شهِدَت زيارة الرئيس إبراهيم رئيسي إلى نيويورك الشهر الماضي، وهي ثاني زيارة له لحضور الاجتماعات السنوية للجمعية العامَّة للأُمم المتحدة، تطوُّرات مهمَّة، وعلامات تحسُّن في العلاقات الأمريكية-الإيرانية، وجدل ومحاولات من جانب الرئيس الإيراني لتجنُّب الانتقادات وتخفيف الضغط على الحكومة الإيرانية.
وتزامنت رحلة رئيسي مع إطلاق سراح خمسة سجناء إيرانيين من حَمَلة الجنسية الأمريكية، وإبرام اتفاق لإطلاق سراح السجناء في وقت سابق في قطر، وذلك خلال ما لا يقِلّ عن ثماني جولات من المحادثات غير المباشرة، التي عُقِدت بين المسؤولين الإيرانيين والأمريكيين. كما تضمَّنت الصفقة تحويل ما يقرُب من 6 مليارات دولار من الأموال الإيرانية المُجمَّدة، والمُحتجَزَة في كوريا الجنوبية، والتي حُوِّلت إلى قطر، ويمكن لطهران استخدامها بالدرجة الأولى لأغراضٍ إنسانية. وحدَّدت طهران في وقتٍ سابق قائمةً تَضُمّ خَمسة سجناء مُحتَجزين في الولايات المتحدة، وقالت إنَّها تريد إعادتهم إلى إيران. وأُدين السجناء بخرق نظام العقوبات، الذي تقوده الولايات المتحدة ضد إيران، أو العمل كعملاء أجانب لصالح طهران.
ساعد هذه المرة الاحتجاز التعسُّفي، الذي تمارسه إيران على مواطنيها من أصحاب الجنسية المُزدوَجة، والإفراج عنهم لاحقًا، على تحويل انتباه العامَّة قليلًا عن ذكرى وفاة مهسا أميني، الفتاة الإيرانية الكُردية التي تُوفِّيت أثناء احتجازها على يد الشرطة بطهران، في سبتمبر من العام الماضي. وقبل اندلاع احتجاجات لهذا العام في إيران بمناسبة ذكرى وفاة أميني، شَنَّتْ السلطات الإيرانية حملةً على النشرات العلنية للمعارضة، واستهدفت المعارضين البارزين.
لكن في نيويورك، عَقَد نُشطاء إيرانيون تجمُّعات حاشدة لإحياء ذكرى وفاة أميني، حيث حمَّلوا الرئيس رئيسي مسؤولية ما حصل لها. وفي الجمعية العامَّة للأُمم المتحدة، حَمَل السفير الإسرائيلي جِلعاد إردان مُلصقًا لصورة مهسا أميني (انظر الصورة 1)، عندما كان رئيسي يُلقي خطابه، ووصفه بأنَّه «جزّار إيران». وقال عضو مجلس الشيوخ الجمهوري الأمريكي جوني إرنست، إنَّ «الجزّار كان على الأراضي الأمريكية»، وإنتقد إدارة بايدن لإصدار تأشيرة للرئيس الإيراني، على الرغم من فَرْض عقوبات عليهِ قبل خمس سنوات.
صورة 1: السفير الإسرائيلي جلعاد إردان يرفع صورة مهسا أميني خلال كلمة رئيسي في الأمم المتحدة
المصدر: Republic World
أثناءَ حديثه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أشار رئيسي إلى الاحتجاجات في العام الماضي بإيران، لكنّه أصرَّ على أن الاضطرابات أشعلها أعداءٌ أجانب. ولتجنُّب المزيد من الانتقادات، سرعان ما غيَّر مسار حديثه وأدان تنامي الإسلاموفوبيا في الدول الغربية، بينما كان يحمِل نُسخةً من القرآن الكريم.
وفي منتصف زيارة رئيسي إلى نيويورك، تحدَّد مصير الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015م، المعروف باسم «خطَّة العمل الشاملة المشتركة/ JCPOA». تمكَّنت إيران من تسريع برنامجها لتخصيب اليورانيوم، الذي أدَّى حسبما أفادت به العديد من التقارير، إلى وصول إيران إلى العتبة النووية، بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق عام 2018م. وقد أدَّت المحادثات غير المباشرة الأخيرة بين الولايات المتحدة وإيران، حسبما أفادت به التقارير، أدَّت إلى تخفيض وتيرة تخصيب اليورانيوم المُستخدَم لتصنيع الأسلحة النووية، لكن مع عدم وجود دلائل على أنَّ إيران ستُغلِق برنامجها النووي إغلاقًا دائمًا.
وحسبما أفادت به الوكالة الدولية للطاقة الذرِّية، تواصل إيران زيادة مخزونها من اليورانيوم القريب من مستوى التخصيب المُستخدَم في صناعة الأسلحة. وقال المدير العام للوكالة الدولية رافائيل غروسي، إنَّه لم يُحرَز أيّ تقدُّم في ضمان امتثال إيران لشروط خطَّة العمل الشاملة المشتركة، مثل تقييد مستويات َخصيب اليورانيوم وتخزين الوقود.
لم تحِلّ إيران بعد الاختلافات المُتعلِّقة بالمواد النووية و/أو المعدّات، التي تحمل آثار اليورانيوم المخصَّب، التي عُثِر عليها في الموقعيين: تورقوزآباد وورامين ، وهذا يُشير إلى أنَّ البلاد قد تكون في طريقها لتصنيع السلاح النووي. وفي الوقت نفسه، يتَّفِق جيران إيران، بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي، مع الولايات المتحدة؛ من أجل توجيه دعوة للحكومة الإيرانية إلى زيادةِ تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرِّية.
وفي الوقت نفسه، وُقِّعت أحدثُ صفقة لتبادُل للسجناء مقابل الحصول مبالغ النقدية بين واشنطن وطهران، في خِضَم حشد عسكري أمريكي كبير في مياه الخليج؛ لِراسة السفن التجارية، التي تعبُر هذا الممرّ المائي الإستراتيجي. في الأسابيع الأخيرة، نشرت الولايات المتحدة بحّارة ومُشاة البحرية الأمريكية وطائرات مقاتلة من طراز إف-35 وإف-16 وطائرات عسكرية أخرى في المنطقة. ونفَّذت عمليات الانتشار، على خلفية تصعيدِ إيران للهجمات ومصادرة السفن التجاريةِ المُحايدة وناقلاتِ النفط، ردًّا على الإجراءات الأمريكية لوقف صادرات النفط الإيرانية.
ويحرص رئيسي على زيادة صادرات النفط الإيرانية، على أمل الاستفادةِ من ارتفاع أسعار النفط. وعلى الرغ من أنَّه من غير المُرجَّح أن تستحوذ إيران على حصة كبيرة في سوقِ النفط؛ بسبب المنافسة في أسواق الطاقة، إلّا أنَّ زيارة رئيسي إلى نيويورك بعثت الأمل بأنَّ إيران ربّما حلَّت بالفعل بعض مشكلاتها النووية مع الولايات المتحدة. وساعدت المحادثات الثنائية مع واشنطن طهران على زيادة صادراتها من النفط الخام، التي بلغت حوالي 2.2 مليون برميل يوميًا في سبتمبر (انظر الجدول 1). يعتقد بعض الخبراء في إيران، أنَّ هذه الصادرات لم تكُن لتتحقَّق، لولا إعطاء الولايات المتحدة الضَّوء الأخضر لإيران، بسبب انخفاض صادرات النفط من روسيا والمملكة العربية السعودية. وفي الأشهر المقبلة، من المتوقَّع أن تبقى إيران المساهم الرئيسي للنمو في أسواق الطاقة الدولية.
الجدول 1: أهم الدول المستوردة للنفط الإيراني في عام 2023م
أهمّ الدول المستوردة للنفط الإيراني لعام 2023 | النسبة المئوية للمبيعات | سعر المبيعات |
الصين | 90% | سعر الخصم غير معروف |
سوريا | لا تُوجَد أرقام رسمية | لا تُوجَد أرقام رسمية |
فنزويلا | لا تُوجَد أرقام رسمية | لا تُوجَد أرقام رسمية |
مصادر البيانات: «رويترز» أغسطس 2023م، و«أمواج» سبتمبر 2023م
ومع ذلك، يبقى أن نرى ما إذا كانت إدارة بايدن ستنجح في التوصُّل إلى اتفاق وسط مع إيران، حيث تحصل الحكومة الإيرانية مقابل وقْف التسلُّح النووي المحتمل على المزيد من تخفيف العقوبات والضمانات الأمنية لتصدير نفطها. وقد يخفِّف هذا الضغط قليلًا من الانتهاكات، التي تمارسها إيران ضد حقوق الإنسان في الداخل، إلّا أنَّ ذلك لن يكون كافيًا لإرضاء المعارضين الإيرانيين أو جيران إيران في مجلس التعاون الخليجي، ما لم تَمتَثِل إيران امتثالًا دائمًا لشروط خطَّة العمل الشاملة المشتركة.
أصرَّ رئيسي في نيويورك على أنَّ إيران حافظت على مستوى جيِّد من التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرِّية، لكنه فَشِل في وضع إستراتيجية للتغلُّب على المأزق النووي الحالي. وواصل رئيسي الدفاع عن برنامج التخصيب النووي الإيراني، ودعا إلى رفْع العقوبات. وعند عودته إلى بلاده، حَمَل معه 3506 ألوح أثرية تعود إلى الإمبراطورية الأخمينية الفارسية القديمة، التي لا تزال جامعة شيكاغو تحتفظ بها حتى الآن، وربّما تلك إشارةٌ إلى أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية تنوي التخفيف من حدَّة موقفها المتصلِّب تجاه إيران، وأنَّها ترغب حقًّا في إجراء محادثات معها.