في دليل إيراني جديد بالغ الدلالات، يأتي من كبار رموز ومسؤولي السُّلطة التنفيذية السابقين في إيران، يُضاف إلى حزمة الدلائل على أزمة المؤسَّسية وتقويض -بل وإهدار- النظام الصلاحيات الدستورية والقانونية للمؤسَّسات التنفيذية، لا سيّما المُنتخَبة شعبيًّا في إيران، أكَّد الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني صحَّة ما تضمَّنه الكتاب الحديث المثير للجدل لمحمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني في عهد روحاني، «عُمق الصبر»، بخصوص ملابسات مسألة اتّخاذ قرار الثأر لمقتل قائد «فيلق القدس» السابق اللواء قاسم سليماني، الذي لقِيَ حتفه في غارة أمريكية قُرب مطار بغداد الدولي، قبل أكثر من أربع سنوات ماضية.
أيَّد روحاني رواية ظريف بشأن أمرين رئيسيين يتعلَّقان بقرار الهجوم على قاعدة «عين الأسد» الأمريكية بالعراق، أوّلهما، تأييده عدم إخطاره وظريف بقرار شنّ الهجمات على القاعدة، وأنَّه علِمَ بالهجمات صباح الثامن من يناير 2020م -يوم تنفيذ الهجمات- عبر الشريط الإخباري للتليفزيون الرسمي لبلاده، وثانيهما، تأييده رواية ظريف الخاصَّة بالإبلاغ الإيراني المُسبَق لإدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، بشنِّ الهجمات على القاعدة الأمريكية، وأنَّه جرى إبلاغ الأمريكيين قبل الهجمات عبر رئيس الوزراء العراقي الأسبق، عادل عبد المهدي، قبل إبلاغ الرئيس الإيراني ووزير خارجيته، الذي أكَّد تجاهله عندما جرت مخاطبة نائبه عباس عراقتشي فجرًا قبل الهجمات لنقل رسالة الأمانة العامَّة للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني إلى الإدارة الأمريكية، عبر راعي المصالح الأمريكية لدى إيران، السفير السويسري، وعلِمَ عراقتشي آنذاك من الأمريكان -حسب كتاب ظريف- أنَّهم بالفعل أُبلغوا من خلال عادل عبد المهدي، الذي أخبروه ليلًا قبل عراقتشي.
وزاد روحاني، الذي استبعده مجلس صيانة الدستور من الترشُّح لعضوية مجلس الخبراء قبل أكثر من شهرين ماضيين، أنَّه لم يُبَلَّغ أيضًا بقرار إغلاق المجال الجوِّي للبلاد في الليلة التي أسقط فيها الحرس الثوري طائرة الرُكّاب الأوكرانية بالخطأ، وقد قُتِل جميع من كانوا على متنها، على الرغم من كونه رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني دستوريًّا وقانونيًّا، باعتباره رئيسًا للجمهورية الإيرانية، وكان يُفترَض دستوريًّا أن يعِدّ وينظِّم ويرأس رئيس الجمهورية أيّ اجتماعات يعقدها المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، سواء تُخص الأمن في الداخل، أو على الحدود، أو في الخارج الإيراني.
وعندما سعى النظام الإيراني جاهدًا لطمس رواية ظريف، وتأكيدات روحاني، والتخفيف من حدَّة الكشف عن مدى تقويض -بل وإهدار- الدستور والقانون في إيران من رأس النظام أمام الشعب الإيراني، وطبيعة العلاقة بين مؤسَّستي المرشد والرئاسة، بتبريره عدم إخطار روحاني وظريف بقرار الهجمات بواسطة الصحيفة الناطقة باسم النظام «كيهان»، بتبرير لا يمكن تقديمه من نظامٍ يرى قُدرته الكبيرة في التأثير في الشأن الإقليمي، بأنَّ «الرئيس كان نائمًا في أثناء الهجمات»، جاء الردّ من الموقع الرسمي لروحاني بتأكيده صحَّة رواية ظريف مجدَّدًا، وحمل الموقع تكذيبًا صريحًا لصحيفة «كيهان»، وتأكيدًا أنَّ الرواية الحقيقية هي عدم إبلاغ الرئيس، وأنَّ كبار المسؤولين العسكريين طلبوا منه قبل ساعات من تنفيذ الهجمات عقْد اجتماع عاجل في منزله، غير أنَّه سرعان ما أبلغوه بإلغاء اللقاء، ما يعني أنَّ الرئيس آنذاك لم يكُن نائمًا من الأساس.
يؤكِّد تأييد روحاني رواية ظريف، التي قد تضع حدًّا لمستقبله السياسي طوال عُمر النظام الحالي، اطلاع الأمريكيين على هجوم قاعدة «عين الأسد» قبل وقوعه، ومصداقية ما قاله دونالد ترامب في خطاب له في أثناء اجتماع لحملته الانتخابية في نوفمبر 2023م بأنَّه تلقَّى رسالة إيرانية قبل الهجمات الصاروخية على قاعدة «عين الأسد»، مقابل زيف نفي الأمين العام السابق لمجلس الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، حديث ترامب وعلمه بالهجمات من الإيرانيين قبل وقوعها، ما يعني أنَّ إيران حينها كانت حريصة للغاية على إبلاغ الأمريكان، وأن تكون الضربات رمزية محدودة للغاية وتجنِّب الطرف الأمريكي أيَّ خسائر بشرية يمكن أن ترتِّب تداعيات كارثية على الجانب الإيراني، الذي أراد بضربته المحدودة تمرير رسالة إلى الداخل بأنَّه قادر على تنفيذ تهديده ووعيده بالثأر لسليماني، ليس أكثر.
وتكشف رواية ظريف وتأكيد صحّتها من الرئيس الإيراني السابق، معطوفةً على ردود الأوساط الإعلامية الرسمية المحسوبة على النظام الإيراني، عن أزمة تداخُل الصلاحيات الدستورية والقانونية بين مؤسَّسات الحُكم في إيران بشكل عام، وعن تداخُل الصلاحيات بين مؤسَّستي المرشد والرئاسة خلال الرئاسات المتعاقِبة في إيران، حتى نهاية عهد الرئيس روحاني بشكل خاص، وعن مدى هيمنة وسيطرة مؤسَّسة المرشد بالتعاون مع الحرس الثوري على بقية المؤسَّسات التنفيذية عند اتخاذ القرارات الإستراتيجية. وذلك بتأكيد غاية في الأهميِّة من شخصيات ورموز كانت تترأَّس أعلى المناصب التنفيذية في إيران، مثل روحاني وظريف، وبالتالي إحراج كبير للغاية للنظام أمام الداخل والخارج.
أيضًا، كشفت عن أزمة في هيكل النظام الإيراني حتى عهد روحاني، الذي على ما يبدو قد افترقت مواقفه وسياساته إلى حدٍّ ما تجاه قضايا الداخل وقضايا السياسة الخارجية مع رموز ورأس النظام الحاكم، بلغت مداها بإبداء بعض رموز المؤسَّسات النافذة في النظام الإيراني رغبتهم في تجاوُز النظام الرئاسي لصالح نظام مُغاير يزيد فُرَص هيمنتها وتحكُّمها في النظام برمّته، ويقلِّص مساعي بعض الخصوم من «الإصلاحيين» الراغبين في تقليص صلاحيات المرشد، وجموع الساخطين من أداء النظام الإيراني وسياسته الداخلية والخارجية وتعقُّد الأزمات الإيرانية في الداخل والخارج، والراغبين في إعادة توزيع مراكز السُّلطة حال رحيل خامنئي، بما يضع النظام برمته تحت تصرُّف المؤسَّسات النافِذة، ويُنهي التنافس بين مؤسَّستي المرشد والرئاسة، التي لم تحظَ دستوريًّا بسُلطات مُطلَقة على المؤسَّسات العسكرية والدبلوماسية الإيرانية.
في المقابل، تؤول السُّلطة المُطلَقة في هذه المؤسَّسات وغيرها من المؤسَّسات الإيرانية للمرشد علي خامنئي، الذي يحدِّد السياسات الخارجية والداخلية للبلاد، ويبسط سيطرته على مختلف مؤسَّسات وسُلطات النظام الإيراني، ويملك دستوريًّا سُبُل الحدِّ من الصلاحيات والسُّلطات التنفيذية لـ«رئيس الجمهورية»، بل وأيضًا حق عزْل «رئيس الجمهورية»، وهو ما يفسِّر استمرارية الصراع بين مؤسَّستي المرشد والرئاسة، في أثناء فترات الرؤساء المتعاقبين على الحُكم في إيران، في مرحلة ما بعد الثورة، حتى عهد روحاني.
وختامًا، لرُبّما أدرك النظام الإيراني تداعيات ديمومة الصراع بين مؤَّسستي المرشد والرئاسة على مستقبله، خصوصًا في مرحلة يُنظَر فيها إلى أهمِّية تأمين خليفة جديد للمرشد يُكمِل المسيرة على نفس خط «الولي الفقيه»، لذلك لرُبّما أراد تقليص أو إنهاء الصراع بين المؤسَّستين، بل وتوحيد موقفيهما تجاه السياسات الداخلية والخارجية بدعم انتخاب رئيس من «المحافظين» المقرَّبين للغاية من خط النظام، بعد انتهاء فترة روحاني.
لكن الساخطين على طبيعة عمل النظام وسياساته من «الإصلاحيين» وغيرهم، ممَّن يرون في ذلك مزيدًا من هيمنة المرشد الأعلى وإحكام قبضته على مختلف المؤسَّسات الإيرانية، ومن ابتلاع المؤسَّسات الموازية للمؤسَّسات المُنتخَبة شعبيًّا، وإهدار أكبر لقيمة الاستحقاقات الشعبية، وتسهيل مسألة التلاعب بالدستور والقانون تجاه قضايا السياسة الداخلية والخارجية، بل وإحكام قبضة «المتشدِّدين» على مؤسَّسات النظام، ما من شأنه استمرار الفساد، وعدم إيلاء مشروعات التنمية أيّ أولوية، مقابل تفاقُم الأزمات الداخلية الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية كافة، فإنَّهم يرون أنَّ ذلك المسار قد يشكِّل وقودًا يشعل نيران اندلاع جولات احتجاجية جديدة حاشدة ضدّ النظام في إيران.
المصدر: عرب نيوز
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد