نعم حقًّا، إنَّ الأسبوع الواحد دهْرٌ في عالم السياسة، قالها رئيس الوزراء البريطاني السابق هارولد ويلسون! في يوم 13 من يونيو، نجا مرشَّح رئاسي من محاولة اغتيال، وخلال أيام انسحب خصمه من السباق الرئاسي لإخماد ثورة وشيكة، مقدِّمًا كلَّ دعمه لذراعه الأيمن، التي تتمتَّع بقبول واسع ومهارة عالية في تأمين الدعم المادي. وإن لم يكُن في جعبة المستقبل مزيدًا من المفاجآت، نستطيع القول إنَّ مضمار السباق للانتخابات الأمريكية جاهزٌ للانطلاق.
الآن، يواجه الرئيس الأمريكي «الجمهوري» السابق دونالد ترامب نظيرته كامالا ديفي هاريس، بدلًا من جوزيف روبينيت بايدن، إذ ستصبح نائبة الرئيس الأمريكي الحالية المرشَح الرسمي للحزب الديمقراطي في 19 أغسطس، وقد تُتوَّج رئيسةً للولايات المتحدة، كما توقَّع تقريبًا الرئيس جيرالد فورد في عام 1989م. وقد تعلن هاريس عن نائبها أيضًا، إن فازت بالانتخابات. أمّا ترامب فقد اختار السيناتور الجمهوري عن ولاية أوهايو جيمس ديفيد فانس نائبًا له. ترامب، الذي دخلَ المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري على أنغام الأغنية الشهيرة لجيمس براون «إنَّه عالم الرجل»، أصبح المرشَّح الرئاسي الوحيد، الذي يخوض منافسةً انتخابية ضدّ مرشَّحتين رئاسيتين في تاريخ أمريكا.
فريق ترامب
وعلى الرغم من أنَّه نجا من محاولة اغتيال، لكنّه لم يتوقَّف لحظةً عن النقد اللاذع لنظرائه، بدلًا من مناقشة القضايا الأساسية. جميع أطياف حزبه الجمهوري صفَّقوا لصلابته وقوَّته، لحظة محاولة اغتياله. لكن لم يلبث الحديث عن التهدئة السياسية وتعزيز الوحدة بالكاد 48 ساعة، وسرعان ما بدأ منظِّرو المؤامرة وإعلام اليمين المتطِّرف باتّهام الرئيس بايدن، دون أيّ بيِّنة، بتخطيطه محاولة الاغتيال الفاشلة. وكان نائبه الشاب صاحب الـ 36 عامًا، من أول المحرِّضين. أمّا خطابه أمام المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، فقد صبَّ زيتًا على النار المشتعلة، حيث ظهرت سيطرة ترامب الكاملة على الحزب، بإهانته ألدّ خصومه في الحزب؛ نيكي هالي ورون دي سانتيس، وذلك باختيار نائب رئاسي غير متوقَّع البتّة، على الرغم أنَّ كلاهما؛ هالي وسانتيس، اصطفُّوا خلفه.
وعلى الرغم من أنَّ فانس خرِّيج جامعة ييل، وصاحب خبرة في وادي السيليكون، ويحمل أراءً محافظةً جدًّا وعُين لجذب الناخبين الشباب وتأمين الدعم المادِّي، إلّا أنَّه إلى الآن لا يزال نائب الرئيس الأقلّ شعبيةً على مدار 9 عقود، وأقلّهم خبرةً أيضًا. فهو وكونه سيناتور عن أوهايو لا يصنع فرقًا في الولايات المتأرجِحة؛ لأنَّ أوهايو ليست منها أصلًا، ناهيك عن آرائه المتطرِّفة جدًّا، فيما يخُصّ الحرب الروسية-الأوكرانية أو منْع الإجهاض، لا تغطِّي على حضور ترامب وهالته. ففي أثناء فترة ولايته، لم يرغب ترامب بتفويض أعماله أو قبول الاستشارة، وفي حال عودته لمنصبه، سيهمن بالأرجح على قرارات إدارته. الشاب فانس، قد يقدِّم نفسه خليفةً لترامب في حملته الانتخابية، تحت شعار «اجعلوا أمريكا عظيمةً مرَّةً أخرى»، لكنه لن يتمكَّن من نيل الاستقلالية، التي تمتَّع بها نظيره السابق مايك بنس.
حملة هاريس
هاريس، مدينةٌ لبايدن بكُلِّ ما وصلت إليه في الترشُّح الانتخابي، الذي نالته من دون خوض غمار تحدِّي الانتخابات التمهيدية؛ فهي المستفيد الأكبر من تدهور صحَّة رئيسها وكِبَر سنّه. ولولا أنَّها تلَّقت نعمة الدعم لكبح الاقتتال الداخلي في الحزب، لكان على هاريس الآن، وهي النائب العام السابق من أُم هندية وأب جمايكي، الدخول في منظاره مفتوحة لمدَّة ثلاثة أيام في ولاية شيكاغو؛ لتنال حقّ الترشُّح عن الحزب. فلم تضطرّ لأن تدخُل في مناظرات مع منافسيها من اللجنة الوطنية الديمقراطية لنقاش قضايا السياسات. وقبل وقتٍ طويل من ترشُّح هيلاري كلينتون، كانت النائب الديمقراطي جيرالدين فيرارو أول امرأة تترشَّح لمنصب نائب الرئيس الجمهورية مع والتر مونديل، لكن آنذاك فاز المرشَّح الجمهوري رونالد ريغان بالانتخابات الرئاسية عام 1984م. وفي عام 2016م، حصدت هيلاري كلينتون أصواتًا أكثر من ترامب، لكنها خسرت في «المجمع الانتخابي».
وفي وقتٍ وجيز، وافق الحزب الديمقراطي على هاريس مرشَّحةً للحزب في الانتخابات الرئاسية؛ نظرًا لحاجتهم الماسَّة للوحدة الحزبية، وتحسُّبهم من فوز ترامب بولاية رئاسية ثانية. ففي وقت قصير من بعد الانسحاب الطوعي لبايدن من السباق الرئاسي، حصلت هاريس على العدد اللازم من الأصوات؛ لضمان ترشيح الحزب الديمقراطي لها رسميًا لخوض الانتخابات الرئاسية. وسيتزايد الزخم السياسي مع اختيارها نائبَ الرئيس، الذي لم تختَره بعد، فهي ليست متعجِّلةً في هذا الأمر؛ ما يجعل منافسها ووسائل الإعلام يخِّمنون من هو. لكن على رأس قائمة المتوقَّعين: حاكم ولاية بنسلفانيا جوشوا ديفيد شابيرو، والسيناتور مارك إدوارد كيلي. شغِلَ شابيرو منصب النائب العام مثل هاريس، ويمكنه حشْد الدعم من الولاية المتأرجِحة؛ بنسلفانيا. أمّا كيلي، فهو رائد فضاء سابق لدى وكالة ناسا، وكابتن متقاعد في البحرية الأمريكية من ولاية أريزونا. يضغط اليسار في الحزب الديمقراطي، وهم السيناتور بيرني ساندرز و إليزابيث وارن والنائب في الكونجرس ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز، لدعم مرشَّح لمنصب نائب الرئيس داعم لليسار التقدُّمي، وسيكون بالأرجح رجلًا أبيض من القوّات المسلَّحة، أو من ولايات «نطاق الصدأ».
ومنذ انسحاب بايدن من السباق الرئاسي، حقَّقت هاريس تقدُّمًا بنقطتين في استطلاعات الرأي. وتركِّز حملة الحزب الديمقراطي على الناخبين الأصغر سنًّا، والطبقة العاملة، والنساء الملوَّنات؛ لتعويض النقص الناجم عن مقاطعة الناخبين المسلمين والعرب للسياسة الأمريكية تجاه إسرائيل.
أجندة عام 2024م
في الخطاب السياسي، تركِّز الحملتان الانتخابيتان على أربع قضايا: التضخم، والهجرة، والإجهاض، والعِرْق، ولا تشكِّل السياسة الخارجية والأمنية جوهر الأجندة. وعلى الرغم من أنَّ المساعدات المُقدَّمة لأوكرانيا تُعَدُّ قضية مثيرة للجدل، إلّا أنَّ أنماط التصويت لا تستنِد عمومًا إلى السياسة تجاه روسيا أو إيران أو إسرائيل. وما يشغل بال العامَّة، هو تدفُّق الهجرة وطالبي اللجوء القادمين من الحدود الجنوبية، وقد استغلَّ الجمهوريون هذه القضية لصالحهم، بينما لم يُعِرها الديمقراطيون الاهتمام الكافي. ولقد طغى ارتفاع تكاليف المعيشة والضرائب الضخمة على نجاح إدارة بايدن في خلْق فُرَص عمل قياسية وتحسين الاقتصاد، فمنظور الشارع مختلف تمامًا، ويصُبّ في صالح حملة الجمهوريين. وفي ظل الحُكم المثير للجدل، الذي أصدرته المحكمة العُليا بإلغاء القرار «رو ضد وايد»، الذي يعترف بحقِّ النساء بالإجهاض، وعلى الرغم من أنَّ الجمهوريين يرون أنَّ حقّ الحياة يبدأ منذ الحمل، فإنَّ حملة ترامب لم تعالج هذه القضية بصورة واضحة. لكن يسعى الجمهوري جي دي فانس لفرض حظر الإجهاض على مستوى الولايات المتحدة كلها، وهذا على عكس الموقف الغامض لترامب. ومن جانبهم، يضغط الجمهوريون ضدّ حظْر الإجهاض، سعيًا منهم لجذب الناخبين الشباب؛ ما يفاقم من ورطة الديمقراطيين. ويشكِّل «المشروع 2025» من إعداد «مؤسَّسة هيريتيج» الفكرية عقبةً أخرى أمام ترامب، فبقدر ما تحدّاه الديمقراطيين في أجندة اليمين المتطرِّف، تضاربت تصريحاته؛ إذ قال تارةً إنَّه لا يعلم شيئًا عن هذه الأجندة «المتطرِّفة» (المشروع 2025)، وتارةً أخرى مدَحَ «مؤسَّسة هيريتيج» على عملها المبهر. لكن لا موقفه الضبابي تجاه حظر الإجهاض ولا «مشروع 2025» سيصنعان فرقًا واضحًا لترامب؛ فالقضية الأولى أكثر أهمِّية للناخبين من القضية الثانية، لا سيّما للنساء والناخبين، الذين لم يقرِّروا لمن يعطون أصواتهم.
وعلى الرغم من فترة عملها في مجلس الشيوخ وعملها لمدَّة ثلاث سنوات ونصف نائبًا للرئيس، إلّا أنَّ هاريس لم تحقِّق انفراجات دبلوماسية مهمَّة. ألقت عدَّة كلمات وخطابات من شاشة القراءة، كما ترأَّست مؤتمرات نيابةً عن الرئيس عند انشغاله بأعمال أخرى أهمّ. ونظرًا لمعرفتها المتواضعة في الشؤون الخارجية وفن الخطابة، تحتاج إلى نائب رئيس ضليع في العلوم الجيوسياسية والجغرافيا السياسية. وفي ظل عدم اختيار نائبها بعد، قد تسعفها براعة الرئيس بايدن الجوسياسية في حملتها الانتخابية. وفي حال فازت في الانتخابات، لا بُدّ لها من نائب رئيس صاحب خبرة في الشؤون الدولية.
أمّا حملة ترامب تحت شعار «اجعلوا أمريكا عظيمةً مرَّةً أخرى»، فهي مستعِدَّة لواقعٍ جديد؛ فلم يعُد العالم كما كان عام 2016م. إذا فاز ترامب بالانتخابات مرَّةً أخرى، ستحمل قراراته في السياسة الخارجية والأمنية مفاجآت أقلّ من السابق؛ لا سيّما وقد أصبح لأوروبا والصين وإيران قراراتها الخاصَّة، التي نجحوا بها. لكن يبقى من الصعب أن يفصل ترامب خطابه الانتخابي عن متابعة سياسته، ومع ذلك يرى أنَّ كونه شخصًا يصعب التنبُّؤ به، نقطة قوة. وأخيرًا وليس آخرًا، يبقى ترامب المرشَّح الأكبر سنًّا في هذا السباق، وتزداد علامات الكِبَر عليه وضوحًا؛ فهمّته البدنية وشراسته السياسة آخِذة في التضاؤل. وسيكون عُرضةً للنقد اللاذع، لكن لا يزال يملك الأدوات للرد على منافسته بقوة أكبر. هذه المرَّة، حقَّق ترامب إنجازًا في وادي السيليكون مع حملته، بجذبه كبار المتبرِّعين لصفِّه، مثل إيلون ماسك، الذي تعهَّد بالتبرُّع بمبلغ 45 مليون دولار شهريًا لحملته الانتخابية. لكن بعدما ترشَّحت هارس للانتخابات، لن يراهن الجميع على فوز ترامب ونائبه فانس، ناهيك عن أنَّ هوليوود تقدِّم للديمقراطيين دعمًا ماليًا ثابتًا، وكذلك قطاع صناعة الأسلحة.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد