بوادر جولة جديدة للتقارب بين أنقرة ودمشق.. الدوافع والتحديات

https://rasanah-iiis.org/?p=35693

تسجِّل العلاقات التركية-السورية مستجدَّات سياسية لافتة، إذ ظهرت في الفترة الأخيرة مؤشِّرات على تقارُب بين حكومة الدولتين، وهو ما عكسته العديد من التصريحات الصادرة عن الرئيسين التركي والسوري، والتي يُبديان فيها الانفتاح على مبادرات تقارُب العلاقات بين دولتيهما. فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قد أعلن عدم ممانعة بلاده استعادةَ العلاقات الدبلوماسية مع الحكومة السورية، مستذكرًا العلاقات الوديِّة السابقة قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011م، فيما عبَّر عن رغبته في دعوة الرئيس السوري بشار الأسد لزيارة تركيا. والجدير بذكره في سياق التصريحات الصادرة عن أردوغان سابقًا، أنَّها كانت تؤكِّد رفضه القاطع لإعادة العلاقات مع الحكومة السورية الحالية، بل تجاوزت ذلك إلى تحذير العالم من خطورة بشار الأسد ونظام حُكمه القائم؛ وبالتالي هذا التغيُّر في الخطاب التركي يُظهِر تحرُّكًا نحو فتْح باب الحوار، وإمكانية استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين، بعد أن اعتلت الخطاب التركي السابق لهجة مغايرة عن هذه التصريحات الأخيرة. فيما تصريحات الرئيس السوري بشار الأسد أوحت بِلين عن مواقفه السابقة، إذ لم يُشِر إلى شرْط سحْب تركيا قوّاتها من سوريا؛ حيث اكتفى بالحديث عن انفتاح بلاده على المبادرات الهادفة إلى عودة العلاقات مع أنقرة المُستنِدة إلى سيادة الدولة السورية، وضرورة محاربة كل التنظيمات المسلَّحة التابِعة لتركيا في سوريا. كما خفَّفت تصريحات وزير الخارجية السوري فيصل المقداد من مواقفه السابقة، بذكره سعي سوريا إلى الحصول على تعهُّدات ملموسة من تركيا تلتزم بالانسحاب قبل أيّ تعامُل دبلوماسي، بدلًا من تصريحات سابقة اشترطت خطوات ملموسة فورية، قبل أيّ تحقيق للتقارب بين الدولتين. مرَّت أيام قليلة على تصريحات الطرفين، قبل أن تُعيد دمشق الكرة إلى أنقرة، حيث اعتبرت دمشق أنَّ التقدُّم مرهون باتّخاذ تركيا خطوات للانسحاب من الأراضي السورية، ومكافحة الإرهاب، الذي يهدِّد دولتها.

هذا التقلُّب في المواقف يُطلِق تساؤلات حول إمكانية تجاوز/تخفيف عاصمتي الدولتين لحاجز الشروط المُسبَقة، التي يضعها كل طرف أمام الآخر، وإمكانية أن تعيد أنقرة ودمشق تقييم مواقفهما، بناءً على مصالحهما الإستراتيجية والأمنية، في ضوء التطوُّرات الإقليمية والدولية، وذلك تجسيدًا للمقولة السياسية الشهيرة لرئيس وزراء بريطانيا الأسبق «ونستون تشرشل»: »لا عداء دائم، ولا صداقة دائمة، بل مصالح دائمة«.

ومن هُنا يناقش التقرير الدوافعَ الكامنة أو المتغيِّرات الجديدة، التي دفعت كلًّا من أنقرة ودمشق لإبداء بعض المرونة، وإعادة تسليط الضوء على مسارٍ تعثَّر بشكل شبه كامل خلال العامين الأخيرين. وما هي المكتسبات، التي يرتجيها طرفا الصراع من جرّاء المصالحة المُرتقَبة، وأوراق القوَّة والضعف، التي تمتلكها كلٌّ من أنقرة ودمشق في الوقت الراهن؟ وما هي أبرز المواقف الإقليمية والدولية من عودة مباحثات استعادة العلاقات؟ وما فُرَص نجاح هذه الجولة الجديدة، وأبرز تحدِّياتها؟

أولًا: خلفيات مسار التقارب بين أنقرة ودمشق

لا تُعتبَر مسألة استعادة العلاقات بين تركيا وسوريا حديثةَ عهد على الأسماع، بل بدأت منذ فترة ليست بالقصيرة وكان مسارها متغيِّرًا؛ فبدأت بقناة أمنية ضيِّقة، وبوساطة روسية أبقت علاقة الدولتين دون انقطاع تام، ثمَّ تحوَّلت إلى لقاءات أوسع لتشملَ التواصل الاستخباري بينهما. ومن أبرز هذه اللقاءات، اجتماع وزراء الدفاع ورؤساء أجهزة الاستخبارات لروسيا وتركيا وسوريا بموسكو في ديسمبر 2022م، تلاه اجتماع لوزراء خارجية الدول الثلاث بالعاصمة الروسية في مايو 2023م. تلتها تصريحاتٌ من سياسيين ودبلوماسيين، وصولًا إلى لقاء وزيري خارجية البلدين؛ مولود جاويش أوغلو وفيصل المقداد، في مايو 2023م. في ذلك الوقت، كان يبدو أنَّ هذا المسار لم يغيِّر من جوهر المواقف المتبايِنة بين الطرفين؛ فالحكومة السورية بقِيَت على اشتراطاتها في انسحاب القوّات التركية من الأراضي السورية قبل بدء أي مفاوضات جادَّة أو تعاون في مكافحة الفصائل المسلَّحة التي تدعمها تركيا في سوريا. في المقابل، ترفض أنقرة فكرة الانسحاب المُسبَق، دون تحقيق تقدُّم ملموس في الملف السياسي وقضية عودة اللاجئين، فضلًا عن التعامل مع قوّات «قسد» في شرقي الفرات. لذا، فإنَّ هذه المواقف المتعارِضة عكست تعقيدَ المشهد، وصعوبة التوصل إلى حلولٍ سريعة في مسار استعادة العلاقة بين الدولتين.

وبعد مضي أكثر من عام على اللقاء، الذي جمعَ وزيري خارجية الدولتين، عادت أنقرة لإعطاء زخم جديد لتقاربٍ في العلاقة مع دمشق بعد جمود واضح؛ فبدأت التصريحات الصادرة من أنقرة تتوالى بشأن العلاقات مع دمشق. ففي 24 يونيو 2024م، أكَّد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، ضرورةَ توحيد المكوِّنات السورية نظامًا ومعارضة في مكافحة الإرهاب، وأشار فيدان إلى أنَّ تركيا كانت تتمنَّى أن يستفيدَ النظام من وقْف القتال للتصالح مع المعارضة، وحل المشاكل الدستورية، وإعادة ملايين اللاجئين، وإنعاش الاقتصاد السوري. بعد أيام قليلة، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إنَّه لا يُوجَد سبب يمنع إقامة علاقات مع سوريا، مشيرًا إلى العلاقات الوثيقة التي كانت تجمعهُ بالرئيس السوري بشار الأسد، بما في ذلك اللقاءات العائلية، مع احتمال عودة هذه العلاقات مجدَّدًا. كما أبدى الرئيس التركي نيّتهُ دعوةَ الأسد لزيارة تركيا، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، معتبرًا أنَّ ذلك قد يكون بدايةً لعملية جديدة.

تصريحات الرئيس السوري بشار الأسد أوحت هي الأخرى بِلين عن مواقفه السابقة، فبعد أن أصرَّ الأسد منذ فترة طويلة على أنَّه لا يُوجَد شيء يمكن مناقشته إلى أن تسحب تركيا جميع قوّاتها من سوريا، خفَّف وزير الخارجية السوري فيصل المقداد من حدَّة هذه التصريحات، بذكره أنَّ سوريا تسعى إلى الحصول على تعهُّدات ملموسة من تركيا تلتزم بالانسحاب قبل أيّ تعامُلٍ دبلوماسي، بدلًا من التصريحات السابقة، التي اشترطت تقديم تركيا لخطوات ملموسة فورية قبل أيّ تحقيق للتقارب بين الدولتين. تلت ذلك تصريحات للأسد وبيان لوزارة خارجيته، حملت في دلالاتها حرصًا على تصحيح العلاقات مع تركيا، وعدم وجود رفْض مباشر لعودة العلاقات مع تركيا، حيث اكتفى بالحديث عن انفتاح بلاده على المبادرات الهادفة إلى عودة العلاقات مع أنقرة، وأعادَ تثبيت الملفات الأساسية التي يريد التفاوض عليها، وهي عدم المساومة على وحدة أراضيها، واشتراط انسحاب القوّات التركية من أراضي سوريا بما يضمن عودة الوضع إلى ما قبل 2011م، والتوقُّف عن دعْم الفصائل المسلَّحة المعارِضة للأسد، والتعامل بإيجابية مع مبادرات تحسين العلاقات بين الدولتين؛ ما يجعل مسار المفاوضات قائمًا ومتطوِّرًا وغير مُعطَّل بين الدولتين.

ثانيًا: دوافع الطرفين الكامنة خلف إبداء المرونة في التقارب

توافقت الجولة الجديدة من إشارات التقارب بين تركيا وسوريا، مع ما تشهده حكومة الدولتين من متغيِّرات داخلية ضاغِطة، ومع ما تشهده المنطقة والعالم أيضًا من تطوُّرات متسارِعة، ومن أبرز تلك الدوافع:

1.المخاوف المشتركة من النفوذ المتنامي لـ»الإدارة الذاتية» الكردية في شمال شرقي سوريا

لعِبَ »حزب العُمّال الكردستاني»  (PKK)دورًا غير مباشر، لكنّه مؤثِّر في تغيير ديناميكيات العلاقات التركية-السورية. وتاريخيًا، أدارت سوريا في عهد حافظ الأسد مصالحها مع الأكراد، بتقديم الدعم للحزب، وتوفير معسكرات التدريب لعناصره؛ بهدف استغلالهم كأداة ضغط ضدّ تركيا متى لزِمَ الأمر. وقد أدَّى هذا الدور بالأسد إلى استعداء تركيا، والتي ترى في الحزب منظَّمةً خطِرة، تهدِّد بزعزعة أمنها واستقرارها الداخلي. وازداد التوتُّر بين أنقرة ودمشق، حتى وصلا إلى حافَّة الحرب، في أعقاب تهديد أنقرة بغزو الأراضي السورية عام 1998م، وقد أثمرت هذه السياسة بتوقيع اتفاق أضنة الأمني، وإبعاد زعيم الحزب خارج سوريا. ومع ذلك، ظلَّت قضية الأكراد محورًا رئيسيًا في إدارة العلاقات بين الدولتين، وأعاد صراع عام 2011م فتْح الباب أمام تعقيد العلاقة بين الدولتين، فلجأ بشار الأسد إلى استغلال الدعم الكردي لمواجهة تركيا، عبر توسيع الأحزاب والكيانات الكردية شمال شرقي سوريا، كوسيلة للضغط على الحكومة التركية. هذا التوسُّع جاء في سياق الفوضى، التي أعقبت الثورة السورية 2011م، حيث رأت دمشق في الأكراد حليفًا مُحتَملًا ضدّ التهديدات التركية وضدّ الفصائل المعارضة المدعومة من تركيا. ومع ذلك، لم يكُن هذا التعاون دائمًا مستقِرًّا، حيث تباينت العلاقات بين الأكراد ودمشق بين التفاوض والتهديد. ويعود ذلك للدخول الأمريكي على خط العلاقات بين الطرفين؛ السوري والكردي، بتقديمها الدعم للمقاتلين الأكراد، وفق ما تراه مصالح مشتركه ضدّ »داعش« في سوريا؛ ما ساهم في تعزيز قُدراتهم العسكرية ومأسَسة إدارتهم في شمال شرقي سوريا؛ وبالتالي تمكين الأكراد في المُضي نحو إقامة مناطق حُكم ذاتي وإدارة محلِّية؛ ما شكَّل تحدِّيًا بالنسبة لدمشق، وسعت لاحتوائه بتصريحات ومواقف تُبدي انفتاحها على الحوار مع جميع الأطراف الكردية، بُغيةَ الوصول إلى حلول سِلْمية.

 مَثَّل هذا الاستقواء الكردي تحدِّيًا أيضًا بالنسبة لأنقرة، فشنَّت تدخُّلًا عسكريًا متكرِّرًا، وفرضت لها تواجدًا وتواصلًا سياسيًا مع فصائل سورية معارِضة في المناطق السورية؛ كريف حلب وأدلب، بُغيةَ تأمين حدودها من التهديدات الكردية. لكن هذا الحراك التركي، سواءً في دعْم فصائل معارضة سياسية أو في شنِّ هجمات على»حزب العُمّال الكردستاني»  (PKK) وفروعه التنظيمية الأخرى، لم يُفضِ إلى ترجمة فعلية في الحدِّ من التهديد الكردي وطموحه في تشكيل حُكمٍ ذاتي للأكراد.

ومع تزايُد نفوذ الأكراد شمال سوريا، واستعدادات »الإدارة الذاتية« لإجراء انتخابات محلِّية، وجدت كلٌّ من سوريا وتركيا أنَّ لديهما مصلحة مشتركة في مواجهة التهديد الكردي، واتّخذت تركيا بدورها من هذه الاستعدادات ذريعةً للتحرُّك نحو إذابة الجليد مع حكومة الأسد، وجعلها قاسمًا مشتركًا بينهما للتعاون في محاربة »الإدارة الذاتية« ومنْع تطوُّرها، وقطْع الطريق أمام أيّ توجُّهات لدمشق في فتْح حوارٍ وتبادُلٍ للرسائل مع »الإدارة الذاتية«.

التحرُّك التركي الحالي للتقارب مع سوريا، سبقهُ تحرُّكٌ تركي آخر في الأشهر القليلة الماضية مع العراق، فانفتحت أنقرة على توسيع علاقاتها مع الحكومة العراقية، مستفيدةً من رغبة رئيس مجلس وزرائها محمد شيّاع السوداني، في الانفتاح الإقليمي وتطوير الوضع الاقتصادي لدولته. وتمكَّنت أنقرة من جذْب بغداد عن طريق تعزيز التعاون في مجال الطاقة، وعقدت معها تفاهمات أمنية وتعاونًا مُحتمَلًا ضدّ »حزب العُمّال الكردستاني«. وبالتالي، تتطلَّع أنقرة لتكرار التجربة مع الحكومة السورية، من خلال التلويح بورقة الانفتاح السياسي، وتسهيل الحركة التجارية عن طريق المعابر التجارية، على أمل اجترار موافقة سورية على توقيع اتفاقية أمنية معها، تُتيح لها إعادة اللاجئين السوريين وتوطينهم في «المنطقة الآمنة»، التي تسعى تركيا لتنفيذها على طول الحدود مع سوريا؛ لكي يشكِّلوا شريطًا عازلًا يخدم مصلحة الأمن القومي التركي.

