تشهد الساحة العراقية فصلًا جديدًا من الصراع الشيعي الدامي بين أكبر قوَّتين شيعيَّتين: الأولى، تحالف دولة القانون بزعامة رئيس حزب الدعوة نوري المالكي المنضوي تحت لواء الإطار التنسيقي، الذي يضُمُّ بين مكوِّناته تحالفات مدعومة من إيران، الثانية، التيَّار الصدري بزعامة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، وسط مخاوف من انفجار الأوضاع وتفاقُم الصراع الشيعي المحتدم، عقب تعرُّض بعض مقرَّات حزب الدعوة لهجمات وعمليات قصف وإغلاق من أنصار الصدر، على خلفية اتَّهامهم حسابات إلكترونية مرتبطة بحزب الدعوة بالإساءة لسُمعة وسيرة المرجع الشيعي الراحل محمد صادق الصدر، أو الصدر الأب (والد مقتدى الصدر)، وتوجيه الاتَّهامات له بأنَّه «كان على علاقة جيِّدة بنظام صدام حسين».
تطرح ملابسات وتوقيت الجولة الأخيرة من الصراع الشيعي-الشيعي تساؤلات هامَّة لتحليل الصراع والوقوف على مآلاته وسيناريوهاته المتوقَّعة، تتمحور حول بيئة الصراع وقضاياه وسِماته وأبعاده ومستوياته وتداعياته، مقارنةً بالجولات السابقة من الصراع، لا سيَّما حال كان صراعًا متكرِّرًا بأبعاد سياسية ودينية داخل مكوِّن مذهبي واحد يتصدَّر المشهد العراقي ويتولَّى دفَّة أمور الحُكم منذ عقدين من الزمان، وله تداعيات على مستقبل النفوذ الإيراني، وكذلك على مستقبل الدولة العراقية، وإلى أين يتّجِه التصعيد الجديد بين الصدر والمالكي؟ ومَن بات له التأثير الأكبر في المعادلة العراقية والشيعية؟ وما المُنتظَر من إيران تجاه ذلك التصعيد المستمرّ والمتكرِّر بين أقوى تحالفين شيعيين في الساحة العراقية؟
أولًا: تفسيرات استمرارية تجدُّد الصراع بين الصدر والمالكي
تشهد الساحة العراقية صراعًا محتدمًا يمتدُّ لأكثر من عقدين من الزمان بين مقتدى الصدر ونوري المالكي، على خلفية اتِّباع المالكي سياسة الإقصاء والتهميش ضد رموز التيَّار الصدري في أثناء فترتَي رئاسته الحكومة (2006م-2014م). ويتمحور ذلك الصراع، الذي جرى على جولات عديدة، حول قضايا مركزية لها تداعياتها على أمن ومستقبل الدولة العراقية، وعلى النفوذ الإيراني في الساحة العراقية لاعتبارات سياسية حينًا، واعتبارات أيديولوجية حينًا آخر، أو الاثنين معًا، وفيما يلي أبرز تفسيرات تجدُّد الصراعات بينهما:
1.تفسيرات سياسية: بغضِّ النظر عن أسباب اندلاع الجولة الأخيرة من الصراع، والمتعلِّقة بما عدَّه أنصار الصدر إساءة للمرجع محمد صادق الصدر، وإن كانت لها أبعاد سياسية وأيديولوجية بالغة تتعلَّق بالصراع بين قُم والنجف، فإنَّ هذه الصراعات مستمرَّة، وستستمرّ، لكونها مرتبطة باستمرارية الخلافات الجوهرية بين الصدر والمالكي على طبيعة وشكل الحكومة (أغلبية وطنية/توافقية)، وشكل الدولة والحكومة، وتوجُّهاتها الخارجية، إذ يمتلك كلاهما مشروعين متضادَّين، فيتمسَّك الصدر بمشروع سياسي يُعلي من تكوين حكومات أغلبية وطنية تحت مظلَّة دولة عراقية وطنية مستقِلَّة ذات سيادة تخلق توازنًا في علاقاتها الخارجية، بينما يقاتل المالكي على مشروعه السياسي المتعلِّق باستمرارية الطبيعة التوافقية عند تشكيل الحكومات، في ظل دولة تخضع للقرار المليشياوي المدعوم من إيران.
2. تفسيرات أيديولوجية: تتعلَّقبالصراع البيني على مرجعية المكوِّن الشيعي العراقي، وكذلك بالصراع على السُّلطة الدينية، أو موقع قيادة وزعامة المكوِّن، إذ تدعم المالكي بقوَّة مرجعية قُم في إطار الصراع مع مرجعية النجف، بهدف فرض هيمنة نظرية «ولاية الفقيه» لتكون المرجعية الأولى والأخيرة، بل والمركزية، لشيعة العالم أجمع، بينما يختلف الصدر مع المالكي على سيادة مرجعية قُم، ويولي الأهمِّية للمرجعية المحلِّية أو العربية، وإن كانت توجد بعض الخلافات السابقة بين المرجعية النجفية والتيَّار الصدري، على خلفية مواقفه السياسية من المرجعية النجفية منذ اغتيال الصدر الأب نهاية تسعينيات القرن الفائت، وتنفيذ الصدريين وصيته بتعيين المرجع الحائري وريثًا له كمرجع تقليد للصدريين بعد وفاته. وزادت الخلافات في أثناء الغزو الأمريكي للعراق، ومع وصف التيَّار للمرجعية النجفية بالصامتة، ولا يعني ذلك أنَّ علاقة سيِّئة تجمع الصدر الابن بالنجف، بل تجمعه بالنجف علاقة جيِّدة، لإدراكها طبيعته المستقِلَّة، لذلك تعمل على احتوائه بالسماح له، مقارنةً ببقية السياسيين، بالتواصل مع مكتب المرجعية العُليا بقيادة المرجع الشيعي علي السيستاني. كما يرى الصدر الابن الأحقِّية في قيادة المكوِّن الشيعي، بحُكم تنامي الظهير الشعبي الواسع الموالي له. فالصدر والمالكي خطَّان فكريان متوازيان لا يلتقيان، كلٌّ منهما يمثِّل مشروعًا مغايرًا تمامًا عن مشروع الآخر، خصوصًا أنَّ المالكي يمثِّل مشروع «ولاية الفقيه» العابر للحدود، لذلك، فالصراع البيني يشكِّل امتدادًا للصراع بين قُم والنجف -قُطبا التشيُّع في العالم- وهو ما يزيده تعقيدًا، لأنَّ المسافة الفكرية بين الخطَّين تجاه القضايا الداخلية والعلاقات الخارجية للدولة العراقية كبيرةٌ للغاية.
ثانيًا: أبعاد وخواص تجدُّد الصراع بين الصدر والمالكي
فيما يلي أبعاد وخواص ودلالات الجولة الأخيرة من الصراع الدامي بين الصدر والمالكي، مقارنة بالجولات السابقة، لتقييم مستويات ومآلات الصراع خلال هذه الجولة:
1. اللجوء إلى القوة والعنف: مثل الجولات السابقة من الصراع الدامي بين أنصار الصدر والمالكي، اقترنت تنديدات قيادات التيَّار الصدري ضد ما اعتبروها إساءات من حزب الدعوة للمرجع الشيعي محمد صادق الصدر، بهجمات متزامنة بدت أنَّها منسَّقة أكثر من كونها عفوية، إذ تعرَّضت عشرات المقرَّات لحزب الدعوة الشيعي لعمليات قصف صاروخي، أو للإتلاف والتخريب، أو للإغلاق التام بلافتات مكتوب عليها «مُغلَق بأمر التيّار الصدري» (انظر صورة رقم 1)، كما استهدف مسلَّحون مجهولون مقرَّات منظَّمة بدر بقيادة هادي العامري، ومقرّات «أنصار الله الأوفياء»، ومقرّات تابعة لـ«عصائب أهل الحق» بقيادة قيس الخزعلي في النجف. وأظهرت بعض مقاطع الفيديو المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، اقتحام الصدريين مكاتب الحزب، وتمزيق وحرق صور المالكي، كما أطلقوا حملات إلكترونية بوسم «جاهزون فداءً للصدر وولده»، و«إلّا محمد الصدر»، تعبِّر عن غضب صدري شديد، وسط مخاوف من إعادة سيناريو ما بعد أزمتي التسريبات وتشكيل الحكومة الماضية، على الرغم من نفي المالكي ورفضه أيِّ إساءة للمراجع، وتأكيده أنَّها تهدف إلى إشعال الفتنة في العراق.
صورة (1): إغلاق أحد مقار ائتلاف دولة القانون
المصدر: bit.ly/4770iMf
2. محاولة خصوم الصدر النَّيْل من شعبيته الكبيرة: يشكِّل تجدُّد الصراع حلقةً جديدة من الصراع المحتدم بين الطرفين، ومحاولات الأذرع السياسية الموالية لإيران، مثل دولة القانون وحزب الدعوة وغيرهما، التأثير في الظهير الشعبي الواسع لمقتدى الصدر، الذي جعله الرقم الأبرز في المعادلة العراقية منذ الاحتجاجات التشرينية، لصالح القوى الموالية لإيران، بطرق مختلفة، إمَّا بمحاولة نزعْ الشرعية المرجعية عنه، مثلما أعلن المرجع الحائري -الذي يقلِّده الصدريون- قبل ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، استقالته وتأكيده عدم بلوغ الصدر درجة «الاجتهاد»، ودعوة أتباعه إلى الانتماء لمرجعية قُم، ما أسهم في إعلان الصدر قرار اعتزاله واستقالته العمل السياسي نهائيًّا، وإمَّا بالنَّيْل من مرجعية والده، بتقديم الإساءات لسُمعته وسيرته، مثلما حدث في الجولة الأخيرة، إذ انتشرت مقاطع ومنشورات على مواقع ومنصَّات التواصل الاجتماعي تسيء إلى سيرة وسيرورة محمد صادق الصدر، وتتّهِمه بإقامة علاقات جيِّدة مع حزب البعث بقيادة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، رغم ترديد أهمّ الروايات باغتياله من النظام البعثي ذاته في مدينة النجف عام 1999م .
3. مستوى الصراع مقارنةً بالجولات السابقة: عند مقارنة الجولة الأخيرة من الصراع بالجولات السابقة، تجِد أنَّ الصراع خلال الجولة الأخيرة أقلَّ من حيث المستوى والمدى والنطاق والآثار. فعل سبيل المثال، الصراع خلال الجولة السابقة في عام 2022م، جرّاء أزمتي: التسريبات المنسوبة للمالكي ضد الصدر، التي حملت في مضمونها تهديدات ونيات باقتحام مدينة النجف والتخلص من الصدر، والخلافات حول طبيعة ونمط تشكيل الحكومة، أدخل العلاقة بين الطرفين إلى مرحلة اللا عودة، بعدما اندلعت المواجهات الدامية بين أنصار التيَّار والإطار المحتجِّين في المنطقة الخضراء نهاية أغسطس 2022م، وأسفرت عن مقتل قرابة 23 شخصًا وجرح نحو 500 آخرين، بعد قرار اعتزال الصدر السياسة، علاوةً على أنَّ الجولة السابقة كانت محتدمة للغاية، لأنَّ إحدى قضاياها تشكيل الحكومة، وبالتالي تسبَّبت في تعطيل تشكيلها لفترة طويلة. أمَّا هذه الجولة فلا ترتبط باستحقاقات دستورية قائمة يمكن تعطيلها، بل يفترض أن تنتهي مدَّة حُكم حكومة محمد شيّاع السوداني المحددة في نوفمبر 2023م.
4. تقلُّص الوقت بين الجولات الصراعية: يُلاحَظ من الجدول رقم (1) تقلُّص الفترات بين الجولات الصراعية بين الصدر والمالكي خلال السنوات الخمس الماضية، ففيما كان عدد السنوات بين الجولات الصراعية (2008م، 2014م، 2019م) من 4 إلى 5 سنوات، تقلَّصت بشكل كبير خلال الجولات الأربع الأخيرة (2019م، 2021م، 2022م، ثم الأخيرة 2023م) لعام تقريبًا (انظر الجدول رقم 1)، وهذا مؤشِّر على احتدام وحدة الصراع بين الصدر والمالكي، ومؤشِّر على تمحوُر الصراع حول قضايا جوهرية، وليست هامشية، مثل:موقع القيادة الشيعية وأولوية سيادة المرجعية للمكوِّن الشيعي، النجف أم قُم، وشكل الحكومات المتعاقبة وتمسُّك المالكي بالعودة إلى رئاسة الحكومة وعلى توجُّهات العراق الداخلية والخارجية. ففيما يمضي الصدر في التغيير نحو عراق وطني قوي مستقِلّ متوازن في علاقاته الخارجية، ينفِّذ المالكي أجندة إيرانية ليظل العراق ضمن دائرة النفوذ الإيراني والحيلولة دون عودته إلى محيطه العربي، لكن يؤخذ على الصدر عدم امتلاكه رؤية واضحة لمستقبل الدولة العراقية، ما يجعله متخبِّطًا فيما يخُص العمل السياسي حينًا ومرتكبًا أخطاء إستراتيجية في صراعه السياسي مع خصومه أحيانًا كثيرة.
جدول (1): جولات الصراع بين الصدر والمالكي من 2008 إلى 2023م
المصدر: إعداد وحدة الدراسات الإقليمية والدولية، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية «رصانة»، يوليو 2023م.
ثالثًا: ضرب مرجعية الصدر الوالد كأداة للتأثير في شعبية التيّار الصدري
يقترب توقيت انعقاد الانتخابات البرلمانية المبكِّرة في العراق قبل نهاية 2023م، بقُرب انتهاء فترة حُكم محمد شيّاع السوداني، المحدَّدة بعام، حسب المُتَّفَق عليه بين التحالفات السياسية في نوفمبر 2022م، فيما تدرك التحالفات السياسية الموالية لإيران أدوات قوّة تأثير الصدر المتنامية في الشارع العراقي من ناحية، وعدم التأثير الكبير لدعوة المرجع الحائري لأتباع التيّار الصدري بالانتماء إلى مرجعية قُم من ناحية أخرى، لذلك تسعى التحالفات الموالية لإيران مجدَّدًا للخصم من رصيد الصدر السياسي والديني، وزعزعة شرعيته المتنامية داخل الجماعة الشيعية العراقية، عبر النَّيل من أُسرة الصدر العريقة بتقديم الإساءات لأبرز مراجعها. فمنذ ظهوره على الساحة العراقية بعد الغزو الأمريكي للعراق 2003م، يمتلك الصدر الابن أدوات قوّة وتأثير كبيرة في المعادلة العراقية، حتى تحوَّل إلى الرقم الأصعب في المعادلة، بالنظر إلى التفاف غالبية المجتمع الشيعي حوله، وقُدرته الكبيرة على تحريك الشارع بسهولة ويُسر ضد خصومه الموالين لإيران، والأبرز دعمه الحراك الشعبي الصاعد ضد النفوذ الإيراني في العراق منذ الاحتجاجات التشرينية، ويعود ذلك إلى:
1.الإرث الحوزوي الكبير لعائلة الصدر: يعتمد الصدر في شرعيته على إرث الشهيدين الصدر الأول (محمد باقر الصدر) أعدمه نظام صدام حسين عام 1980م، والثاني (محمد صادق الصدر)، الذي كان ضمن أهمّ مراجع الشيعة العراقيين، وعُرِف عنه تبنِّيه الوجه أو الخط العروبي للتشيُّع والحوزة العلمية، ولعِبَ دورًا كبيرًا في التصدِّي لمحاولات رجال الدين الإيرانيين نقل مركزية المرجعية الدينية للمذهب الشيعي من النجف إلى قُم الإيرانية، متّخِذًا موقفًا من تمسُّك المراجع التقليديين في قُم بالولاية المُطلَقة لولاية الفقيه.
2.الإرث الشعبي الكبير لعائلة الصدر: استفاد مقتدى الصدر -الذي عرَّف نفسه في أحد تصريحاته على أنَّه طالب علم في الحوزة العلمية لا يحمل درجة مجتهد تخوِّله الافتاء، ويصنَّف بحجة إسلام ولا يزال بعيدًا عن نيل صفة مرجع تقليد، لكن يحمل لواء مشروع الصدر الأب، ويحظى بمركزية داخل الجماعة الشيعية والحوزوية، ويسعى لخلافة والده للتصدُّر المرجعي، ويظهر حرصه الشديد على التمسُّك بخط الحوزة العلمية وبإرث التقليد الشيعي الاثنى عشري- من الإرث الشعبي الكبير لعائلة الصدر، خصوصًا والده، الذي كان مصدر إلهام روحي كبير لغالبية الشرائح الشيعية، لا سيّما الشبابية، لرؤيته «الإصلاحية»، ودوره البارز في الحفاظ على الحوزة العلمية بالنجف، وفي رعاية ومساعدة الفقراء والمحتاجين من أبناء الشيعة. وتُفيد الأدبيات الشيعية إلى تبنِّيه رؤية مناهضة لسياسات حزب البعث، واتّخاذه قرارًا بإمامته صلاة الجمعة -التي يقيمها أهل السُّنَّة- في مسجد الكوفة بالنجف، ومنحه ممثِّليه في المدن العراقية التراخيص لإقامتها، وزاد تحدِّيه لنظام البعث بنهاية تسعينيات القرن العشرين برفضه الدعاء لصدام حسين في صلاة الجمعة.
ساند الصدر الأب بشدَّة الانتفاضة الشعبانية مطلع تسعينيات القرن الفائت ضد نظام البعث، على نحوٍ أثار قلق صدام على بقاء نظامه، من جرّاء تنامي دور الصدر الأب، لذلك تعرَّض للاعتقالات عدَّة مرات، قبل اغتياله ونجليه مصطفى ومؤمل، بالرصاص الحي على يد مجهولين بالحنانة 1999م، لتشهد المحافظات الجنوبية انتفاضة شعبية عارمة سُمِّيت بانتفاضة الصدر 1999م احتجاجًا على اغتياله، متّهمين نظام صدام بالضلوع في اغتياله، ولم يلقَ نفي صدام في أثناء محاكمته بعد اعتقاله عقب الغزو الأمريكي للعراق أيّ صدى، لأنَّه بعد اغتيال الصدر بيوم واحد أجرت القوات حملة اعتقالات واسعة، وقتلت العشرات من مقلِّدي الصدر الأب، بعد تظاهرهم في مدينة الصدر احتجاجًا على اغتياله، لذلك كان من بين الأحكام على رموز نظام صدام بعد الغزو الأمريكي للعراق أحكام بالإعدام بسبب جرائم الإبادة التي أعقبت عملية اغتيال الصدر، وإن كانت توجد روايات عديدة تربط مقتل الصدر الأب تارةً بالخلاف داخل الحوزة النجفية مع المرجع محمد باقر الحكيم، وتربطه تارةً أخرى بالخلاف مع مرجعية قُم أو مهاجمته المستمرَّة لإسرائيل.
3. امتلاكه ذراعًا عسكرية مسلَّحة وقوية: تدرك التحالفات المعادية للصدر والموالية لإيران أنَّ امتلاكه ذراعًا مسلَّحة مثل جيش المهدي (سرايا السلام)، تمكنه من التأثير في المعادلة العراقية، بل تمكنه من مناهضة تأثير ورقة الذراع المسلَّحة الموالية لإيران في القرار العراقي. وبرز ذلك واضحًا في الجولات الصراعية بين المالكي والصدر كافَّة، وخلال الجولة الأخيرة، وعلى الرغم من قرار التجميد الصدري لأنشطة «سرايا السلام» بعد الاشتباكات الدامية، التي وقعت في المنطقة الخضراء في أغسطس 2022م، أجرت «سرايا السلام» استعراضات عسكرية ضخمة لعناصرها في شوارع النجف وهي تحمل الأسلحة الخفيفة والمتوسِّطة، في إشارة إلى الجهوزية العسكرية والقتالية العالية ضد محاولات سحب الشرعية من الصدر، والقُدرة على الدخول في مواجهات مسلَّحة حفاظًا على الأهداف العُليا للصدر.
رابعًا: التداعيات على الدولة العراقية وعلى النفوذ الإيراني
بات الصراع الشيعي واحدًا من أخطر مهدِّدات الدولة العراقية، ويُنذِر بوضع العراق على حافَة موجة فتنة تتعدَّد جولاتها تهدِّد العراق نفسه، لكونه صراعًا مركزيًّا محتدمًا للغاية بين أقوى التحالفات السياسية الشيعية في الساحة العراقية من حيث القوّة السياسية والعسكرية والشعبية، كما أنَّه صراعٌ على السلطتين الدينية والسياسية. هذه النوعية من الصراعات تبحث فيها الأطراف عن مكاسب مادِّية شخصية، أكثر منها وطنية، وبالتالي تكون فيها الدولة بمؤسَّساتها وأجهزتها ومقدراتها كافَّة ضحية هذه النوعية من الصراعات، التي حتمًا تحوِّلها إلى دولة هشَّة ضعيفة أمام سطوة وقوَّة الأذرع المتصارِعة، وهو ما نراه اليوم في الحالة العراقية، منذ احتدام الصراع الشيعي-الشيعي، إذ يتعرَّض المواطنون العراقيون ومقدراتهم الكبيرة لمخاطر جسيمة من جرّاء هذا الصراع.
كما يُعَدُّ أيضًا الصراع الشيعي من أخطر مهدِّدات النفوذ الإيراني في العراق، لأنَّ النفوذ السياسي لإيران بات منقسِمًا على ذاته، ومَن كانت تعوِّل عليهم إيران في مدّ نطاق نفوذها، بل والحفاظ على بقية أشكال النفوذ العسكرية والاقتصادية والثقافية، باتوا متصارعين بشكل رئيسي على قضايا جوهرية مصيرية محتدمة، ولم تستطِع إيران التوفيق بين أذرعها الشيعية في الساحة العراقية، سواء بين المنضوين تحت لواء الإطار التنسيقي، أو فيما بينهم والتيار الصدري، منذ رحيل قائد «فيلق القدس» السابق الجنرال قاسم سليماني، الذي لقي حتفه في غارة جوِّية قرب مطار بغداد الدولي عام 2020م.
خاتمة
بين المالكي، الذي يريد للعراق أن يبقى ضمن دائرة النفوذ الإيراني، والصدر، الذي لا يعرف الشارع العراقي والعربي ماذا يريد بالتحديد في ظل افتقاده أيِّ رؤية حقيقية لمستقبل العراق، يقِف العراق، الذي كان من السهل أن يكون دولة قوية مزدهرة بحُكم مقدراته وإمكاناته وموارده الهائلة، على أعتاب أزمات ممتدَّة في ظل عجْز إيراني واضح عن لعِب دور القوَّة المؤثِّرة والمُمسِكة بخيوط اللعبة العراقية والشيعية لحل الأزمة العراقية. وتحوَّلت الأزمة العراقية إلى جزء أصيل لا يتجزَّأ من الأزمة الإيرانية، التي تتداعى فصولها منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، وظلَّت تُلقي بظلالها الثقيلة على الداخل الإيراني والمنطقة العربية برمّتها، خصوصًا في العراق واليمن ولبنان وسوريا. ويشكِّل الصراع الشيعي-الشيعي تحدِّيًا إضافيًّا جديدًا أمام النفوذ الإيراني، لكونه صراعًا يدور بين مَن كانت تعوِّل عليهم إيران في الحفاظ على مكتسباتها وضمان تنفيذ بقية مخطَّطاتها في العراق.