صراع السرديات.. سجال مذهبي وعرقي جديد في الساحة العراقية

https://rasanah-iiis.org/?p=35417

في خطوة أثارت جدلًا طائفيًّا وعِرْقيًا، صوَّت البرلمان العراقي بالموافقة على طلب زعيم التيّار الصدري مقتدى الصدر، باعتبار «يوم أو عيد الغدير»، الموافق الثامن عشر من ذي الحجّة، عُطلةً رسمية ضمن قانون العُطلات الرسمية بالبلاد. هذا الطلب أثار دعوات مذهبية وعِرْقية مضادَّة، خشية فرْض سردية شيعية على بقية سرديات الطوائف والعِرْقيات العراقية، بمطالبة أبناء المكوِّن السُّنِّي باعتبار ذكرى «يوم سقيفة بني ساعدة» عُطلةً رسمية مماثلة بالبلاد، ومطالبة المكوِّنين الكردي والتركماني أيضًا بإقرار عُطلات رسمية تخلِّد أحداثًا كردية وتركمانية ذات أبعاد رمزية هامَّة لكلا المكوِّنين.

تنبع أهمِّية النقاش حول تلك التطوُّرات من إثارتها المخاوف من الدخول في متاهة مذهبية وعِرْقية، تُفضي إلى فتنة طائفية جديدة في بلد عربي يضُمّ عديدًا من الطوائف والعِرْقيات، كما تُعيد تكرار سيناريو الصراعات الطائفية، التي شهِدَها العراق قبل سنوات، وراح ضحيتها كثيرون من القتلى والجرحى، وتطرح عددًا من التساؤلات، مثل: ما دلالات موافقة البرلمان العراقي على عطلة عيد الغدير؟ وما الأبعاد والتداعيات الأيديولوجية والسياسية لفرض السردية الشيعية في العراق؟ وما تأثير ذلك في مستقبل العَلاقة بين التيّار الصدري و«الإطار التنسيقي» من ناحية، والتحالفات السُّنِّية والكردية من ناحية أخرى، في الانتخابات البرلمانية المقبلة؟ وما انعكاسات ذلك على مسقبل الصراع الشيعي-الشيعي، وبالتبعية على النفوذ الإيراني بالعراق؟ ومستقبل الدولة العراقية؟

أولًا: ملامح صراع السرديات الطائفية والعِرْقية

فيما يعيش العراق مرحلة دقيقة في تاريخه المعاصر بفعل الأزمات المعقَّدة، التي خلَّفتها التدخُّلات الخارجية، لا سيّما التدخلات الإيرانية، وبفعل انخراط المليشيات المسلَّحة الموالية لإيران بالعراق في الصراعات الإقليمية الدائرة، تشهد الدولة العراقية أزمة جديدة على خلفية انطلاق صراع سرديات طائفي وعِرْقي متصاعِد، يُنذِر بدخول العراق مرحلة جديدة من الصراعات الطائفية والعِرْقية، التي كبَّدته خسائر بشرية ومالية باهظة في السابق.. وفي ما يلي أبرز ملامح ذلك الصراع الجديد في الساحة العراقية:

1. تمسُّك الشيعة بفرض السردية التاريخية على الطوائف العراقية:

انطلق جدلٌ طائفي جديد بمساعي الصدر لفرض السردية الشيعية على عموم الطوائف والعِرْقيات العراقية، بمطالبته في كلمة متلفزة يوم 17 مايو 2024م، بتضمين «يوم أو عيد الغدير»، الذي يحتفل به الشيعة سنويًّا في الثامن عشر من شهر ذي الحجّة، باعتباره اليوم الذي أوصى فيه النبي محمد صلى الله عليه وسلَّم بالخلافة لعلي بن أبي طالب، حسب الرواية الشيعية، في قائمة الإجازات أو العُطلات الرسمية للبلاد.

تحدَّث الصدر، في مخالفة للواقع وقفزًا على بقية السرديات التاريخية في العراق، ممثِّلًا لعموم الشعب العراقي بكُلِّ وطوائفه وعِرْقياته، مكرِّرًا طلبه، بقوله: «بأمر من الشعب والأغلبية الوطنية المعتدلة بكل طوائفها، يجب على مجلس النوّاب تشريع قانون يجعل من الثامن عشر من شهر ذي الحجّة، عيد الغدير، عُطلةً رسمية عامة لكُلِّ العراقيين، بغضِّ النظر عن انتمائهم وعقيدتهم».

ولأجل تمرير القانون، لجأ الصدر إلى ورقة حشْد أتباعه في الشارع، للضغط على البرلمان لإقرار مطلبه، لذلك شاركت جماهير شيعية غفيرة من أتباعه في صلاة الجمعة الموحَّدة في عدد من المحافظات ذات الغالبية الشيعية، وزاد الصدر ضغطه على البرلمان، بقوله إنَّ لم يوافقوا على عيد الغدير «فليواجهوا محمدًا وعليًّا خصمًا لهم، سُنَّة وشيعة». 

ولدعم المطلب الصدري، خطَبَ خطيب صلاة الجمعة الموحَّدة في بغداد، حازم الأعرجي، قائلًا: «هذا العيد أمرٌ إلهي إلى رسوله بأن يبلِّغ بالولاية لأمير المؤمنين، وهذا أمر الله لنبيه، ونبيُّه بلَّغ»، وذلك لتعبئة وحشْد الشيعة لممارسة الضغط على البرلمان لإقرار عطلة الغدير.

أثمر ضغْط الصدر وأتباعه، إذ لم يمضِ وقت طويل، حتى استجاب البرلمان، وغالبية أعضائه شيعة ينتمون لـ«الإطار التنسيقي»، الذي يضم بين مكوِّناته تحالُفات شيعية مدعومه من إيران، يوم 22 مايو 2024م، لمطلب الصدر بتضمين «عيد الغدير» ضمن قانون العُطلات الرسمية(*).

ومن المفارقات الغريبة، أنَّ قانون العُطلات الجديد يُقِرّ عُطلة «عيد الغدير»، وثلاثة أعياد خاصَّة بالطائفة الموسوية اليهودية، التي لم يعُد لأتباعها وجود يُذكَر في العراق، وهي «يوم الكفّارة، ويوما عيد الفصح، ويوما عيد المظلَّة»، بينما لم يرِد أيّ ذكر في القانون الجديد لذكرى تأسيس الجمهورية العراقية، الذي يصادف 14 يوليو من كل عام.

2. الانتقادات السُّنِّية لفرض السردية الشيعية:

تفاقم صراع السرديات بأمرين: الأول، رفْض وانتقادات عديد من القُوى السُّنِّية العراقية لعُطلة الغدير، ومن بينها: المرجعية الدينية السُّنِّية ممثَّلةً في «المجمع الفقهي العراقي»، و«الحزب الإسلامي العراقي» بقيادة رشيد العزّاوي، و«تحالُف السيادة» بزعامة خميس الخنجر، وتحالُف «متّحِدون» بقيادة الرئيس الأسبق للبرلمان، أسامة النجيفي، و«تحالُف عزم» برئاسة مثنّى السامرائي.

ويتمثَّل الثاني في تبنِّي نوّاب السُّنَّة خطوة مماثلة لخطوة النوّاب الشيعة، بطلبهم تضمين ذكرى «يوم سقيفة بني ساعدة»، التي جرت خلالها مبايعة أبي بكر الصديق خليفةً للمسلمين، بعد وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلَّم في العام الحادي عشر للهجرة، عُطلةً رسمية بالبلاد.

في مقابل الخطاب الشيعي لفرض السردية الشيعية، وظَّف السُّنَّة خطبة الجمعة في المحافظات السُّنِّية للكشف عن مخاطر المسعى الشيعي، فقد حذَّر خطيب مسجد أبي حنيفة ببغداد عبد الوهاب السامرائي من اندلاع فتنة طائفية كارثية بسبب عُطلة «عيد الغدير»، لكونها تمثِّل ترسيخًا للسردية الشيعية والهوية الفرعية، وطمْسًا لبقية الهويات الوطنية الجامعة، موضِّحًا: «لن نقبل ولن نرضى.. إمَّا أن تكون هوية لكُلِّ العراقيين هوية مواطنة، أو أن تُحترَم كلُّ الهويات، فتكون عُطلة لـ(يوم الغدير)، وعُطلة لـ(يوم السقيفة) وعطلة لتنصيب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب».

كذلك انتقد تحالُف «متّحِدون» السُّنِّي إقرار البرلمان عُطلة «عيد الغدير»، في ظل مرحلة مفصلية فارِقة يعيشها العراقيون، نتيجة إخفاق النظام السياسي في معالجة الأزمات المعقَّدة بالبلاد، موضِّحًا أنَّ طبيعة المرحلة تفرض على العراقيين البحث عن المشتركات، لا فرض السرديات الطائفية، التي تسبَّبت في صراع طائفي تاريخي، خصوصًا أنَّ «عيد الغدير» يشكِّل عيدًا لـ«الولاية» في السردية الشيعية التي «تُكفِّر» -حسب تحالُف «متّحِدون»- مَن لا يعتقد في ذلك، ما يعني -حسب رأيه- تكفير قرابة نصف الشعب العراقي.

إجمالًا، يُبدي السُّنَّة تخوُّفهم من تعزيز عُطلة عيد الغدير للنزعات الطائفية، وفتْح الباب واسعًا لطَأْفنة وعَرْقَنة العُطلات القومية، وبذلك نكون أمام عشرات الأيام من العُطلات، لوجود عشرات الطوائف والعِرْقيات في العراق، في حين أنَّ القانون العراقي يُتيح لمجالس المحافظات منْح يوم إجازة لساكني محافظته دون غيرها لأسباب مختلفة ولأيام متعدِّدة، مثل «يوم الغدير والسقيفة والشهيد التركماني»، إلخ.

كذلك لم يُلاحَظ وجود تأثير سُنِّي قادر على منْع إقرار القانون، ذلك لأنَّ الكُتلة السُّنِّية مهمَّشة سياسيًّا، وغير فاعلة على مستوى البرلمان، ولا تملك الأدوات، التي يمكنها حمْل التكتُّل الشيعي الأكبر على الإنصات، فضلًا عن إنفاذ المطالب السُّنية. ثمّ إنَّ أهل السُّنَّة يذكرون جيِّدًا تلك المعارك الكُبرى بعد سقوط صدام حسين، ومحاولة عدد من المليشيات الطائفية استهداف الوجود السُّنِّي برمَّته في العراق، ومن المليشيات التي شاركت في ذلك مليشيا «جيش المهدي»، التي كانت تابعة للصدر حينذاك. وبالتالي، فإنَّ الخيارات أمام أهل السُّنَّة محدودة، ناهيك باختفاء الزعامات السُّنِّية المؤثِّرة في الجماعة السُّنِّية خصوصًا، وفي الدولة العراقية عمومًا. كذلك، فإنَّ التواصل بين أهل السُّنَّة والشيعة ضعيف أو منعدم في كثير من الأوقات، ما أدَّى إلى حساسية كل فريق تجاه الآخر.

3. رفْض المكوِّنين الكردي والتركماني السردية الشيعية:

على الرغم من إدراكهما صعوبة تمرير مشاريع قراراتهما في البرلمان، لجأ المكوِّنان الكردي والتركماني إلى نفس التكتيك الشيعي، بالمطالبة بإقرار عُطلات رسمية تخلِّد أحداثًا كردية وتركمانية ذات دلالات رمزية كردية وتركمانية، كما يلي:

  • – تقدَّمت كُتلة «حزب الاتحاد الوطني الكردستاني» بطلب للبرلمان، لتضمين يوم 16 مارس -يوم قصْف حلبجة بالأسلحة الكيمياوية- ويوم 14 أبريل، ذكرى انطلاق عمليات الأنفال(*) والإبادة الجماعية، ضمن قانون العُطلات الرسمية في جميع أنحاء العراق.
  • – تقدَّمت الكُتلة التركمانية في البرلمان، بطلب لإدراج مقترح بتضمين يوم «الشهيد التركماني» ضمن قانون العُطلات الرسمية بالبلاد، إذ يُحيي التركمان في 16 يناير من كل عام ذكرى إعدام نظام صدّام حسين عديدًا من القيادات التركمانية عام 1980م.

ثانيًا: الأبعاد التاريخية والأيديولوجية لفرض السردية الشيعية

«عيد الغدير» هو يوم يحتفل به الشيعة كل عام في الثامن عشر من ذي الحجّة، بمناسبة قول النبي صلى الله عليه وسلَّم في هذا اليوم، في منطقة تُسمَّى «غدير خم»، بعد الانتهاء من مناسك الحج، حينما قال لأصحابه: «مَن كُنتُ مولاه، فعليٌّ مولاه»، ففَهِم الشيعةُ هذا الحديث على أنَّه تنصيبٌ من النبي لابن عمّه عليٍّ في الخلافة من بعده، ويذهبون إلى أنَّه «يقيني الثبوت قطعي الدلالة».. في حين رفض خصومهم من أهل السُّنَّة هذا الفهم للرواية، من عدَّة وجوه:

الأول: أنَّها رواية آحاد لا يجوز إعمالها في مسألة قطعية، والإمامة من أبواب القطعي عند جمهرة الشيعة الاثنا عشرية.

الثاني: أنَّ الرواية، وإنْ صحَّت، فإن دلالتها ظنِّية لا قطعية، فلا تصريح فيها بخلافة عليّ للنبي صلى الله عليه وسلَّم، وغاية ما فيها مدْح وثناء من النبي لعليّ، كما مدح غيره في أحاديث كثيرة. وقد ذهب نفرٌ من الشيعة الاثنا عشرية إلى أنَّ دلالة الحديث ظنِّية، لا قطعية. وبالتالي، تسقط حُجّيته في إثبات النص على عليٍّ، فقد نفى «السيِّد المرتضى» أنَّ الصحابة لم يثبت أنَّهم لم يفهموا مُراد النص اضطرارًا، وإنَّما ُرُبَّما فهموه استدلالًا، ومن ثمَّ فالعلم به ليس ضروريًّا، بل هو نظري.

والثالث: فإنَّ هذه الرواية حُجَّة على الجماعة الشيعية من وجهٍ آخر، وهو أنَّها لا تصريح فيها بوراثة الإمامة في أبناء فاطمة، كما ذهب الاثنا عشرية بعد ذلك.

أمَّا جمهرة عُلماء السُّنَّة، فقد ردُّوا فهْم الجماعة الشيعية لهذه الرواية، وقد ذهب الرازي إلى أنَّ الحديث ظنِّي من ناحية الثبوت، ومن ناحية الدلالة. ثمّ من ناحية اللغة، أثبت الرازي أنَّ المُراد منه هو وجوب محبّة عليّ رضي الله عنه، والقطع على سلامة باطنه، لكن لا يُفهَم منه النصّ على إمامته أو عصمته. وقد قال الغزالي عن ألفاظ الحديث: «إنَّها ألفاظ مُحتمَلة للتأويل، نقلها الآحاد».

فالخلاف إذًا، ليس سياسيًّا فقط، بل هو خلاف علمي متعلِّقٌ بثبوت الروايات، وطرائق فهمها، ومتعلِّقٌ بالسياسة كذلك، مع خلافات تاريخية ومذهبية زادت الفجوة بين الطرفين. والحاصل في هذه الحالة أن يتحاكم كلاهما إلى المبادئ العامَّة، وقوانين الدولة الحديثة.

بيْد أنَّه جرى استحضار الشعائر التاريخية، التي أحدثت صِدامًا هائلًا بين الطرفين، لتشغيلها وتفعيلها مرَّةً ثانية، في ظل وضع سياسي مضطرِب ومُتنازَع عليه، إذ تسهم تلك الشعائر في إحياء أصل الخلافات التاريخية والجوهرية بين الشيعة والسُّنَّة على مسألة «مَن الأحقّ بالخلافة». ويحمل «يوم الغدير» و«يوم السقيفة» دلائل لكليهما على أنَّه المكوِّن الأولى بالخلافة، فيرتبط «يوم الغدير» بولاية الرسول صلى الله عليه وسلَّم لعليّ بن أبي طالب في السردية الشيعية، بينما يرتبط يوم السقيفة بتوافق أنصار النبي صلى الله عليه وسلَّم على أبي بكر الصديق خليفةً للمسلمين، حسب السردية السُّنِّية، وهذا خلاف جوهري بين السُّنَّة والشيعة تاريخيًّا. وبالتالي، فإنَّ تشريع عُطلة «عيد الغدير» يعني فعليًّا تبنِّي سردية الدولة العراقية سردية دينية شيعية لا وجود لها على المُطلَق في السردية السُّنِّية.

ثالثًا: التداعيات السياسية لفرض السردية الشيعية

1. خطوة على طريق إرساء الهوية الشيعية:

يرى عديد من المراقبين أنَّ قرار عطلة «عيد الغدير» يسطِّر خطوةً في طريق إرساء الهوية الشيعية للعراق، ذي الهوية العربية الإسلامية تاريخيًّا، فمن شأن تلك الخطوة استئثار وفرْض المكوِّن الشيعي سرديته وطقوسه وعاداته الشيعية على بقية طقوس وعادات وسرديات بقية الطوائف والعِرْقيات العراقية، وبالتالي تهيئة المجتمع للقبول بالهوية الشيعية، التي تسهِّل تنفيذ أهداف المخطَّطات الشيعية الداخلية والخارجية، وهو ما يعيد إلى الأذهان دور رجال الدين الإيرانيين بعد الثورة في إرساء الهوية الشيعية لإيران.

2. تفسير أزمة النظام العراقي في أداء مهامه:

تكشف سلَّة الأزمات، التي يعيشها العراق منذ سنوات، عن معضلة حقيقية يعاني منها النظام السياسي العراقي، الذي يسيطر عليه المكوِّن الشيعي منذ عام 2003م. ويتحدَّث المتخصِّصون عن تفسيرات عديدة لإخفاق النظام العراقي في أداء مهامه المنوطة به، في معالجة الأزمات وحفْظ الأمن والاستقرار بالبلاد، منها المؤسَّسي والداخلي والخارجي. لكن كشفت تطوُّرات عُطلة «عيد الغدير» عن مفسِّرات إضافية لإخفاق النظام -الذي يسيطر عليه الشيعة- تتمثَّل في افتقاده برامج وطنية على مستوى الدولة والهوية الوطنية الجامعة للمجتمع العراقي، وامتلاكه من ثمَّ برامج طائفية تخدم توهُّج الهوية الفرعية أو الطائفة الشيعية والإستراتيجية الإيرانية التوسُّعية فقط، وبالتالي انحرف النظام عن أداء وظائفه الرئيسية بخدمته الأهداف السياسية الشيعية ذات الصِّلة بالأجندة الإيرانية فقط، ما يدعم في النهاية إرساء هوية شيعية تسهِّل تمرير المخطَّطات التوسُّعية، واستمرارية العراق ضمن دائرة النفوذ الإيراني.

3. تعزيز فُرَص الصراعات الطائفية والعِرْقية:

من شأن ما يفعله الصدر من تمترُس وراء الأدبيات الشيعية التقليدية، وتمترُس خلْف الميراث الشيعي، وهذا إنْ سُلِّم تاريخيًّا في ظل الدولة قبل الحديثة، أن تكون له تبِعات خطِرة في ظل الدولة الحديثة وثقافة الدساتير والحقوق والحرِّيات. تاريخيًّا، نشبت معارك كادت أن تصِل إلى درجة «الحرب الأهلية» في بغداد بين الشيعة والسُّنَّة، بسبب يومَي عاشوراء والغدير، أسفرت عن مقتل عشرات من الطرفين، لكن الساسة المعاصرين، لم يتعلَّموا منها.

بعبارة أخرى، فرْض سردية شيعية على بقية المكوِّنات الطائفية في مجتمع متعدِّد الطوائف والعِرْقيات من شأنه تعزيز فُرَص اندلاع الصراعات الطائفية، التي لم يجنِ منها العراق سوى تدمير الموارد والثروات، وإهدار الطاقات البشرية، وتفاقُم الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية والخدمية، وانهيار مؤسَّسات الدولة. وتزداد خطورة اندلاع صراعات طائفية في ظل مرحلة غير مستقِرَّة يعيشها العراق، بفعل تفشِّي الأزمات النوعية، وتحوُّل العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات الأمريكية-الإيرانية، على خلفية انخراط المليشيات الموالية في الصراعات الإقليمية، وقصفها للأهداف الأمريكية في الساحة العراقية.

4. تعزيز رواية عودة الصدر إلى الحياة السياسية:

عَدَّ المراقبون مطالبة الصدر بعُطلة «عيد الغدير» مؤشِّرًا ضمن عدَّة مؤشِّرات(*) على الرغبة في العودة إلى الحياة السياسية، والمشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة -دعاية انتخابية مبكِّرة- لكونه خاطب جمهوره للاحتشاد في الشارع للضغط على البرلمان، وذلك في مسعى لتهيئة جمهوره واستعداده للمرحلة المقبلة. وتزامن ذلك مع إعلان الصدر تغيير اسم تياره، من التيار الصدري إلى «التيار الوطني الشيعي»، بهدف توسيع إطار التيّار ليشمل تحالُفات شيعية أخرى، وإضفاء بُعد وطني على حراكه السياسي المُحتمَل في المستقبل.

رابعًا: فرْض السردية الطائفية ومآلات الصراع الشيعي-الشيعي

شهِدَ العراق خلال العامين الماضيين مرحلة انسداد سياسي بالغة التعقيد، على خلفية اندلاع صراع شيعي بين أكبر تحالُفين شيعيين: الأول، التيّار الصدري بقيادة مقتدى الصدر، والثاني، الإطار التنسيقي، الذي يضُمّ عددًا من التحالُفات، بينها الموالية لإيران، مثل «دولة القانون» بقيادة نوري المالكي، و«الفتح» بقيادة هادي العامري. ودار الصراع بين الجانبين على الزعامة والمرجعية والسُّلطة والنفوذ في المعادلتين الشيعية والعراقية، وتفاقم الصراع إلى حد اندلاع اشتباكات مسلَّحة في المنطقة الخضراء وسط بغداد، انتهت بطلب «الصدر» من أنصاره العودة فورًا إلى المنازل حقنًا للدماء، وإعلانه اعتزال الحياة السياسية في أغسطس 2022م.

تكشف سرعة تفاعُل نوّاب «الإطار التنسيقي» مع مطلب «الصدر»، وحديث قائد مليشيا «عصائب أهل الحق» بعد التصويت على عُطلة «عيد الغدير»، حينما: «نال أغلبية الشعب حقوقهم الغائبة»، وشُكر الصدر للنوّاب على التصويت لصالح مطلبه، عن مشهدٍ شيعي جديد بدا يتشكَّل في العراق، وعن تفاهُمات تجري بين الأطراف الشيعية، مفادها إمكانية التقارب بين المالكي والصدر، تمهيدًا لعقد مصالحة تاريخية، أو خفْض التوتُّر والدخول في هُدنة طويلة الأمد على أقلّ تقدير، لإدراكهما صعوبة تحقيق المباراة الصفرية. ونجد مَن يرى أنَّ الصدر أراد بطلبه عُطلة «عيد الغدير»، اختبار مدى مصداقية «الإطار التنسيقي» عامَّةً، و«تحالُف دولة القانون» خصوصًا، في التقارب منه. وهو ما حدَثَ بالفعل، إذ جاء الرد سريعًا من نواب «الإطار» بسرعة تكتُّلهم لصالح «الصدر» في البرلمان، لذلك لم تتجاوز موافقة البرلمان عدد أصابع اليد من تاريخ طلب «الصدر».

وفي مؤشِّر يعزِّز سيناريو التقارب، يأتي ما كشفت عنه أوساط شيعية عراقية عن مساعي المالكي للتقارب مع «الصدر»، وذلك لرُبَّما على خلفية توجُّس المالكي من اندلاع الانقسامات داخل «الإطار التنسيقي» حول حجم وطبيعة ضرب الأهداف الأمريكية بالعراق، وإدراكه مخاطر تعاظُم العلاقة المتنامية بين قيس الخزعلي ورئيس الحكومة، وإمكانية أن يُسفِر ذلك عن ولادة تحالُف شيعي جديد يخرج عن سيطرته. لذلك، وجد المالكي في وضْع صيغة ثنائية قوية، المالكي-الصدر، طريقةً مُثلى لقطع الطريق على ولادة تحالف مثل ذلك، وأيضًا رُبَّما بات المالكي يؤمن بواقعية الرؤية الإيرانية، بأنَّ عُزلة «الصدر» تدفع نحو تعميق الانقسام، والتمهيد لاقتتال شيعي-شيعي.

ونظرًا لأنَّ إيران ستكون المستفيد الأول من تسوية الصراع بين الصدر والمالكي، يرى عديد من المراقبين أنَّ إيران تمارس دورًا في ما يجري من تفاهُمات بين الصدر والمالكي لرأب الصدع الشيعي، الذي أثَّر بشكل كبير في المساعي الإيرانية لمزيد من التوسُّع في الساحة العراقية، لأنَّ إيران وجدت في ضعْف الظهير الشيعي، الذي تعتبره العمود الفقري لاستمرار مشروعها التوسُّعي في العراق، بسبب الانقسام بين المالكي والصدر، معضلةً كُبرى أمام الحفاظ على مكتسباتها وتمرير بقية مخطَّطاتها.

خامسًا: أبرز النتائج المترتِّبة على انطلاق صراع طائفي جديد في العراق

1. السيطرة الشيعية على البرلمان وتمرير القوانين الطائفية:1.

 كما جرى التنويه مِرارًا وتَكرارًا بأنَّ عدم التدافُع مع الشيعة في المعارك الانتخابية المتعاقِبة في العراق يُفضي إلى هيمنة شيعية على البرلمان، ويُعَدُّ من أخطر منافذ تمرير المخطَّطات الخارجية، لا سيّما الإيرانية، في الساحة العراقية، لكون المخطَّطات تُمرَّر عبر مشاريع القوانين الخادِمة لها بطريقة رسمية شرعية تحت قُبّة البرلمان، وبالتالي عدم التدافُع نحو تعزيز فُرَص المكوِّنات الأخرى، غير المكوِّن الشيعي في العراق، يُسهم رويدًا رويدًا في تحقيق الأجندة الشيعية الإيرانية، بإرساء وسيادة الهوية الشيعية، مقابل تذويب الهوية الجماعية، خدمةً للأجندة الإيرانية. وهذا يكشف عن ضرورة التناول بالدراسة كل القوانين المُوافَق عليها من البرلمان العراقي، منذ سيطرة نوّاب «الإطار التنسيقي» على البرلمان العراقي.

2. تقوقُع «الصدر» خلف المذهب ومسار الدولة الوطنية:

يُجمِع كثيرون على أنَّ مطلب «الصدر» الطائفي، الذي يعكس تقوقعه خلف المذهب والطائفة، من شأنه التشكيك في مصداقية تبنِّيه سنوات مسار الدولة بمفهومها الوطني، لا المذهبي، لأنَّ ذلك المطلب الطائفي وتعبئة «الصدر» أنصاره لصالح مطلب طائفي، يتعارض بشكل جوهري ومسار الدولة الوطنية الجامعة للهويات الفرعية تحت مفهوم المواطنة، لكونه يفرض سردية شيعية فرعية على بقية السرديات للمكوِّنات العراقية، ما من شأنه تأجيج الصراعات الطائفية والعِرْقية لكونها سردية شمولية تهدف إلى فرْض السيطرة والهيمنة على الهوية العراقية الجامعة.

3. المطلب الطائفي للصدر ومستقبل العلاقة مع السُّنَّة:

خلال الجولتين السابقتين للانتخابات البرلمانية، رفَعَ «الصدر» شعارات جماعية وطنية عابرة للطائفية، وحمَلَ مطالب لبناء العراق الجديد الجامع لهوياته وأبنائه، بغضِّ النظر عن اختلاف أعراقهم وألوانهم ومذاهبهم، على نحوٍ خلَقَ حالةً من الانجذاب السُّنِّي الشعبي والسياسي. وبالتالي، جذَبَ «الصدر» شريحة كبيرة من الناخبين السُّنَّة لصالح تحالفه، كما انضمّ إلى تحالفه بعض التحالُفات السُّنِّية مثل «تحالُف السيادة» و«عزْم» و«متّحِدون»، وغيرها.. لكن يتوقَّع كثيرون أنَّ مطلب «الصدر» لرُبَّما يؤثِّر في مواقف التوجُّهات الشعبية السُّنية والتحالُفات السُّنِّية تجاه «الصدر» في الانتخابات المقبلة.

خاتمة

تكشف المعطيات السابقة عن حقيقةٍ باتت شبه ثابتة في العقل الإستراتيجي للساسة الشيعة العراقيين، تتمثَّل في مركزية وأولوية المحدِّد الطائفي على بقية المحدِّدات، في منطلقاتهم وأدواتهم وتوجُّهاتهم تجاه القضايا العراقية الداخلية والخارجية. فالتيّار الصدري، الذي ملأ العالم ضجيجًا على مدى سنوات بحمله لواء مشروع الدولة بمفهومها الوطني الجامع للهويات والعِرْقيات الفرعية ضدّ التخندُقات المذهبية والعِرْقية والمحاصصة الطائفية والعِرْقية، عندما وقَفَ أمام اختبار المحدِّد الطائفي، تقوقع وتمترس خلف السردية الشيعية، وضرب بعرض الحائط الهوية الجماعية، بل هو مَن طالب بفرض السردية الشيعية على عموم العراقيين، عندما نادى بعُطلة «يوم الغدير».. وهو يدرك تمامًا تداعيات ذلك الأمر، على بقية المكوِّنات السُّنِّية والكردية، ما يضع مسار الدولة على المحك لصالح مسار اللا دولة، بعدما كشف الساسة الشيعة عن حقيقة توجُّهاتهم ونيّاتهم تجاه أولوية الدولة الوطنية والقِيَم الجماعية، عندما يتعلَّق الأمر بثوابت السردية الشيعية.

الأزمات المعقَّدة والمستمرة، السياسية والأمنية والخدمية، التي تعاني منها الدولة العراقية دون حل، تعكس معضلة النظام السياسي ذي الهيمنة الشيعية في أداء وظائفه الرئيسية. وكشفت المعطيات السابقة عن أبرز المفسِّرات لتلك المعضلة، ألا وهي افتقاد المكوِّن المُهيمِن على نظام الحُكم في العراق إستراتيجية وطنية تعمل لأجل الجماعة الوطنية، وبالتالي انطلقت الصراعات الطائفية، وخلَّفت خسائر بشرية ومادية فادِحة، وها هي ملامح أزمة تلوح في الأفق مجدَّدًا. كذلك تأسَّست المليشيات، واصطفَّت التحالُفات لتنفيذ رؤى أنصار المذهب الشيعي وداعميه، وسعى أنصار المذهب لتسخير موارد ومقدرات الدولة والمجتمع لخدمة أغراض المذهب، في نموذج يحاكي مرحلة إرساء نظام الحُكم الديني في إيران، وتسخير موارد الدولة والمجتمع لخدمة الأيديولوجيا بعد أن ألقت الثورة أوزارها، ومن ثمَّ لا يكترث النظام الشيعي بالدولة والجماعة. ولذلك، تداعت وتعقَّدت الأزمات الخدمية، وتفشَّت الصراعات المذهبية والخلافات العِرْقية، وتوالت الانفلاتات الأمنية، لأنَّ النظام لا يكترث بها، ولا تشكِّل أولوية بالنسبة له، إذ إنَّ في مقدمة أولوياته فرْض وهيمنة المذهب الشيعي على بقية المذاهب العراقية.

وختامًا، تكون الدول والشعوب ضحايا للأنظمة، التي تسيطر عليها مكوِّنات تعمل لصالح المذهب، لا الوطن والمواطن، ويجسِّد ما آلت إليه الدولة العراقية من أزمات معقَّدة، وما آل إليه المواطن العراقي من أوضاع معيشية مخيِّبة للآمال، على الرغم من امتلاك بلاده حضارة تاريخية وموارد ومقدرات اقتصادية هائلة، مثالًا حيًّا لمعضلة سيطرة الطائفة على الحُكم العراقي، كما أنَّ ترْك الساحة للشيعة وعدم التدافع مع المكوِّن الشيعي في المعارك الانتخابية القادمة، على الرغم من نجاح الشيعة في تجريف رموز المكوِّن السُّنِّي، يشكِّل تربةً خصبة لمزيد من تمدُّد المكوِّن الشيعي، نحو تسطير الصفحات التالية في مسيرة إرساء الهوية الشعية للدولة العراقية، ما يزيد تكلفة المواجهة للمشاريع الخارجية العابرة للحدود.


*  ينص القانون الجديد على العُطلات الرسمية: الجمعة والسبت من كل أسبوع، ورأس السنة الميلادية، ورأس السنة الهجرية، والمولد النبوي، والعاشر من شهر محرم، وعيد الغدير، وعيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد النيروز، وعيد الجيش، وعيد العُمّال، وخوَّل القانون المُدُن المقدَّسة تعطيل الدوام الرسمي بحدٍّ أقصى ثلاثة أيام حسب الضرورة، ومنَحَ كل الديانات والطوائف العراقية كالمسيحية والصابئة والإيزيدية أعيادًا محدَّدة، وتكون العُطلات خاصَّة لهم، كما أقرَّ ثلاثة أعياد خاصَّة بالطائفة الموسوية اليهودية، التي لم يعُد لأتباعها وجود قوي كما في السابق، وهي «يوم الكفّارة، ويوما عيد الفصح، ويوما عيد المظلَّة”، المصدر: https://2u.pw/EXumXrTX

*  الأنفال: تلك التسمية التي أطلقها نظام الراحل صدّام حسين على حملة عسكرية عسكرية كبيرة نفَّذها خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين في مناطق كردية شمال العراق، بسبب اتّهامه سُكّانها بأنهم مناوئون له، وراح ضحيتها عشرات ومئات الآلاف من القتلى والجرحى آنذاك.

*  أبرزها: دعوة الصدر الجماهير إلى النزول لساحات الاحتشاد تضامنًا مع الشعب الفلسطيني ضدّ الحرب الإسرائيلية في غزة، وتوجيهه رسالة لحكومات مصر والأردن وسوريا ولبنان، يطلب فيها السماح لمناصريه الصدريين بالوصول السِّلْمي إلى حدود فلسطين، ودعوته الشعوب العربية إلى اعتصام مفتوح على الحدود الفلسطينية لحين فكّ الحصار عن غزة، والزيارة الخاصَّة والغامضة، التي أجراها الصدر إلى منزل المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، بالتزامن مع نقاش شيعي-شيعي حول تعديل قانون الانتخابات تمهيدًا لإجراء انتخابات برلمانية مبكِّرة.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير