وقَّعت الهند مؤخَّرًا اتفاقًا لمدَّة عشر سنوات مع إيران لتطوير ميناء تشابهار، وجرت مراسم التوقيع على الاتفاقية في طهران، بحضور وزير الطُرُق والتنمية الحضرية الإيراني مهرداد بذرباش ووزير الموانئ والشحن والممرات المائية الهندي سارباناندا سونوال، وكان ذلك بهدف تعزيز توسع الهند التجاري في آسيا الوسطى. وبسبب العقوبات المفروضة على إيران، تأجَّل المشروع عدَّة مرّات وواجهَ عراقيل كثيرة. وعلى الرغم من القلق من استمرارية هذه العقوبات، لا يزال البلدان عازمان على المُضي قُدُمًا في تطوير المشروع.
يقع ميناء تشابهار على بعد 786 ميلاً بحريًا من مومباي، و550 ميلًا بحريًا من «ميناء كاندلا»، في ولاية غوجارات الهندية. وترى الهند وإيران أنَّ الميناء مركز رئيسي لـ «مشروع ممرّ النقل الدولي بين الشمال والجنوب | INSTC»، الذي يبلغ طوله 7200 كم، ما من شأنه أن يسهِّل حركة الشحن عبر الهند وإيران وأفغانستان وآسيا الوسطى وأوروبا، ويقلِّل تكاليف الشحن بنسبة 30%.
أرسلت الهند ست رافعات متنقِّلة ومعدّات أخرى، بقيمة 25 مليون دولار، لميناء تشابهار. كما وقَّعت «شركة الموانئ الهندية العالمية المحدودة | IPGL» اتفاقيةً مع «هيئة الموانئ والملاحة البحرية الإيرانية |PMO»، لتطوير وتشغيل محطة «الشهيد بهشتي» الإستراتيجية في ميناء تشابهار لمدَّة 10 سنوات. ولأول مرة في تاريخها تُدير الهند مشروع ميناء بحري خارجي؛ ما يمكِّنها أن تتّخِذه نموذجًا لمشاريعها مستقبلًا. بدأت التعاون بين الهند وإيران في تطوير ميناء تشابهار في عام 2003م، الذي كانت ثمرته عقْد سلسلة من الاتفاقيات والصفقات الاستثمارية، بما في ذلك صفقة بقيمة 500 مليون دولار في عام 2016م. ووسط تأخيرات وخلافات طويلة، تولَّت الهند بحلول عام 2018م مسؤولية عمليات الميناء، وتسهيل التجارة والخدمات الإنسانية المساعدات؛ لتعزيز حضورها التجاري الإستراتيجي في المنطقة. وأفاد مسؤولون بأنَّه تمَّ بالفعل شحْن 2.5 مليون طن من القمح و2000 طن من البقوليات من الهند إلى أفغانستان، عبر ميناء تشابهار.
تُعَدُّ اتفاقية تشابهار مهمَّة جدًّا؛ نظرًا لأهمِّيتها الجيوسياسية، وثمَّة عدَّة عوامل تؤكِّد الفُرَص، التي يتيحها مشروع الميناء، وما يعتريه من عراقيل.
أولًا: تؤكِّد طهران على الأهمِّية الإستراتيجية للميناء في علاقاتها الثنائية مع الهند، فهي ترى بأنَّه مشروع حيوي. وبينما تُقِرُّ أيضًا بأهمِّية علاقاتها مع الصين وباكستان، نجِد طهران تسعى إلى الدفع بعجلة التعاون مع الهند في ميناء تشابهار، دون أن تساوم مع ارتباطاتها الإقليمية الأوسع. كما تضع شبكة سِكَك الحديد الإيرانية الضرورية لــــ «مشروع الممرّ الاقتصادي شرق – غرب» ومشروع الممرّ «شمال – جنوب» ميناء تشابهار أولوية لمشاريع، مثل «خط سِكّة حديد تشابهار – زاهدان» و «سِكّة حديد أسترا – رشت»، التي تهدُف إلى مدِّ مسارات سِكَك حديدة جديدة بطول 1000كم، مع تعزيز قُدرات العبور. وهذا ما أُشير إليه في الاجتماع الـ15 لرؤساء السِكَك الحديدية في الدول الأعضاء بمنظَّمة التعاون الاقتصادي، في طهران.
ثانيًا: وفقًا لهيئة الموانئ والملاحة البحرية الإيرانية، زادت سِعة الموانئ الإيرانية إلى 290 مليون طن؛ ما ساهمَ في زيادة التجارة البحرية بنسبة 8%، هذا مع استمرار مشاريع التطوير، بما في ذلك تحديث الموانئ الرئيسية، مثل ميناء «الشهيد بهشتي» وميناء «الشهيد رجائي». كما عزَّزت إيران في السنوات الأخيرة، جهودها لرفع قُدرة موانئها، وسوف يكمل اتفاقها الأخير مع الهند تحقيق تطلُّعاتها الأوسع، لا سيّما أنَّها تهدُف لأن تصبح مركزًا إقليميًا لتجارة العبور. ومع ذلك، لا تزال إيران تواجه تحدِّيات اقتصادية؛ إذ احتلَّت إيران في «مؤشِّر الأداء اللوجستي»، الصادر عن «البنك الدولي»، المرتبة 123 من بين 139 دولة؛ ما يضعها في نطاقِ أفقرِ الدول أداءً. وفي المقابل، تحتلّ الهند مرتبةً جيِّدة في هذا المؤشِّر. وفي هذا السياق، يمكن لميناء تشابهار، الذي تديره الهند، أن يُكمِل الجهود الإيرانية لرفع الإيرادات، من خلال مثل هذه المشاريع.
ثالثًا: دفعت التحوُّلات الجيوسياسية الناجمة عن الحرب الروسية-الأوكرانية والحرب في غزة، العديد من دول الجنوب العالمي إلى تبنِّي سياسة خارجية أكثر استقلالية، لتأمين مصالحها على المدى الطويل، وتأكيد مواقفها؛ ما يزيد من نطاق استقلالها الإستراتيجي. وتحرص الهند على اغتنام فُرصة ميناء تشابهار؛ لأنَّها تدرك أنّ تفويتها لهذه الفُرصة، قد يسمح لقُوى أخرى بملء الفراغ. وترى الهند في ميناء تشابهار أهمِّيةً قصوى، خصوصًا أنَّه يمثِّل بوابتها البحرية المحورية إلى أفغانستان وآسيا الوسطى؛ ما يوفِّر بديلًا للطُرُق عبر باكستان. وهذا من شأنه أن يسهِّل أنشطة الهند التجارية والاستثمارية في هذه المناطق، بما يتوافق مع أهدافها الإستراتيجية الأوسع المتمثِّلة في تنويع طُرُق التجارة. وموقع ميناء تشابهار الإستراتيجي، يجعله ذا أهمِّية كبيرة للهند، فهذا الموقع يساعدها في موازنة نفوذ ميناء جوادر الباكستاني، الذي تموِّله الصين بسخاء، والذي يقع على بُعد 92 ميلًا بحريًا فقط.
رابعًا: ثمَّة عدَّة عوامل تؤثِّر على مشاركة الهند في الميناء، على رأسها: التفاهم الضمني بين الهند والولايات المتحدة، الذي يمكن أن يحمي المشروع من العقوبات الأمريكية، لا سيّما أن الإستراتيجية الأمريكية نحو هذه المنطقة تهدُف إلى تعزيز طُرُق التجارة البديلة لمبادرة الحزام والطريق الصينية. وكان التحدِّي الرئيسي الماثل أمام المشروع هو العقوبات الأمريكية؛ فقد فرضت الولايات المتحدة أكثر من 600 عقوبة على الكيانات المرتبطة بإيران، في السنوات الثلاث الماضية. وفي عام 2018م، أدخلت الولايات المتحدة تعديلًا على «قانون حرِّية إيران ومكافحة انتشار الأسلحة النووية |IFCA»، الذي سمح بإعفاءات معيَّنة من العقوبات الصارِمة. وفي مؤتمر صحافي عُقِد مؤخَّرًا، حذَّر نائب المتحدِّث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، فيدانت باتل، من أنَّ أيّ كيان يفكِّر في التعامل مع إيران، يجب أن يكون على دراية بالمخاطر المُحتمَلة للعقوبات. كما صرَّح وزير الشؤون الخارجية الهندي إس جايشانكار، بأنَّ الهند ستعمل على شرْح أهمِّية اتفاقيتها مع إيران. وقد تدفع التغيرات الأخيرة في الديناميكيات العالمية الهند، إلى موازنة علاقاتها، والسعي إلى تنفيذ مشاريع ذات أهمِّية إستراتيجية، على الرغم مما تواجهُه من ضغوطات خارجية.
خامسًا: على الرغم من الخلافات السياسية بين أصحاب المصلحة، ثمَّة اتفاق إقليمي أوسع حول مزايا وفوائد المشروع؛ إذ أبدت دول آسيا الوسطى دعمها للمبادرة، وأيَّدت حركة طالبان أيضًا إدارة الهند لميناء تشابهار، معتبرةً ميناء تشابهار بديلًا قابلًا للتطبيق لميناء كراتشي الباكستاني، ويساهم بتعزيز الاستقرار الاقتصادي في أفغانستان. وفي فبراير، أعلنت «طالبان» عن استثمار بقيمة 35 مليون دولار في ميناء تشابهار؛ ما يُشير إلى عزمها تعزيزَ التجارة الإقليمية والتكامل الاقتصادي. ولدى مشروع ميناء تشابهار إمكانات كبيرة جدًّا قادرة على إعادة تشكيل ديناميكيات التجارة الإقليمية، وتعزيز الاستقرار الاقتصادي. كما اكتسب المشروع أهمِّيةً متزايدة؛ بسبب ما شهِدَته المنطقة من تقلُّبات ومخاطر في طُرُق التجارة التقليدية، التي تعطَّلت بسببها سلاسل التوريد العالمية، في ظل الحرب الروسية-الأوكرانية والحرب على غزة. ويبقى التعامل مع التوتُّرات الجيوسياسية، وتأمين الإعفاءات اللازمة من العقوبات، وضمان تطوير البنية التحتية، عوامل حاسمة ستُشكِّل مسار المشروع في المستقبل.