مقدمة
فرضت كارثة غرق السفينة روبيمار في الثاني من مارس 2024م عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر نفسها على الساحة العالمية، خصوصًا للمعنيين بالحفاظ على البيئة البحرية، لكونها تعد إحدى الكوارث البحرية ذات التأثير متعدد الجوانب في تلويث المياه والتأثير في حياة الكائنات البحرية، ويمتد هذا التأثير في النظم البيئية، إذ يؤدي التلوث إلى تغييرات في النظم البيئية البحرية، مما يصنع خللًا في التوازن البيولوجي والبيئي في البحار والمحيطات، وأخيرًا يشمل التأثير في الاقتصاد المحلي من خلال تأثر قطاعَي الصيد والسياحة في المناطق الساحلية، ما يخلق خسائر اقتصادية فادحة.
من هذا المنطلق، صارت الحاجة مُلحة لمزيد من تضافر الجهود الإقليمية والدولية لمواجهة تلك الكارثة استشعارًا للمسؤولية المجتمعية حفاظًا على الأصول الرأسمالية البحرية للعالم بأسره، لأن التداعيات السلبية المحتملة نتيجة تلك الحادثة لن تتوقف عند حدود البحر الأحمر والدول المطلة عليه، فالتلوث لا يعترف بالحدود.
وتعد الكوارث البحرية من أسوأ الكوارث الطبيعية تأثيرًا في البيئة البحرية، لكون تأثيرها يمتد إلى أكثر من نطاق، إذ يشمل تلويث المياه والشواطئ، مما يؤثر في حياة الكائنات البحرية والطيور المائية التي تعتمد على البيئة البحرية، نتيجة إصابة الأغشية المخاطية لديها وتعرضها للتسمم. كما يمتد التأثير إلى النظم البيئية، إذ يؤدي التلوث إلى تغييرات في النظم البيئية البحرية، مما يؤثر في التوازن البيولوجي والبيئي في البحار والمحيطات، وأخيرًا تؤثر في الاقتصاد المحلي من خلال التأثير في قطاعي الصيد والسياحة بالمناطق الساحلية، ما يتسبب في خسائر اقتصادية فادحة.
وعلى الرغم من الأطر الموجودة بالفعل وآليات مواجهة مثل هذه الكوارث، لكن لا تزال هذه الجهود متواضعة، بينما يتعرض البحر الأحمر إلى كارثة بيئية تتزايد يومًا بعد يوم، فما أبعاد هذه الكارثة البيئية وما تداعياتها؟
أولًا: توصيــف الحادثــــة
أعلنت الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا في 2 مارس 2024 غرق السفينة البريطانية “روبيمار” نتيجة هجمات الحوثيين، باعتبار ذلك جزءًا من حملتهم على الحرب الإسرائيلية ضد حماس في قطاع غزة، وقد هاجم الحوثيون السفينة بالصواريخ في البحر الأحمر قرب جزيرة حنيش اليمنية على بعد 25 ميلًا بحريًّا قبالة سواحل المخاء. وتعد تلك الحادثة نموذجًا للكوارث البحرية متعددة ومتشابكة الأبعاد سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا، وتنطوي على بُعد بيئي في ظل التحذيرات من كارثة غير مسبوقة، إذ كانت السفينة تنقل أكثر من 41000 طن من الأسمدة فئة IMDG 5.1 عالية الخطورة، إضافة إلى كميات من الزيوت والوقود، وذلك عندما تعرضت لهجوم حوثي بصاروخين في 18 فبراير أدى إلى أضرار جسيمة بها، كما تعرضت لهجوم آخر في 29 فبراير أدى إلى غرقها بالكامل، وتسرب ما يقرب من 18 ميلًا عبر الممر المائي في ظل احتمالات بتسرب مزيد من الحمولة أو شحنة الوقود، خصوصًا أن السفينة تعد في نهاية عمرها الافتراضي كونها مصنوعة منذ عام 1997م.
وحسب موقع “Marine traffic” الملاحي المتخصص، “تُعد روبيمار المسجلة في المملكة المتحدة، التي كانت ترفع علم بليز عندما استهدفها الحوثيون، ناقلة بضائع سائبة يبلغ طولها 171.6 متر وعرضها 27 مترًا تحمل على متنها 21 ألف طن متري من سماد كبريتات فوسفات الأمونيوم، بالإضافة إلى شحنتها من الوقود”.
ثانيًا: التداعيات البيئية والاقتصادية للحادثة:
- تلوث المياه
على الرغم من أن موقع Green garageblog البيئي، يشير إلى أن الأسمدة الكيماوية، مثل كبريتات الأمونيوم، يجري تصنيعها من منتجات بترولية، فإنها “ليست عناصر مستدامة، لذلك فإن الأسمدة العضوية لديها خطر أقل من الترشيح إلى مصادر المياه المحلية”، لكن وفقًا لتصريحات هيئة المواني والمناطق الحرة في جيبوتي، التي نسقت عملية إنقاذ أفراد طاقم روبيمار، فإن الحمولة “خطيرة للغاية”، وهذا ما أكده أحد خبراء البيئة والرئيس السابق للهيئة العامة لحماية البيئة اليمنية، عبد القادر الخراز، إذ قال: “نحن نتحدث عن حمولة 20 ألف طن من كبريتات فوسفات الأمونيوم، وهذه مادة كيميائية تُستخدم أسمدة، لكنها أسمدة صناعية وليست طبيعية، وبالتالي عندما تذوب هذه الأسمدة وتتسرب إلى الماء لها تداعيات بيئية خطيرة، إلى جانب حجم الكمية الكبير، مما يعوق عملية تتبعها عندما تختلط بالماء وتذوب، وبالتالي فإنها ستؤثر في خصائص المياه وتُلوّثها. وقد يكون الخطر الحقيقي في بقية الحمولة غير المعلن عنه، إذ إن حمولة الباخرة أساسًا 41 ألف طن، وبالتالي يوجد نحو 20 ألف طن لا نعرف ماهيتها، وقد جرى الحديث فقط عن كميات من الديزل والمازوت، وهذه المواد لا تتجاوز 1500 متر مكعب”.
يزداد الخطر المتوقع من تسرب الشحنة القابعة في السفينة نظرًا لطبيعة التيارات البحرية في البحر الأحمر، ممثلًا في أنماط المياه الدائرية الفريدة في البحر الأحمر، التي تعمل في الأساس كبحيرة عملاقة، إذ تتحرك المياه شمالًا، نحو قناة السويس في مصر، خلال فصل الشتاء، وخارجًا إلى خليج عدن في الصيف، وهو ما يعني أن ما يجري إلقاؤه أو غرقه في البحر الأحمر سيظل موجودًا لفترة زمنية طويلة قبل أن تتمكن التيارات البحرية من جذبه إلى خارج نطاق البحر الأحمر.
وفي ما يتعلق بالأسمدة الضارة التي كانت تنقلها السفينة، فإذا ظلت الكميات سليمة تحت الماء، فسيكون التأثير بطيئًا بدلًا من إطلاقه على نطاق واسع، ومن المرجح أنها ستذوب في عمود المياه، مما يؤدي إلى تغيير جذري في تكوين الماء، ويؤدي إلى تلوثه وعدم ملاءمته حياة بعض الكائنات الحية.
- التأثير في الحياة البحرية
يعد التلوث البحري بالنفط أحد أخطر أنواع التلوث ضررًا على البيئة البحرية، فعندما يجري تسرب الزيت إلى المياه البحرية، يؤدي ذلك إلى تشكيل أغشية زيتية على سطح الماء، وهذا بدوره سينعكس على الأحياء البحرية، سواء النباتية أو الحيوانية، ويؤدي إلى موت كثير منها، وأيضًا سيزيد تكاثر الطحالب غير الطبيعي، إذ إن الحمل الزائد من العناصر الغذائية يمكن أن يحفز النمو المفرط للطحالب، ما يؤدي إلى استهلاك كثير من الأكسجين، بحيث لا تستطيع الأحياء البحرية البقاء على قيد الحياة. وبالتالي نفوق كائنات بحرية أخرى، مما يؤثر في التنوع البيولوجي في منطقة تعد من أكثر مناطق التنوع البيولوجي ثراءً في العالم.
أما تأثير التلوث بالأسمدة، فيتوقف إجمالًا على كيفية استنفاد التيارات المائية للأسمدة وكيفية إطلاقها من السفينة المنكوبة، إذ إن الأسمدة تغذِّي تكاثر الطحالب، وتكاثرها يعني فقدان الأكسجين واختناق الحياة البحرية وإنشاء ما يسمى (المناطق الميتة)، كما أنها تشكل خطرًا كبيرًا على الشعاب المرجانية الأكثر تنوعًا واتساعًا في العالم، ويشير خبراء الحياة البحرية إلى أنَّ أسوأ ما في الأمر هو أنَّ بعض الكائنات الحية عندما تتلقى المواد الكيميائية، فإن هذا لا يؤدي إلى موتها مباشرة، وإنما تترسب هذه المواد في أجسامها، لا سيّما الرخويات منها، وعند اصطياد تلك الكائنات المشبعة بالسموم سيظهر تأثيرها على مَن يتناولها، وستظهر أمراض خطيرة في المستقبل القريب.
وأخذًا في الاعتبار الأهمية التي يشكلها البحر الأحمر باعتباره مصدرًا حيويًّا للمأكولات البحرية في البلدان المشاطئة له، حيث كان صيد الأسماك ثاني أكبر صادرات البلد بعد النفط قبل الحرب التي دارت رحاها منذ 2015م، بالإضافة إلى ما يتمتع به البحر الأحمر من تنوع بيولوجي فريد، حيث توجد به سلسلة من أندر أنواع الشعاب المرجانية في العالم والأكثر مقاومة لعوامل التلوث المختلفة، فإن كارثة على هذا النحو سيكون لها كثير من التداعيات الاقتصادية والاجتماعية على مجتمع الصيادين الذين يمثلون الشريحة الأكبر في نطاق الإقليم، خصوصًا اليمن، التي سوف يكون لها النصيب الأكبر من تلك التداعيات التي سوف تمس قطاعًا عريضًا من الصيادين، الذي يشكِّلون الشريحة العظمى من ساكني المناطق الساحلية.
- ابيضاض الشعاب المرجانية
يشكِّل التلوث بالأسمدة عاملًا مُهمًّا في ظاهرة ابيضاض الشعاب المرجانية، إذ يؤدي إلى رفع مستويات النيتروجين في الشعاب، مما قد يجعلها أكثر عرضة للدمار، ومن ثم فإن الحادثة لن تؤدي إلى خسارة هذا التوازن الحيوي في بيئتنا الإقليمية فحسب، بل سيمتد هذا التأثير إلى البيئات الأخرى، وقد نفقد فرصة مهمة لعلاج الخلل في مناطق أخرى، إذ تمتلك الشعاب المرجانية في البحر الأحمر السر المؤدي إلى إنقاذ الشعاب المرجانية في أنحاء العالم، نظرًا لاحتمال نقل شعاب مرجانية من البحر الأحمر لإعادة تأهيل الأنواع الأقل درجة في أماكن أخرى من العالم مثل الحيد المرجاني العظيم.
ورغم أن الشعاب المرجانية تغطي فقط 0.1% من المحيطات، فهي مأوى لنحو 30% من الكائنات الحية المتنوعة، وهي تمثل في البحر الأحمر شريان حياة لأنواع من الكائنات المعرضة للخطر، مثل سلاحف منقار الصقر، إلى جانب دعم صناعة الصيد والزراعات البحرية والسياحة، التي تمثل أحد أهم مصادر الدخل القومي لعدد من دول الإقليم، وتأتي على رأسها جمهورية مصر العربية، إذ من المقرر إعلان ما يقرب من 800 كيلومتر من مناطق الشعاب المرجانية محمية طبيعية. وتأتي المملكة العربية السعودية في المرتبة الثامنة عالميًّا من حيث مساحة الشعب المرجانية وبنسبة 6% من حجمها على المستوى الدولي، إذ تُشكِّل سواحل المملكة على البحر الأحمر أفضل مناطق تركز للشعب المرجانية على مستوى العالم.
ويمكن تخيل الخسائر الاقتصادية جراء فقد الشعاب المرجانية، التي تعد ركيزة سياحة الغوص في البحر الأحمر، عند استعراض بيانات منظمة السياحة العالمية، إذ تشير الإحصاءات إلى أن عدد السياح حول العالم في عام 2019 (قبل جائحة كورونا) بلغ نحو 1.5 مليار سائح، منهم 80% وجهتهم المناطق الساحلية في العالم، حيث تعد الشواطئ وممارسة رياضة الغوص لمشاهدة أعماق البحار، وبالتالي يشكل ممارسو رياضة الغوص في القارة الأوروبية نحو 39% من أعدادهم على مستوى العالم.
- تهديد المخزون السمكي في البحر الأحمر
على الرغم من انخفاض إجمالي الناتج السمكي من البحر الأحمر بمعدل انخفاض سنوي بلغ نحو 2%، وهو ما يعادل نحو 1.26 ألف طن سنويًّا خلال الفترة 2017-2022، غير أنه لا يزال إحدى الدعائم المهمة لتوفير البروتين الحيواني، وتحقيق الأمن الغذائي، وتوفير العملة الأجنبية من تصدير تلك الأسماك الفاخرة إلى الدول المطلة على البحر الأحمر.
ويُعزى انخفاض الإنتاج السمكي من مصايد البحر الأحمر إلى عديد من المشكلات، يأتي على رأسها التلوث البحري بكل أشكاله، وأبرزها حدوث تسريب لبقع الزيت والمواد الكيميائية من بعـض السفن، إذ تتجمّع وتُخزن مركبات النفط وغيرها من الملوثات في الكائنات الحية البحرية، من أسماك وغيرها من الأصداف والقشريات والروبيان وتنتقل إلى الإنسان عن طريق السلسلة الغذائية، فهي تُختزن في أكباد ودهون الحيوانات البحرية، وهذه المركبات لها آثار سيئة بعيدة المدى لا تظهر على الجسم البشري إلا بعد عدة سنوات، بالإضافة إلى نفوق بيض ويرقات عديد من الأسماك التي تعيش في مناطق قريبة من سطح البحر أو تقطن الطبقات العليا منه نتيجة التلوث البحري. وقد صرحت الحكومة اليمنية بأن سحب السفينة إلى الأراضي الضحلة في السواحل اليمنية لن يمنع الكارثة، بل سيفاقمها، نتيجة تسرب الزيوت المدمرة للبيئة البحرية ووصول التلوث إلى مصادر غذاء الأسماك في الشعاب المرجانية، الأمر الذي يهدد الأمن الغذائي للمواطنين في بعض دول المنطقة، لا سيما الصيادين اليمنيين.
- التأثير في محطات تحلية المياه:
حسب وكالة الأنباء السعودية، تعتبر المملكة من أهم دول العالم في إنتاج المياه المُحلاة، بإنتاج تجاوز مليارًا وستة ملايين متر مكعب من المياه سنويًّا بنسبة 18% من الإنتاج العالمي، ولا تزال المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة في السعودية تحافظ على مكانتها، باعتبارها أكبر منتج للمياه المُحلاة في العالم، بإنتاج بلغ (1006.6) مليون متر مكعب، منها (495.3) مليون متر مكعب من محطات الساحل الشرقي بنسبة (49.2%)، و(511.3) مليون متر مكعب من محطات الساحل الغربي بنسبة (50.8%) من إجمالي تصدير المؤسسة. وبلغ حجم الطاقة الكهربائية المولَّدة في محطات التحلية، البالغ عددها 27 محطة تحلية عاملة (24.884.807) ميجاواط/ساعة. وحسب تقرير لوكالة أسوشييتد برس الأمريكية فإن غرق السفينة روبيمار “يزيد نسبة المخاطر على أنماط المياه الدائرية الفريدة في البحر الأحمر، كما أن أكبر شبكة محطات تحلية مياه في العالم، التي بَنتها السعودية منذ عقود، قد تلحق بها أضرار بالغة، إذ تمتلك المملكة أكثر من 41 محطة تحلية، منها ما يقرب من 25 على ساحل البحر الأحمر”.
ومن الناحية العملية والبيئية، فإن التداعيات السلبية المحتملة نتيجة تلك الحادثة لن تتوقف عند حدود البحر الأحمر والدول المطلة عليه، وإن كان سينالها النصيب الأكبر من تلك التداعيات، لكنَّ البحر الأحمر في النهاية متصل بغيره من البيئات البحرية، مثل بحر العرب والمحيط الهندي، ويعد كذلك أحد المداخل الرئيسية لقناة السويس، شريان التجارة العالمية.
ثالثًا: الأطر والجهود المبذولة للحد من تداعيات الحادثة
1. الأطر القانونية وأدوات التعامل مع الكوارث البيئية
تعد الاتفاقيات البيئية الدولية المعنية بالبيئة البحرية، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، إطارًا تشريعيًّا لتنظيم والحفاظ على البيئة البحرية في أنحاء العالم كافة. وفي ما يتعلق بإقليم البحر الأحمر، فإن الاتفاقية الإقليمية للمحافظة على بيئة البحر الأحمر وخليج عدن (اتفاقية جدة) المظلة التشريعية المنوط بها توفير مختلف السبل لحماية بيئة البحر الأحمر كاملًا.
والهيئة الإقليمية للمحافظة على بيئة البحر الأحمر وخليج عدن، الذراع التنفيذية للاتفاقية، وذلك بالتعاون مع مركز المساعدات التبادلية للتعاون في حالات الطوارئ، الكائن في مدينة الغردقة، الذي يكفل توفير المعدات والخبراء اللازمين للتدخل في حالة الطوارئ أو الكوارث البحرية التي يتعرض لها أي من دول إقليم البحر الأحمر، وتتمحور رؤية الهيئة حول الحفاظ على بيئة بحرية نظيفة واستخدام مستدام للموارد وتنمية اجتماعية وازدهار اقتصادي في الإقليم.
وتعتبر الهيئة الإقليمية للمحافظة على بيئة البحر الأحمر وخليج عدن، هيئة حكومية متعددة الأطراف، تهدف إلى الحفاظ على البيئة البحرية في البحر الأحمر وخليج عدن، وتضم الهيئة في عضويتها الدول العربية المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن، وهي: المملكة العربية السعودية، جمهورية مصر العربية، جمهورية السودان، المملكة الأردنية الهاشمية، جمهورية جيبوتي، الجمهورية اليمنية، جمهورية الصومال الفيدرالية.. وتستمد إطارها القانوني من اتفاقية جدة 1982م.
وقد تحولت الهيئة بموجب إعلان القاهرة، الصادر عام 1996م، إلى كيان رسمي يمارس عمله في حماية البيئة البحرية في الإقليم. ومنذ ذلك الحين تستضيف المملكة العربية السعودية المقرَّ الرئيسي للهيئة في مدينة جدة، كما تستضيف جمهورية مصر العربية منذ عام 2006م المقرَّ الرئيسي لمركز المساعدات المتبادلة للطوارئ البحرية (إيمارسجا) في مدينة الغردقة.
وينبع الإطار القانوني لـمركز المساعدات المتبادلة للطوارئ البحرية في البحر الأحمر وخليج عدن “EMARSGA” من البروتوكول المتعلق بالتعاون الإقليمي في مكافحة التلوث البحري بالنفط والمواد الضارة الأخرى في حالات الطوارئ (1982) والملحق باتفاقية جدة، فقد نص هذا البروتوكول على إنشاء مركز للمساعدات المتبادلة في حالات الطوارئ في البحر الأحمر وخليج عدن، وافتُتح المركز رسميًّا في 2006 بحضور وزراء البيئة في الدول الأعضاء، وفي عام 2009 جرى التوقيع على بروتوكول جديد يتبع اتفاقية جدة معنيّ بالتعاون الإقليمي لنقل الخبراء والمعدات بين الدول الأعضاء في الحالات البحرية الطارئة، وقد وضعت الهيئة برنامجها الإقليمي للحد من المخاطر الملاحية والتلوث البحري، لتعزيز سلامة الشحن الدولي في منطقة الهيئة ولاتخاذ التدابير اللازمة للحد من الآثار الناجمة عن التلوث البحري.
ويشمل الإطار التشريعي أيضًا ما جرى من اعتماد الاتفاقية الدولية للاستعداد والتصدي والتعاون في ميدان التلوث الزيتي، لعام 1990، اتفاقية(OPRC) ، وتوجد جهات دولية متعدةة معنية بالمسؤولية والتعويض في حالات التلوث البحري، منها الصندوق الدولي للتعويض عن التلوث النفطي (IOPC Fund) عام 1992، والمجموعة الدولية لرابطات الحماية والتعويض (IG)التي تعمل متعاونة في تعزيز تنفيذ الأدوات الدولية لتعويض التلوث النفطي، بما في ذلك اتفاقية المسؤولية المدنية لعام 1992م، وبروتوكول الصندوق التكميلي لعام 2003م، واتفاقية وقود السفن في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن، التي تغطي بشكل تكاملي أنظمة المسؤولية عن الحوادث البحرية، وآليات المطالبة بالتعويضات وإنشاء نظام اتصالات ومعلومات أفضل وشبكة أكثر كفاءة لتجنب الحوادث البحرية والاستجابة لها في حالة الطوارئ، بالإضافة إلى صياغة الجوانب القانونية والإدارية المتعلقة بالتعامل مع المشكلات البيئية الناتجة عن التلوث البحري في المنطقة، وصياغة أدلة استرشادية إقليمية للاستجابة لانسكابات النفط والمواد الكيميائية الخطرة الأخرى.
وقد أسَّس عديد من دول إقليم البحر الأحمر برامج رصد منتظمة لمياه البحر، وتشمل رصد المتغيرات الأساسية في المياه الساحلية منذ التسعينيات. وتبذل الهيئة جهودًا مستمرة منذ عام 2004م بهدف تأسيس برنامج رصد إقليمي مستدام لمياه البحر. وقد جرى إنجاز عديد من الخطوات، مثل تدريب الفنيين ودعم الدول بمعدات وأجهزة الرصد. وتسعى الهيئة حاليًّا لتحقيق مشاركة كل الدول بفعالية في برنامج الرصد الإقليمي وانسياب بيانات الرصد بانتظام إلى قاعدة معلومات الهيئة وتفعيل خطة الطوارئ الوطنية وانتشار الفرق الميدانية للخبراء في المنطقة والشواطئ لمراقبة التلوث وأخذ العينات الدورية.
ويهدف برنامج الهيئة للرصد الإقليمي إلى: تعزيز القدرات الوطنية في الدول الأعضاء بالطاقات البشرية والمعدات لتنفيذ أنشطة الرصد وتقليل الفجوة بين الدول في تنفيذ برامج الرصد، بالإضافة إلى توفير المعلومة الموثقة لدعم وضع تشريعات وطنية مناسبة، ولمساعدة متخذي القرار في اتخاذ قرارات على أساس علمي وبمشاركة أصحاب العلاقة.
2. جهود متواضعة لإنقاذ السفينة “روبيمار”
مبكرًا، ومع الضربات التي تعرضت لها السفينة “روبيمار”، شكّل اليمن من خلال حكومته المعترف بها خلية طوارئ للتعامل مع السفينة الجانحة التي جرى استهدافها وبدأت تتسرب حمولتها، وجرى التحذير من الوضع المقلق للسفينة، كما رفعت الحكومة درجة الاستعداد، وأبلغت على الفور المنظمة البحرية الدولية والهيئة الإقليمية للمحافظة على بيئة البحر الأحمر وخليج عدن، التي يقع مقرها في جدة، وطلبت الحكومة من الجهتين المساعدة من أجل مواجهة الكارثة البيئية التي قد تنتج عن تسرب حمولة السفينة، كما أعلنت الحكومة اليمنية أنها ستتخذ الإجراءات القانونية تجاه مُلاك السفينة، للمساعدة في التخلص من الكارثة البيئية.
ورغم هذه الجهود من جانب الحكومة اليمنية، ومن جانب الهيئة، ما تزال الاستجابة العملية ضعيفة على المستوى الإقليمي أو الدولي إلى حد بعيد، إذ لم يصل الخبراء الأمميون لتقييم وضع السفينة “روبيمار” إلا بعد غرقها، واكتفى سفراء دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبريطانيا والصين، وممثلون أمميون معنيون بالبيئة، وخبراء، إضافة إلى وزيري البيئة في كل من جيبوتي واليمن، بعقد اجتماع لتقييم الوضع الراهن وبحث الخِيارات المتاحة، وربما اتخذت الهيئة في جدة إجراءات وخطوات، وذلك وفق البروتوكول الخاص بها، لكن لم تعلن عمَّا تبذله من جهود.
وحتى الآن، لا يمكن القول إن الجهود المبذولة على قدر الخطورة التي تمثلها هذه الحادثة، والأدهى أنه في ظل استمرار الضربات التي يوجهها الحوثيون إلى مزيد من السفن، فإن الكارثة البيئية سوف تتضاعف، وستكون واحدة من البيئات البحرية النادرة في العالم عرضة للتهديد، علاوة على تأثيرات اقتصادية وصحية سوف تطال الدول المطلة على البحر الأحمر.
3. نموذج إنقاذ السفينة “صافر”
صافر، هي ناقلة نفط عملاقة متحللة كانت موجودة قبالة شواطئ اليمن، وكان على متنها أكثر من مليون برميل نفط، وقد كان من الممكن أن يؤدي تسرب كبير إلى كارثة بيئية وإنسانية واقتصادية غير مسبوقة، إذ إن السفينة قد مضى على خدمتها 47 عامًا، وبقيت على الشواطئ اليمنية لمدة ثمانية أعوام مصدرًا لتهديد كبير، فقد كانت مرشحة لتصبح خامس أكبر تسرب لخزان نفطي في التاريخ، وقد نجحت الأمم المتحدة، من خلال عملية منسقة، في منع السيناريو الأسوأ الذي كان يهدد الحياة البحرية في البحر الأحمر، وذلك على الرغم من أن السفينة لا تزال تشكِّل تهديدًا بيئيًّا، لأنها تحتوي على بقايا زيت لزجة لا يمكن إزالتها إلا في أثناء التنظيف النهائي.
وتعد الموارد المالية العامل الأهم في عملية الأمم المتحدة، وهنا يشار إلى أن “السعودية أسهمت بدور مؤثر في التغلب على التهديد البيئي” الذي كانت تمثله الناقلة “صافر”، وذلك من “خلال المشاركة في توفير التمويل المالي المطلوب لتنفيذ خطة الإنقاذ، التي أعلنتها الأمم المتحدة لنقل النفط من صافر، والتعامل مع هيكل الناقلة المتهالك بعد إفراغها، حتى لا تسبب أي تدمير للبيئة البحرية، لا سيما أن مقدارًا من النفط اللزج سيظل ملتصقًا بها”، فقد كان لإسهام المملكة دورٌ في “الدفع بالجهود الأممية قُدُمًا لتنفيذ الخطة، وإنهاء أزمة السفينة”.
رابعًا: البدائل والحلول الممكنة
1- تنسيق الجهود الإقليمية للدول المطلة على البحر الأحمر لوضع آلية وخطط وقائية للتعامل مع الكوارث والأزمات البيئية التي قد تحدث في المستقبل، وتجدر الإشارة هنا إلى أن غياب مظلة تجمع دول حوض البحر الأحمر على وجه الخصوص تُضعف التنسيق المشترك بين الدول في مواجهة الأزمات التي تقع في هذه المنطقة، بما في ذلك الكوارث البيئية، ويشار هنا إلى أن السعودية قد سعت إلى تأسيس كيان يضم الدول العربية والإفريقية المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن، يستهدف التنسيق والتعاون بينها، ودراسة السبل الكفيلة بتحقيق ذلك في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والبيئية والأمنية، ويمكن لهذه الأنواع من التكتلات أن تضطلع بدور فاعل في مواجهة الأزمات البيئية وتوفر مظلة لتبني الجهود اللازمة لمواجهة المخاطر البيئية.
2- يمكن الدعوة إلى اجتماع عاجل لوزراء البيئة في الدول المطلة على البحر الأحمر، والأطراف الإقليمية المعنية كافة، لتنسيق الجهود ووضع خُطط للتعامل مع الكارثة، ودفع الجهود الإقليمية والدولية لحماية البحر الأحمر من التهديدات البيئية المتزايدة، أخذًا في الاعتبار تقييم الدول المطلة على البحر الأحمر أداء الهيئات القائمة وبحث تطويرها أو إيجاد بدائل أكثر فاعلية وسرعة في الاستجابة، والتعاون السريع من أجل توفير الموارد العاجلة باعتبارها العامل الأهم في التعامل مع مثل هذه الكوارث البيئية، وفي تمويل عمليات الإنقاذ التي تنفذها الأمم المتحدة.
3- وضع خطة لإيجاد نُظُم مستدامة للإنذار المبكر وشبكة للرصد الآلي المستمر بطول سواحل البحر الأحمر، ودعم إنشاء قاعدة بيانات إقليمية متكاملة موحدة (للمتغيرات البيولوجية والكيميائية والفيزيائية وكذلك المتغيرات الاجتماعية الاقتصادية).
4- تضافر الجهود الإقليمية والدولية لمواجهة تلك الكارثة استشعارًا للمسؤولية المجتمعية، حفاظًا على الأصول الرأسمالية البحرية للعالم بأسره، خصوصًا عندما نتناول بالحديث أحد أهم النظم البيئية تفردًا في العالم مثل البحر الأحمر.
5- تحديث النماذج الرياضية، بمعني البدائل المبنية على حسابات رياضية دقيقة، وذلك لمواجهة حوادث التلوث البحري بمختلف أنواع الملوثات، مما ييسر توفير المعلومات الدقيقة للتعامل مع مثل هذا الحوادث.
6- بناء القدرات في مجال دراسات حساب تكلفة التدهور البيئي، وفقًا لأحدث النظم والمحددات حتى يتسنَّى للدول المنكوبة جراء الكوارث البحرية المطالبة بالتعويضات وفقًا للأسس العلمية المعمول بها في الاتفاقيات الدولية ذات الصلة السابق الإشارة إليها.
7- تحديث استخدام طرق المسح والرصد البيئي والاقتصادي الاجتماعي للمناطق الساحلية في دول الإقليم، ومعايرة طرق الرصد وتبادل الخبرات بين دول الإقليم وتعزيز التعاون مع الدول لجمع البيانات المتاحة من أنشطة الرصد الحالية لإثراء قاعدة بيانات إقليمية لمتغيرات النظام البيئي، إضافة إلى التعاون مع الجهات الدولية المعنية لضمان سلامة الملاحة البحرية وتحديث الخرائط للموائل الهامة والتهديدات بشرية المنشأ (بما في ذلك خرائط الحساسية لمخاطر انسكاب الزيت والملوثات الأخرى).