تؤكِّد السياسة الفرنسية تجاه التوتُّرات بين إسرائيل وحزب الله، على ضرورة خفض التصعيد والاستقرار في المنطقة. وقد سعى إلى ذلك وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه، من خلال جهوده الدبلوماسية لخفض الأعمال العدائية، إذ زار لبنان في أبريل 2024م، حيث دعا كلًّا من إسرائيل وحزب الله إلى وقف الصراع المستمِرّ منذ 7 أكتوبر 2023م. واقترحت الحكومة الفرنسية خطَّةً تتضمَّن إعادة نشْر الجيش اللبناني في المنطقة الحدودية الجنوبية؛ لخفض الوجود العسكري لـ «حزب الله» هناك. وتستند هذه الخطَّة إلى قرار مجلس الأمن رقم 1701، الذي يدعو إلى نزْع سلاح جميع الميليشيات في جنوب لبنان، وحصر السلاح في يد الجيش اللبناني وأجهزة أمن الدولة. وفي أبريل 2024م، تبنَّت دول الاتحاد الأوروبي بعد مبادرة فرنسية موقفًا مشتركًا إزاء لبنان. وفي اليوم التالي من هذا الموقف، استقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رئيسَ الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي وقائد الجيش اللبناني الجنرال جوزيف عون، الذي تطمح فرنسا بأن يلعب دورًا رئيسًا في جنوب لبنان بدلًا من مقاتلي حزب الله.
وتسعى باريس -على غرار الولايات المتحدة التي هي المورِّد الرئيس للأسلحة للجيش اللبناني- من أجل أن يتولَّى الجيش اللبناني مسؤوليةَ الأمن في جنوب لبنان، المعقل التاريخي لـ «حزب الله»، حيث يخفي بعض أسلحته. وستدعم «اليونيفيل» -وهي قوَّة أُممية مؤقَّتة في لبنان وفيها 700 جندي فرنسي- الجيشَ اللبناني في هذه المهمَّة الجديدة المتمثِّلة في تأمين الجنوب. وفي مارس 2024م، اقترحت فرنسا «اتّخاذ ترتيبات أمنية جديدة» بين حزب الله وإسرائيل. وتتشابه هذه الترتيبات مع التي اقترحتها الولايات المتحدة، والتي تهدُف بشكل أساسي إلى تطبيق قرار الأمم المتحدة رقم 1701، الذي اتُّخِذ في نهاية الحرب السابقة بين إسرائيل وحزب الله في صيف عام 2006م، ولم يُطبِّقه أيٌّ من الجانبين بشكل حازم. ويُنظَر إلى المبادرة الفرنسية على أنَّها إطار عملي لتنفيذ قرار الأُمم المتحدة بشكل كامل؛ بهدف تحقيق الاستقرار في المنطقة، وتفادي اندلاع حرب واسعة النطاق مشابهة لحرب 2006م. وقد أعرب قادة لبنان -بمن فيهم رئيس الوزراء ميقاتي ورئيس البرلمان نبيه بري- عن دعمهم للمبادرة، والالتزام بتنفيذ قرار الأُمم المتحدة، ودعوا في الوقت نفسه إسرائيل أيضًا على وقْف أعمالها العدوانية في جنوب لبنان. إلّا أنَّ حزب الله يطالب بوقف إطلاق النار في غزة بين إسرائيل وحليفتها الفلسطينية حماس، قبل قبولها العرضَ الفرنسي.
ومن أجل تشكيل جبهة موحَّدة ضمن إطار الجهود الدبلوماسية، فقد باتت فرنسا مع الولايات المتحدة، وجعلت التركيز موجَّهًا في مسار اتّخاذ تدابير تسهم في الوقف الفوري للتصعيد، والتحضير لوقف إطلاق النار في غزة، بما من شأنه تمهيد الطريق لمبادرات سلام أوسع نطاقًا بين إسرائيل وحزب الله. ويؤكِّد هذا النهج الدبلوماسي إستراتيجية فرنسا الكُبرى لتعزيز الاستقرار الإقليمي، ومعالجة الدوافع السياسية والأمنية الكامنة وراءَ تأجيج الصراعات.
وفي أعقاب ارتفاع وتيرة التوتُّرات مؤخَّرًا بين حزب الله وإسرائيل، نصحت كندا وبريطانيا وألمانيا رعاياها مغادرة لبنان في أقرب وقت ممكن، إذ تقلق برلين من «تزايُد خطر حدوث هجمات إرهابية» قد تستهدف الجالية الغربية أو الفنادق الكبيرة. وكذلك، دعت الولايات المتحدة وروسيا في 27 يونيو 2024م مواطنيهما إلى عدم السفر إلى هناك، وقالت فرنسا إنَّها «تشعر بقلق بالغ من خطورة الوضع»، بسبب التصاعد «الكبير» للعنف على الحدود مع إسرائيل. ويسكن حوالي 23 ألف فرنسي حاليًا في لبنان، ودعا نائب المتحدِّث باسم وزارة الخارجية الفرنسية كريستوف لوموان جميع الأطراف إلى «ممارسة أقصى درجات ضبْط النفس وتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701».
وحذَّر سيجورنيه خلال زيارته لبيروت والقدس في أبريل 2024م، قائلًا: «ليس من مصلحة أيّ طرف من الأطراف، استمرار إسرائيل وحزب الله في هذا التصعيد». ولا تزال قُدرة فرنسا على منْع حدوث تصعيد في التوتُّرات بين إسرائيل وحزب الله محدودة، وعلى الرغم من تراجُع الثِقَل الفرنسي في الشرق الأوسط بشكل عام، إلّا أنَّ لبنان سيبقى الملف الوحيد الذي تحظى فيه باريس ببعض النفوذ، وهو نفوذ يجب أن تتقاسمهُ مع الولايات المتحدة، الذي يقوم مبعوثها عاموس هوكستين بدورٍ نشِط أيضًا بين تل أبيب وبيروت؛ من أجل نزْع فتيل التصعيد. فمثلًا، التقى المبعوث الفرنسي الخاص إلى لبنان جان إيف لودريان بأحد قادة حزب الله السياسيين، وهو أمرٌ لا يمكن لنظيره الأمريكي القيام به، غير أنَّ المناخ غير مواتٍ للوصول إلى وقْف سريع للتصعيد.
ومن جانب حزب الله، فقد ربَطَ قائد الحزب حسن نصر الله بين الجبهتين؛ غزة وجنوب لبنان، أي أنَّه في حال عدم التوصُّل إلى وقْف لإطلاق النار في غزة، فإنَّ النشاط العسكري لـ «حزب الله» سوف يستمِرَ نُصرةً لـ «حماس». وحاول وزير الخارجية الفرنسي السابق لودريان أن يفصل بين المسألتين، إلا أنَّ جهوده كانت غير مثمرة؛ بسبب الموقف الإقليمي لـ«حزب الله»، وإستراتيجية إيران الإقليمية الكُبرى.
وعلى الرغم من الهزيمة، التي لحِقَت بالحزب السياسي للرئيس ماكرون، فسوف يظل لبنان في نهاية المطاف أحد الأولويات الفرنسية في الإستراتيجية الكُبرى، التي تتبنّاها تجاه الشرق الأوسط. لكن إذا تمكَّن الحزب اليميني المتطرِّف من اختيار رئيس وزراء جديد، فمن المتوقَّع حدوث تحوُّل فرنسي نحو تأييد إسرائيل. وعلى النقيض، ففي حال وجود أغلبية يسيطر عليها أحد الائتلافات اليسارية، فإنَّ فرنسا ستعترف بدولة فلسطين، وستأخذ اتّجاه العودة إلى السياسة العربية-الفرنسية التقليدية، التي سادت قبل حدوث التحوُّل نحو تأييد إسرائيل خلال رئاسة ساركوزي، في الفترة ما بين 2007-2012م. ويبدو أنَّ السيناريو الأكثر احتمالًا بعد الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية، هو تشكيل برلمان جديد دون أغلبية، وفي هذه الحالة ستبقى السياسة الفرنسية-اللبنانية على حالها، في ظل وجود حكومة ائتلافية للعام المقبل. وإذا فاز اليمين المتطرِّف في الجولة الثانية من الانتخابات الأسبوع المقبل، سوف توجِّه باريس تركيزها إلى دعْم إسرائيل والتخلِّي عن السياسة المتوازِنة المتمثِّلة في الحفاظ على استقرار لبنان ودعْم التحالف مع إسرائيل. وسيؤثِّر التحوُّل نحو تأييد إسرائيل على الإستراتيجية الدبلوماسية الفرنسية تجاه حزب الله، أي أنَّه من المُحتمَل أن يقطع رئيس الوزراء اليميني المتطرِّف الجديد كل العلاقات مع حزب الله. وبالتالي، من الممكن أن تركِّز هذه الإستراتيجية الجديدة على تعزيز أجندة أكثر استباقية ضدّ حزب الله في لبنان، تحت شعار مكافحة الإرهاب.
وبشكل عام، فإنَّ السياسة الفرنسية-اللبنانية لها أهمِّيتها؛ لأنَّ باريس على استعداد للتحدُّث مع جميع الأطراف السياسية الفاعِلة في لبنان. وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ تطوُّرات التصعيد العسكري الحالي تعتمدُ أكثر على العوامل السياسية الداخلية في لبنان وإسرائيل. ويتمثَّل الجانب الأكثر أهمِّيةً في جهود الوساطة الفرنسية، في أنَّها تُتيح مجالًا سياسيًا لتفادي مزيدٍ من التصعيد العسكري.