2. تخفيف العبء عن الاقتصادين التركي والسوري

تخضع الدولتان لضغوطٍ داخلية، بسبب تراجُع الوضع الاقتصادي فيهما؛ فالحكومة السورية تسعى إلى إعادة تعويم اقتصادها، من خلال تخطِّي ما تيسَّر من العقوبات الأمريكية. وتركيا هي الأخرى، تعتبر أزمة اللاجئين السوريين، الذين تستضيفهم على أراضيها، كعبءٍ اقتصادي واجتماعي أثقل كاهلها؛ وبالتالي ترى في التنسيق مع الحكومة في دمشق تسهيلًا لعودة بعض هؤلاء اللاجئين، ودفعًا نحو إبطاء التدهور الاقتصادي لدولتها. كما تجِد أنقرة في استعادة علاقتها مع دمشق عاملًا مساعدًا في التخفيف على حكومتها من خسائر الاقتصاد، من جرّاء إغلاق الطُرُق السورية أمام حركة النقل التركية باتّجاه الأردن ودول الخليج العربية، بالإضافة إلى ما يمثِّلهُ ذلك من استعادة للعلاقات بينهما وفُرَصٍ للتبادل التجاري التركي مع مناطق سيطرة الحكومة السورية؛ لتحسين الوضع الاقتصادي وخفْض البطالة والتضخم في تركيا. وتمثَّل هذا التوجُّه في تمكُّن أنقرة من استعادة فتْح معبر أبو الزندين بين مدينة الباب ومناطق سيطرة النظام، في خطوة عكست -حسب مراقبين- ترجمة شبه حرفية لتصريح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، حول ضرورة استغلال فترة الهدوء، لإحداث تقارُبٍ بين الحكومة السورية والمعارضة.

كما لا يغيب عن الدوافع لأنقرة نحو استعادة شيء من علاقتها مع دمشق، مساعي أردوغان المُستجِدَّة في فرْض حضور دولته في سباق الممرّات الدولية، إذ تمكَّن خلال الأشهر الماضية من توقيع مذكرة تفاهُم رباعية بين العراق وتركيا وقطر والإمارات، للتعاون في »مشروع طريق التنمية». وبالتالي، لضمان سيْر هذا المشروع ونجاحه، تسعى أنقرة لضمان الاستقرار الأمني على خط مساره، وتقليل تهديدات «حزب العُمّال الكردستاني» في شمال العراق وفرعه المتواجد في شمال سوريا، والمتمثِّل بـ «وحدات حماية الشعب الكردي» السورية؛ ومن هُنا كان لا بد لأنقرة من الدفع قُدُمًا بعلاقتها مع سوريا.

3. استكمال دائرة مصالحات أنقرة ودمشق الإقليمية

خلقت التأثيرات المتصاعِدة للصراعات الداخلية العربية، والتوجُّهات الأمريكية للانسحاب العسكري من الشرق الأوسط، وكذلك التداعيات الضاغِطة لحرب أوكرانيا وحرب غزة على النُظُم السياسية، سياقات محفِّزة للعديد من الدول في القيام باستدارة ملحوظة نحو تعزيز التقارب مع دولٍ كانت تمثِّل خصومًا لها في السابق، على نحو ما عبَّر عنه إبرام تركيا لمصالحة مع كلٍّ من دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وكذلك المصالحة الأخيرة مع مصر، والتي فتحت آفاقًا جديدة في علاقات تركيا مع هذه الدول المؤثِّرة إقليميًا في الإستراتيجية التركية.

بقِيَت سوريا وبتعقيدات ملفها الأمني والاقتصادي، تمثِّل حلقة تركية مفقودة في مسارات المصالحة، التي تقدَّمت بها أنقرة خلال السنوات الأخيرة، لا سيّما أنَّ معادلات القوَّة الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط دخلت حقبة جديدة مع أزمتي أوكرانيا وغزة. وبالتالي، ظهرت الحاجة التركية في ظل هذه المتغِّيرات، إلى العودة لتحريك ملف علاقتها مع سوريا، والبحث عن أرضية مشتركة للدفع بمصالحها قُدُمًا.

سوريا بدورها تسعى في إظهار نوع من تغيُّر الموقف تجاه تركيا، إلى استكمال المصالحات واستعادة العلاقات، التي بدأت تأخُذ زخمًا خلال السنوات الأخيرة، فتمكَّنت من إعادة العلاقات مع العديد من الدول العربية والخليجية، وتمكَّنت من إعادة شغْل مقعدها في الجامعة العربية. وتمثِّل استعادة التقارب مع أنقرة، في حال حدثت بالنسبة لمنظور دمشق، مزيدًا من إضفاء الشرعية لحكومتها، نتيجة تقاربها مع تركيا كأول دولة من العائلة الأطلسية تتقارب معها، بعد أعوام من القطيعة والحصار الاقتصادي والعُزلة السياسية، التي فرضتها العديد من الدول الأطلسية على دمشق.

4. التهيُّؤ لمرحلة جديدة في السياسة الأمريكية

تفرض الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر 2024م المقبل، على اللاعبين الإقليميين، حسابات تشمل إمكانية عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية. ويقيس رؤساء بعض الدول خطواتهم على وقْع ما هو آتٍ في واشنطن، وينطبق ذلك على تركيا وسوريا. ففي حين قد تمِّثل عودة ترامب المُحتمَلة عودةً لطرح خيار سحْب القوّات الأمريكية من سوريا، وإفراغًا لمنطقة ممتَدَّة شرق نهر الفرات من جنوب شرقي سوريا بالقرب من معبر التنف الحدودي، إلى الشمال الشرقي؛ وبالتالي تدرسُ كلٌ من أنقرة ودمشق، وكذلك موسكو وطهران، خياراتهم ومقارباتهم لمثل هكذا احتمال.

5. توظيف الأطراف السياسية التركية للملف السوري

يستشعر أردوغان وجود خطر داخلي على حزبه وعلى حساباته الانتخابية المقبلة، إذ جاءت النكسة التي أصابت شعبيته في الانتخابات المحلِّية، التي جرت في أبريل 2024م، بتفوُّق «حزب الشعب الجمهوري» على «حزب العدالة والتنمية» الحاكم، من جرّاء توظيف الحزب المناوئ له لأزمة اللاجئين السوريين، وانهيار الوضع الاقتصادي المحلِّي كأحد أسباب السياسات الخارجية، التي انتهجها أردوغان. وعلى الرغم من سعي الأخير لإطلاق مسار لحل الخلافات بين الحزبين، إلّا أنَّ المسار لم يُفضِ إلى تفاهُمات نهائية، بل لم يعُد يُخفي «حزب الشعب الجمهوري» رغبتهُ بإجراء محادثات مع الأسد، وحل مسألة اللجوء السوري على أراضيه، عبر التصعيد بملف اللاجئين من أجل حشْد الشارع مجدَّدًا خلفهُ، وبات زعيم الحزب يطرح فكرة اللقاء مع الأسد لنقاش الملف معه. ومن هُنا، قد يكون تحرُّك أردوغان بتخفيف التشدُّد تجاه الأسد بهدف قطْع الطريق وسحْب البساط عبر تسلُّم زمام المبادرة بنفسه، من خلال التصريحات الرسمية على أعلى المستويات.

ثالثًا: المواقف الإقليمية والدولية من التقارب بين أنقرة ودمشق

الإعلان عن الاستعداد لإعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق، لا يعني أنَّ ذلك الطريق مفتوح، والتحرُّك نحوه متاح وسلِس، في ضوء العديد من المواقف الإقليمية والدولية، التي تراقب هذا التقارب، ومن بين تلك المواقف:

1.الموقف الإيراني:

أبدت إيران توجُّسًا خلال جولات التقارب السابقة بين الدولتين التركية والسورية، والتي جرت برعاية روسية، خشيةَ تحقيق موسكو نفوذًا في سوريا أكبر على حساب نفوذ إيران الأمني والعسكري والاقتصادي فيها، إذ إنَّ طهران تعي أنَّ مفاعيل أيّ مصالحة سورية، ستترتَّب عليها ترتيبات جديدة في مناطق سورية عدَّة، وستطال بكُلِّ تأكيد المناطق التي تمتلك فيها طهران وجودًا عسكريًا ومصالح اقتصادية؛ وبالتالي عمِلَت طهران على فرملة المحاولات الروسية السابقة لعقد مصالحة سورية-تركية. 

وبالنسبة لطهران، فإنَّ الدور العراقي الحالي في التقريب بين دمشق وأنقرة، هو دورٌ يبدو أكثر قبولًا لطهران، من أن تكون الوساطة تحت الرعاية الروسية. ورُبَّما هي من دفعت به في هذا التوقيت، بُغية عدم الإتاحة لروسيا في الاستفراد بهذا الملف في هذا التوقيت الحساس بالنسبة لطهران، لا سيّما أنَّ هناك قلقًا مكتومًا بين الأروقة الإيرانية وتوجُّساتها تجاهَ الأسد وحراكه السياسي على أكثر من مسار، ومنها ازدياد انفتاحه العربي، خاصَّةً بعد إعادة السعودية سفيرها إلى دمشق.

وما يزيد من مخاوف إيران بوادرُ رغبة الأسد بالعودة إلى المحافل الدولية، وتجلَّى ذلك في إحدى تصريحاته في أبريل 2024م، حين عبَّر عن وجود لقاءاتٍ تجري بين الحين والآخر بين دولته والولايات المتحدة الأمريكية، وما تلاها من تسريبات عن استعداد الأسد لعقد تفاوُض مع الإدارة الذاتية، ومغريات أمريكية محفِّزة لهذا المسار عبر إعلان المندوبة الأمريكية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، في جلسة لمجلس الأمن حول سوريا، بأنَّ واشنطن مستعِدَّة لبحث رفْع العقوبات عن سوريا، في حالة إحراز تقدُّم نحو تسوية الصراع. فضلًا عن اهتزاز الثقة بين سوريا وإيران، على خلفية التوتُّرات الأمنية المتواصلة، والاتّهامات غير المباشرة لكُلِّ دولة تجاه الآخرى بمحاولة استهداف قادة موالين لهما في سوريا. كل هذه التطوُّرات قد تكون عوامل تدفع إيران لوضع مسارها الخاص في شكل الحل السياسي، ومنها قيادة مسار استعادة العلاقات بين دمشق وأنقرة؛ وذلك لضمان عدم حصول أيّ مفاجآت غير محسوبة تُلحِق ضررًا بوجود إيران في الإقليم عمومًا، وفي سوريا على وجه الخصوص.

2. الموقف الروسي:

ضغطت موسكو كثيرًا في سبيل تحقيق تقدُّمٍ في مسار العلاقات السورية-التركية، وإبرام صفقة بين الجانبين. وقُوبِلت هذه الجهود بعرقلة واضحة من الحكومة السورية، أو من إيران ذاتها، لكن تبدو روسيا اليوم أشدّ حاجةً للتمسُّك بسوريا وبنظامها القائم، وإعادة تأهيله أكثر من قبل، في ظل تعقيدات الحرب الروسية-الأوكرانية، وما رافقها من تأزُّم للوضع الجيوسياسي لروسيا على الخارطة الدولية. ولا يمكن بالنسبة لموسكو تأهيل حكومة الأسد وعودة الاستقرار إلى أراضيه، دون انخراط أنقرة في هذه العملية؛ بحُكم الواقع الجغرافي، الذي فرضته الأخيرة بتواجدها في الشمال السوري، وبحُكم حجم الدور الاقتصادي، الذي يمكن لأنقرة أن تلعبه في سوريا وتأهيل اقتصادها المحلِّي.

وبالتالي، فإنَّ تحقيق تقدُّم في التقارب بين أنقرة ودمشق، وفي حال ضغطت موسكو على أنقرة ودمشق أكثر، فسيحقِّق لها عددًا من الأهداف، من بينها: ما يتعلَّق بتحقيق موسكو لانعطافةٍ في سياستها الأوراسية، فضلًا عن تحقيق المصالح الروسية في إبعاد تركيا عن المعسكر الغربي. لذلك، تسعى روسيا بشكل دائم لإثبات أنَّ مصالح أنقرة في سوريا وأمنها القومي تمُرّ عبر موسكو، وليس واشنطن. بجانب ذلك، الرغبة الروسية في أن يسير ملف التقارب بين دمشق وأنقرة تحت رعاية الكرملين؛ لضمان مصالح روسيا في سوريا والشرق الأوسط عمومًا. وعلى الرغم من أنَّ روسيا كانت قد أعلنت في مارس 2024م على لسان وزير خارجيتها سيرجي لافروف أنَّ خطوات التقارب، التي تتبنّاها بين أنقرة ودمشق باتت مستحيلةً في ظل تأزُّم الأوضاع الإقليمية، إلّا أنَّه وبعد إعلان بغداد وساطتها، عادت روسيا لتؤكِّد عبر مبعوثها الخاص للرئيس بوتين؛ ألكسندر لافرنتييف، في دمشق، دعْمَها لهذه المبادرة، معتبرًا أنَّ الظروف الحالية تبدو مناسبةً أكثر من أيّ وقت مضى لنجاح الوساطات، وأنَّ روسيا مستعِدَّة للعمل على دفْع المفاوضات بين الدولتين إلى الأمام؛ ما يعكس الرغبة الروسية في إبقاء خيوط هذه المبادرة بين يديها.

3. موقف الولايات المتحدة الأمريكية:

يؤثِّر التقارب التركي-السوري على مصالح الولايات المتحدة التي ترعاها في المنطقة، إذ إنَّ التقارب بين تركيا وسوريا قد يهدِّد الدعم الذي تقدِّمه واشنطن لـ «قوّات سوريا الديمقراطية»، ويزيد من الضغط على الوجود العسكري الأمريكي في سوريا. كما يدفع الانخراط التركي المتزايد مع روسيا وإيران، إلى التقليل من نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة ويُضعِف قُدرتها على التأثير في مسار الأزمة السورية. وبالتالي، كان موقف الولايات المتحدة مع تواتُر الأخبار عن مسارات مفتوحة للتقارب بين تركيا وأنقرة باشتراطها، بضرورة أن ترتبط استعادة العلاقات مع الأسد بدفعه نحو تحقيق تقدُّم ملموس في مسار الحل السياسي، وأن يقتصر على الجانب الإنساني، دون أيّ خطوة في إعادة الإعمار أو كسْر طوق العقوبات الأمريكية على سوريا. وهو موقف سبَقَ أن تبنَّته واشنطن مع بوادر التقارب العربي مع سوريا، قبل أن تتوجَّ باستعادة دبلوماسية لعلاقاتهما. وبناءً على ذلك، من المُحتمَل ألَّا تتّخِذ واشنطن ردودَ فعل تجاه الحد من مسار التقارب بين الحكومتين السورية والتركية، ويعود ذلك لوجود حالة من التغاضي الأمريكي في التعامل مع مسارات الانفتاح على حكومة الأسد، كرغبة في تحقيق اختراق في الأزمة السورية، وظهرت إشارات ذلك في الإكتفاء بنوعٍ من الاعتراض اللفظي فقط على عودة العلاقات العربية مع الأسد.

4. موقف المعارضة السورية:

مخاوف كثيرة من أوساط المعارضة السورية ومن الإدارة الذاتية الكردية، واللتان تسيطران على مناطق واسعة من الشمال السوري؛ فبالنسبة للمعارضة السورية تمثِّل تركيا المرتكز الخارجي الأساسي للمعارضة السورية، واليد الطولى في الإمساك بزمام المعارضة السورية بدرجة كبيرة، حيث يقيم فيها غالبية أعضاء الائتلاف الوطني، بالإضافة إلى وجود جميع مؤسَّسات المعارضة؛ السياسية والإعلامية، في كلٍّ من اسطنبول وغازي عنتاب، كما تتلقَّى الفصائل العسكرية المتواجِدة على الأراضي السورية دعمًا لوجستيًا وماليًا من تركيا. وفي حال تمَّ التقارب بين أنقرة ودمشق، وجرت تفاهُمات بينية بين قيادتي الدولتين، قد تجِد المعارضة السورية نفسها أمام موقف ضاغط للخضوع للموقف التركي، والدخول في التسوية السياسية. رفْضُ هذا الاحتمال، عبَّرت عنه بعض القوى وحتى الفصائل في الشمال السوري، بعدم رضاها عن تصريحات الرئيس أردوغان، لا سيّما أنَّ التصريحات قد ترافقت مع فتح معبر «أبو الزندين» مع مناطق الحكومة السورية، ثم جاءت أحداث الاعتداءات على السوريين في قيصري التركية لتُشعِل فتيل التوتُّر بين تركيا والمعارضة السورية.

5. الدول الخليجية:

 تبنَّت الدول الخليجية على مدار سنوات مضت مسارًا قائمًا على إطفاء البؤر الساخنة في المنطقة، بما يحقِّق الوصول إلى الأمن والاستقرار الإقليمي، الذي يطمح إليه الجميع. فتمكَّنت من الاستدارة على الخلافات الإقليمية، وفتْح منافذ للتواصل مع دول ابتعدت عنها دبلوماسيًا لسنوات؛ وبالتالي تحقَّقت بفعل ذلك بوادر لتسوية دائمة للأزمة اليمنية، واستعادة للعلاقات الخليجية مع تركيا وإيران وسوريا. وتبدو عودة الحديث عن المصالحة السورية-التركية استكمالًا للانفتاح العربي على سوريا، الذي بدأ مع عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وحضور الرئيس بشار الأسد القمَّة العربية في جدة، وعودة معظم سُفراء الدول العربية الفاعلة للعمل من قلب العاصمة دمشق.

ولذلك، تتطلَّع الدول الخليجية لأيّ مسار للتفاهم بين سوريا وتركيا، في حال تضمَّن عودةً طوعية للاجئين المهجَّرين، واستتباب الأمن في المناطق السورية، وإيقاف التدخُّلات من مختلف الجهات في سوريا، والبحث عن حل سياسي للأزمة فيها، فهو ترسيخٌ لأُسُس الاستقرار الإقليمي، الذي تبحث عنه. لكن في ظل ضبابية الموقف الفعلي بين تركيا وسوريا، وكيفية معالجة مخاوف الآخر بعيدًا عن التصريحات الإيجابية، التي تُطلَق بين الحين والآخر، فضلًا عمّا تتَسِم به السياستان التركية والسورية من إظهار تناقُضٍ في الدوافع المُعلَنة والنهائية لهما، فإنَّ الأهداف الخليجية المُرتجاة من التقارب، في حاجة إلى المراقبة والمتابعة.

رابعًا: فُرَص نجاح وتحدِّيات جولة التقارب الجديدة

لا يسير هذا التقارب المُحتمَل بين تركيا وسوريا بالسلاسة أو السهولة، التي تظهر من خلال التصريحات الحكومية لدى الطرفين، إذ إنَّ حالة الملف السوري معقَّدة، ولها تشابُكات متعدِّدة؛ لارتباطها بأكثر من دولة (روسيا، إيران، أمريكا، دول الخليج). وبالتالي، تقِف فُرَص نجاح/عرقلة التقارب التركي-السوري على العديد من العوامل، منها ما يتعلَّق بالعلاقات الثنائية؛ كقُدرة الطرفين على تجاوُز الخلافات العميقة وبناء أرضية مشتركة للتعاون، ومنها ما يتعلَّق بمواقف الدول الأخرى الفاعِلة في هذا الملف.

فعلى صعيد العلاقات الثنائية بين تركيا وسوريا، وعلى الرغم من الوساطة، التي تقودها العراق، ورُبَّما روسيا، لتحقيق التقارب بينهما، تظل آفاق استعادة العلاقات الكاملة بينهما محدودة في المدى القريب؛ من جرّاء الشكوك في مدى استعداد الأسد للتعاون في الملفات المطروحة من تركيا، وعدم قُدرة الأسد الفعلية على تقديم تنازلات جوهرية في ظل ضغوط من حلفائه، خاصَّةً من إيران، للحفاظ على توازنٍ دقيق في علاقاته الإقليمية؛ ما يجعل من الصعب توقُّع اختراق دبلوماسي كبير. كما أنَّ كُلًّا من تركيا وسوريا اعتادتا على إظهار تناقُضٍ في الدوافع المُعلَنة والنهائية، فضلًا عن إدراك إقليمي عن مساعي أنقرة لتوسيع هامش إستراتيجيتها في المنطقة وسط التقلُّبات العاصِفة فيها، ليس مسعىً حقيقيًا لحل أزماتها المتفاقِمة. وبالتالي، تقِف شكوك أمام مقدور الطرفين في المُضي قُدُمًا بعلاقتيهما السياسية.

وبالنسبة لتركيا، فإنَّ انسحاب قوّاتها وإحداث تغيير في مناطق شمالي سوريا، سواءً في مناطق سيطرة «قسد»، أو التي تسيطر عليها المعارضة السورية في الشمال السوري، يبدو مسألةً ليست بالسهلة، في ظل الاستثمار الكبير، الذي وضعته أنقرة في تلك المناطق. والانسحاب يعني الدخول في مشكلات أكبر بالنسبة لها، أهمّها إخلاء الساحة لـ «قسد»، فيما تسعى أنقرة للتقارب مع النظام لمواجهتها.

سيبقى مسار التقارب محدودًا أيضًا بالأطراف الأخرى الفاعِلة في الملف السوري، وبالتطوُّرات الإقليمية الأوسع، خاصَّةً فيما يتعلَّق بالوضع شمال سوريا، ويبدو أنَّ الأحداث في مدينة قيصري والشمال السوري، التي جرت مع التصريحات الإيجابية الصادرة من جانب الدولتين بشأن استئناف العلاقات وانفتاح كل دولة على الأخرى، تحمل دلالات في توقيتها، على أنَّ هناك جِهات لا تريد عودة العلاقات بين أنقرة ودمشق.

سيتوقَّف مسار التقارب على مدى المرونة، التي يبديها داعمو الأسد، خاصَّةً الإيرانيين، إذ قد تضغط عليه لتأجيل إعادة تنشيط اللقاءات مع أنقرة، قبل أن تحجـز موقعهـا على طـاولة المباحثـات الخاصَّـة بسـوريا قـدر الإمـكان، كما أقحمـت إيـران نفسـها علـى طاولـة التفـاوض السـوري-التركي فـي روسـيا، خلال جولات مباحثات التقارب السابقة. فإيران ترى نفسها شـريكًا رئيسيًا في سوريا، وفي تثبيـت النظـام السـوري الحالي في السُـلطة، وترى أنَّ أيّ ترتيبات أمنية بين دمشـق وأنقرة يتعيَّن أن تكون حاضرةً فيها بحُكم انتشـارها إلـى جانـب الجيـش السـوري فـي مناطـق التمـاس، خاصـَّةً فـي حلـب وإدلـب. وعليه، فإنَّ إيران ستعمل ما بوسعها لمنع تقدُّم مُحتمَل لهذا المسار، وعرقلة مساعي تركيا لعقد اجتماع مع الأسد، أو أقلّه جعله اجتماعًا بلا مُخرَجات تضرّ بمصالحها في سوريا.

وبشأن طبيعة وماهية الموقف الأمريكي، من التقارب السياسي والاقتصادي المُحتمَل بين دمشق وأنقرة؛ فالرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن قد يتجنَّب اتّخاذ خطوات جادَّة تجاه تركيا أو سوريا قد تؤثِّر على فُرَصه بالفوز بالرئاسة مجدَّدًا، خصوصًا في ظل الأزمات الإقليمية والدولية الأخرى، مثل حرب غزة وأوكرانيا. وفي حال عودة الرئيس الأسبق دونالد ترامب للرئاسة في نوفمبر المقبل، قد تكون هناك تغيُّرات في السياسة الخارجية لواشنطن، وبسياساتها السورية وارتباطاتها المتعلقة بالوجود العسكري للقوّات الأمريكية في سوريا، وعلاقاتها مع كُلٍّ من تركيا و«قسد».

خاتمة

لا شكَّ في أنَّ في عودة العلاقات السورية-التركية تمثِّل مصلحةً مشتركة، لا بل حاجةً للجانبين، لكن تراكُمات الصراع السوري، والتي تجاوزت أكثر من عقد، تحتاج إلى ما هو أكثر من الرغبات التي يظهرها الطرفان، والسير على هذا الطريق سيظل مليئًا بالعقبات والتحدِّيات، وسيبقى مساره طويلًا وشائكًا، وذلك لاعتبارات عدَّة، منها الخبرات السـورية المتراكمة فــي مسار مفاوضـاتها السياسية مع الخارج عمومًا، إذ تنتهج حكومة الأسد سياسةَ النفَسِ الطويل في إدارة مفاوضاتها مع الطرف الآخر. وفـي المقابل، فـإنَّ تركيا تريد توسيع نفوذها الجيوإستراتيجي، لكن هذه المرَّة ستكون عبر الدبلوماسية والتفاهمات مع سوريا. ولدى أنقرة رصيدٌ مــن الخبرة ذاتها هي الأخرى؛ إذ تمزجُ في إدراة مصالحها بمناطق نفوذها، بين التمسُّك بالنفوذ والوجود العسكري، والانفتاح على المباحثات السياسية من أجل تثبيت واقع معيَّن يضمن لها مستقبلَ مصالحها قبل أيّ حديث عن سحْب قواعدها العسكرية، وهو ما أثبتتهُ في ليبيا وأذربيجان، ومؤخَّرًا في العراق.

كما أنَّ أي تقدُّم فــي مباحثات الانفتاح بين تركيا وسوريا، سيبقى محكومًا في مساره برهانات الأطـراف الأخـرى؛ فهناك إيران وروسيا وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية، ولكُلٍّ منهم موقف واعتبار من التقارب بين الدولتين، فضلًا عمّا سيقوده التصعيد في الداخل السوري، والذي أعقب أخبار التقارب المنشورة بين تركيا وسوريا، وانعكاساتها على هذا المسار. ومــن المُتصَوَّر في حال جَدِّية الطرفين التركي والسوري ووسيطهما في التقارب، أن تكون هناك إمكانيــة للبدء بعودة جزئية للعلاقات الاقتصادية، لكن لن يرتقي هذا التقارب إلى استعادة كاملة للعلاقات التركية-السورية في المدى المنظور.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير