بعد مرور شهرٍ تقريبًا من الإطاحة بالرئيس محمود بازوم، أمَرت السلطات النيجرية السفيرَ الفرنسي سلفيان أوتيه بمغادرة البلاد «خلال 48 ساعة»، وأعلنت قرارها بـــــ«سحب أوراق اعتماده» برسالة من وزارة الخارجية إلى مكتب الشؤون الخارجية الفرنسي. ومن جانبها، برَّرت السُلطات العسكرية هذا الأمر بــ«رفْض السفير دعوة الوزارة» الاستجابة لإجراء مقابلة و بـ«أفعال أخرى قامت بها الحكومة الفرنسية، تتنافى مع مصالح النيجر». ينوِّه هذا القرار الجديد من جانب النيجر إلى تراجُع النفوذ الفرنسي في الساحل الأفريقي، ويسير أيضًا على خُطى مالي وبوركينا فاسو، حيث لم يعُد هناك أيّ سفير فرنسي.
ثمَّة بُعد إستراتيجي يوضِّح ماهية أزمة النيجر، وعواقبها المُحتمَلة على النفوذ الفرنسي في الساحل الأفريقي؛ فوجود نفوذ فرنسي كبير في الساحل الأفريقي يعود إلى إعادة نشر فرنسا لقواتها العسكرية القادمة من مالي والنيجر، حيث أدَّى ظهور قوى عسكرية إلى تدهور كبير في العلاقات مع قوة الاحتلال السابقة؛ فرنسا.
ودعت السُلطات العسكرية النيجرية في مطلع سبتمبر 2023م فرنسا لسحب 1500 جندي فرنسي متمركزين في أراضيها، وبهذا أصبح مصير الجنود الفرنسين مهدَّدًا؛ فهم متواجدون منذ عام 2013م بجانب الجيش النيجري؛ للقتال ضد الحركات الجهادية. وإثر هذه الخطوة، وبعد يوم من إعلان السُلطات النيجرية إعطاءَ السفير الفرنسي مهلة 48 ساعة لمغادرة البلاد، تجمَّع أكثر من 2000 نيجري في العاصمة النيجرية نيماسي لدعم قرار السلطات العسكرية، وبالتحديد في الاستاد الأكبر في البلاد «استاد كونشي»، وكانت أعلام نيجيريا والجزائر وروسيا ترفرف في التجمُّع. يؤكد النهج الجديد، الذي اتّبعته السُلطات النيجرية أن انقلاب 26 يوليو كان فعلًا مستقلًا من النيجريين بعد أكثر من 60 عامًا من الاعتماد على علاقاتٍ غير متوازنة مع محتلِّهم السابق؛ فرنسا.
يُدير «المجلس الوطني لحماية الوطن» بقيادة الجنيرال عبد الرحمن تشياني زمامَ السلطة في البلاد، ويتّخِذ من فرنسا -المحتَلّ السابق لبلاده- هدفهُ الأول. ويهدُف بخطابه السياسي هذا حشْد التأييد الشعبي ضد فرنسا، وإعداد سياسة خارجية جديدة تضعُ في أولوياتها عقْد شراكاتٍ تتمكَّن النيجر من خلالها، من تثبيط النفوذ الفرنسي في جميع أرجاء النيجر والساحل الأفريقي أيضًا. ويبدو أنَّ «المجلس الوطني لحماية الوطن» مستعِدٌّ أيضًا للقتال في وجه التهديد العسكري النابع من «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا/إكواس»، وقُدرتها على فرْض عقوبات اقتصادية على النيجر. لكن في ظل حزْم المجلس الوطني وموقفه الثابت، لا بد من اللجوء لخيار الدبلوماسية، لا الخيار العسكري لحل أزمة النيجر.
يُعَدُّ انقلاب النيجر الرابع في غرب أفريقيا، في غضون عامين فقط، بعد الانقلابات الثلاثة في مالي وغينيا وبوركينافاسو. وعلى الرغم من التقليل من حجمها، لا تزال مخاطرها كبيرة وماثلة في النيجر والمنطقة، وما بعدها أيضًا. وعلى عكس ما جرى في مالي وبوركينافاسو، لا يمثِّل الانقلابيون ثورةً جديدةً وجيلًا مستاءً من الجيش؛ فمهندس الانقلاب الرئيسي الجنرال عبد الرحمن تياني يبلغ 59 عامًا، وكان يتولَّى رئاسةَ الحرس الرئاسي منذ عام 2011م، ونائب رئيس المجلس العسكري الجنرال ساليفو مودي يبلغ 60 عامًا، وشغِل سابقًا منصب رئاسة الأركان العام منذ 2020م، وحتى أبريل 2023م.
التيّار الداخلي للمؤسَّسة العسكرية في نيجيريا، لا يمنع السُلطات الجديدة من استخدام المشاعر المعادية لفرنسا من جزء من الشعب؛ لتحقيق أهداف سياستهم، وهي اجتثاث النفوذ الفرنسي من النيجر. وفي هذا الصدد، على فرنسا أن تضع في الحسبان، بجانب التحدِّيات الشعبية، موقف الولايات المتحدة في المنطقة، وخيارها في تبنِّي المسلك الدبلوماسي. التقارب الدبلوماسي الفوري مع جارات النيجر، سواءً مالي أو بوركينا فاسو ومع الحلفاء الروس، إشارةٌ على إعادة ترتيباتٍ إقليمية للحلفاء؛ فساحلٌ أفريقيٌ معادٍ للمصالح الغربية، هو مستعدٌ للبحث عن شراكات بديلة في سوق المساعدات، ليس فقط من الروس، بل أيضًا من العرب والصينيين. وثمّة تشابهٌ بين الانقلابات في النيجر ومالي وبوركينا فاسو، أولها الفشل فيما يُطلَق عليه الحرب على الإرهاب، في بادئ الأمر كان القوات الفرنسية مستعدَّةً لدعم دول الساحل الأفريقي في صدّ تهديدات المجاهدين، ولكن لاحقًا أصبحَ تواجدهم يعكس مشروعَ ما بعد الاستعمار. ثانيها، استخدام المشاعر المعادية لفرنسا كمحفِّز سياسي لبناء شرعية القوى العسكرية الجديدة بعد الانقلاب، وآخرها التقارب مع روسيا تبنَّته القوى العسكرية كخيار لسياساتها الخارجية. أصبح الساحل الأفريقي مثالًا على تراجُع النظام الدولي الغربي في القارة الأفريقية، وبالتحديد بداية النهاية للنفوذ الفرنسي في الساحل الأفريقي. وعلى الرغم من الديناميات الجيوسياسية، بعد شهر من الانقلاب، يبقى الخيارُ الدبلوماسي الخيارَ المفضَّل للقوى الإقليمية والدولية؛ نظرًا لما قد يُسبِّبه التدخلُ العسكري من المزيد من زعزعة الاستقرار في المنطقة.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد