رحيل رئيسي.. الدلالات والتداعيات

https://rasanah-iiis.org/?p=35186

تأكد للإيرانيين بعد ساعاتٍ من الترقب والانتظار، مقتل رئيس الجمهورية ووزير الخارجية ومرافقيهما، إثر تعرض طائرتهم لحادث بسبب الأحوال الجوية السيئة. يكشف الغموض الذي اكتنف الحادثة لفترةٍ طويلة نسبية رغم أنَّ الأمر يتعلق بكبار قادة الدولة والاضطرار لطلب المساعدة من دول مجاورة في عملية البحث عن الكثير من المعضلات التي توجّه أداء النظام الإيراني من جوانب مختلفة، كما يطرح الغياب المفاجئ لإبراهيم رئيسي عن المشهد السياسي العديد من التساؤلات حول تأثيرات الحدث على البلاد داخليًا وخارجيًا في المدى القريب والبعيد؛ نظرًا لكون البلاد مقبلة على استحقاقات سياسية مهمة جدًا يأتي على رأسها خلافة المرشد الأعلى.

أوّلًا: دلالات تحطم طائرة رئيسي ومرافقيه

تكشف حادثة مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومرافقيه في منطقة جبلية وعرة بغابات ورزغان قرب الحدود مع أذربيجان، بمحافظة أذربيجان الشرقية شمال غربي إيران، عن جملةٍ من الدلالات على النحو التالي:

1. سمات المروحية التي أقلَّت رئيسي:

المروحية التي كانت تقلُّ الرئيس الإيراني مروحية أمريكية الصُنع من طراز بيل 212، يعود إنتاجها إلى سبعينيات القرن الفائت، وهي قديمة عمرها يقارب الخمسة عقود من الزمان، لا تتناسب والتطورات التكنولوجية الهائلة في عالم اليوم، كما أنَّ المروحيات ذات المحرك الواحد أقل ملاءمة للمهام رفيعة المستوى، وكذلك كان لدى إيران بديل لتلك المروحية يتمثل في الطائرة Mi-17 السوفيتية/الروسية الصنع التي حصلت عليها إيران منذ حوالي عقدين من الزمن ولم تعانِ من أيّ نوع من النقص في قطع الغيار.

رغم الانتشار العالمي للمروحية التي أقلت رئيسي غير أنها أصبحت متهالكة في إيران، نتيجةَ صعوبة الحصول على قطع غيار لتحديثها، بفعل العقوبات المفروضه عليها بسبب سياساتها النووية والباليستية والتوسعية؛ ونتيجةً لتهالك قطاع النقل الجوي في إيران لصعوبة الحصول على قطع غيار، تنامت حوادث خلال العقد الأخير ما بين سقوط عدد منها بفعل اندلاع النيران في محركتها، وانحراف البعض الآخر عن المدرجات أثناء عمليات الإقلاع أو الهبوط، واصطدام البعض الثالث بسلاسل جبلية، وصولاً إلى احتراق المروحية التي أقلت الرئيس رئيسي.

2. جهود عمليات البحث والإنقاذ:

سلّط عجز إيران عن تحديد مكان سقوط مروحية الرئيس ومرافقيه لعددٍ كبيرٍ من الساعات الضوء على إشكالية ضعف منظومة أجهزة الدولة المعنية بالبحث والإنقاذ بجانب تهالك أسطول الطيران الإيراني، حيث بدا واضحًا خلال عمليات البحث عن بدائية الأجهزة والمعدات المستخدمة في البحث عن شخصية بوزن رئيس الدولة وكبار مرافقيه، حيث لم يكُن لدى رجال الإنقاذ من الجيش والهلال الأحمر المعدات المتطورة اللازمة والكافية للبحث في ليلةٍ ثلجية مظلمة كثيفة الضباب على المنحدرات الجبلية، وأظهرت صور وسائل التواصل الاجتماعي التي تمت مشاركتها عدم تجهيز رجال الإنقاذ بنظارات الرؤية الليلية، وكانت إشارات الهاتف المحمول في المنطقة كثيفة الأشجار منخفضة السكان غير موجودة أيضًا.

ولذلك اضطرت إيران إلى طلب المساعدة من تركيا التي أرسلت طائرة أكينجي المسيرة والمتطورة تكنولوجيًا للبحث عن حطام طائرة الرئيس ومرافقيه، وطلبت من الاتحاد الأوربي تفعيل خدمة الخرائط عن طريق الأقمار الصناعية للعثور على المروحية، ولولا ذلك ما تمكنت إيران من العثور على حطام المروحية؛ لأنها ليست مجهزة برؤية ليلية أو كاميرات تعمل بالأشعة تحت الحمراء للعمل في مثل هذا الطقس والتضاريس خاصة في الليل. ومع ذلك، زعمت الحكومة الإيرانية أن طائراتها بدون طيار حددت موقع التحطم، ممَّا دفع الجانب التركي وخدمات تتبُّع بيانات الرحلة إلى الكشف عن التوقيع الجوي للطائرة بدون طيار.

3. أجهزة مراقبة الأحوال الجوية:

تراقب أجهزة مراقبة الأحوال الجوية في المطارت العالمية الأحوال الجوية، ويتم تحديثها باستمرار حسب المواصفات العالمية، وعادةً ما تأتي رسالة للمسافرين بتأجيل الرحلة لعدد معين من الساعات لحين تحسن الأحوال الجوية، ويفترض أن تزداد الإجراءات ومتابعة الأحوال الجوية عندما يتعلق الأمر بمروحية تخص القادة وكبار رجال الدولة، وبالتالي تطرح الحادثة تساؤلًا: أين أجهزة الأحوال الجوية قبل رحلة الرئيس، والتي يفترض أن ترسل تقارير عن سوء الأحوال الجوية لتأجيل رحلة الرئيس في أحوال يكتنفها الضباب لدرجة فقدان الاتصال بالطائرتين المرافقتين؟ أم أنها غير محدثة ولا تطابق المواصفات العالمية التي تمكنها من ذلك؟ وبالتالي فالعقوبات والعزلة الدولية لإيران بفعل سياساتها لها علاقة بمسألة عدم تطوير أجهزة المراقبة للأحوال الجوية.

نظام الطقس وضعف الرؤية الذي واجهته المروحية كان خارج نطاق قدراتها، حيث تفتقر المروحية إلى الاتصالات الخاصة أو معدات الطوارئ، ويبدو أن الطيار لم يكُن لديه الكثير من الوقت لنقل إحداثياته قبل الاصطدام بالضباب الكثيف أعلى الغابات، حيث كان من الممكن أن تنقذ أجهزة إرسال الطوارئ الموجودة على متن الطائرة الأرواح، ويضع الحادث حدًا لمزاعم إيران بشأن قدرتها على بناء نسخ ذكية من الطيران والطائرات بدون طيار أو قادرة على بناء نسخة مرخصة من طراز Mi-17، والتي تم توقيع مذكرة تفاهم بشأنها مع الروس عام 2017م.

4. الترتيبات الأمنية المتبعة مع كبار القادة:

عادةً ما تفرض الدول إجراءات منظمة لرحلات كبار القادة والمسؤولين، فتمنع الجمع بين عددٍ من كبار القادة في مروحية واحدة، لكن من المثير للدهشة أن تسمح دولة بوزن إيران بالجمع بين عدة شخصيات من كبار رجال الدولة بينهم رئيس الدولة ووزير خارجيته في مروحية واحدة في ظل ظروف أحوال جوية سيئة، وإن كانت المسافة قصيرة من تبريز حيث الطائرة الرئاسية التي حطت في مطار تبريز حتى المنطقة التي أُقيمت فيها احتفالية المشروع التي حضرها الرئيس بولاية أذربيجان، لكن وضع هذا العدد من كبار القادة في مروحية يثير التساؤلات في الحقيقة عن الترتيبات الأمنية المتَّبعة في إيران لوضع مثل هذا العدد من القادة في مروحية واحدة وليست طائرة، فالمروحية تطير على ارتفاع منخفض بعكس الطائرة وتسير بسرعة أقل من السرعة المطلوبة في حالة حملها كبار القادة، كما أن مسألة استهدافها بحكم طيرانها على ارتفاع منخفض بأبسط أنواع الأسلحة تصبح سهلة، وإن كانت لم تستهدف، كما يصعب في كثير من الأحيان على مثل هذا النوع من المروحيات القديمة أن ترسل إشارات استغاثة عند تعرضها لخلل فني بعكس الطائرة، وبالتالي كيف يسمح لمروحية أن تقلَّ هذا العدد من كبار القادة في مروحية بهذه المواصفات في ظل ظروف مناخية سيئة؟

5. ملامح تأمين رئيسي المرشَّح لخلافة خامنئي:

تعكس ملابسات الحادثة من حمل عددٍ كبير من كبار القادة في مروحية واحدة ومن فشل أجهزة مراقبة الأحوال الجوية وكذلك أجهزة البحث عن طائرة الرئيس لعدد كبير من الساعات، ترهُّل أجهزة الدولة في تأمين كبار القادة بوزن رئيس الدولة، والذي يحظى بوزن كبير في النظام الإيراني لكونه استطاع من خلاله خامنئي إنهاء الخلاف في النظام بين مؤسَّستي “المرشد” و”الرئاسة” التي كانت سائدةً أثناء فترة الرئيس السابق حسن روحاني، بتأمين السلطة للجناح “المتشدد”، كما كان من أقوى المرشحين لتأمين مسألة خلافة المرشد والسير على خطى خامنئي في الداخل والخارج، وبالتالي تشير الحادثة إلى عدم استيعاب الأجهزة لوزن رئيسي لدى النظام، وأن وفاته ستحدثُ أزمةً كبيرة في الدوائر الضيقة للنظام.

ثانياً: تداعيات مقتل رئيسي داخليًا وخارجيًا

سارع المرشد الأعلى علي خامنئي إلى دعوة الإيرانيين لعدم القلق بالتأكيد على أن إدارة الدولة لن تتأثر بالحادث. يستطيع النظام الإيراني بكل تأكيد تجاوز هذه المرحلة في ظل وجود أُطر مؤسّسية ودستورية تمكّن من إدارة هذا الوضع الاستثانئي، ولكن يتوجب التنبيه إلى أن رسائل الطمأنة التي وجهها خامنئي للشعب الإيراني تعكس من ناحية أخرى بعض مكامن القلق المترتبة عن غياب رئيس الجمهورية والتي ستكون لها بكل تأكيد تداعيات مهمة على الصعيد الداخلي والخارجي؛ نظرًا للعلاقة الارتباطية الكبيرة بين منصب المرشد ورئيس الجمهورية في هرم النظام الإيراني وتجربته السياسية.

1. على الصعيد الداخلي:

يعد رئيس الجمهورية الرجل الثاني في سلم القيادة في نظام الحكم الإيراني بعد المرشد الأعلى مع فارق كبير جدًا في الصلاحيات، ولكن رغم ذلك يبقى منصبًا مهمًا وستكون له تداعيات مؤثرة على النظام السياسي في مسألتين متصلتين وهُما السجال بين “الإصلاحيين” و”المحافظين”، ومرحلة ما بعد خامنئي.

أ. السجال بين “الإصلاحيين” و”المحافظين”:

استكمل المرشد الأعلى من خلال انتخابات البرلمان والخبراء التي أُجريت في شهر مارس 2023م ترتيب البيت الداخلي للسلطة من خلال استبعاد “الإصلاحيين” الذين لم يعد لهم أي وجود في مؤسسات الدولة التي باتت تحت هيمنة التيار “المحافظ”، وقد تبقت خطوة الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة السنة القادمة ليطبق “المحافظون” على السلطة بشكل تام خاصة وأن أداء ابراهيم رئيسي مهّد له المجال إلى حد كبير لعهدة ثانية. تأسيسًا على هذا يمكن حصر أهم المخاطر التي تواجه النظام الإيراني في المرحلة القادمة فيما يلي:

  • احتمال عودة “الإصلاحيين” للساحة بشكل قوي فرغم بقاء مؤسسات الدولة تحت السيطرة بوجود المرشد الأعلى والحرس الثوري؛ إلّا أنَّ هامش مناورة التيار “الإصلاحي” سيكون أكبر، ومع إمكانية استبعاد رموزهم القوية من الانتخابات الرئاسية من خلال مجلس صيانة الدستور الذي سبق له أن أقصى حسن روحاني وغيره من قادة التيار من انتخابات مجلس الخبراء الماضية، ولكن مع ذلك سيكون لهم مجال لارباك السلطة من خلال التركيز على الاجراءات غير الديمقراطية التي تنتهجه ضدهم.
  • تصطدم خطط “المحافظين” بغياب إبراهيم رئيسي عن المشهد السياسي مما يدفعهم لإعادة النظر في إستراتيجيتهم للمرحلة المقبلة، فاستفرادهم بمؤسسات الدولة فتح بابًا للتنافس فيما بينهم، ولعل الصراع الجاري حول منصب رئاسة البرلمان أحد أوجهه، ولا يستبعد أن يكون التنافس على خلافة رئيسي بابًا جديدًا للصراع بين “المحافظين”.
  • السياق الانتقالي الذي تمر به إيران بعد مقتل رئيس الجمهورية والصراعات المحتملة بين “المحافظين” و”الإصلاحيين” وداخل “المحافظين” والمرتبطة جميعها بمرحلة ما بعد خامنئي يشكل كل هذا بيئةً مواتية لانفجار الأوضاع وبروز احتجاجات عفوية أو موجهة ممَّا يزيد من مخاطر عدم الاستقرار السياسي في البلاد التي باتت أوضاعها الاقتصادية غايةً في الصعوبة ومقتل الرئيس في حادثة الطائرة أحد مظاهرها كما سبق الإشارة.
  • على الصعيد الاقتصادي، لا يتصور أن يقود الحادث إلى أزمات اقتصادية إضافية فوق التي تعيشها إيران بالفعل قبل الحادث، خاصةً إذا لم تكُن هناك جهات خارجية وراء الحادث قد تدفع إيران إلى الرد وتشعل المخاوف الاقتصادية بالداخل. لكن من ناحية أخرى، فإن الحادث قد يخلق بعض التحديات لبيئة الأعمال الداخلية، مثل عرقلة أو التباطؤ في تنفيذ بعض المشروعات والخطط الاقتصادية الحكومية التي كانت قائمة، إلى جانب قلق المستثمرين من المستقبل وتردد رؤوس الأموال لحين اتضاح التوجهات الاقتصادية القادمة والتي سيحددها توجهات الرئيس القادم، ناهيك عن طبيعة القرارات التي قد يتّخذها نائبه محمد مخبر والذي ترأس عدة مناصب تنفيذية ومؤسسات اقتصادية مهمة في إيران أبرزها مؤسسة “ستاد” التابعة للمرشد وتدير أموال بعشرات مليارات الدولارات.
  • ربما سيقود حادث سقوط الطائرة الرئاسية المتهالكة إيران إلى توجيه مزيد من الضغط على أوروبا والولايات المتحدة مستقبلًا؛ لرفع أو تخفيف العقوبات الاقتصادية عنها خاصة في القطاعات الحيوية كالطيران، بعدما تسببت في الحرمان من توفير التحديثات وقطع الغيار اللازمة وساهمت في موت الرئيس ووزير خارجيته. ناهيك عن تضرر كثير من القطاعات الحيوية في إيران كالسيارات والصناعة والسياحة وغيرهم.
  • أبرز التأثيرات الاقتصادية الوقتية عقب الحادث، هو حدوث ارتفاع نسبي في أسعار الصرف الأجنبي، مع احتمالات حدوث تقلبات وقتية في أسعار الصرف وكذلك في أسواق المال خلال الأيام المقبلة كرد فعل طبيعي خلال الأزمات. بينما ارتفعت أسعار النفط العالمية قليلا (0.35%) عند مستوى 84.3 دولار لبرميل خام برنت. وجدير بالذكر أنَّ إيران مرت بتحديات اقتصادية صعبة خلال الثلاث سنوات الماضية من حكم الرئيس الراحل رئيسي، أبرزها: ارتفاع قياسي للتضخم وبخاصة الغذاء، وأسعار الصرف الأجنبي، وإلغاء أنواع مختلفة من الدعم، مع نمو عجز الموازنة ومعدلات الفقر، ولا تزال هذه التحديات قائمة.

ب. وفاة رئيسي وما بعد خامنئي:

جاءت وفاة رئيسي المفاجئة لتخلط أوراق ما بعد خامنئي ومنصب المرشد القادم. وقد كان رئيسي أبرز وأهمّ المرشحين لخلافة المرشد الحالي علي خامنئي، بوصفه “سيدًا”، و “مجتهدًا”، ويحظى بقبول نخب الحكم والأجهزة النافذة في إيران. وبغض النظر عن سيناريوهات وأسباب وأبعاد الوفاة واحتمالات تورط جهات في الداخل أو الخارج أو كونها حادثة عرضية، إلا أنّ الحادث سيغير المسار التقليدي لمنصب المرشد في الدولة الإيرانية، فإبراهيم رئيسي هو المسار التقليدي للخمينيّ ثم خامنئي، وهو تلميذ خامنئي في بحث الخارج، ومحل ثقته العلمية والسياسية. وربما هذا التقارب بين رئيسي والخامنئي، لم يرُق لمنافسي رئيسي، داخل أروقة الدولة والحوزة، ممن ينظرون إلى صعوده كمُهدِّد لمصالحهم الإستراتيجية. فجاءت تلك الحادثة لتعيد الكلام عن خلافة مجتبى خامنئي لوالده، سيما وثمَّة تناغم بين مجتبى والحرس الثوري، مما يجعله أقرب المرشحين، وأهمهم على الإطلاق. وإذا مُرِّر هذا السيناريو المرجح، فسوف يكون انحرافاً عن أعراف “الثورة الإسلامية” منذ العام 1979م، بل وعن التقليد الشيعي بقراءته الولائية.

والسيناريو الآخر والذي لا يمكن استبعاده أيضاً، هو تولِّي الحرس الثوري للسلطة، وذلك بطريق مباشر، بأن يقوم بانقلاب خشن بعد وفاة خامنئي أو عجزه عن القيادة، أو بسبب أحداث شغب كبرى تهدد الأمن القومي الإيراني من وجهة نظر الحرس الثوري. أو بطريق غير مباشر، بأن يتدخل في تعيين خليفة لخامنئي، يتحكم فيه من خلف ستار، فيستحيل منصب المرشد مُداراً من الحرس وليس العكس، وفي كل الاحتمالات خروج عن إرث الخمينيّ منذ “الثورة الإسلامية”، وسنكون أمام إيران جديدة، بفلسفة مغايرة للحكم، بغض النظر عن القدرة على الحكم عليها من حيث الضعف والقوة، أو الخير والشر، ومدى قدرة نخب الحكم الجديدة على إحداث توازن استراتيجي في المنطقة، وتوافق داخلي في بين الحوزة والدولة.

2. على صعيد السياسة الخارجية:

كان الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته لاعبان رئيسيان في السياسة الخارجية الإيرانية، لكنهما ليس الوحيدان، إذ إن سياسة إيران الخارجية تصاغ من خلال عملية إجماع داخلي تشارك فيها عدة أطراف كمجلس الأمن القومي والحرس الثوري الإيراني ومجلس الشورى الإسلامي، وهناك أيضا شخصيات قريبة من المرشد لها رأي في السياسة الخارجية، وذلك إلى جانب الرأي العام ووسائل الإعلام، لكن تتم هذه العملية تحت عناية المرشد وتوجيه، إذ أنه هو العنصر الحاسم في تحديد الخيارات النهائية لإيران على الصعيد الخارجي، لا سيما فيما يتعلق بالقضايا الحساسة.

وقد كان رئيسي وعبداللهيان ينتمون إلى التيار “المحافظ” ويحظون برضا وتقدير كبير من جانب المرشد، وقد سمح لهم ذلك بدور مؤثر في صناعة السياسة الخارجية الإيرانية خلال الفترة التي مارس فيها رئيسي مهام الرئاسة، وكان رئيسي في هذا الإطار يتابع سياسة خارجية تمزج بين التمسك بالأيديولوجيا والواقعية، وقد حددت هذه الخلفية طبيعة سياساته الخارجية، حيث تابع رئيسي خط المرشد في الدفاع عن هوية إيران الخارجية وتجلى ذلك في توتر العلاقة مع الولايات المتحدة، والتركيز على حل مشكلات إيران بمعزل عن الاتفاق النووي، والتصعيد مع إسرائيل  لكنه في الوقت نفسه تابع سياسة عملية شملت تعزيز سياسة التوجه شرقا، والتركيز على الدبلوماسية الاقتصادية مع تحسين علاقة إيران مع دول الجوار، والتي جاء في إطار استعادة العلاقات مع المملكة العربية السعودية.

وبالنظر إلى هذه الاعتبارات فإن رحيل رئيسي، ربما لن يكون تأثيره كبير على النهج العام لسياسة إيران الخارجية، إذ أن الإجماع في إيران لم يتغير بخصوص قضايا السياسة الخارجية الإيرانية، والمرشد ما يزال هو البوصلة التي توجه السياسة الخارجية، وأيا من يخلف رئيسي، فإنه لا يمكن أن يخرج عن خط السياسة الخارجية الإيرانية المعتاد، حتى لو خلف رئيسي أحد العناصر المحسوبة على التيار “الإصلاحي”، والخبرة التاريخية تشير إلى أن أي من الرؤساء “الإصلاحيين” او حتى “المتشددين” الذين خرجوا على نهج المرشد، قد تم تقويض سلطتهم وإحباط محاولة خروجهم عن التوجهات الأيديولوجية للنظام.

لكن غياب رئيسي المفاجئ ووزير خارجيته عن المشهد سيكون له تأثير على الزخم الذي صنعه الرجلان والعلاقات التي نسجاها مع العالم الخارجي، خصوصا عبداللهيان الذي كان محسوبا بقوة على محور المقاومة، وكان له نشاط بارز في تنسيق سياسات إيران مع هذا المحور، وعلى المدى الطويل ربما يكون التأثير أكثر أثرا، لان رئيسي كان يعول عليه كخليفة لخامنئي، ويراهن عليه كمؤتمن على بقاء الجمهورية الإسلامية، وعلى الحفاظ على نهجها الخارجي.

الإشكالية بالنسبة لإيران أن المرحلة الحالية شديدة الحساسية على الصعيد الخارجي، فالبرنامج النووي على المحك، وهناك مواجهة إقليمية واسعة النطاق بين إيران من جانب والولايات المتحدة وإسرائيل من جانب آخر، ويبدو الشرق الأوسط أمام مرحلة فارقة، وقد قطع رئيسي وعبداللهيان أشواطا مهمة في هذه الملفات، وربما يسبب غياب الرجلين بصورة مفاجئة في بعض الارتباك حتى تبدأ إيران في استعادة فاعلية عمل مؤسساتها المعنية بالسياسة الخارجية، فالمرحلة الانتقالية التي سيحل خلالها نائب الرئيسي محمد مخبر محل رئيسي لمدة خمسون يوما ربما يخفت خلالها الاهتمام بقضايا السياسة الخارجية، بسبب ميول مخبر الاقتصادية وتركيزه الذي سيكون منصب على إدارة المرحلة الانتقالية وإجراء الانتخابات، وذلك في إطار عملية إعادة ترتيب البيت من الداخل، وربما يحدث بعض الخلل في أجندة السياسة الخارجية، أو يتم توكيل مجلس الأمن القومي والحرس الثوري بمتابعتها، وهو ما قد يجعل السياسات أكثر راديكالية.

وربما يستفيد البرلمان الجديد الذي سيعقد أول جلساته خلال الأيام القادمة، ويجد في الفراغ الذي تركه رئيسي وعبداللهيان فرصة من أجل لعب دور أكبر في تشكيل سياسة إيران الخارجية خلال المرحلة المقبلة، والتأثير على مساراتها، وذلك من خلال لجنة العلاقات الخارجية، خصوصا الملف النووي، وهذا التأثير قد يميل بسياسة إيران نحو مزيد من التشدد في هذا الملف، وذلك لان “المتشددين” هم من يهيمنون على البرلمان وقد سبق وأقروا قانونا عزز من تصعيد إيران إجراءاتها النووية، لكن حجمت حكومة رئيسي هذا المسار خلال السنوات الماضية.

أما على صعيد العلاقات الإيرانية مع دول الجوار العربي، فلا شك أن إيران لن تتخلَّى عن نفوذها الإقليمي وعلاقاتها مع الميليشيات التابعة لها في المنطقة، وربما سيمسك الحرس الثوري بصورة أكبر بملف التنسيق مع مليشيات إيران في المنطقة، وربما تبرز شخصية محسوبة على الحرس من أجل متابعة الدور الذي كان يقوم به عبداللهيان، خصوصًا في ظل التوترات الناشئة بعد الحرب الإسرائيلية على غزة.

ثالثًا: من يتولَّى الحكم بعد وفاة رئيسي؟    

هذه هي المرة الثالثة التي تشهد فيها إيران فراغًا في منصب رئاسة الجمهورية، وكانت المرة الأولى بعد عزل أبو الحسن بني صدر، ثالث مرة قد تواجه إيران تشكيل لجنة مؤقتة لتولي رئاسة الحكومة.

وكانت المرة الأولى بعدما عزل روح الله الخميني في 20 يونيو 1981م، أول رئيس لإيران بعد الثورة وهو أبو الحسن الأسبق أبو الحسن بني صدر بتهمة خيانة مبادئ الثورة الإيرانية. أما المرة الثانية فقد حدثت بعد اغتيال الرئيس محمد علي رجائي ورئيس وزراءه محمد باهنر في 30 أغسطس 1981م.

 تنص المادة 131 من الدستور الإيراني، في حالة وفاة رئيس الجمهورية، أو عزله، أو استقالته، أو غيابه أو مرضه لأكثر من شهرين، أو في حالة انتهاء فترة رئاسة الجمهورية وعدم انتخاب رئيس جديد للجمهورية نتيجة وجود بعض العقبات أو نتيجة ظروف أخرى مشابهة، يتولى النائب الأول لرئيس الجمهورية مهام رئيس الجمهورية، ويتمتع بصلاحياته بموافقة القيادة. وعلى هيئة مؤلفة من رئيس مجلس الشورى الإسلامي ورئيس السلطة القضائية والنائب الأول لرئيس الجمهورية أن تحضّر لانتخاب رئيس جديد للجمهورية خلال خمسين يوماً على الأكثر. وفي حالة وفاة النائب الأول لرئيس الجمهورية أو وجود أمور أخرى تحول دون قيامه بواجباته، وكذلك في حال لم يكُن لرئيس الجمهورية نائب أول، تعين القيادة شخصاً آخر مكانه.

وبموجب هذه المادة، فإن محمد مخبر النائب الأول للراحل إبراهيم رئيسي، سوف يتولى مهام رئاسة الجمهورية خلال الخمسين يومًا القادمة إلى حين إجراء انتخابات رئاسية، بعد نيله موافقة المرشد علي خامنئي.

يعتبر محمد مخبر من المقربين للمرشد خامنئي ويتمتع بنفوذ كبير في القطاعات الاقتصادية المختلفة بما في ذلك الاتصالات والطاقة، مما يعزز موقفه من قيادة رئاسة الجمهورية خلال الفترة القادمة وربما ترشحه في الانتخابات الرئاسية القادمة المقررة بعد نحو خمسين يومًا وفقًا للدستور الايراني.

الراحل إبراهيم رئيسي كان يتمتع بثقة كبيرة لدى المرشد، وحظيت حكومته التي استمرت لنحو ثلاث سنوات، بعلاقات مستقرة مع جميع مؤسسات الحكم، على عكس حالة التجاذب التي تميزت بها حكومة حسن روحاني في السياستين الداخلية والخارجية، وبالتالي فإن المرشد و”المتشددين” سيحاولون خلال المدة المتبقية حتى موعد الانتخابات الرئاسية، تصعيد شخصية تحمل صفات قريبة من رئيسي من حيث الطاعة والولاء للمرشد وتحقيق سياسات وأهداف “المتشددين”.

المعضلة التي واجهت النظام الايراني خلال الاعوام القليلة الماضية، هي ضعف المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية لتصل إلى أدنى مستوياتها خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وذلك نتيجة لفقدان الثقة في سياسات النظام والأزمة الاقتصادية الطاحنة التي عانى منها الشعب لسنوات، فضلًا عن القمع المتواصل للحريات المدنية، وبالتالي قد يستمر منحنى المشاركة الشعبية في النزول، ما لم يجرِ النظام إصلاحات جوهرية على سياستيه الداخلية والخارجية.

خاتمة:

يكشف الحادث عن ما آلت إليه أجهزة وبنية الدولة الإيرانية من ضعف على كافة الأصعدة، وأن قدرات إيران التكنولوجية لا تؤهلها للتعاطي مع مثل هذا المستوى من الحوادث، لدرجة طلبها الدعم التكنولوجي من الاتحاد الأوروبي وتركيا للمساعدة في عمليات البحث والإنقاذ، كما أن الإرتباك والتخبط الشديد في الإعلان عن العثور عن المفقودين والسبب الرئيسي للحادث، يكشف عن افتقار الدولة لإدارة متكاملة للأزمات والكوارث تحول دون وقوع هذا النوع من الحوادث، لتنهار أمامها اِدّعاءات إيران بأنها قوة عسكرية متقدمة ومتطورة ليس فقط أمام دول المنطقة والعالم بل أمام الشعب الإيراني الذي ضاق ذرعًا في مطالباته بإيجاد مخرج لأزمات الدولة من حصار وعزلة وعقوبات نتيجة لسياسات النظام النووية والباليستية والتوسعية لمعالجة أزمات الدولة على كافة المستويات التي باتت عاجزة عن القيام بمهامها، مع تفاقم الاحتقان الداخلي تجاه مبررات الدولة في الميزانية العسكرية الضخمة في ظل ضعف وفشل كافة أجهزتها ومؤسساتها الحيوية في حماية رئيس الدولة ومرافقيه، ما يفرض عليها إعادة النظر في سياساتها الداخلية والخارجية التي تسببت في عزلة إيران ضمن إستراتيجية جديدة لإنهاء العزلة والحصار على نحوٍ يُسهم في إعادة بناء مؤسسات الدولة وتحديث أجهزتها بما يتناسب والمواصفات العالمية.

وبرغم حجم الخسارة للنظام جراء هذه الحادثة لأبرز اثنين من قادتها اللذيْن كانت تعوّل عليهم لاستمرار مستقبل النظام، إلا أن ذلك لن يكون له أثر على تماسك النظام وخياراته الإستراتيجية، وتعتبر هذه الخسارة خسارة تكتيكية سيستطيع معها النظام أعادة ترتيب ملفاته وفق نفس الخط من الكوادر التي تتبنى وجهة النظر “المتشددة” للمرشد الأعلى، دون الوصول إلى إتاحة الفرصة للطرف “الإصلاحي” بأخذ زمام الأمور مرة أخرى.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير