فرضت -ولا تزال- مضامين التسريبات ومقاطع الفيديو والأخبار المتداولة بكثافة شديدة على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام العربية والعالمية، حول ترتيبات أو تعزيزات عسكرية أمريكية جديدة تعكس استنفارًا عسكريًّا أمريكيًّا في المثلث الحدودي العراقي-السوري-الأردني بالتوازي مع تحرُّكات روسية-إيرانية مضادَّة للأهداف الأمريكية، جدلًا واسعًا بين المحلِّلين حول أهدافها وتداعياتها ومآلاتها المحتملة حال صعَّدت واشنطن عسكريًّا، لا سيّما في ظل التحوُّلات الإقليمية والدولية الراهنة، وسط تداوُل تسريبات وتوقُّعات تشير إلى معركة محتملة قادمة في الشرق الأوسط، خصوصًا مع تصاعُد الاشتباكات بدير الزور بين قوات سوريا الديمقراطية «قسد» ومقاتلين محلِّيين تابعين لعشائر عربية، فضلًا عن اندلاع احتجاجات شعبية في بعض المحافظات السورية احتجاجًا على تدنِّي الأحوال المعيشية.
أولًا: ملامح الاستنفار العسكري الأمريكي في المثلث الحدودي
يرى المراقبون للأوضاع في سوريا أنَّ الاستنفار العسكري الأمريكي في المثلث الحدودي بين العراق وسوريا والأردن باتجاه الساحة السورية تمكن ملاحظته من خلال ما يلي:
1- كثافة حجم الترتيبات العسكرية الجديدة
تتّسِم الترتيبات الأمريكية تجاه المثلث الحدودي، خصوصًا في شرق سوريا بما فيها مناطق شرق الفرات مثل الحسكة والرقة -حسب التقارير المتداولة- بالتنوُّع والاتّساع وارتفاع وتيرتها، مقارنةً بتعزيزات أمريكية سابقة، إذ تحتوي على تحشيد للقوات باتجاه معبر القائم الحدودي مع سوريا، وإدخال الآليات والمعدّات العسكرية لتعزيز الحضور في المناطق السورية القريبة من الحدود العراقية، وإجراء تمارين عسكرية ضمن تدريبات قوات التحالف الدولي، بمشاركة طائرات حربية في قاعدة كونيكو الأمريكية بحقل كونيكو للغاز -ضمن أكبر حقول الغاز السورية- في ريف دير الزور. هذه التحرُّكات تخطَّت مسألة التدريب على مهام محاربة «داعش»، حسب آراء كثير من المحلِّلين.
كذلك، كثَّفت واشنطن عمليات الاستطلاع الجوِّي باتجاه العُمق السوري عامَّةً، وشرق الفرات خصوصًا، واستقبال قاعدة التنف العسكرية الأمريكية الواقعة بالمثلث الحدودي أرتالًا حربية قادمة من قاعدة عين الأسد الجوِّية، وجرى رصْد حركة طيران ومروحيات غير معتادة لطائرات الشحن العسكرية الأمريكية فوق القاعدة، واستقبال الحسكة قوافل جديدة من الشاحنات العسكرية الأمريكية محمَّلةً بالأسلحة القادمة من العراق، كما انتشرت على منصة X مطلع سبتمبر 2023م، مقاطع فيديو لرتل عسكري يضم شاحنات عسكرية تابعة للجيش الأردني وقوات التحالف الدولي بقيادة أمريكية، في الشريط الحدودي السوري الأردني. وأفادت التقارير بأنَّ قوات التحالف تنوي ربط محافظتي السويداء ودرعا بمناطق شرق الفرات بالتنف، ما من شأنه تسهيل مسألة تطويق دمشق من الجنوب والشرق. ويوجد مَن ربط ذلك بزيارة رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي مارك ميلي للأردن، في 23 أغسطس 2023م، كمؤشِّرات إلى وجود مخطَّط أمريكي لتعزيز الحضور العسكري بالمثلث الحدودي وشرق الفرات.
2- الترتيبات تأتي كإضافة لتعزيزات عسكرية سابقة
تأتي الترتيبات العسكرية الأمريكية امتدادًا لترتيبات سابقة، إنشاء قاعدتين عسكريتين في الرقة: الأولى أنشأتها في ريف الرقة الغربي بنهاية عام 2022م، والثانية أعلن عن تجهيزها عند مدخل الرقة الجنوبي فبراير 2023م، وتداولت تقارير إعلامية عديدة في مايو 2023م، تزويد واشنطن قواتها المتمركزة في قاعدة عسكرية بالقرب من حقل العمر النفطي وفي قاعدة بحقل كونيكو للغاز الطبيعي الواقعتين في شرق سوريا، بمنظومة «هيمارس» الصاروخية، التي زوَّدت بها أوكرانيا في حربها ضد روسيا لتنفيذ ضربات دقيقة ضد الأهداف البعيدة.
وأدخلت قوات التحالف الدولي في يونيو 2023م تعزيزات عسكرية إلى قواعدها العسكرية في مناطق شرق سوريا، وتضمَّنت التعزيزات رتلًا عسكريًّا مكوَّن من 40 آلية عسكرية قادمة من قاعدة عين الأسد الجوية الأمريكية غربي الأنبار قرب الحدود العراقية-السورية، وذلك بعد أيام قليلة من إدخال رتل عسكري مكوَّن من 25 شاحنة عسكرية. كما نشرت واشنطن في الشهر ذاته مقاتلات متطوِّرة من طراز «إف 22 رابتور» في المنطقة، ردًّا على الاحتكاكات الجوِّية الروسية بالأمريكية في الأجواء السورية.
3- تحريك واشنطن التشكيلات العسكرية الحليفة
في ما عدَّهُ بعض المحلِّلين تحضيرات أمريكية للمرحلة المقبلة، رصدت بعض مقاطع الفيديو استنفارًا عسكريًّا لمسلَّحي ما يُسمَّى «جيش سوريا الحُرَّة» المعارض للنظام السوري والموالي للجيش الأمريكي بمحيط قاعدة التنف، تحسُّبًا لأيّ هجمات مُحتمَلة عليه. وفي يونيو 2023م، كشفت تقارير إعلامية عن تنسيق أمريكي مع قوات «الصناديد» -مكوَّنة من قرابة 3 آلاف مقاتل- أحد أفرُع أو مكوِّنات قوات سوريا الديمقراطية «قسد» في الحسكة، في مؤشِّر إلى تطوُّر ملحوظ في الإستراتيجية الأمريكية تجاه شرق الفرات، مطالبين إياهم بالتنسيق مع «جيش سوريا الحُرَّة» ومواجهة المليشيات الموالية لإيران. وعلى ما يبدو أنَّ آلية التنسيق الأمريكي مع قوات «الصناديد» و«جيش سوريا الحُرَّة» أقرب إلى الواقع خلال الفترة الراهنة، لا سّيما بعد حصول واشنطن على معلومات تفيد بنيّات روسية-إيرانية لضرب الأهداف الأمريكية في سوريا، وتأكيد «جيش سوريا الحُرَّة» استعداده للتنسيق مع قوات سوريا الديمقراطية، التي تضم قوات «الصناديد».
4- الأولوية في التعزيزات العسكرية للمثلث الحدودي
تفيد التقارير بأنَّ غالبية الترتيبات تجري من الداخل العراقي تجاه الداخل السوري، خصوصًا تعزيز وجودها في المثلث الحدودي، بدايةً من نقاط ارتكاز القوات الأمريكية في محافظتي الأنبار ودهوك، نحو مناطق تقع بالقرب من معبر القائم الحدودي المقابل لمدينة البوكمال السورية باتجاه شرق سوريا على الجهة الشرقية لنهر الفرات، التي تخضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية «قسد»، في مسعى أمريكي للربط بين قاعدة التنف ومنطقة شرق الفرات داخل الساحة السورية.
يحظى المثلث الحدودي (خريطة رقم 2) بأهمِّية كبيرة في الإستراتيجية الأمريكية والإيرانية والإسرائيلية، باعتبارها منطقة تقاطع مصالح جيو-سياسية، وامتداد جغرافي لمناطق تحتوي على تركيبة سُكّانية ومذهبية متنوِّعة وعلى سِلَع إستراتيجية، سواء في الداخل العراقي أو الداخل السوري، ومنطقة جيو-سياسية مفصلية في المشروع الإيراني، ومعبر لنقل وتهريب السلاح إلى الأذرُع العسكرية الموالية لإيران في ساحات النفوذ الإيرانية. لذلك مَن يسيطر على المثلث الحدودي، حتمًا سيمتلك أوراق ضغط وأدوات جيو-سياسية متعدِّدة وبالغة التأثير.
وتدرك واشنطن أهمِّية تأثير ورقة السيطرة على المثلث الحدودي في المساومة مع الروس والإيرانيين في الوقت الراهن، وضمن مساعي واشنطن لتعزيز حضورها في منطقة شرق الفرات ذات الأهمِّية الإستراتيجية لواشنطن من حيث موقعها، الذي يحتوي على قواعد أمريكية ومواردها الإستراتيجية، التي تحوي عددًا كبيرًا من حقول النفط والغاز. وتعُدُّ تل أبيب المثلث الحدودي ضمن أخطر مصادر التهديد للأمن الإسرائيلي بعبور السلاح الإيراني من خلال إلى «حزب الله» اللبناني، كما تعتبر إيران، التي لا تؤمن بالحدود القانونية في مجالاتها الحيوية، أنَّ السيطرة على هذا المثلث الحدودي مسألة مصيرية لا تقبل التفاوض مُطلَقًا، لكونه حلقة ربط إستراتيجي لمشروعها الجيو-سياسي، وفقدان السيطرة عليه تعني تقطيع أوصال وشرايين المشروع وفقدان قوته وفاعليته.
5- مُعامِل التهديد مرتفع مقارنةً بتعزيزات سابقة
بخلاف سابقتها من ترتيبات عسكرية، تحمل الترتيبات الأمريكية الجديدة مصادر تهديد مرتفعة ضد روسيا وإيران في سوريا، لأنَّها تتحدث عن نية أمريكية لخلق واقع جديد في المثلث الحدودي، بين ملامحه غلْق الشريط الحدودي، وخلال المراحل السابقة أيضًا كانت توجد آليات مشتركة استطاعت من خلالها واشنطن وموسكو تجنُّب المواجهات في سوريا. وظلَّ النشاط الإيراني ضدّ القوات الأمريكية محدودًا، لكن على ما يبدو أنَّ التوتُّر خلال المرحلة الراهنة لرُبّما يتجاوز قواعد الاشتباك المعمول بها في المنطقة، ما ينذر بتصعيد وشيك في منطقة مصنَّفة على أنَّها شديدة الخطورة، نتيجة تبايُن منطلقات وأدوات وأهداف اللاعبين وتداخُل مناطق نفوذهم.
ما يزيد خطورة التحرُّكات على الساحة السورية المواقفُ الرسمية للروس والإيرانيين والسوريين من تلك التعزيزات الأمريكية، فضلًا عن مواقف قادة بعض المليشيات المسلحة، مثل الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، وقائد مليشيا «عصائب أهل الحق» قيس الخزعلي، ثمّ زعيم «تحالف دولة القانون» نوري المالكي، التي تعكس تهديدات مضادَّة. والأبرز تحذيرات السفيرة الأمريكية في العراق ألينا رومانوسكي -بحسب أوساط إعلامية- في أثناء لقائها رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني، قبل أيام قليلة من التعزيزات الأمريكية، من شنّ قوات الحشد الشعبي هجمات ضدّ القوات الأمريكية في المثلث الحدودي، وقد طالبت بانسحاب فصائل ومقاتلي الحشد الشعبي الموالي لإيران من نينوى والأنبار خلال الفترة المقبلة، فضلًا عن إدراك دمشق وطهران هذه الأهداف، بنقلهما الألوية العسكرية الهامَّة إلى مناطق بمحافظة دير الزور ذات الغالبية العربية، ويقطعها نهر الفرات، ويتقاسم السيطرة عليها النظام السوري بمساندة مليشيات مسلحة موالية لإيران على الضفة الغربية للنهر، بينما تسيطر قوات «قسد» على الضفة الشرقية.
ثانيًا: دوافع وأهداف الاستنفار العسكري الأمريكي
رغم نفي واشنطن الربط بين الاستنفار العسكري والمصالح الروسية والإيرانية، ورد ذلك إلى دعاية وشائعات روسية-إيرانية مغرضة مقابل ربطه بمحاربة «داعش»، فإنَّ روايات تفسير دوافع وأهداف التحرُّكات الأمريكية الحقيقية في المثلث الحدودي تعدَّدت على النحو التالي:
1- خلْق منطقة أمنية عازلة بإجراء عزْل جغرافي
تربط هذه الرواية بين الاستنفار العسكري الأمريكي وبين الرغبة الأمريكية في إحداث «عزْل جغرافي»، أو خلْق منطقة أمنية عازلة، أو خلْق واقع جديد على المعادلة السورية، تستطيع واشنطن من خلاله تعزيز حضورها وامتلاك مزيد من أوراق الضغط ضدّ الروس والإيرانيين، وتحييد مصادر التهديد المُحتمَلة من المخيَّمات السورية القريبة من المثلث الحدودي، خصوصًا مخيَّمي الهول والروج السوريين، اللذين يضمّان عائلات مقاتلي تنظيم داعش، حسب تقارير دولية، من خلال عزْل خطوط التماس البرِّية بين إيران وسوريا عبر العراق، تمتدّ إلى جنوب سوريا في درعا، ثمَّ إلى شرقها في الرقة ودير الزور، وصولًا إلى الشمال الشرقي لسوريا في الحسكة والقامشلي، لكن يصعب قبول الواقع المنشود أمريكيًّا في سوريا من موسكو وطهران -اللتين قدَّمتا أثمانًا بشرية ومالية هائلة لتعزيز نفوذهما- لأنَّه يفضي إلى إضعاف الدورين الروسي والإيراني في سوريا.
2- قطْع طريق الإمداد الإيراني للمليشيات المسلحة
يرى أنصار هذا الاتجاه، أنَّ الهدف من تعزيز وتفعيل الحضور العسكري الأمريكي على الحدود العراقية السورية يتمثَّل في قطْع أو غلْق طريق الإمداد الإيراني إلى الأذرُع المسلحة الموالية لإيران في سوريا ولبنان، بما يسفر عن قطْع شرايين ما أسمته إيران «الهلال الشيعي» و«محور المقاومة» في العراق وسوريا ولبنان وغيرها، أو وضْع المليشيات أمام موقف مرتبك يؤدِّي إلى خلْط أوراقها وحساباتها، عبر تهديد مسارات وخطوط إمدادها بالقوة والدعم لبقائها وفاعليتها في ساحات النفوذ، خصوصًا في ظل تنامي الحديث عن مرحلة جديدة من التصعيد العسكري للمليشيات ضد الأهداف الأمريكية، فضلًا عن تنامي الحديث عن مساعي «حزب الله» اللبناني لإعادة التموضع والانتشار داخل سوريا، وإجرائه إعادة هيكلة قيادة قواته شرقي سوريا بتعيين قيادات محلِّية ضمن إستراتيجية إيرانية لجعل السوريين واجهة للعمليات القتالية المحتملة ضدّ القوات الأمريكية للتذرُّع بأنَّ العمليات القتالية عمليات مقاومة سورية ضدّ القوات الأمريكية من ناحية وإخفاء البصمات الإيرانية-المليشياوية من ناحية أخرى.
3- مواجهة مخاطر روسية-إيرانية مُحتمَلة ضدّ الأهداف الأمريكية
تربط هذه الرواية بين الاستنفار الأمريكي وإستراتيجية الردع الأمريكية لتأمين المصالح والحضور في الساحة السورية ضدّ المساعي الروسية والإيرانية المتنامية لضرب الأهداف الأمريكية. وتعتمد هذه الرواية على حديث بعض التقارير الاستخباراتية والمواد السرِّية المُسرَّبة بوجود إستراتيجية روسية–إيرانية تهدف إلى طرْد القوات الأمريكية من المنطقة عمومًا، ومن شرق سوريا بما فيها مناطق شرق الفرات خصوصًا، من خلال تشكيلات جديدة يجري تدشينها بمعرفة الروس والإيرانيين، تحت اسم الجيش الشعبي أو المقاومة الشعبية. وقد سبق أن دعا المرشد الإيراني علي خامنئي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في أثناء لقائه بطهران يوليو 2022م، إلى التعاون لطرد القوات الأمريكية من منطقة شرق الفرات الغنية بالنفط.
وترى أنَّه يوجد هدف آخر يتمثَّل في تغيير قواعد الاشتباك مع الروس في سوريا، على خلفية احتدام الصراع الدولي بين الروس والغرب عمومًا، والروس والأمريكان خصوصًا، على خلفية الحرب في أوكرانيا، وتنامي الحديث حول دور روسي في فتح ثغرات خلفية في دفاعات حلف الناتو ومصالح الغرب في القارة الإفريقية، عبر سلسلة انقلابات في إقليم غرب إفريقيا، المورِّد الأكبر لليورانيوم لأوروبا، الحليف الإستراتيجي لواشنطن والداعم الرئيسي لكييف، لذلك تريد واشنطن تأجيج الساحة السورية ضدّ موسكو، بما يؤثِّر في المجهود الحربي الروسي في أوكرانيا.
ويُشار إلى أن هناك معلومات تحدثت عن عدة عمليات هجومٍ على مواقع وجود أمريكيين في العراق خلال الأشهر الماضية، إلا أنّ الجانب الأمريكي لم يعلن عن ذلك لأسباب مجهولة.
4- تفعيل أوراق الضغط الأمريكية على ضوء التحوُّلات الإقليمية
ربما يظهر التحرُّك الأمريكي الرغبة في تفعيل أوراق الضغط، بما يضمن تعظيم المصالح الأمريكية في مرحلة جديدة تمُرّ بها المنطقة، على ضوء التحوُّلات، التي تشهدها، من تسويات لبعض الأزمات عبر الاتفاق السعودي-الإيراني، والانفتاح العربي على سوريا، وتزايد احتمالات الانفتاح في العلاقات بين أنقرة ودمشق، مع رغبة بعض الدول في تحقيق قدر من الاستقلالية في سياستها الخارجية، ومساعي طهران إلى تعظيم الاستفادة من التحوُّلات لإظهار عدائها للحضور الأمريكي شرق الفرات ضمن سياق إقليمي مغاير. لذلك تسعى واشنطن إلى إعادة ترتيب أوراقها لتعزيز حضورها بما يضمن عدم خلْق مسارات جديدة تتناقض مع المصالح الأمريكية.
5- الضغط على إيران لتقديم تنازلات في المفاوضات النووية
الرواية التي حصدت أكبر نسبة إجماع بين المحلِّلين، وتربط بين الاستنفار الأمريكي في المثلث الحدودي وبين الرغبة الأمريكية في الضغط على الجانب الإيراني لتسريع مسار المفاوضات من ناحية وتقديم مزيد من التنازلات التفاوضية من ناحية ثانية، إذ أشارت بعض التسريبات إلى احتواء المطالب على مطلب سحْب القوات الأمريكية من منطقة شرق الفرات، باعتباره شرطًا لتحقيق تقدُّم في المفاوضات النووية، ما دفع واشنطن إلى تحريك أوراقها في الشرق الأوسط لبثّ رسائل قوية إلى طهران مفادها أنَّ على إيران أن تفصل بين الانتشار العسكري الأمريكي في مناطق النفوذ الأمريكية وبين ملف المفاوضات النووية.
ثالثًا: المواقف والتداعيات تجاه الاستنفار العسكري الأمريكي
تعكس مواقف الأطراف المباشرة: العراق وسوريا وإيران وروسيا، والأطراف غير المباشرة: المليشيات المسلحة الموالية لإيران في ساحات النفوذ الإيرانية، المعنية بالاستنفار العسكري الأمريكي على المثلث الحدودي، أنَّ الساحة السورية ستكون الميدان الأكثر توتُّرًا وتصعيدًا عسكريًّا بين الأطراف الخارجية المتصارعة عليها، خلال المرحلة القادمة لمركزيتها في أجندات الأطراف كافة.
اتّسم الموقف الرسمي العراقي بالتوازن، مقارنةً بالتصريحات العدائية لموسكو وطهران ودمشق ضدّ واشنطن، إذ نفى مستشار رئيس الوزراء للشؤون الأمنية خالد اليعقوبي وجود تحشيد للقوات الأميكيية داخل العراق، موضِّحًا أنَّ ما يجري عبارة عن استبدال للقوات والبعثات الاستشارية الأمريكية عند المثلث الحدودي من جهة سوريا وليس العراق.
أمّا المواقف السورية والإيرانية والروسية فقد جاءت متناغمة ضد الاستنفار العسكري الأمريكي، إذ أكدت دمشق نية واشنطن إغلاق الحدود، وتوعَّدت إيران الاستنفار الأمريكي على الشريط الحدودي العراقي-السوري، واستبعدت قُدرة واشنطن على غلْق الحدود، ثمّ أجرى قائد «فيلق القدس» إسماعيل قاآني زيارة إلى بغداد للتباحث حول مستجدات ما يجري في المثلث الحدودي نظرًا إلى الأهمِّية الجيو-سياسية لهذا المثلث في المشروع الجيو-سياسي الإيراني.
وبنبرة تصاعدية، أعلن حسن نصر الله جاهزية حزبه للقتال ضد القوات الأمريكية، كما أعلن قيس الخزعلي أنَّ الهدف الأمريكي غير المُعلَن على الشريط الحدودي يتمثَّل في إقامة إقليم على الحدود مع سوريا، بينما كشف زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، أنَّ الاستنفار الأمريكي يأتي لإغلاق الحدود مع سوريا، معبِّرًا عن مخاوفه من تحويل الشريط الحدودي إلى ساحة للمواجهة وتصفية الحسابات.
توافقت الرواية الروسية مع نظيرتيها الإيرانية والسورية في مسألة إخراج القوات الأمريكية، خلال الفترة الراهنة، على خلفية الدعم العسكري الإيراني لروسيا بالمسيَّرات في الحرب الروسية-الأوكرانية، كما أنَّ الروس في حاجة إلى وجود إيران في سوريا، للحفاظ على مناطق النفوذ في ظل الانشغال الروسي بالحرب في أوكرانيا، كما أنَّ لموسكو مصلحة إستراتيجية في التعاون مع طهران ضدّ واشنطن شرق الفرات، تتمثَّل في الرغبة الروسية في إعاقة التقدُّم في المفاوضات النووية، لأنَّ أحد المطالب الغربية من إيران في المفاوضات تتمثَّل في وقْف إيران تزويد موسكو بالمسيَّرات.
رابعًا: السيناريوهات المُحتمَلة للتحرُّك الأمريكي في المثلث الحدودي
على ضوء طبيعة ودوافع وأهداف الاستنفار العسكري الأمريكي في المثلث الحدودي وباتجاه الساحة السورية، وإدراك واشنطن ردود الفعل الروسية والإيرانية والسورية والأذرُع الإيرانية تجاه الاستنفار العسكري خلال المرحلة المقبلة، يُتوقَّع أن يكون التصعيد الأمريكي -حال اتّخذت واشنطن قرارًا بالتصعيد في الساحة السورية في المرحلة الراهنة والمقبلة- أن يأخذ شكلًا من أشكال التصعيد التالية:
1- اللجوء إلى استخدام القوة المسلحة
بمعنى أن تلجأ واشنطن إلى عمليات عسكرية واسعة، باستهدافها تمركُزات المليشيات في مناطق متفرِّقة عمومًا، والمثلث الحدودي خصوصًا باتجاه شرق الفرات، واستهداف القادة المؤثِّرين للمليشيات عبر غارات جوِّية، بهدف مدّ نطاق نفوذها، وتعزيز حضورها على حساب مناطق النفوذ الإيرانية والروسية. ويُتَوقَّع في هذا السيناريو مشاركة إسرائيلية كبيرة بضربات واسعة للتمركُزات الإيرانية شرق الفرات خصوصًا، وسوريا عمومًا.
هذا السيناريو غير مُتَوقَّع بشكل كبير خلال المرحلة المقبلة، لكونه يضع القوات الأمريكية المنتشرة في العراق وسوريا في مواجهة واسعة ومستمِرَّة مع المليشيات، التي تنوي تكثيف هجماتها ضد الأهداف الأمريكية، حسب التقارير المُتداوَلة، لأنَّ غلْق الشريط الحدودي بالنسبة لها يعني قطع شرايين إمدادها، وضرب تجارتها السوداء، التي تعتمد عليها، لا سيّما في ظل تراجُع الدعم المالي الإيراني منذ فرض العقوبات على إيران.
وتدرك واشنطن أنَّ الصدام العسكري من شأنه تحويل سوريا إلى بؤرة صراعية أكثر تهديدًا لأهدافها، لأنَّها ستجمع الروس والإيرانيين والسوريين ضدّها، لا سيّما في ظل تأكيد التقارير المتداولة جهوزية روسيا وإيران ومليشياتها ضدّ الأهداف الأمريكية، على نحوٍ يسبِّب لها أرقًا كبيرًا، في ظل انشغالها بالحرب في أوكرانيا والصراع مع الصين على القيادة الدولية، أو رُبّما يستغلّه الروس لتشتيت القوة الأمريكية الداعمة لأوكرانيا، وإدراك واشنطن احتمالية تدحرج الصدام إلى ساحات عديدة ضد مصالحها، ويظل المتغيِّر الرئيسي المعرقل لهذا السيناريو يتمثَّل في الإدراك الأمريكي أنَّ الإقدام عليه سيغلق مسارات التفاوض مع إيران.
2- تحريك التشكيلات العسكرية الحليفة
بمعنى أن تكتفي واشنطن بتكثيف حضورها في المثلث الحدودي وشرق الفرات، دون اللجوء إلى القوة المسلحة، مقابل التركيز على تحريك التشكيلات العسكرية الحليفة، في سيناريو أشبه بالحرب بالوكالة، وهو سيناريو يمكن وقوعه في ظل ملاءمته الأطراف المتصارعة كافة في سوريا، كما أنَّ فرص تأثيره في مسار التفاوض المفتوح بين الطرفين الأمريكي والإيراني ضئيلة للغاية، بخلاف الحال في المواجهات المباشرة الصريحة. لكن حال تحقَّق هذا السيناريو، يُتَوقَّع كثافة الهجمات بالصواريخ والمسيّرات ضدّ الأهداف الأمريكية بالساحتين العراقية والسورية، على نحوٍ قد يتطوَّر ويؤدِّي إلى الانتقال إلى السيناريو الأول بردّ أمريكي-إسرائيلي عسكري مُحتمَل ضدّ الأهداف الإيرانية، ولرُبّما الروسية والسورية في الساحة السورية والعراقية.
3- الاكتفاء بسياسة تكثيف الضغوط
وهو السيناريو الأكثر توقُّعًا، بمعنى أن تكتفي واشنطن بالاستنفار العسكري لحد المناوشات المحدودة، دون اللجوء إلى السيناريوهين الأول والثاني، مقابل الاكتفاء بسياسة تكثيف الضغوط، وخلْق أدوات تأثير جديدة ضد الخصوم الروس والإيرانيين في سوريا، بقصد إرباكهم وخلْط أوراقهم، لتحقيق عدَّة أهداف إستراتيجية يتقدَّمها الحصول على تنازلات من الطرف الإيراني في الملف النووي، والضغط على طهران لتخفيض التعاون العسكري مع موسكو، والتصعيد في بؤر التوتُّر ضدّ الروس للتأثير في مجهوداتهم الحربية في الحرب الروسية-الأوكرانية، ردًّا على دور موسكو في إشعال الجبهات ضدّ الحلفاء الأوربيين لواشنطن في القارة الإفريقية.
وتُؤخَذ في الاعتبار احتمالية لجوء واشنطن إلى تغيير في أدوات التأثير وممارسة الضغوط ضد الخصوم، خلال المرحلة الراهنة، مقارنةً بأدواتها خلال المراحل السابقة، على ضوء التحوُّلات الإقليمية والدولية، التي غيَّرت أهداف أطراف اللعبة كافة في سوريا، مقارنةً بأهدافهم خلال المرحلة السابقة، إذ تفيد التقارير بتوافُق روسي-إيراني على طرد القوات الأمريكية من سوريا عمومًا، وشرق الفرات خصوصًا، ما أضحى مصلحة ملحَّة ومصيرية لهما، ضمن إستراتيجية روسية لتحريك سياسات مضادَّة لواشنطن ردًّا على دعمها العسكري لأوكرانيا ضدها، كما تحوَّلت سوريا إلى ورقة إستراتيجية لدى واشنطن للضغط على موسكو وإيران في ما يخُص الحرب في أوكرانيا والمفاوضات النووية، كما أنَّ النمط القديم في الصراع خلال المراحل السابقة لم يحقِّق نتائج مُجدية للأطراف كافة، ومن ثمَّ يُتوقَّع أن تشهد المرحلة المقبلة استحداث أدوات مغايرة للصراع بين الأطراف كافة في الشرق الأوسط، بما يتناسب والتوازنات وسلَّة الأهداف الجديدة لكل طرف من أطراف الصراع، على ضوء تداعيات التحوُّلات الدولية والإقليمية الراهنة.
خلاصة تكشف المعطيات السابقة عن وزن وتأثير المتغيِّر الجغرافي الحدودي في إسترتيجيات الدول لتعظيم مكاسبها وتحقيق مصالحها من ناحية، واستخدامها كأوراق ضغط ضدّ خصومها للتأثير في مصالحهم ومناطق نفوذهم ومساومتهم على ملفات عالقة من جهة ثانية، كما تكشف أيضًا عن تجهيزات أمريكية تجاه المثلث الحدودي والساحة السورية تتجاوز مسألة محاربة «داعش»، وتصِل إلى حد التغيير في الأهداف الإستراتيجية لدى الفواعل الدولية الأمريكية والروسية والإيرانية، بعد التحوُّلات الإقليمية والدولية، إذ تنامت قيمة المثلث الحدودي والورقة السورية في الضغط المتبادل بين الأطراف كافة، لتحقيق أهدافها الجيو-سياسية، ولو جرى أخْذ ذلك في سياقات المنظور الإستراتيجي الأكبر، فإنَّ التحرُّك الأمريكي يعبِّر عن إعادة تموضُع أمريكية لمواجهة المخاطر الإستراتيجية، التي يمثِّلها تجمُّع خصومها.