انضمَّت الهند إلى نادي النُّخبة الفضائي، لا سيّما أنَّها رابع دولة تهبط على القمر، فقد هبطت مركبتها الفضائية «شاندرايان -3» على القطب الجنوبي للقمر في 23 أغسطس من هذا العام، بعدما نجحت منظمة أبحاث الفضاء الهندية في إنشاء روابط اتصال بين المركبة الفضائية ومركز القيادة لهذه المهمة. وبحسب الخطَّة، غادرت المركبة الجوالة «برايان» مركبةَ الهبوط «فيكرام»، لمدَّة 14 يومًا أرضيًا، أي ما يعادل يوم قمري واحد، قبل إيقاف تشغيلها، حينما استنفذت طاقتها الشمسية، وقامت المركبة الجوّالة بجمع ونقل البيانات العلمية حول تكوين القمر.
سابقًا في سبتمبر 2019م، تحطَّمت المركبة الفضائية «شاندرايان -2» على سطح القمر؛ بسبب خلل في برنامج الحاسوب، لكن نجحت منظَّمة أبحاث الفضاء الهندية في إنجاز مهمتها، ووُصِف ذلك النجاح بالمذهل. ما هو أكثر إثارةً للإعجاب، هو أنَّ وكالة الفضاء الهندية أنفقت مبلغًا متواضعًا، وصل إلى 73 مليون دولار فقط، على هذا المشروع. لم تكتفِ الوكالة الهندية بإتقان الخوارزمية للمشروع فحسب، بل فضَّلت اختيار منطقة هبوط مُستهدَفة ذات نطاق أكبر، إلى جانب تجهيز السيارة بأرجل أكثر ثباتًا للمركبة «فيكرام»، ومحرِّكات دينامية لتحكُّمٍ أفضل وهبوطٍ أسلس. في غضون ذلك، تغلَّبت الهند على حليفتها روسيا، التي تحطَّم مِسبارها «لونا -25» الآلي على سطح القمر، قبل أيام من إطلاق الهند مركبتها. تلقَّت الهند دعمًا علميًا وتكنولوجيًا كاملًا من وكالة «ناسا» الأمريكية، ووكالة الفضاء الأوروبية، ووكالة استكشاف الفضاء اليابانية. أمّا روسيا، فكان عليها تولِّي مهماتها الفضائية بنفسها؛ إذ لم تتمكن وكالة الفضاء الروسية «روسكوزموس» من الحصول على الكاميرا من وكالة الفضاء الأوروبية لمساعدتها في هبوط مركبتها، ورفضت شركة «إيرباص» بيعَ جهاز الملاحة الرئيسي للمهمة القمرية إلى روسيا.
أشعل نجاح الهند حماسًا جديدًا في البلدان النامية الأخرى، تلك الراغبة في الوصول إلى القمر، والجدير بالذكر هُنا أنَّ الرحلات القمرية هذه الأيام أصبحت بعيدةً كل البُعد عن هيبة المشاريع التي كانت رائجةً في عام 1969م، بعدما أصبحت التكنولوجيا المتقدِّمة متوافرة.
هبطت مركبة أبحاث الفضاء القمرية الهندية على خط عرض 70 درجة جنوبًا، تقريبًا، وليس بعيدًا عن المكان، الذي هبطت فيه المركبة الفضائية الروسية. يُعَدُّ القطب الجنوبي للقمر بُقعة أرض مميَّزة بالغةَ الأهمِّية، لاحتمالية وجود كميات كبيرة من الجليد المائي. وبمجرَّد اكتشاف المياه وتطوير وسائل لاستخراج تلك المياه الجليدية واستغلالها وفصلها عن الهيدروجين والأكسجين، سوف تُكتشَف طُرُق للتنقيب عن معادن أخرى، وكذلك تطوير مشاريع كبرى في الفضاء، من خلال استخدام هذا الجرم السماوي؛ أي القمر، كقاعدة. وزُوِّدت «فيكرام» بمقياسٍ لاستشعار الزلازل ولقياس درجة حرارة التربة القمرية. ومن جانبها، تُجري الصين أبحاثًا على الجانب المُظلم من القمر؛ أي النصف الآخر من القمر، الذي لا يمكن رؤيته من الأرض، منذ عام 2019م .تكمُن المعضلة برُمّتها في التحضير للهبوط البشري، وفي هذا الصدد تُخطِّط «ناسا» لاستئناف المهام المأهولة ابتداءً من عام 2025م، وذلك بعد نصف قرن من توقُّفها. ومن المرجَّح أن تتبع الصين ووكالة الفضاء الأوروبية واليابان خُطى وكالة «ناسا»، في إرسال بعثاتٍ بشرية إلى القمر، إذ يُتوقَّع أن تُنشَأ قواعد لأغراض تجارية وعسكرية/أمنية. وعلى الرغم من أنَّ القمر يساوي تقريبًا مساحة القارة الآسيوية، ويمتلك مواقع جاذبة لاستغلال الموارد، إلّا أنَّ ذلك يتطلَّب قواعد تنظيمية صارمة. ولأنَّ الهند هي رابع دولة تصل إلى القمر، فقد حظِيَت بمقعدٍ بين مصافّ الدول، التي وصلت إلى القمر، تلك التي ستحدِّد قواعد السكن على سطحه وقواعد الاقتصاد القمري على حدٍّ سواء. وتُضيف المنافسة العالمية والاستقطاب السياسي مزيدًا من التحدِّيات، التي تواجه الفريق العامل التابع للأُمم المتحدة، الذي يدرس المسائل القانونية المتعلِّقة باستغلال موارد الفضاء، والتي لن تكون مقترحاته جاهزةً بحلول عام 2027م. ومع هذا السباق غير المنظَّم في الفضاء، تبرُز تحدِّياتٌ غير مسبوقة للأمن العالمي.
باعت بالفعل شركة الفضاء «سبيس إكس» أول رحلة لسائحٍ يزور القمر، كان من المقرَّر مبدئيًا إطلاقها في عام 2024م، وتسعى الشركات الهندية للانضمام إلى منافسيها الخفيين، مثل «آي سبيس» ومقرَّها اليابان، و«أستروبوتيك» ومقرَّها الولايات المتحدة، وذلك في مجال استخدام مركبات الهبوط القمرية التجارية. وفي عالم التقنيات ذات الاستخدام المزدوج، فمصفوفة التهديدات المُتصوَّرة بالغة التعقيد على الأرض؛ ناهيك عن أنَّ معاهدةَ الفضاء الخارجي باليةٌ بالفعل؛ لأنَّها لا تستطيع التغلُّب على التحدِّيات العلمية أيضًا، حتى لو نحّينا جانبًا المنافسة بين القوى العظمى على الموارد والقوة والمكانة.
يصِفُ مدير مختبر الأبحاث الفيزيائية التابع لبرنامج أبحاث الفضاء الهندي، أنيل بهاردواج، نجاحَ «تشاندرايان -3»، بأنَّه مهمٌ «للأغراض الإستراتيجية والجيوسياسية» للبلاد. ومع ذلك، لا يساور الغرب قلقٌ من احتمالية زعزعة الاستقرار، من جرّاء هذا الإنجاز الفضائي الضخم، الذي قامت به الهند. وعلى العكس من ذلك، شعر القادة الغربيون والقادة العسكريون بالقلق، عندما هبطت الصين على سطح القمر في يناير 2014م، حينها كانت بكين أولَ من أنجزَ مهمَّة الهبوط على الجانب المظلم من القمر تمامًا، كما فعلت الهند. أثارت وسائل الإعلام زوبعةً من المخاوف حول إنشاء الصين لأول قاعدة مأهولة على سطح القمر، ولموقع عسكري مهيمن في الفضاء، إلّا أنَّ هذا لن يحدُث، حتى بعد مرور عقدٍ من الزمن. وفي حال أيّ تداعيات عسكرية لمشروع الفضاء الصيني؛ فهذا سوف ينطبق أيضًا على مشروع الهند، وفي حال نحّينا قِصر النظر لدى الغرب جانبًا، سوف يُرافق وصول عددٍ لا بأس به من البلدان إلى الفضاء معضلات إستراتيجية للدول الضعيفة في هذا المجال على الأرض.
تتراوح المنافسة الإستراتيجية في الفضاء من التشويش على الأقمار الصناعية لنظام تحديد المواقع العالمي، إلى شنّ هجمات إلكترونية، أو استخدام الليزر لتدمير المعدّات الفضائية. في هذه المنافسة، أظهرت الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند بالفعل قُدراتهم على إطلاق النار على الأقمار الصناعية من الأرض. أسقطت الهند قمرها الصناعي العسكري، الذي يبلغ وزنهُ 750 كيلوغرامًا، في 24 يناير 2019م، بصاروخ على ارتفاع 283 كيلومترًا فوق الأرض. ويُثير الاتجاه السائد فيما يتعلَّق بانتشار الأسلحة المضادَّة للأقمار الصناعية وتطوُّرها، خطرَ وجودِ الحطام الفضائي؛ الأمر الذي قد يُثير سلسلةً من ردود الأفعال المضادَّة.
ومن الناحية العملية، ستستخدِم الهند التعاون الغربي وخبرتها في مجال التقنية المتطوِّرة، من أجل زيادة تطوير قُدراتها العسكرية الفضائية، لتتفوقَ على قدرات الصين، وكذلك مراقبة القُدرات الإستراتيجية لخصمها اللدود باكستان ومواجهتها بشكل أفضل. ولا تُوجَد دولة تُغامر في الفضاء أو تهبط على القمر من أجل العلم، بل تُوجَد برامج فضائية، حتى لو لم تكُن ذات طبيعة عسكرية، لتلبية المصالح الوطنية للبلاد، والتي يمكن أن تكون ذات طبيعة إستراتيجية، وتسعى للحصول عليها بقوة عند الحاجة. على سبيل المثال، في حال استخدمت الصين أو روسيا برامج الفضاء لتعزيز قوتها العسكرية، فلِمَ ستختارُ الهند أو أيّ دولة أخرى طواعيةً هدفًا مغايرًا؟
يُعَدُّ بناء قاعدة عسكرية ما في الفضاء، حقيقةً واقعة، تحقيقها مسألة وقت ليس إلّا، وهُنا قد تكون الولايات المتحدة والصين أبرز المتنافسين، لكن الهند ستلحق بالركب قريبًا. يفتحُ إنشاءُ قاعدة مأهولة على القمر البابَ أمام عالم جديد من الاحتمالات، حيث تتفوَّق الاستخدامات العسكرية على ما يُسمَّى الفوائد المدنية السِّلْمية. ونظرًا للأهمِّية الإستراتيجية لمجموعة الأقمار الصناعية الصغيرة «لستارلينك» بالنسبة لأوكرانيا في مواجهة هجوم روسيا، يمكن للصين وغيرها من عمالقة الفضاء مثل الهند، إطلاق أقمارهم الخاصَّة بهم، للتشويش والقيام بعمليات الاختراقات عبر الإنترنت ضد الخصوم، أو توسيع نطاق أقمارهم الاصطناعية.
يمكن استخدام القواعد على سطح القمر كقواعد احتياطية؛ للسيطرة على الأقمار الصناعية العسكرية والمدنية، في حال دُمِّرت قواعدها الأرضية. وكذلك يمكن نشْر أسلحة مضادَّة للأقمار الصناعية.
يبقى هبوط الهند على سطح القمر إنجازًا مذهلاً، ولا مبالغة إنْ قُلنا إنَّه أحدَثَ خللًا بميزان القوى العالمي على الأرض وخارجها، والآن فقط اشتعلَ السباق نحوَ الفضاء!
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد