دائمًا ما تحتاج القُوى العظمى إلى حُلفاء أقوياء، لكي تحافظ على مكانتها الدولية، وإلى قوَّة مؤثِّرة في البيئات الإقليمية تؤمِّن لهذه الدول انتشارها العابر للحدود، وتدعم نفوذها ومكانتها على الساحة الدولية. وقد فطنت الولايات المتحدة، مع بداية تطلُّعاتها إلى القيادة الدولية، إلى أهمِّية المملكة العربية السعودية لتعزيز دورها في الشرق الأوسط، ومكانتها القطبية على الساحة العالمية. وترجمت ذلك من خلال إنشاء تحالُف راسخ ووثيق مع الرياض، وامتدَّ هذا التحالف على مدار عقود، وقد عاد هذا التحالف الإستراتيجي بمصالح مفيدة على الطرفين، وعزَّز مكانة واشنطن العالمية.
لكنَّ أولويات الولايات المتحدة تبدَّلت، ومن ذلك تغيُّر المزاج الأمريكي تجاه المملكة، مع تأثير النزاع الحزبي في خياراتها الإستراتيجية على الصعيد الدولي. وانعكس ذلك على سلوك الولايات المتحدة في المنطقة، تحت ضغط التغييرات، التي طرأت على هيكل القوَّة في النظام العالمي. وكان ضمن التغيير، الذي طرأ على خيارات واشنطن الخارجية، هو إعادة تقييم إستراتيجيتها وانتشارها الدولي، وشراكاتها الإستراتيجية، وهو التغيير الذي جاءت في إطاره إعادة تقييم العلاقة مع السعودية، ومحاولة التخفُّف من أعباء أمن منطقة الشرق الأوسط، وإسناد تلك المسؤولية إلى دول المنطقة نفسها، من خلال إطارات عديدة، يأتي على رأسها ما سُمِّي بالاتّفاقيات الإبراهيمية لإدماج إسرائيل في المنطقة.
وقد ثبت أنَّ ذلك المسعى لا يتوافق مع الواقع البنيوي العميق لقضايا المنطقة الجوهرية، التي تفرض على واشنطن إعادة التقييم الواقعي لمدى أهمِّية المنطقة إستراتيجيًّا.
والحقيقة أنَّ التغيير لم يكُن أمريكيًّا فقط، بل كان سعوديًّا أيضًا، إذ لم تعُد المملكة راضية عن أيّ علاقة غير متكافئة ومنفعتها غير تبادُلية، كما لم تكُن المملكة مرتاحة لخُطَط واشنطن في المنطقة ولإعادة انتشارها، دون الأخذ بالاعتبار مصالح المملكة، والتهديدات التي تتعرَّض لها، ولم تكُن راضية أيضًا عن أن تبقى العلاقة مع واشنطن أسيرة النزاع الحزبي وتقلُّبات السياسة الأمريكية ومواسمها الانتخابية، التي تدفع بالجمهوريين تارةً، فيقايضون الرياض على تعاونهم الأمني، وتدفع بالديمقراطيين تارة أُخرى فيلوِّحون بأوراق وضغوط حتى تقبل الرياض بسياسة واشنطن دون تحفُّظ.
وفي ظل الإهمال الأمريكي لمصالح المملكة، تشكَّل واقع جديد، وأصبحت الفجوة متّسِعة، وبات التغيير على السعودية والتحوُّط لمزاجية واشنطن أمرًا لا مفرَّ منه. ورُبَّ ضارَّةٍ نافعة، فسياسة واشنطن عزَّزت استقلالية الرياض، ودفعتها إلى رسم سياساتها الخاصَّة، بعيدًا عن أيّ ارتباطات وشراكات مؤثِّرة في قرارها. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الرياض مركزًا إقليميًّا وعالميًّا للتفاعلات، وعاصمةً للدبلوماسية والسلام. ومنحت هذه السياسة الرياض مكانةً إقليمية بارزة، ودورًا لم يعُد من الممكن تجاوزه، بل بات الجميع ينظر إلى المملكة بوصفها ركيزة أساسية للاستقرار الإقليمي، وشريكًا أساسيًا في التنمية ونمو التجارة العالمية.
وبلا شكّ، فعندما أخطأت واشنطن تقدير أهمِّية علاقاتها مع السعودية، استغلَّت القُوى الدولية المناهِضة لواشنطن هذا الخطأ، ووطَّدت علاقاتها مع السعودية، وجرى بناء شراكات سعودية متنوِّعة على أساس مكاسب مُتبادَلة للأطراف كافة. وامتصَّت الرياض التوتُّر الإقليمي، وقدَّمت استجابةً رائدة عززَّت مكانتها وقيادتها، وهُنا استشعرت واشنطن مدى خطئها بحقِّ المنطقة والسعودية، بوصفها مركزًا للتأثير في منطقة الشرق الأوسط وفي القضايا العالمية.
والواقع أنَّ الإدارة الأمريكية الحالية تأخَّرت في فهْم سياسة السعودية الجديدة، وفهْم التغيير، الذي طرأ على مواقفها وتوجُّهاتها الخارجية، ولم تستوعب أنَّ أقلّ ما كان يمكن للرياض أن تفعل، هو البحث عن بدائل، وعدم ربْط مستقبل البلاد بأيّ قُوى خارجية. فخلال أقلّ من عقْد، أعادت الرياض تشكيل سياساتها الخارجية، ونوَّعت شراكاتها، وقادت المنطقة نحو تغييرات عميقة، وذلك من أجل تجاوُز حقبة الفوضى، وتخطِّي المخطَّطات، التي تهدف إلى إبقاء المنطقة ساحةً للحروب بالوكالة ونشْر الجماعات الإرهابية والعنيفة لتدمير الدول والمجتمعات، بل أصبح النموذج السعودي التنموي يُحتذى به، ومثارًا للاقتداء من عديد من الدول الطامحة لتحسين ظروفها.
والواقع الآن أنَّ الرياض لم تعُد في مواجهة تحدِّيات مصيرية في المنطقة ولا أزمات مُلِحَّة، بل أصبحت قادرة على أن ترسم سياساتها باستقلالية، وبما يخدم مصالحها. وانتقلت المشكلة الآن لتصبح مشكلة الولايات المتحدة، التي فرضت عليها قراءتها الخاطئة لتطوُّرات المنطقة ولمركزية العلاقة مع السعودية، تحدِّيات كبيرة، وهي تتلمَّس العودة إلى مواجهة عديد من الجِهات والخصوم. وقد وقع عليها وحدها عبء مواجهة التحدِّيات، وبتكلفة باهظة، وهُنا لا يمكن أن نتجاوز الإشارة إلى أنَّ الرياض سبق أن حذَّرت واشنطن يومًا ما، من الذي يجري اليوم، لكن واشنطن غضَّت طرفها، وسحبت قوَّتها وتركت حليفتها وحدها، وها هي قد عادت، لكن هذه المرَّة بلا حليف إقليمي يُعتمَد عليه.
إنَّ واشنطن تُلِحُّ اليوم من أجل تصحيح خطئها الإستراتيجي بحقِّ السعودية، وترغب في إعادة صياغة العلاقة معها من جديد. لكن يبدو أنَّها لم تستوعب بعد التغييرات الجارية في المملكة، فإذا كانت مشكلة الرياض مع واشنطن في وقتٍ ما ذات طابع أمني، فإنَّ الأمر لم يعُد مُلِحًّا بالنسبة للرياض على هذا النحو. وعلى المدى الطويل، ستكتسب السعودية قُدرات مهمَّة في هذا الإطار، في سياق خطَّتها الدفاعية الطموحة. وإذا كانت المشكلة هي إيران، فإنَّ الرياض نجحت في أن تستجيب لهذا التحدِّي بطريقتها الخاصَّة، وحيَّدت خطر هذه الدولة وردعتها، سواء وقت المواجهة، أو وقت المصالحة. وإن كانت المشكلة هي وجود ظهير دولي قوى، فإنَّ السعودية لم تعُد ترغب في أن تتموضع في محاور دولية متنافِسة تؤثِّر في موقعها المتوازِن والمحايد.
إنَّ ما قد يجعل من إعادة صياغة العلاقات مسألة معقَّدة، هي مقاربة واشنطن، التي تراهن على إعادة العجلة إلى الخلف، وإعادة العلاقة مع المملكة إلى سابق عهدها، وكأنَّ شيئًا لم يتغيَّر، وترتيب النظام الإقليمي على النحو الذي كان يُعمَل به. لكن، في الواقع المملكة باتت قُطبًا في عالم جديد يتشكَّل، ولديها علاقات مهمَّة مع شُركاء دوليين لا يمكن أن تتخلَّى عنهم، فقط لأنَّ واشنطن تريد ذلك، ولديها مشروع للإقليم لن تهدمه لأنَّ واشنطن تريد شرق أوسط يتماشى مع تطلُّعاتها، وعالمًا يظَلّ قابعًا تحت هيمنتها. والأهمّ، لدى المملكة مشروعها الداخلي، وشرعيتها المُكتسَبة في العالمين العربي والإسلامي، التي لا يمكن أن تضحِّي بهما لأنَّ واشنطن ترغب في أن تمنح إسرائيل مكتسبات جديدة في المنطقة، أو أنَّ جو بايدن يريد مُكتسَبًا يعزِّز به حظوظه الانتخابية.
لقد ثبتت بالدليل للولايات المتحدة صحة مقاربات المملكة، وأنَّها ليست الطرف المعطِّل لمشاريع السلام في المنطقة، وأنَّ مخاوفها من منطقة شديدة التطرُّف يبدو منطقيًّا. ففي شهادته أمام الكونغرس بتاريخ 21 مايو 2024م، أبدى وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، حسب صحيفة «المونيتور» الأمريكية، عدم تفاؤله بنهج إسرائيل وقبولها قيام دولة فلسطينية وحالة من الهدوء في غزة مقابل التطبيع مع السعودية، لكنَّه أشار إلى الإيجابية السعودية في تحقيق السلام بقوله: «لقد كان السعوديون واضحين للغاية، إنَّ ذلك يتطلَّب الهدوء في غزة، وسيتطلَّب مسارًا موثوقًا به إلى دولة فلسطينية»، وقد خلُصَت الصحيفة إلى أنَّ «الدور السعودي سيكون حاسمًا لأيّ حل نهائي للصراع في غزة».
وفي النهاية، يمكن القول إنَّ المملكة تقدِّر مكانة الولايات المتحدة، ودورها الدولي وقيادتها، كما تُدرِك التغييرات الطارئة على التفاعلات العالمية وميزان القوَّة الدولي، كما أنَّ المملكة تُدرِك أنَّها أصبحت قوَّة اقتصادية وسياسية ولوجستية بطابع عالمي، لهذا لا يجب أن تنظُر واشنطن إلى الرياض على أنَّها أداة لتنفيذ سياسة واشنطن الإقليمية، أو ورقة من أجل التأثير في التفاعلات الأمريكية الداخلية، بل دولة إقليمية تتبوَّأ في مرحلة حرِجة مقعد القيادة، ولديها مشروعها الداخلي الطموح، ودورها الإقليمي والدولي المدفوع بالرغبة في إرساء السلام والاستقرار وتدفُّق المصالح، بعيدًا عن الاستقطاب والحروب بالوكالة. ولا يجب أن تتوقَّع واشنطن أن تمنحها الرياض مكاسب على حساب مكانتها، ودورها المُكتسَب، وتطلُّعاتها الطموحة، وإلّا فإنَّ العلاقات لن تُثمِر، والتحالف لن يعود، في ظل معضلات جوهرية تحتاج إلى مقاربة أمريكية جَدِّية.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد