مع تصاعد التوتر بالمنطقة في الأيام القليلة الماضية، ولا سيما بعد مقتل 3 جنود أمريكيين في قاعدة عسكرية على الحدود الأردنية-السورية، وحديث الإدارة الأمريكية عن ضلوع ميليشيات قريبة من إيران في العملية، والتوعد بالرد على المتسببين في الهجوم، شهدت أسواق العملة الأجنبية والذهب ارتفاعًا ملحوظًا في إيران وصل إلى 20% في غضون أسبوع واحد. ومن الواضح أن تصريحات المسؤولين، ولا سيما مسؤولي البنك المركزي أن هذه المرحلة “مؤقتة وستنتهي قريبًا وأن الأسعار ستعود إلى سابق عهدها”، لم تُفلح في إقناع المواطنين الذين لجؤوا إلى شراء الذهب والدولار للحفاظ على قيمة مدخراتهم.
ليس من المبالغة القول إنّ أولويات النظام تختلف عن أولويات مواطنيه، والفجوة بين ما يتطلع إليه الإيرانيون وما يسعى إليه النظام في بلادهم تتوسع يومًا بعد يوم.
يريد غالبية الإيرانيين العيش بظروف اقتصادية أفضل، والتمتع بمستوى مقبول من الرفاهية والحريات الفردية، وإزالة التوتر والتصعيد، وإقامة علاقات طيبة مع مختلف الدول في المنطقة والعالم وعدم فعل ما يعرض حياتهم ومعيشتهم للخطر، بينما يسعى النظام إلى فرض نمط حياة معين على مواطنيه في الداخل وتصدير أيديولوجيته إلى المنطقة، ويفتعل مشكلات مع جيرانه ويزعزع الاستقرار في المنطقة بهدف الهيمنة عليها.
لقد بات حديث المرشد عن “الاقتراب من القمة”، وتصريحات رئيس الجمهورية بأن العالم “في ذهول من التقدم الحاصل في البلاد”، محطَّ تندُّر بين الإيرانيين.
تدرك السلطات في إيران أن هذه التصريحات لا تُقنع الإيرانيين، لكنها تبرر لذلك بسرد أسباب واهية، كما فعل خامنئي يوم الثلاثاء 30 يناير، إذ رأى أن السبب في ذلك يعود إلى عدم توضيح التقدم الحاصل في البلاد والجهود والنجاحات والابتكارات للمواطنين. والحقيقة أنه يصعب على الإيرانيين أن يقتنعوا بذلك، في ظل واقع ملموس يعايشونه في كل يوم.
من تجليات هذا الواقع في السنوات الأخيرة تراجع الأمن الغذائي للإيرانيين وسوء التغذية، في ظل انخفاض استهلاكهم المواد الغذائية الضرورية، فقد قال المدير السابق لدراسات الرفاهية الاجتماعية في وزارة التعاون والعمل، هادي موسوي نيك، في يونيو 2023م، إن 57% من السكان في إيران يعانون من سوء التغذية، ولا يحصلون على ما يحتاج إليه الجسم من سُعرات حرارية يومية، أي 2100 سُعر حراري. ومن بين عدد السكان الذين يعانون من سوء التغذية 14.5 مليون طفل، منهم 10 ملايين طفل دون الثانية عشرة.
فكيف يمكن أن يُقنع النظام مواطنيه بأن البلاد قد “اقتربت من القمة”، بينما وصلت أعداد من لم يتمكنوا من تناول اللحوم الحمراء في السنوات القليلة الماضية إلى أرقام مرعبة، فحسب تقرير لمركز الأبحاث في جامعة شريف للتكنولوجيا، ارتفعت نسبة الأسر التي لم تتناول اللحوم الحمراء في عام 2021م إلى 58%، بعد أن كانت 27% في عام 2006م، أي إن نحو 49 مليون إيراني لم يتناولوا لحومًا حمراء طوال ذلك العام.
وتؤكد هذه الأرقام ما تحدَّث عنه مسعود رسولي، أمين اتحاد صناعة تغليف اللحوم والمواد البروتينية، في أغسطس 2022م، من أن استهلاك الفرد من اللحوم الحمراء قد انخفض مقارنةً بالسنة الماضية، ووصل إلى نحو 3 كجم، فيما تقدِّر أوساط إعلامية حصة الفرد من استهلاك اللحوم الحمراء في عام 2023م بأقل من واحد كجم سنويًّا.
يأتي ذلك في حين أن هذا الرقم يصل إلى 27 كجم في تركيا، و49 كجم في أمريكا، و40 كجم في الأرجنتين، و30 كجم في أوروبا.
وحسب تقارير منظمة “الفاو” لعام 2022م، فإن حصة الفرد من اللحوم الحمراء في كوريا الشمالية (8.1 كجم)، وتنزانيا (10 كجم)، والعراق (8.7 كجم) وغانا (10 كجم)، أي كانت جميعها أعلى من إيران.
وبعد ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء في الآونة الأخيرة في إيران -وصلت إلى نحو 650 ألف تومان للكيلو الواحد- لم يعد الدعم النقدي الشهري المقدم من الحكومة للفرد يكفي، ويبلغ نحو 400 ألف تومان، إنْ أُريد تخصيصه كله للحوم، سوى لشراء 620 جرامًا تقريبًا.
والأمر لا يقتصر على اللحوم، فقد أشار مساعد وزير الصحة، علي رضا أوليائي منش، إلى انخفاض استهلاك الإيرانيين من الألبان ومشتقاتها بنسبة 30%.
وبدلًا من عمل الحكومة على إيجاد حلول مناسبة وتوفير اللحوم لمواطنيها، لجأت إلى حلول غريبة. فقد اعتبر حميد حسينيان خوشرو، رئيس قسم الحبوب في مؤسسة “ديم” للأبحاث الزراعية، التابعة لوزارة الزراعة، أنه يمكن تعويض انخفاض استهلاك المواطنين اللحوم الحمراء عبر استبدالها بمنتجات مثل الحمص والعدس، وتحدث مسؤولون آخرون عن أنه يمكن توفير ما يحتاج إليه الجسم من البروتينات من خلال استهلاك الطعام النباتي والمكسرات والفواكه، بدلًا من اللحوم.
والحديث عن هذه البدائل ينم عن عدم معرفة واقع المواطنين، إذ إنه لا يمكن سوى لفئة محدودة من المجتمع توفير هذه البدائل التي تتجاوز تكلفتها سعر اللحوم غالبًا.
لقد أدى سوء التغذية بين الإيرانيين إلى نتائج ملموسة في السنوات الأخيرة، فقد قال محمد تقي حسيني طبطبائي، المسؤول العلمي للمؤتمر الثامن عشر لطب الطوارئ والأمراض الشائعة في طب الأطفال، إنه بناءً على الدراسات، حدث انتشارٌ كبير لقصر القامة وقلة الوزن والنحافة في بعض المحافظات الإيرانية، وذلك نتيجة سوء التغذية.
وقال فرامرز خدائيان، مدير المنتجات الغذائية والمشروبات في هيئة الغذاء والدواء إن “نحو 22% من الأطفال تحت سن الخامسة في إيران يعانون من قصر القامة نتيجة سوء التغذية”، فيما تشير إحصائيات أخرى إلى معاناة 11% من الأطفال في إيران من قلة الوزن، ومعاناة 5% منهم من النحافة الشديدة.
من الطبيعي أن تكون أولوية الإيرانيين، الذين تشير تقارير البنك الدولي إلى أن 68% منهم إما فقراء وإما معرضون لخطر الفقر، وباتوا يعزفون عن شراء الملابس الشتوية رغم برودة الطقس، مختلفة عن أولوية النظام الذي يواصل التضييق على مواطنيه في الداخل لإجبارهم على نمط حياة معين، ويتابع عبر وكلائه سياسةً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ويمضي قُدُمًا في سياسة التصعيد. ولا شك أن هذه السياسة ستتواصل -وإنْ خفتت لفترة محدودة- بعد أن أيقن النظام أن الإدارة الأمريكية لا تمتلك الإرادة والجدية لتحجيمه أو تهديد بقائه، مهما ارتفعت نبرة المسؤولين الأمريكيين.
فرغم الضربات الأمريكية المحدودة ضد وكلاء إيران واستهداف قواعد “الحرس الثوري” أو عناصره في المنطقة، وتسببها في خسائر، فإن النظام الإيراني يرى أن الهيمنة على المنطقة تقتضي تحمُّل بعض التكلفة وتستحق هذه الخسائر.
المصدر: عرب نيوز
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد