّ إيران لن تتخلَّى عن دوافعها الأيديولوجية ومساعيها للهيمنة الإقليمية، إذ توجد قطاعات «متشدِّدة» في إيران لا يروق لها تطبيع العلاقات مع المملكة، ولا يزال بعضها متأثِّرًا باعتبارات أيديولوجية، فالعداء للمملكة متأصِّل ويستمِدّ جذوره من نظرية «ولاية الفقيه» المهيمنة على السياسة الخارجية الإيرانية، كما أنَّ عقيدة الحرس الثوري مبنية أساسًا على أفكار وهويّة تصوُّر المملكة باعتبارها منافسًا إقليميًّا، وليس من الواضح تمامًا ما إن كان النظام الإيراني لديه الاستعداد إلى تغيير هذه النظرة بصورة حاسمة، على الرغم من أنَّ الرياض تبدو أكثر واقعية ولديها طرح أكثر براغماتية، لكن هذا يحتاج إلى خطوات مقابلة من جانب إيران، وإلى ضغوط من جانب الصين، لكن هذه الضغوط ربما ستكون مجالًا للشد والجذب في الداخل الإيراني، لأنَّها تتعارض مع مبادئ السياسة الخارجية الإيرانية الراسخة المبنية على أساس رفض الهيمنة والتدخُّل والتبعية والضغوط الخارجية.
علاوةً على ذلك، فإنَّ التنافس الإقليمي في غياب هيكل أمني «مجمع للأمن الإقليمي»، وما يخلقه هذا الواقع من تفاعلات وديناميات، يلقي بظلاله على السياسة، التي تقودها المملكة في المنطقة، إذ رُبّما يخلق إدماج إسرائيل إشكالية في سياسة المملكة الخارجية، التي عليها الموازنة بين هويّتها وبين أيّ تعاون أمني مع إسرائيل، وهي ورقة تحاول إيران من خلالها أن تنال من صورة المملكة ومكانتها، كما توجد قوى إقليمية أخرى بخلاف إيران لديها تطلُّعات للتأثير، ومنها قوى خليجية لديها حساسية من هذا الصعود الهائل للسياسة السعودية، وهذا قد يخلق ديناميات وتحالفات جديدة تربك المشهد الإقليمي، وتجعله أكثر تنافسية، لا سيّما في ظل سباق التسلُّح، والتحالفات المتنوِّعة، التي تقودها القوى الإقليمية، وهذا بدوره قد يخلق فجوة قد تنفُذ منها إيران لمواجهة صعود دور المملكة وتأثيرها.
ومن جهة أخيرة، فإنَّ السياق الدولي المضطرب يحمل في طيّاته تهديدًا وتحدِّيًا لفاعلية السياسة السعودية، فقد نظرت الولايات المتحدة إلى التوجُّهات السعودية، خصوصًا تجاه إيران والصين، على أنَّها خصمٌ من رصيدها الدولي ونفوذها الإقليمي، خصوصًا ما يتعلَّق بمكانتها الدولية. فبعدما توافقت سياسة المملكة لعقود تجاه إيران مع سياسة الولايات المتحدة، فإنَّها اتّخذت قرارًا براغماتيًا مفاجئًا بعقد اتفاق لتطبيع العلاقات مع إيران. يشكِّل ذلك بدوره نموذجًا لنزعة استقلال سعودية، أصبحت ترى العالم بمنظور مختلف، وهو ما قد يدفع الولايات المتحدة إلى إدخال تغييرات على نهجها تجاه المنطقة. كذلك، فإنَّ الاتفاق لا يتوافق مع المفهوم الأمريكي للأمن الإقليمي، إذ كانت الولايات المتحدة تسعى إلى تنسيق أمني أوسع في المنطقة يضُم إسرائيل، من أجل مواجهة خطر إيران، وهو مشروع مطروح منذ زيارة بايدن إلى المنطقة في منتصف العام 2022م. وكانت فلسفته تقوم على نقل مسؤولية الأمن الإقليمي إلى الحُلفاء، بمن فيهم إسرائيل، ويتّفِق ذلك مع الإستراتيجية الأمريكية تجاه إيران، التي ترتكز على: العمل مع الحُلفاء لردع أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة، والتصدِّي لها، وإعطاء الدبلوماسية أولويةً لمعالجة الملف النووي، مع عدم استبعاد أيّ أدوات أخرى. لكن مع تزايُد الشكوك حول جدِّية وفاعلية الإستراتيجية الأمريكية، جاءت الاتفاقية السعودية-الإيرانية لتضع حدًّا لهذا المنظور الأمني، الذي قد يتأجَّل تنفيذه، أو تُعاد صياغته في مرحلة قادمة، هذه الصياغة الجديدة رُبّما لن تُلغي الشراكة الأمنية الأمريكية مع دول الخليج، والمملكة على وجه الخصوص، ولن يُغلَق الباب أمام انضمام مزيد من الدول إلى اتفاقية «إبراهام»، لكنّه سيُعيد هيكلة المفهوم الأمريكي للأمن الإقليمي، ويقيِّده إلى حدٍّ بعيد، ما دام الاتفاق ساريًا ويجني ثماره. وهُنا يبرُز تحدٍّ آخر، حول مدى تقبُّل الولايات المتحدة بمثل هذه التطوُّرات، التي لا توائم تطلُّعاتها في المنطقة والعالم.
في الخلاصة، يمكن وصف التغييرات الهيكلية والرؤى الجديدة، التي تقود السياسة الخارجية السعودية، سواء المواجهة أو التهدئة، بأنَّها جاءت في إطار ثورة حقيقية في سياسة السعودية الخارجية، وانقلاب على التقاليد الدبلوماسية الراسخة للمملكة منذ عقود، وبراغماتية هائلة في طريق الحفاظ على المصالح الوطنية وتعزيز النفوذ والتأثير الخارجي، وثورة تجديد بإضافة أبعاد جديدة للسياسة الخارجية، وسعي نحو دور أكبر على الصعيد الإقليمي والعالمي، من مدخل الدبلوماسية البنّاءة وعلاقات التعاون والانخراط الإيجابي في الأزمات، مع تعزيز القوّة الناعمة والحضور السعودي، من خلال عمليات إصلاح اجتماعي وسياسي واقتصادي داخلي، كرافعة لتغيير الصورة النمطية، وجذْب الأنظار والمصالح إلى المملكة كعاصمة حيوية للإقليم، وأهمّ من كل ذلك، تعزيز قوّة الردع والاستعداد لخوض غمار المواجهة الذاتية دفاعًا عن الأمن والمصالح الوطنية الحيوية، عندما تقتضي الضرورة.
وكان أهمّ ما يميِّز التغيير، الذي طرأ على السياسة الخارجية في هذا الإطار، أنَّها ذات طابع تفاعلي براغماتي مواكب للتطوُّرات، إذ فرضت ملامحه المبادرة والتعاطي السعودي الفعّال مع الفُرص والتحدِّيات على الصعيدين الإقليمي والدولي، والأهمّ من ذلك أنَّه تغيير رُبط بعناية بالتحوُّلات الهيكلية العميقة في الداخل، ومُزج بالروح التجديدية، التي طرحتها رؤية 2030 الوطنية الشاملة، كما أنه تغيير أخذ في عين الاعتبار التحوُّلات الجيو-سياسية في الإقليم والعالم. وقدَّمت السعودية من خلال هذه السياسة نفسها بصورة مختلفة، ونجحت إلى حدٍّ بعيد في إعادة التموضُع، وتعزيز مصالحها الوطنية واستقلاليتها الذاتية، وتنويع شراكاتها، بفضل توظيف إمكاناتها المادية والمعنوية، الذي عزَّز مكانتها وقوّتها الناعمة والصُّلبة في دوائر اهتمامها، وقد كانت مراجعة علاقاتها مع إيران بين سياسات التدافُع والدبلوماسية أحد ملامح هذا التغيير، وكان تطبيع العلاقات مع إيران وتغيير نمط التنافس/الصراع الإقليمي، بل تغيير دور القوى الدولية في هذا التنافس، ثمرةً لهذا التغيير، وأحد مُخرَجاته الأساسية.
[1] Turki Al Faisal bin Abdul Aziz Al Saud, Saudi arabia’S Foreign Policy, Middle east Policy, (Vol. XX, No. 4, WiNter 2013), accessed: 19 June 2023, https://bit.ly/3CCZdho
[2] محمد بن صقر السلمي، تنافُس النماذج في منطقة الشرق الأوسط، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، (31 يوليو 2023م)، تاريخ الاطلاع: 13 أغسطس 2023م، https://bit.ly/3OVeBN5
[3] وكالة أنباء مهر، هانی زاده در گفتگو با مهر: توافقنامه ایران و عربستان به انزوای رژیم صهیونیستی منجر شده است، (۱۳ اردیبهشت ۱۴۰۲ ه ش)، تاريخ الاطلاع: 19 يونيو 2023م، https://bit.ly/3LPiCRm
[4] Al-Marzouq, Abdullah S. F., An Exploration of the Security Dilemma in the Middle East: The Impact of the Transformative Power of Iran’s Foreign Policy, (Newcastle: Phd thesis, Keele University, School of Politics, International Relations and Philosophy, October 2016).
[5] Eman Ragab, iran’s role dilemma in the arab region after the arab revolutions, Annual Strategic Book, (2012), accessed 19 June 2023, https://bit.ly/46ecsmf
[6] Afshon Ostovar, Rebecca Edelston, Michael Connel , On Shifting Sands: Iranian Strategy in a Changing Middle East, Center for Naval Analyses, (October 2013) accessed 19 June 2023, p13, https://bit.ly/4436wdO
[7] Eva Patricia Rakel, the Iranian political elite, state and society relations, and foreign relations since the Islamic Revolution, (Amsterdam: Faculteit Maatschappij en Gedrag, University of Amsterdam, 2008), Pp P160.
[8] Ibid.
[9] Ibrahim Atta, From Confrontational to Subtle Diplomacy: The Reorientation of Saudi Foreign Policy, Gulf International Forum, (May 10, 2023), accessed June 19, 2023, https://bit.ly/3peM6j6
[10] Gülriz ŞEN, After the Nuclear Deal: Opportunities and Challenges of Iran’s Reintegration, Journal of Iranian Studies,(Ahmet YEŞİL, 2017), Pp 97-98, accessed: 14 Apr 2022, available: https://bit.ly/3KPQ6MR
[11] Paloma González del Miño, David Hernández Martínez, The Salman Doctrine in Saudi Arabia’s Foreign Policy: Objectives and the Use of Military Forces, : Brazilian Journal of Strategy & International Relations, (v.8, n.16, Jul./Dec. 2019), accessed June 2023, file:///C:/Users/m.hamdy/Downloads/cepik,+4+-+SALMAN.pdf
[12] مثنى العبيدي، إيران والأزمة في لبنان، مجلة الدراسات الإيرانية، (الرياض، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، العدد 12، أكتوبر 2022م)، ص 55-56.
[13] محمد حسن القاضي، الدور الإيراني في اليمن وانعكاساته على الأمن الإقليمي، (الرياض: مركز الخليج العربي للدراسات الإيرانية، 2017م)، ص 66.
[14]عدنان هاشم، مشاورات السعودية وإيران.. البحث عن نظام أمني إقليمي متوازن، مركز أبعاد للدراسات والبحوث، (04 يناير 2023م)، تاريخ الاطلاع: 19 يونيو 2023م، https://bit.ly/3NBHDjV
[15] بي بي سي عربي، هل تتّجِه إيران نحو حوار ومصالحة مع السعودية وجيرانها العرب؟ – صحف عربية، (03 فبراير 2021م)، تاريخ الاطلاع: 19 مايو 2023م، https://bit.ly/42OY2Gj
[16] موقع قناة المنار، الرئيس روحاني في نيويورك حاملًا «مبادرة أمن هرمز»، (23 سبتمبر 2019م)، تاريخ الاطلاع: 19 يونيو 2023م، https://www.manartv.com.lb/5742904
[17] Amos Harel, Gulf States Reevaluate Iran Policy as U.S. Focuses on China and Russia, Haaretz, (May 12, 2023), accessed June 19. 2023, https://t.ly/_XSII
[18] Paloma González del Miño, David Hernández Martínez, Ibid.
[19] Majid Bozorgmehri, Hakem Ghasem, Ibid.
[20] Mohammed Al-Sulami, Region should embrace Saudi Arabia’s pioneering vision, (April 03, 2023), accessed: August 13, 2023, https://bit.ly/3HOh6wK
[21] Christoph NEDOPIL, China Belt and Road Initiative (BRI)Investment Report 2022, Green Finance & Development Center, University Shanghai, (January 2023), accessed: July 10. 2023, p 9, https://bit.ly/3D7lDHS
[22] Cliff Kupchan, 6 Swing States Will Decide the Future of Geopolitics, foreign policy, (JUNE 6, 2023), accessed: July 10, 2023, https://bit.ly/3NLMUnP
[23] العربية نت، نص كلمة ولي العهد السعودي بقمة جدة للأمن والتنمية، (16 يوليو 2022م)، تاريخ الاطلاع: 11 يوليو 2023م، https://bit.ly/43m8HbN
[24] Adnan Hashim, Saudi-Iranian Consultations: Searching for a Balanced Regional Security System, Abaad Studies & Research Center, (4 June 2023), accessed: 11 July 2023, https://bit.ly/3roN6lF
[25] موقع سبوتنيك عربي، أول رد رسمي على وساطة رئيس الوزراء العراقي بين إيران والسعودية، (14 أكتوبر 2020م)، تاريخ الاطلاع: 19 يونيو 2023م، https://bit.ly/3XcQr2Q
[26] Paloma González del Miño, David Hernández Martínez, Ibid.
[27] Max Boot, As a post-American Middle East dawns, Iran and China rush to fill the void, Washington post,( May 8, 2023), accessed June 19, 2023, https://t.ly/_a92e
[28] onathan Panikoff, The US should pay close attention to Saudi Arabia’s domestic policy, Atlantic council, (June 7, 2023), accessed June 19, 2023, https://bit.ly/43HnCy2
[29] الوطن، زيادة الإنفاق العسكري في الشرق الأوسط، (24 أبريل 2023م)، تاريخ الاطلاع: 08 أغسطس 2023م، https://bit.ly/3Oq57rm
[30] JAY LOSCHKY, Saudi Arabia’s Soft Power Outshines Iran’s, Gallup, (APRIL 19, 2023), accessed: July , 2023, https://bit.ly/3rmUGxf
[31] وكالة مهر، معنای خروج امارات از مدارِ واشنگتن/ دلخوریِ عادی یا تحولی جدی؟، (۱۴ خرداد ۱۴۰۲ ه ش)، تاريخ الاطلاع: 10 يوليو 2023م، https://2u.pw/gSUTyZ
[32] موقع راهبرد معاصر، سکته روابط صهیونیستها و اعراب در دوره نتانیاهو، (۱۳ خرداد ۱۴۰۲ ه ش)، تاريخ الاطلاع: 10 يوليو 2023م، https://2u.pw/O8hMBH
[33] Eric Brewer, Henry Rome, Biden’s Iran Gamble, foreign affairs, (June 9, 2023), accessed: July 10, 2023, https://bit.ly/3pEOYpI
[34] Jane Kinninmont, What are Iranians saying about a “political understanding” with the US?, European leadership network, accessed July10, 2023, https://bit.ly/3NNnDKb
[35] Ross Harrison, Alex Vatanka, The Middle East Might Be Moving Toward Stability, Forgien policy, (JUNE 26, 2023), accessed July 9 ,2023, https://bit.ly/3JO3Rgi
[36] Robert Mason, How to Build on the Saudi-Iran Reset, The Henry L. Stimson Center, (March 27, 2023), accessed: 10 July 2023, https://bit.ly/46DMRmP
[37] سبوتنك عربي، إيران تعلِّق مجدًّدًا على «أزمة حقل الدرة» مع الكويت، (11 يوليو 2023م)، تاريخ الاطلاع: 11 يوليو 2023م، https://bit.ly/3pFjyzH
[38] موقع رويداد 24، مذاکرات ایران و آمریکا برای توافق موقت است/ میخواهند پرونده هستهای تا دو سال در شرایط موقت حفظ شود، (۲۲ خرداد ۱۴۰۲ ه ش)، تاريخ الاطلاع: 10 يوليو 2023م، https://cutt.us/UYfRn
– Trita Parsi, An Unwritten Deal Is Exactly What Iran and America Need, foreign affairs, (JUNE 20, 2023) , accessed: July 10, 2023,https://cutt.us/WfQPy
[39] Steven A. Cook, Saudi-Iranian Rapprochement Has Failed to Bring De-escalation,, foreign affairs, (JUNE 12, 2023), accessed: July 10, 2023, https://bit.ly/43kdR87