شنَّت إسرائيل في 1 أبريل الماضي هجومًا على القنصلية الإيرانية في سوريا، أسفر عن مقتل مسؤولين إيرانيين، بمن فيهم كبار قادة «فيلق القدس» (محمد رضا زاهدي، ومحمد هادي حاجي رحيمي). وردًّا على ذلك، شنَّت إيران هجومًا مباشرًا على إسرائيل للمرَّة الأولى، في 13 أبريل. وتدَّعي إيران أنَّ الهجوم الانتقامي لم ينتهك القانون الدولي، مستشهِدةً في ذلك بالمادَّة 51 من ميثاق الأُمم المتحدة، التي تنُصّ على الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس الفردي أو الجماعي، في حالة وقوع هجوم مسلَّح، وتعترف بحق الدول في الدفاع عن نفسها ضدّ الهجمات المسلَّحة.
يأتي التصعيد الأخير في خِضَمّ المخاوف ومشاعر القلق من اندلاع حرب أوسع، يمكن أن تزعزع استقرار المنطقة.
وحسبما أفاد الحيش الإسرائيلي، أُطلِق ما يقرُب من 350 صاروخًا، حملت نحو 60 طنًّا من المتفجِّرات، من إيران والعراق واليمن ولبنان. واعترض نظام الدفاع الجوِّي الإسرائيلي، إلى جانب مساعدة من حلفائه، 99% من تلك الصواريخ.
وأفادت تقارير وسائل الإعلام الإيرانية بأنَّ إيران استخدمت طائرات «شاهد-136» دون طيّار، بالإضافة إلى صواريخ كروز وباليستية، مثل «باوه» و«عماد» و«رضوان» و«سِجِّيل».
ويعكس اختيار إيران للأسلحة التكتيكات، التي تستخدمها الجماعات الإيرانية بالوكالة، التي تفضِّل أيضًا الطائرات دون طيّار والصواريخ غير المُكلِفة تجاريًّا والمُنتَجة محلِّيًّا، وتتبنَّى نهجًا تكتيكيًّا يقلِّل التكاليف إلى الحد الأدنى.
وأكَّد المسؤولون الإيرانيون مجدَّدًا، أنَّهم لا ينوون الشروع في التصعيدِ، بل تأكيد حدودهم، كما أكَّدوا أنَّ الانتقام «انتهى»، من خلال إبلاغ مجلس الأمن نفسه. وقالت إيران إنَّها فتحت فصلًا جديدًا في حربها ضدّ إسرائيل، وقال قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي، إنَّه من الآن فصاعدًا «سترُدّ إيران من أراضيها على أيّ هجوم تشنّه إسرائيل على المصالح والأُصول والشخصيات البارزة والمواطنين الإيرانيين، في أيّ مكان من العالم». ولم يكُن توقيت الهجوم مفاجئًا، بالنظر إلى التحذيرات والمعلومات الاستخباراتية السابقة. وتُدرِك إيران أنَّ شنّ هجوم مباشر من شأنه أن يغيِّر ديناميات صراع الظل المستمِرّ بين البلدين، ويخلق قواعد لعبة مختلفة. ومن خلال اختيار الهجمات المباشرة، فقد أشار ذلك إلى حدوث تحوُّل في نهج إيران. بالإضافة إلى ذلك، حذَّرت إيران الولايات المتحدة من التورُّط في الصراع، وأكَّدت استعدادها لإجراءات فورية، لأنَّها على دراية بالضغوط الداخلية، التي تُواجه إدارة بايدن قبل الانتخابات الأمريكية، لأنَّ الردود على مثل هذا التصعيد من حكومة جمهورية مُحتَملة قد تكون مختلفة، خصوصًا أنَّ القادة الجمهوريين دعَوا إلى تبنِّي موقف أكثر حزمًا من الولايات المتحدة لدعم إسرائيل.
يمكن تفسير الانتقام الإيراني على أنَّه عمل استعراضي، يهدُف إلى إرسال رسالة واضحة، مفادها أنَّ إيران تمتلك القُدرة والاستعداد للردّ عند استهدافها. كان هذا الردّ بالغ الأهمِّية بالنسبة لـ «المتشدِّدين» الإيرانيين، فقد أظهر التزامهم بخطابهم من خلال الردّ بشكل حازم وقوي. وتستغِلّ إيران الآن إستراتيجيًّا، المشاعر المعادية لإسرائيل السائدة في جميع أنحاء المنطقة لتعزيز أهدافها.
وكان الهدف الرئيسي لإيران من الضربات، هو تحقيق توازُن، لكي ترُدّ بشكل كافٍ لاستعراض براعتها العسكرية، وتتجنَّب في الوقت نفسه خطر التصعيد إلى حرب واسعة النطاق.
وتُدرِك إيران تقلُّب الوضع الحالي، وقد صاغت روايتها تبعًا لذلك، فقد تباينت بين الدعاية المحلِّية والاعتبارات الإستراتيجية الدولية. وعلى الرغم من أنَّ إيران أكَّدت على الصعيد المحلِّي أنَّ أضرارًا كبيرة قد لحِقَت بالأُصول العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية، فإنَّ التقارير الواردة من وسائل الإعلام ومصادر أخرى أظهرت واقعًا مغايرًا. ومن المُحتمَل أن تكون إيران أيضًا قد توقَّعت إلحاق الحد الأدنى من الضرر، لأنَّها امتنعت عن شنّ هجوم مفاجئ، بعد أن أصدرت تحذيرات مُسبَقة، ما يعكس طبيعة دعايتها في ما يتعلَّق بالأضرار، التي أحدثتها نتيجة الهجوم.
أسفرت الهجمات الإيرانية الأخيرة، عن عواقب عديدة.. فقد زادت هذه الضربات بلا شكّ حدَّة التوتُّرات، وأثارت احتمال اتّخاذ أعمال انتقامية إضافية ضمن دائرة التصعيد. ومن المُحتمَل أن يؤدِّي هذا النمط من الهجمات إلى تعميق الصراع، ويصعِّب تحقيق خفْض للتصعيد.
ونجحت الهجمات والردود المتبادلة بين إيران وإسرائيل في تحويل التركيز بعيدًا عن الوضع في غزة، حيث أثار العدوان الإسرائيلي المتصاعد إدانات على المستوى العالمي.
فقد أتاحت الضربة الإيرانية الأخيرة لإسرائيل فُرصة لإعادة صياغة روايتها، ما مكَّنها من تخفيف عُزلتها الناجمة عن ارتكابها أعمال عُنف في غزة. كما يمثِّل الهجوم فُرصةً للصقور الجمهوريين في الولايات المتحدة، مثل جون بولتون؛ لكي يستخدموا هذه الضربة مبرِّرًا لاستهداف المنشآت النووية الإيرانية، ما قد يؤدِّي إلى تفاقُم المخاطر الأمنية الإقليمية.
وزاد الانتقام تعقيد جهود خفْض التصعيد، وأصبح التوصُّل إلى توافُق في الآراء ومعالجة الوضع المتقلِّب تحدِّيًا صعبًا للغاية، على الصعيدين الإقليمي والعالمي. كما يعقِّد تعميق انخراط إيران في الحرب من علاقاتها مع دول المنطقة، مثل الأردن، التي لا تزال قلِقة إزاء انخراط إيران بشكل واسع النطاق في الحرب. وتواجه الأردن بالفعل تهديدات من وكلاء إيرانيين، ناهيك بمرور الصواريخ والطائرات دون طيّار الإيرانية عبر المجال الجوِّي الأردني، الذي يُعَدُّ انتهاكًا لسيادتها.
لن تكون إيران قادرة على الانجرار إلى صراع أوسع نطاقًا، نظرًا لأزمتها الاقتصادية المستمِرَّة، واحتمال فرْض عقوبات إضافية من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي قد يعقِّد تواصل إيران مع الغرب. وقد يكون الضحايا في مثل هذا الوضع مرَّةً أخرى، من الشعب الإيراني، لذلك ليست لدى إيران الرغبة للحرب في السياق الحالي.
وعلى الرغم من الضغوطات، التي تعَّرض لها بايدن لتغيير نهجه تجاه غزة بعد شنِّ إيران الضربات الانتقامية، تعهَّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو «باتّخاذ قراراته الخاصَّة، وفعل كُلِّ ما هو ضروري لحماية إسرائيل»، حتى لو كان ذلك يتعارض مع نصائح حُلفاء إسرائيل. وتشمل خيارات الانتقام الإسرائيلية، عمليات القصف الاستهدافية في الخارج، أو الاغتيالات السرِّية، أو العمل العسكري المباشر. ولعلَّ ذلك ينذر بمزيد من التصعيد، خصوصاً أنَّ الوكلاء الإيرانيين في المنطقة يواصلون استهداف إسرائيل. وتحرص إسرائيل وإيران على زيادة الردع، وتأكيد قُدراتهما العسكرية، لكن تكمُن المخاطر المستمِرَّة في التناقض بين ما تعده إسرائيل ردًّا مناسبًا، وكيف ترى طهران ذلك، الأمر الذي يفاقم خطر سوء التقدير، الذي يمكن أن يؤدِّي إلى حلقة مستمِرَّة من الهجمات.