أصبح اختراق السابع من أكتوبر، الذي نفَّذته حماس داخل إسرائيل، بمثابة «11 سبتمبر» الجديد للعالم. والرواية الإعلامية المسيطرة في العالم، باستثناء البعض، تتماشى مع الرسالة الإسرائيلية، التي عبَّرت عنها علنًا: «أن تكون معنا أو ضدنا». ومع عزْم إسرائيل شنّ الهجوم البرِّي، وارتفاع عدد القتلى الفلسطينيين، زادت حدَّة الرأي العام المناهض لإسرائيل والغرب، فالغضب الشعبي غير المسبوق، الذي شهِدته أوروبا والعالم الإسلامي ضدّ المجازر المستمِرَّة في حق الفلسطينيين، يُظهِر انفصالًا بين الحكومات وتطلُّعات الشعوب حول هذه القضية.
وأعلنت حركة حماس عن هجومها، الذي قتلت فيه واختطفت مدنيين، تزامنًا مع الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر، لكن انتشرت موجة من الصور والفيديوهات عن الهجوم في وسائل التواصل الاجتماعي تعجُّ بالإشاعات والمعلومات المضلِّلة والصور المفبركة، تُظهِر إذلالًا للضحايا من جهة، وتقتنص الفرصة لنشر وجهات النظر العالمية حول الجانبين المتصارعين.
وقد تُفضي سلسلة الأحداث الأخيرة، التي نشبت على يد حماس وما تلاها من انتقامٍ شامل من إسرائيل، إلى تنامي التطرُّف، أي التطرف بين العرب والصهاينة وبين المسلمين واليهود، لا سيّما أنَّ الحكومات الغربية سبق أن ردَّدت تصريحاتٍ مشابهةً بعد الهجوم على مركز التجارة العالمي، أحداث 11 سبتمبر.
أصبح اليمين المتطرِّف هو المسيطر في إسرائيل، فلا يزال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يحمل نفس الأفكار، التي كان يؤمن بها منذ أيام دراسته في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة هارفارد، وهي أنَّ بإمكان إسرائيل تطبيع وجودها بين كُتلة من الدول المنسجمة ثقافيًّا ودينيًّا، وذلك بقمع وتجاهُل الفلسطينيين، وهذا أيضًا ما تؤمن به حكومته، التي تُعَدُّ أكثر حكومة متطرِّفة منذ إقامة دولة إسرائيل، إذ ترى أنَّ الفلسطينيين يمكن استبدالهم، أي أن يحِلَّ مكانهم إسرائيليون.
كل ما حدث حتى هذه اللحظة، ما هو إلا نقطة البداية في هذا الصراع، فهجوم حماس لم يتسبَّب في إخراج عملية التطبيع بين إسرائيل والعالم العربي عن مسارها فحسب، بل كشف أيضًا عن أنَّ التقارب كان سطحيًّا، وإسرائيل الآن مشغولةٌ لدرجة أنَّها لا تستطيع أن تستوعب أنَّ التطبيع مع العالم الإسلامي لا يمكن فصله عن المطلب الفلسطيني والعربي بحل الدولتين.
وعلى إسرائيل أن تعي جيِّدًا أنَّ مصر والأردن ليست دولًا جارة مثل كندا والمكسيك، إذ توجد روابط عِرقية ودينية تربط الفلسطينيين بمصر والأردن، ناهيك بأنَّ مصر تحاذي حدود غزة، والأردن قرابة نصف سُكّانها من الفلسطينيين.
ببساطة، إسرائيل لا تستطيع أن تتخيَّل عواقب إستراتيجيتها في الانتقام الساحق لأقلّ تهديد، وهذا أيضًا ينطبق على حماس، التي لم تتصوَّر حجم عواقب هجومها السريع والمباغت.
وفي خِضَمّ ضجيج هذه الحرب، اضمحلَّت -بلا رحمة- مطالب عائلات الأسرى، بألّا تساوم إسرائيل باسم أحبَّتهم، ومعهم ذهبت أيضًا دعوات وقف إطلاق النار أدراج الرياح. ولم يلقَ عرض حماس صفقة تبادُل الرهائن مقابل تبييض السجون قبول البيت الأبيض ولا بيت أغيون (المقرّ الرسمي لرئيس وزراء إسرائيل)، بغضّ النظر كم من ضباط الجيش الإسرائيلي وقادة الموساد فضَّلوه.
لاقى وصْف الفلسطينيين بـ«حيوانات بشرية» تأكيدات من شخصيات، مثل بن شابيرو وغال غادوت وساره سلفرمان. وبدأت «عملية تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم» بوصم كل فلسطيني في غزة بأنَّه عامل في حركة حماس أو متعاطف معها. ومن المفارقة أنَّ انتقاد إسرائيل دائمًا يصنَّف على أنَّه معاداة للسامية، لذا نجِد قلَّة ممَّن يجرؤون على السير في هذا الطريق، أي انتقاد إسرائيل. ومن باب المقارنة العادلة، لا نغفل عن تأكيد أنَّ كل من يدين أو ينتقد حركة حماس و«حزب الله» يُصنَّف بأنَّه -بين مزدوجين- «مؤيِّدٌ لإسرائيل».
تتربَّع إيران في العالم العربي على عرش معاداة السامية، وبتوظيفها وسائل إعلام متعدِّدة وبصمتها الظاهرة في منصَّات التواصل الاجتماعي في النشر عن صمود حماس والجهاد الإسلامي و«حزب الله»، هذا لا يعزِّز فقط من الرواية الإيرانية، بل يثبط أيضًا من الجهود، التي تبذلها الدول العربية المناوئة لإيران. مذابح إسرائيل في غزة هي الحُجَّة، التي تحتاج إليها إيران لتوظيفها داخليًّا، وأيضًا على نطاقٍ أوسع في العالم الإسلامي. وفي الجانب الآخر، يعيش قادة حماس في فنادق فخمة، بينما يضحِّي الفلسطينيون بأرواحهم.
منذ بداية مذبحة أكتوبر، كان محاربو الإنترنت يعملون لأوقات طويلة بهدف نشر رواياتهم، لكن غالبًا لا يحرصون على الحقائق وطبيعة الصور التي تصل إليهم. وسوف يظلّ عدد لا يحصى من الجماعات ما قبل التطرُّف، في حالة تأهُّب شديد لنشر الإسلاموفوبيا، ومعاداة السامية، لتوسيع قاعدتها، على أقلّ تقدير.
بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا أيضًا لا يمكن توقُّعها لعواقب دعْم إسرائيل بشيكٍ على بياض لاستخدام القوة المفرطة. وعلى الضفة الأخرى، من المرجَّح أن يشعر العرب والمسلمون في المهجر بخيبة أمل من حكوماتهم، بينما سيتصاعد خطاب الكراهية على لسان المعادين للإسلام ومعسكرات اليمين المتطرِّف، والمتطرِّفين اليهود. يرى البعض أنَّ العالم أصبح أفضل اليوم في التعامل مع كراهية الأجانب، ممّا كان الحال عليه قبل عقدين من الزمن. وللتذكير المر، أحداث 11 سبتمبر كانت انتقامًا عنيفًا من الولايات المتحدة الأمريكية، لما مارسته من سياسات في فترة ما بعد الحرب الباردة، التي تُعَدُّ لا شيء مقابل نزاعات مبنية على ادّعاءات قديمة جدًّا تعود لقرون ماضية بأحقِّية الأرض المقدَّسة (فلسطين)، ما سيجُرّ الحضارة برمّتها، أي المسلمين، في وجه البقية، إلى منطقة مجهولة.
وإذا استمرَّت الدبلوماسية في التنازل لصالح القوة النارية، سنرى الخطابات المتطرِّفة سوف تُترجَم إلى أعمال شرِّيرة ومميتة على الأرض، تتراوح من الهجمات السيبرانية إلى المؤامرات الإرهابية. وإذا افترضنا أنَّ الأعمال العدائية توقَّفت وجرى التوصُّل إلى هدنة حقيقية، فإنَّ الخلاف الحاد بين اليهود والمسلمين سوف يتطلَّب عقودًا من الزمن حتى يذوب، فلا تزال الجراح بين البوسنيّين والصِّرب، رغم مرور ثلاثة عقود، تنزف ولم تُشفَ بعد. العدالة الانتقالية فكرة نبيلة، لكنّها مرعبة لدى بعض الدول بأن تتقبَّلها. بخلاف ذلك، لا شيء يمكن أن يُوقِف هذه الحلقة المفرغة والمفزعة من الانتقام.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد