فجَّر الخلاف بين حاكم ولاية تكساس الجمهوري جريج أبوت وإدارة الرئيس بايدن، بشأن سياسات الهجرة، الجدل من جديد حول قضية شديدة التعقيد على مدار العقد الماضي، وقد عمَّق من الأزمة التوظيفُ السياسي لها، بينما تُشرف البلاد على انتخابات حاسمة في عام 2024م. وعلى الرغم من أنَّ التصعيد، الذي صاحب الأزمة غير مسبوق، سواءً الحديث عن انفصال تكساس أو اندلاع حرب أهلية، أو تعميق الانقسام السياسي، الأمر الذي فتح شهية البعض للتحذير من عواقب واسعة النطاق على الداخل الأمريكي، غير أنَّ قراءة الأزمة بأبعادها القانونية والسياسية والإنسانية، يُشير إلى واقع مختلف، بل تكون هناك فُرصة مواتية هذه المرَّة للحزبين لتجاوز الانقسام بشأن ملف طالما مثَّل صداعًا للإدارات الجمهورية والديمقراطية على السواء؛ الأمر الذي قد يخرجه من التأثير كقضية انتخابية في عام 2024م.
أولًا: جذور الأزمة
تعود جذور الأزمة إلى فشل الإدارات الأمريكية المتعاقبة في التعاطي مع الهجرة غير الشرعية، وتحوُّلها إلى عبء اقتصادي وأمني، إذ بدأت الأزمة تتفاقم مع تولِّي الرئيس باراك أوباما السُلطة، وصارت تحدِّيًا في عام في 2010م، حيث وصلت العائلات من دول المثلَّث الشمالي في أمريكا الوسطى إلى الحدود، ولم يكونوا لاجئين سياسيين أو دينيين؛ وبالتالي لا تخضع حالتهم للقانون الأمريكي المنظِّم للهجرة. ومع تزايُد عدد المهاجرين، الذين يطلبون اللجوء، اكتسب المهرِّبون في المكسيك نفوذًا جديدًا على الحدود، خاصَّةً على طول حدود تكساس، التي تبلغ أكثر من 1200 ميل. وقد ساعدت وسائل التواصل الجديدة في توجيه رحلات المهاجرين نحو الحدود الأمريكية، وهو الأمر الذي بدأ يشكِّل عبئًا كبيرًا، خصوصًا بالنسبة للولايات الحدودية مع المكسيك، التي تواجه تحدِّيات حقيقية في التعامل مع التدفُّقات المتزايدة.
وقدحاولت الإدارات المتعاقبة منذ ولاية الرئيس أوباما التعامل مع التدفُّقات المتزايدة، واختبرت إستراتيجيات مختلفة، وفي مواجهة الطفرة القادمة من أمريكا الوسطى. فبدايةً، استخدمَ الرئيس أوباما الردع بدءًا من عام 2014م، عبر تسريع عمليات الترحيل والملاحقة الجنائية والاحتجاز، وكان أوباما يأمل من خلال هذه الإجراءات الصارمة، في تلقِّي دعْم الجمهوريين لإصلاح نظام الهجرة على نطاق أوسع، لكن هذا لم يحدُث، وتفاقمت الأزمة.
عندما تولَّى دونالد ترامب منصبه في 2017م، شرعَ في تنفيذ وعدِه بإنشاء جدار حدودي، وكاد ينجح في إغلاق الباب أمام المهاجرين بشكل كامل، إذ بحلول نهاية ولاية ترامب، كانت الولايات المتحدة قد أكملت أكثر من 720 كيلومترًا من بناء الجدار الجديد على طول الحدود، التي تبلغ 3145 كيلومترًا، وتمَّ تنفيذ جزء كبير من البناء في مناطق كان يُوجَد بها بالفعل شكل من أشكال الحواجز. وفضلًا عن أنَّ إجراءاته أبطات عمليات مكتب اللجوء، من خلال إضافة إجراءات فنِّية مرهقة، حيث خفَّض ترامب الحصَّة السنوية إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق، فإنَّ سياسته والإجراءات التي تابع تنفيذها، أثمرت في اتّجاهٍ آخر غير الحد من تدفُّق اللاجئين إلى المنافذ البرِّية، إذ استمرَّ تدفُّق المهاجرين عبر المنافذ غير الشرعية.
وبينما كان ظهور فيروس كوفيد-19، الذي أغلق الحدود وأوقف السفر في كل مكان، سببًا في انخفاض حاد في الدخول غير القانوني للمهاجرين، فإنَّ الوباء أيضًا مكَّن ترامب من تنفيذ تغيير أكثر جذريةً في التنفيذ، من خلال تفعيل أمر طوارئ الصحة العامَّة، المعروف باسم الباب 42، إذ بموجبه منحت الإدارة حرسَ الحدود سُلطةَ طرد عابري الحدود على الفور إلى المكسيك، دون السماح لهم بطلب اللجوء. وعلى الرغم من ذلك، وجد المهاجرون طريقًا آخر لعبور الحدود، وتزايد عددهم مع ظهور تدفُّقات جديدة من أربعة بلدان تعاني من أزمات سياسية واقتصادية، هي نيكاراجوا وفنزويلا وكوبا وهاييتي. وعلى الرغم من أنَّ ترامب قد رحل، لكن شكَّلت التدفُّقات من هذه الدول الأربع تحدِّيًا خاصًا لإدارة بايدن، وهي تكافح للتعامل مع تدفُّقات الهجرة إليها. وعلى مدار سنوات، وفي ظل كل هذه الضجَّة والاستقطاب، لم يكُن هناك سوى القليل من النقاش حول الحاجة إلى إصلاح نظام اللجوء نفسه.
ثانيًا: الهجرة بين سياسة بايدن وتمرُّد تكساس
على ما يبدو أنَّ أزمة الهجرة خلال فترة بايدن، قد وصلت إلى محطَّةٍ فارقة، ويمكن توضيح ذلك على النحو الآتي:
1. إجراءات بايدن:
بعد فوز بايدن في انتخابات 2020م، قام بعكس مسار ترامب، وادّعى اتّباع نهْج أكثر إنسانية في التعامل مع قضية الهجرة، وبالفعل رفَعَ حصَّة مكاتب اللجوء إلى 125 ألفًا، وهو أعلى هدف أمريكي منذ التسعينيات، وقلَّص بناء الجدار الحدودي المكلف، الذي أنشأه ترامب، ومنَعَ فصْل العائلات، وأنشأ فريق عمل للم شمل العائلات التي فرَّقها ترامب، وأنهى احتجاز الأُسَر التي لديها أطفال. ومع ذلك من الناحية العملية، أبقت العقبات البيروقراطية العددَ الفعلي للاجئين المُعاد توطينهم أقلّ بكثير، وواصلت إدارته تقييدَ وصول اللاجئين عبر الحدود البرِّية، والطرد السريع والترحيل. وعلى الرغم من هذه السياسات، اكتظَّت الحدود بالمهاجرين، وعجزت إدارة بايدن عن مواجهتها؛ نتيجة فقدان التنسيق مع المكسيك لتطبيق الباب 42، والعلاقات السيِّئة مع الدول الأربع، التي يتدفَّق منها اللاجئون. وممّا زاد الوضع تعقيدًا، أنَّ المهرِّبين شجَّعوا المهاجرين للعبور إلى مُدُن أصغر، مثل ديل ريو وإيجل باس في تكساس ويوما بولاية أريزونا، حيث كانت مرافق الاحتجاز في الخطوط الأمامية محدودة.
وفي محاولة للحد من التدفُّقات، بدأت وزارة الأمن الداخلي برنامجًا جديدًا للإفراج المشروط لهؤلاء الذين عبروا الحدود دونَ وثائق، من دول فنزويلا وكوبا وهايتي ونيكاراغوا، وبدأت إدارة بايدن في اختبار تطبيقها للهاتف المحمول، المُسمَّى CBP One، والذي يسمح للمهاجرين باستخدام هواتفهم، قبل الوصول إلى الولايات المتحدة؛ لتحديد المواعيد في منافذ الدخول البرِّية. وكان التأثير الأولي لبرامج الإفراج المشروط واضحًا جدًّا، لكن على الجانب المكسيكي من الحدود استمرَّ الإحباط في التصاعد، بالنسبة لآلاف المهاجرين المتكدِّسين في الملاجئ والخيام، لا سيّما بعد انتهاء العمل بالباب 42.
على الرغم من أنَّ الإجراءات، التي تابعها بايدن، تستهدف في الأخير إغلاق باب اللجوء على طول الحدود، لكنَّها لم تُكسِبه تأييدَ الجمهوريين، الذين استهزأوا بإجراءاته، وأقرُّوا مشروع قانون لأمن الحدود لا يتضمَّن سوى التنفيذ الصارم، على الرغم من عدم وجود أيّ فُرصة لتمريره في مجلس الشيوخ، الذي يسيطر عليه الديمقراطيون. كما رفع اتحاد الحرِّيات المدنية الأمريكي، الذي نجح في رفْع دعوى قضائية لوقف حظر العبور الذي فرضه ترامب، دعوى قضائية مماثلة ضدّ حُكم بايدن، كذلك منْع قاضٍ اتحادي عيَّنه ترامب في فلوريدا الإدارة من استخدام بعض برامج الإفراج المشروط للإفراج عن طالبي اللجوء، وهو حُكم يمكن أن يُعيق بشكل خطير نهْج الإدارة. ولأنَّ سياسات بايدن تمَّ تنفيذها من خلال إجراءات تنفيذية دون موافقة الكونجرس، فإنَّها دائمًا ما كانت عُرضةً للتحدِّيات من اليسار واليمين في المحاكم. المحصِّلة في الأخير، أنَّ إجراءات بايدن لم تؤدِّ إلى وضْع حد للأزمة، بل فاقمها تدفُّق مزيدٍ من المهاجرين نحو الحدود، واستغلالهم العديدَ من الثغرات في هذه الإجراءات، بمساعدة المهرِّبين.
2. تحدِّي تكساس:
حتى هذه اللحظة، كان الجدل بشأن قضية الهجرة فيدراليًا، حتى طرَحَ حاكم تكساس جريج أبوت خطابه وخِطَطه المتشدِّدة بشأن قضية الهجرة، وهي الخِطَط التي لم يسبق لها مثيل، حتى في تكساس نفسها. فمنذ أن تولَّى بايدن منصبه كرئيس، حاول أبوت وضْع أكبر ولاية يقودها الجمهوريون في أمريكا، باعتبارها الخصم الأول لسياسات الحدود التي تنتهجها الحكومة الفيدرالية، وكانت البداية عندما اقترح، دون دليل، في ربيع 2021م أنَّ المهاجرين المصابين بـ«كوفيد-19» يعرِّضون سُكّان تكساس للخطر نتيجة تخفيف بايدن لإجراءات الهجرة، وبالفعل بدأ أبوت في يونيو 2021م بالتحرُّك لإغلاق أكثر من 50 ملجأ تؤوي آلاف الأطفال المهاجرين، ووعدَ أبوت بمواصلة بناء جدار ترامب الحدودي.
ولأجل تمويل مشروعه، قال أبوت إنَّ تكساس ستبدأ بتحويل 250 مليون دولار من دولارات الولاية؛ من أجل بناء حاجز جديد إضافةً إلى التبرُّعات، كما وجَّه قوّات ولاية تكساس للبدء في اعتقال عابري الحدود وسجنهم بتهم ارتكابهم جرائم حكومية، مثل التعدِّي على ممتلكات الغير. وبالفعل، بدأت ولاية تكساس بتركيب سلك شائك على طول ما يقرُب من 30 ميلًا من الأراضي على الجانب الأمريكي من نهر ريو غراندي، كجزء من جهود الولاية لمكافحة ما يدّعي المسؤولون أنَّه تدفُّقٌ مستمِرّ للهجرة غير الشرعية في عهد إدارة بايدن. غير أنَّ العملاء الفيدراليين المكلَّفين بدوريات على الحدود، قاموا بإزالة هذه الأسلاك كجزء من عملهم، والذي يتضمَّن تقديم المساعدة للأشخاص الذين يحاولون عبور الحدود، والذين قد تكون حياتهم في خطر.
وتصاعدت الأزمة، حيث ردَّت تكساس على إزالة العملاء الفيدراليين للأسلاك الشائكة برفع دعوى قضائية في المحكمة الفيدرالية، مدّعيةً أنَّ العملاء الفيدراليين انتهكوا قانون الولاية، من خلال إزالة الأسلاك. وفي منتصف ديسمبر 2023م، انحازت محكمة الاستئناف بالدائرة الخامسة إلى تكساس، وأصدرت أمرًا قضائيًا يحظر على العملاء الفيدراليين قطْع الأسلاك أو تحريكها، ما لم يكُن ذلك ضروريًا لمعالجة «حالة طبِّية طارئة»، ثمّ توجَّهت وزارة العدل مباشرةً إلى المحكمة العُليا في وقتٍ مبكِّر من هذا العام 2024م، وطلبت إلغاء هذا الأمر القضائي، وبالفعل أصدرت المحكمة أمرًا موجزًا من ثلاث جُمَل، بالموافقة على طلب وزارة العدل.
بعد أن أصدرت المحكمة العُليا أمرًا بالموافقة على طلب وزارة العدل لإزالة الأسلاك، التي قامت الولاية بتركيبها -والمُصمَّمة لمنع المهاجرين من العبور إلى تكساس- انتقل الخلاف بين سُلطات الولاية والسُلطات الفيدرالية إلى الرأي العام، وقد مثَّل علامةً فارقة، من خلال تصريحات التحدِّي، التي أظهرها حاكم ولاية تكساس الجمهوري جريج أبوت، والدعم من العديد من زملائه في الحزب الجمهوري الحاكم، في جميع أنحاء البلاد؛ وكانت النتيجة تصعيد النزاع إلى أزمة سياسية ودستورية مُحتمَلة، دون نهاية في الأُفُق.
يجادل أبوت بأنَّ ولاية تكساس لديها الحق الدستوري في الدفاع عن نفسها من «الغزو»، ويدّعي أنَّ هذه السُلطة «هي القانون الأعلى للبلاد وتحِل محلّ أيّ قوانين اتحادية تتعارض مع ذلك»، ويقول أيضًا إنَّ تكساس ستواصل إضافة الأسلاك على طول الحدود، على الرغم من حُكم المحكمة العُليا. كما أصدر الحُكام الجمهوريون في جميع أنحاء البلاد بيانًا لدعم أبوت، وقدَّم الرئيس السابق ترامب، الذي يقوم بحملته الانتخابية في 2024م على فكرة أنَّ الولايات المتحدة فقدت السيطرة على حدودها، دعمهُ الصريح أيضًا لأبوت. ولا شكَّ، قد أدَّى الصراع حول سياسات الهجرة على الحدود الجنوبية إلى تأجيج التكهُّنات بوجود أزمة دستورية مُحتمَلة، إذ أنَّ تكساس لا تقبل سُلطات الإدارة والحكومة الفيدرالية فقط، لكن أيضًا حتى تفويض المحكمة العُليا في هذه القضية.
ثالثًا: قراءة في أبعاد الأزمة ودلالاتها
لا يمكن النظر إلى الأزمة من جانب واحد، بل لها أبعاد ودلالات تتخطَّى ذلك، وهذه الأبعاد هي كالآتي:
1. البُعد الموضوعي للأزمة:
ما من شك أنَّ الهجرة باتت أزمةً فعلية تواجهها البلدان المتقدِّمة، وفي مقدِّمتها الولايات المتحدة التي تُعتبَر قبلةً مهمَّة في عصر الهجرة الجماعية. فقد أدَّى تدفُّق اللاجئين إلى إجهاد الخدمات الاجتماعية في مُدُن، من بينها نيويورك وشيكاغو ودنفر، التي تكافح من أجل إيواء الآلاف من طالبي اللجوء دون تصريح سكن أو عمل. وهيمنت صور المهاجرين، الذين ليس لديهم مكان يذهبون إليه للتخييم في الأماكن العامَّة، على نشرات الأخبار المحلِّية. لهذا، فإنَّ هناك جانبًا موضوعيًا فيما ذهبت إليه سُلطة تكساس، باعتبار أنَّها تواجه أزمةً حقيقية، في ظل تزايُد تدفُّق المهاجرين إلى حدودها؛ الأمر الذي يزيد من الأعباء، وإنَّ إجراءات إدارة بايدن بالفعل قد كانت سببًا حقيقيًا في هذه التدفُّقات المتزايدة، من خلال سياستها، التي شجَّعت المهاجرين على التدفُّق نحو الحدود بصورة غير مسبوقة. وما يؤكِّد ذلك، أنَّ تحدِّي إدارة بايدن لم يقتصر على تكساس، بل إنَّ عددًا من الولايات الجمهورية انضمَّت إلى تكساس في موقفها، كما أنَّ بعض حُكّام الولايات الديمقراطيين الليبراليين، دخلوا على خط الأزمة، فمؤخَّرًا دعت حاكمة ولاية أريزونا كاتي هوبز، وهي ديمقراطية ليبرالية، الرئيسَ إلى استدعاء الحرس الوطني، وعندما رفض، فعلت ذلك بنفسها على حساب الولاية، كذلك أرسل تسعة حُكّام ديمقراطيين؛ هُم حكام ولايات أريزونا وكاليفورنيا وكولورادو وإلينوي وماريلاند وماساتشوستس ونيوجيرسي ونيويورك ونيو مكسيكو، رسالةً إلى بايدن وأعضاء الكونجرس، مفادها أنَّ الولايات والمُدُن تُنفق المليارات للاستجابة، لكنّها تتفوَّق عليها بالوتيرة القياسية للوافدين الجُدُد، وقد طلب هؤلاء المال للمساعدة في تلبية احتياجاتهم الفورية، والالتزام بالعمل على تحديث قوانين الهجرة.
2. التوظيف السياسي:
لم تخلُ قضية الهجرة من التوظيف السياسي والحزبي، وقد كانت المناكفات والاستقطاب سببًا في تعطيل أيّ معالجات قانونية لهذه القضية، لكن هذه المرَّة يتِم توظيف هذه القضية بصورة أكثر حدَّة، لا سيّما مع اقتراب الانتخابات الرئاسية 2024م. فقد كان من الملاحظ أنَّ حُكّام الولايات الجمهوريين، الذين فجَّروا الأزمة، كان لهم طموح في خوض انتخابات 2024م الرئاسية، كما ظهر التوظيف بجلاء مع اشتباك ترامب مع الأزمة، وذلك باعتباره المنافسَ الأبرز أمام بايدن في الانتخابات الرئاسية، وبالنظر إلى أنَّه صاحب الإجراءات الأكثر حدَّة بشأن هذا الملف. ولا يفوت التذكير بأنَّ ترامب حقَّق نجاحات كبيرة مع الناخبين اللاتينيين، في الانتخابات الأخيرة، على طول حدود تكساس، التي ظلَّت لفترة طويلة معقلًا للديمقراطيين، لكنها أيضًا أكثر محافظةً اجتماعيًا من المُدُن الليبرالية الكُبرى في الولاية.
ولا يزال الزعماء الجمهوريون، الذين يريدون مستقبلًا في الحزب، يرون أنَّ الدعم للإجراءات الحدودية العدوانية يُعَدُّ مكسبًا سياسيًا، مدعومين بنتائج عام 2020م، التي تُشير إلى أنَّ براعة ترامب لم تدفع الناخبين اللاتينيين بعيدًا، كما توقَّع بعض الديمقراطيين. من جهة أخيرة، فإنَّ الهجرة نقطة ضعف بالنسبة لبايدن، ففي استطلاع أجرته وكالة «أسوشيتد برس» ومركز NORC لأبحاث الشؤون العامَّة، في مايو 2023م، أظهر أنَّ 43% من الأمريكيين يوافقون على طريقة تعامله مع القضية، بينما يعارضها 54%، وقد استغلَّ الجمهوريون بمختلف أنحاء الولايات المتحدة هذا الاستياء، حتى أنَّ حاكمي ولايتي أيداهو ونبراسكا من الحزب الجمهوري قالا إنَّهما أيضًا سوف يرسلان عددًا صغيرًا من ضُبّاط إنفاذ القانون في الولاية إلى الحدود.
3. الإشكالية القانونية:
على مرِّ السنوات، كانت إحدى أصعب القضايا القانونية، التي يتعيَّن حلها، هي كيفية وضْع قواعد لثني المهاجرين عن الشروع في رحلاتهم إلى الولايات المتحدة في المقام الأول، خاصَّةً من البلدان التي تعاني من اضطرابات أو كوارث اقتصادية أو عنف العصابات على نطاق واسع. ومن المعروف أنَّ ما ينظِّم مسألة الهجرة في الولايات المتحدة، قانون اللاجئين لعام 1980م، الذي تبنَّى التعريف القانوني للاضطهاد من اتفاقية اللاجئين لعام 1951م: «يمكن منح الحماية لشخص لديه خوف مبرَّر من الاضطهاد؛ بسبب العرق أو الدين أو الجنسية أو الهوية».
يخلق القانون طريقين متميِّزين للحماية؛ الطريق الأول: وضْع اللاجئ، ويُقصَد به الأشخاص، الذين تمَّ اقتلاعهم من بلدانهم، ويستوفون التعريف القانوني للاضطهاد، ويتقدَّمون بطلب الحماية عندما يكونون خارج الولايات المتحدة، وهؤلاء يتِم فحصهم وقبولهم وفق خطَّة سنوية محدَّدة لقبول اللاجئين، ويحدِّد البيت الأبيض هدفًا سنويًا لقبول اللاجئين، وتدعم الحكومة الفيدرالية والمنظَّمات الإنسانية إعادةَ توطينهم. الطريق الثاني: اللجوء، ويُقصَد به الطريق المُتاح للأشخاص الموجودين بالفعل في الولايات المتحدة، حتى لو على بُعد بضعة أقدام فقط من الحدود.
ليس هناك إشكالية في الأشخاص، الذين يتقدِّمون بطلب الحماية ويحصلون عليه وفق الخَّطة المُتَّبَعة سنويًا، لكن تكمُن المشكلة في المهاجرين الذين يصِلون إلى الأراضي الأمريكية عن طريق عبور الحدود دون أوراق ثبوتية؛ فهؤلاء لديهم عملية أخرى تمامًا، تتمحور حول محاكم الهجرة، حيث يواجه هؤلاء عمليةً بيروقراطية تنتهي بالرفض، وذلك على الرغم من التعديلات التي دخلت على قانون الهجرة، وقد أسفرت هذه السياسة عن تحولات ضخمة في أعداد السُكَان القادمين إلى الحدود الجنوبية.
وتتجلَّى الأبعاد القانونية للأزمة، في أنَّ المشرِّع الأمريكي يجِد نفسه أمام تحدٍّ حقيقي في إنجاز تشريع يوائم بين عدَّة اعتبارات، فهناك الالتزام بقواعد القانون الفيدرالي، والتي تعكس احترام القانون الدولي والقِيَم الأمريكية، والتغييرات المطلوبة التي تطالب بها الولايات لحماية الأمن الداخلي، والتي سوف تُناقض هذه القواعد والقِيَم، وكذلك الاعتبارات الإنسانية المتعلِّقة بالأزمة، حيث تجِد قضية المهاجرين دعمًا من المؤسَّسات الحقوقية، وهي تمثِّل ورقةَ ضغط على الساسة من الحزبين. إنَّ الإصلاح الشامل لنظام اللجوء، فضلًا عن وعود بايدن بـ«إغلاق الحدود»، إذا تمَّ سن مشروع القانون المقترح، يُثير قلق المدافعين عن الهجرة، الذين يقولون إنِّه سيحرم طالبي اللجوء من القُدرة على النظر بشكلٍ كامل في طلباتهم من قِبَل محاكم الهجرة، ويقوِّض دورَ الولايات المتحدة كملاذٍ آمن للأشخاص الفارين من العنف. أضِف إلى ذلك التجاذبات السياسية، وتحوُّل الموضوع إلى قضية حزبية، ويظهر ذلك بوضوح فيما أشار إليه زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، وزعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، من ربْط تعزيز سياسة الحدود بحزمة الرئيس جو بايدن، البالغة 110 مليار دولار من المساعدات في زمن الحرب، لأوكرانيا وإسرائيل، وأولويات الأمن القومي الأخرى.
رابعًا: مآلات الأزمة وتأثيراتها
من الواضح أنَّ الهجرة بأبعادها المختلفة، سيكون لها تأثيراتٌ على عدَّة مستويات في الولايات المتحدة، ويمكن أن نستنتج بعض هذه التأثيرات، على النحو الآتي:
1. التأثير على نتائج انتخابات 2024م:
كما كانت كورونا قضيةً مركزية في انتخابات 2020م، التي فاز بها بايدن على ترامب، يبدو أنَّ قضية الهجرة ستكون القضيةَ المحورية في انتخابات 2024م، وكما كانت كورونا القشَّة التي قصمت ظهر ترامب في 2020م؛ لأنَّ استطلاعات الرأي تُشير إلى أنَّ الهجرة وإنفاذ القانون على الحدود قضيتان سيئتان بالنسبة لبايدن والديمقراطيين، ويمكن أن يُعيقا جهودَ إعادة انتخاب الرئيس وحزبه، ويراهن ترامب على ورقة الهجرة؛ لتعزيز حظوظه في الانتخابات، ويرى أنَّه أخطأ في استغلاها في الانتخابات السابقة، حيث قال ترامب خلال تجمُّع انتخابي في لاس فيغاس: «لم نتمكَّن حرفيًا من وضْع ذلك في خطاب. لا أحد يريد أن يسمع عن الحدود. لم تكُن لدينا مشكلة حدودية. لكن الآن يمكننا أن نتحدَّث عن الحدود؛ لأنَّها لم تكُن أبدًا أسوأ ممّا هي عليه الآن»، ولا يرغب ترامب في أن يمرِّر الكونجرس قانونًا تجري مناقشته بين الحزبين؛ لأنَّ ذلك قد يُفقده تأثير هذه الورقة في الانتخابات.
2. حلحلة ملف الهجرة المعقَّد:
على الرغم من التوظيف السياسي، لكنْ قادت أزمةُ تكساس إلى فتْح نقاش بين الحزبين؛ من أجل معالجة ناجزة لأزمة الهجرة غير الشرعية على الحدود الجنوبية، ويبدو أنَّ هناك اعترافًا متزايدًا من الحزبين الجمهوري والديمقراطي بضرورة إصلاح هذه المشكلة، وتجاوُز العقبات القانونية والخلافات السياسية بشأن ملف الهجرة، حيث يبدو أنَّ هناك إجماعًا على خطورة قضية الهجرة وتأثيرها على الداخل الأمريكي. وهذه التخوُّفات لا تقتصر على الجمهوريين وحسب، بل إنَّها كذلك مصدر خوف لدى الديمقراطيين، الذين يرون أنَّه لا يمكن تأجيل القضية أكثر من ذلك. وقد بدا هذا في توافُق من زعماء الحزبين في الكونجرس، بشأن القانون المقدَّم لتعديل إجراءات الهجرة، ورُبّما تخضع إدارة بايدن لمساومات الجمهوريين في إدخال تعديلات وإجراءات لم تكُن تقبل بها من قبل؛ وذلك بالنظر إلى حساسية هذه القضية، وتأثيرها الكبير على الناخبين. بل رُبّما يضغط بايدن على الكونجرس لفرض قيود على اللجوء، لم يكُن من الممكن تصوُّرها عندما تولَّى منصبه، وهو يفعل ذلك تحت ضغط ليس فقط من الجمهوريين، ولكن من الديمقراطيين، بما في ذلك المسؤولين المُنتخَبين في المُدُن، التي تبعُد آلاف الأميال عن الحدود، والذين يشعرون بآثار وصول طالبي اللجوء إلى الولايات المتحدة بأعدادٍ قياسية.
3. تضخيم بشأن قضيتي تقرير المصير والانقسام السياسي:
من منظورٍ مختلف، حاولت أطرافٌ داخلية وخارجية تضخيمَ الأزمة والاستثمار فيها لأجندات سياسية، وجرى الحديث عن انفصال تكساس وطموحاتها القديمة في تقرير المصير، وذهبت أطراف أخرى إلى قراءة المشهد في إطار الانقسام السياسي والاجتماعي المتفاقم في الولايات المتحدة. ومن ثمَّ تجاوز التحليل الواقع، وجرى تداوُل الموضوع غالبًا من خارج الولايات المتحدة، بأنَّ هناك أمَّة في خطر، لكن ديناميات السياسة الأمريكية تُشير تاريخيًا إلى وجود هذه الخلافات والمناوشات، والتي تخرج عن المألوف أحيانًا حتى من جانب المسؤولين، لا سيّما في الانتخابات. والحملات الانتخابية الأمريكية مليئة بالهجمات والحِجَج والتحيُّزات، وهو تقليدٌ قديم؛ حيث يسعى كلٌّ من الحزبين إلى عرقلة الآخر، وهو ما يُعرَف بـ«متلازمة الانتخابات الأمريكية»، وتمثِّل المواجهة المستمِرّة بشأن أزمة الهجرة على الحدود الجنوبية تطوُّرًا جديدًا في هذه المتلازمة.
خلاصة
لقد سبق الأوروبيون الولايات المتحدة في تبنِّى إجراءات قاسية؛ من أجل مواجهة الهجرة الجماعية، ويبدو أنَّ الولايات المتحدة بصدد إجراءات غير مسبوقة بشأن هذا الملف، وذلك بالتَّخلِّي عن مبدأ إنساني كان هو جوهر قانون الهجرة الأمريكي وجوهر القِيَم الأمريكية. لكن سيظل السؤال قائمًا: هل من الممكن أن تُنهي الإجراءاتُ المُحتمَلة الحركةَ الجماعية للمهاجرين المحبطين نحو الحدود الأمريكية، أم أنَّ هذه الإجراءات سيكون لها تأثيرٌ عكسي، كما جرى مع كل المحاولات السابقة. هذا على الجانب الموضوعي للأزمة، أمّا فيما يتعلَّق بشقِّها السياسي، هل يمكن أن يكون تمرُّد تكساس ورفْع سقف المواجهة بين الولايات الوطنية والحكومة الفيدرالية إلى درجة غير مسبوقة، قد خلقَ مسارًا جديدًا لتوافق الحزبين على سياسةٍ ناجزة بشأن الهجرة، بعيدًا عن التجاذبات الحزبية والانتخابية؟ رُبّما تُشير التطوُّرات إلى أنَّ هناك لحظةً تاريخيةً فارقة لإحداث تحوُّلٍ جذري في التفاهمات بشأن هذه القضية المهمَّة، والتي كانت واحدةً من قضايا الانقسام السياسي منذ فترة أوباما، وطالما تمَّ توظيفها لخدمة أهداف انتخابية وحزبية.