تُعَدُّ السياسة الأوروبية إزاء الحرب بين حماس وإسرائيل نتيجةً تراكمية لإستراتيجياتٍ عديدة من بعض الدول. وكان من الممكن أن يكون هذا النقاش الداخلي مصدر قوّة لو تشكَّل ضمن موقف أوروبي مشترك، وبالتالي ستحتاج جميع الدول الأوروبية إلى التزام موقف دبلوماسي موحَّد، وتعزيز الخط الدبلوماسي الجديد. لم تكُن هذه هي الحال على أرض الواقع خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي عُقِدت لبحث وقْف إطلاق النار بغزة في 27 أكتوبر 2023م.
الخريطة التالية توضِّح موقف الدول الأوروبية من مشروع قرار الأمم المتحدة وقف إطلاق النار في غزة.
Source: Euractiv.
وتُهدِّد الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي حول غزة بإضعاف الموقف الأوروبي على مستوى السياسة الخارجية. حالة من فقدان الثقة والمصداقية، خصوصًا بين الدول العربية، وأكثر منها على الصعيد العالمي بين أوروبا وشركائها في جنوب العالم.
منذ بداية الأحداث في غزة، حذَّر الممثِّل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيب بوريل، من فشل أخلاقي جماعي يعود تاريخه إلى اتفاقيات أوسلو لعام 1993م، التي لم تُنفَّذ.
خلال الأيام الأولى بعد هجمات حماس، قرَّر الاتحاد الأوروبي -على غرار الولايات المتحدة- تبنِّي موقف دبلوماسي يدعم النهج الدبلوماسي الإسرائيلي. بدأ الموقف الدبلوماسي الأوليّ يتشكَّل الآن نحو نهجٍ أكثر توازنًا بين غالبية الدول الأوروبية، التي بدأت الآن تأخُذ في الحسبان المعايير الأوروبية المزدوجة بين الحرب الأوكرانية-الروسية، والصراع بين حماس وإسرائيل.
وقال بوريل إنه يجب ألّا «يُعمي إسرائيل الغضب». يُدرك الدبلوماسيون المقارنة ما بين حرب حماس وإسرائيل والغزو الروسي لأوكرانيا، التي تبنَّت تجاههما الدول الأوروبية سياساتٍ متباينةً نظرت إليها دول جنوب العالم على أنَّها متناقضة. تجلَّى دعْم العواصم الأوروبية لإسرائيل من خلال الزيارات المتعاقبة التي أجراها عديد من القادة الأوروبيين إلى تل أبيب، وزيارة رئيس المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، التي أظهرت دعمًا ثابتًا لإسرائيل.
تأتي هذه الحرب الجديدة في الشرق الأوسط بعد تسارُع المواجهة العسكرية بين روسيا وأوكرانيا، والوضع غير المستقِرّ في منطقة الساحل الإفريقي، في أعقاب انقلاب النيجر في صيف عام 2023م.
ويشكِّل هذا الانتشار للأزمات تحدِّيًا لبروكسل، ويؤكد الحاجة إلى بناء موقف دبلوماسي قوي، على الرغم من وجود انقسامات داخل الاتحاد الأوربي خلال الاجتماع في بروكسل، الذي عُقِد ما بين 25 و26 أكتوبر، إذ توصَّل القادة الأوروبيون إلى أدنى اتفاقٍ ممكن حول الحرب على غزة، واكتفوا بالدعوة فقط لتسيير «ممرَّات إنسانية وهُدنة مؤقَّتة»، لتقديم المساعدات لسُكّان قطاع غزة المحاصَر. كما تدعم فرنسا فكرة تشكيل ائتلاف دولي لمحاربة حماس، مثل التحالف ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية، داعش. وأوضح الرئيس إيمانويل ماكرون أنَّه سيناقش هذا الطرح مع شركاء بلاده.
قد لا يستطيع هذا الموقف المشترك إخفاء الانقسامات الداخلية بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، إذ تتبَّنى ثلاث مجموعات سياساتٍ متباينةً:
المجموعة الأولى تدعم إسرائيل وتضُم ألمانيا والنمسا والمجر، وترفض الدعوة إلى وقْف إطلاق النار، وترفض حتى هدنة إنسانية.
المجموعة الثانية تضُمّ إسبانيا وأيرلندا والبرتغال، وتدفع أكثر نحو تبنِّي سياسة متوازنة، ويستند نهجها الدبلوماسي إلى تجنُّب أيّ «معايير مزدوجة»، ودعْم السُّكّان المدنيين في غزة.
المجموعة الثالثة تسعى بقيادة فرنسا إلى إعداد سياسة أوروبية تضع بروكسل قائدًا في الساحة الدولية، تدعو هذه المجموعة إلى وقْف إطلاق النار، ومحاولة إقناع لندن وواشنطن بالحاجة المُلِحَّة إلى وقف إطلاق النار. ويأمل الرئيس الفرنسي أن ينضم قادة آخرون، بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، إلى دعوته إلى وقف إطلاق النار.
تُشكِّل هذه الخلافات الداخلية عقبة أمام تأكيد بروكسل دورها الدبلوماسي العالمي، ومع ذلك، يمكن أن يكون الدعم المالي الأوروبي ركيزة قوية لمشروع إعادة الإعمار بعد الحرب في غزة.
وعلى المدى القصير، لم يعُد دور الوساطة يوكَلُ إلى بروكسل، كما كان الحال في 1990م، لكن أصبحت تركيا وقطر والصين وروسيا من يؤديه أكثر. وتُعَدُّ الدول الأخيرة جهات فاعلة، إقليمية وعالمية، تمتلك القُدرة على إجراء محادثات مع جميع الأطراف المنخرطة في الصراع.
لم يعُد الدور الأوروبي محصورًا في الجانب الإقتصادي، إذ إنَّه في الجانب الدبلوماسي أيضًا يُوصَف الاتحاد الأوروبي على أنَّه لاعب مُكمِّل إلى جانب الولايات المتحدة. ولا يزال هذا التهميش الدبلوماسي لأوروبا يمثِّل مشكلة، نظرًا لخطر تصاعُد التوتُّرات الاجتماعية عبر المجتمعات الأوروبية، خصوصًا في ألمانيا وفرنسا، وأيضًا بسبب القُرب الإقليمي بين أوروبا وبلاد الشام.
تدفع هذه الخصوصية الأوروبية عواصم القارة العجوز إلى صياغة إجماع للوصول إلى إستراتيجية إبداعية ومُبتكَرة تجاه المنطقة. ومع ذلك، وبالنظر إلى الانقسامات الداخلية، يُوجَد خطر ظهور سياسة أوروبية تجاه الحرب بين حماس وإسرائيل، التي لا يمكن قراءتها، لكنَّها تَماهٍ من بروكسل مع خيارات الدبلوماسية الأمريكية.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد