لعلَّ أول ما يخطر على بال المتلقِّي بعد سماع خبر اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية في طهران، هو التساؤل عن دلالات هذا الاغتيال في هذا التوقيت، ولماذا تحديدًا في طهران؟ الاغتيال الذي وقَعَ بعد دعوة هنية للمشاركة في مراسم أداء اليمين الدستوري للرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان، وبحضور بعثات دبلوماسية وسياسية وعسكرية لنحو 80 دولة في العاصمة طهران، يطرح العديد من التساؤلات حول الرسائل المُحتمَلة وراء هذا الاغتيال. إنَّ المحاولات التي قد تُقدَّم كإجابات على هذا السؤال ستظل مجرَّد فروض لن تتجاوز عتبة الاحتمالات في كل الأحوال، على أن تكشِف لنا الأيام والأحداث المقبلة عن بعض الحقائق والإجابات عن هذا الاستفهام المحيِّر، لا سيّما في ظل وتيرة تضارُب الروايات وتفاوتها بشأن طريقة اغتيال هنية وحارسه. وتتعدَّد بالفعل السيناريوهات المحيطة بهذه الواقعة؛ فهل كان ذلك بفعل صاروخًا استهدف غرفة نومه وأُطلِق من خارج الحدود، أم بمقذوف جوِّي من داخل طهران، أم نتيجة عبوَّة ناسفة زُرِعت في غرفته منذ حوالي شهرين من الحادث؟ بالإضافة إلى إيجاد تفسيرات عن كيفية تحديد موقعه؟ وهل بقِيَ هنية ومن معه دون حراسة، أم كان مقرّ الإقامة خاضعًا لجميع البروتوكولات الأمنية؟ وهل تمَّ هذا الاغتيال بموافقة وعِلْم الولايات المتحدة الأمريكية أم تمَّ دون علمها؟ وغيرها من الأسئلة، التي تحيط بمختلف زوايا الواقعة. سنُحاول من خلال هذا التقرير تقديمَ بعض الاحتمالات التي يمكن أن تسلِّط الضوء على أهمِّية موقع الاغتيال وتوظيفاته الإستراتيجية المُحتمَلة؛ بهدف فهْم تأثير هذا الحدث البارز على السياسات الإقليمية والدولية، بما في ذلك توظيفات الاغتيالات السياسية لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية، والتي تعزِّز التوتُّرات القائمة بين إيران وإسرائيل، وانعكاساتها على تحدِّيات السِلْم والسلام في منطقة الشرق الأوسط.
إسرائيل وإستراتيجيات التصعيد.. حربٌ متعدِّدة الأطراف
إنَّ المتَتَبِّع للشأن الإقليمي في الشرق الأوسط، سيلاحظ أنَّ الصراع في المنطقة يتجاوز مجرَّد كونه منافسةً على الهيمنة والنفوذ والتأثير على موازين القُوى، بل هو صراعٌ يطرح في العُمق فكرةَ الوجود وضمان البقاء، في مقابل فكرة الزوال وتحدِّيات الاستمرارية. إنَّ الإسرائيليين يدركون تمامًا، أنَّ الدخول في حرب ثنائية منفردة مع الفلسطينيين هي «حرب خائبة» على المدى المتوسِّط والبعيد، مهما كانت الضمانات والنتائج التي قد تحصدها. وهي حرب خائبة، لكنّها مدمِّرة بالنسبة لهم على مستويين على الأقلّ، مستوى محلِّي ضيِّق، ومستوى دولي أوسع. إنَّ تعدُّد أطراف الصراع، هو بحدِّ ذاته الضمان لاستمرارية الوجود الإسرائيلي في المنطقة بهذا الشكل، الذي هو عليه اليوم.
على المستوى المحلِّي، يعيش رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أسوأ فترات حياته السياسية، حيث تُظهِر مختلف استطلاعات الرأي تراجُع شعبيته بشكلٍ ملحوظ منذ إعلانه الحرب على غزة، التي أدَّت إلى مقتل أكثر من 39 ألف فلسطيني وإصابة أكثر من 90 ألف آخرين، وفقًا لوزارة الصحة في غزة. وقد بلغ الاستياء من سياسات نتنياهو «المتطرِّفة» أعلى مستوياته، منذ بداية الحرب، حيث واصلت عائلات الأسرى الإسرائيليين احتجاجاتها منذ السابع من أكتوبر، مطالبين «حكومة الحرب» بإيجاد حل فوري وسريع لإعادة المحتجزين لدى الفصائل الفلسطينية، والذين يُقدَّر عدُدهم حسب بعض التقارير الإعلامية بـ 120 أسيرًا، واتّهمت بعض عوائل الإسرائيليين المحتجزين في غزة نتنياهو بالفشل في التوصُّل إلى اتفاق بين الطرفين. وترى المعارضة الإسرائيلية أنَّ نتانياهو لا نيةَ له في إيجاد حل سريع وتحقيق الاتفاق مع الفصائل الفلسطينية بشأن تبادُل الأسرى، بل يحاول عرقلةَ أيّ صفقة في هذا الاتّجاه قدرَ الإمكان، وجرّ المفاوضات إلى أبعد مدى ممكن. وبهذا، يستطيع أن يعرقل أيّ مسعى لإجراء انتخابات يَعرِف هو مُسبَقًا نتائجها المُحتمَلة، بعد أن فقد ثقة أغلب مناصريه، حسب بعض التقارير (التي من الواجب التعامل مع نتائجها وتوظيفاتها الأيديولوجيا والسياسية المُحتمَلة بنوع من الحذر). وفي نفس الاتّجاه، قال في وقتٍ سابق زعيمُ الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي تشاك شومر، إنَّ نتنياهو يمِّثل «عقبة كبيرة أمام السلام، وقد خضع في كثير من الأحيان لمطالب المتطرِّفين…»، كما دعا نتنياهو إلى التنحِّي، وإجراء انتخابات مبكِّرة.
في السياق الذي باتت فيه شعبية نتنياهو تتآكل، كما أشرنا سابقًا، كان التصعيد وفتْح جبهات جديدة للقتال ومحاولاته المتواصلة لاغتيال وتصفية زعماء الفصائل الفلسطينية ووكلاء إيران في المنطقة خارج الأراضي الفلسطينية؛ محاولةً منه لتغطية فشل إسرائيل في غزة، بتوسيع نطاق الحرب ليشمل مناطق أخرى، والضغط على المعارضة لمساندته أو على الأقلّ تهدئة الانتقادات، ودفْع حُلفاء إسرائيل في الخارج إلى التحرُّك نحو إعادة ترتيب موازين القُوى، سواءً بجرِّ الولايات المتحدة إلى المشاركة في الحرب والخروج من الظل، أو من خلال تشتيت انتباه العالم وخلْق جبهات ثانوية للاشتباك في الشرق الأوسط، تُنذر دائمًا باحتمالية حدوث حرب إقليمية شاملة تلعبُ فيها إسرائيل دورَ الضحية المُستهدَفة من دول المنطقة أو من الجماعات المتطرِّفة -من وجهة نظرها- التي تهدِّد وجودها وأمنها القومي. وهو الأمر الذي يوظِّفه نتنياهو؛ لكسب دعْم الناخبين وحُلفاء إسرائيل من الخارج، وفي الوقت نفسه ربْح بعض الوقت لإعادة ترميم صورته المتآكِلة، كحامي الأمن القومي الإسرائيلي.
تُظهِر تصريحات نتنياهو أمام الكونجرس الأمريكي بوضوح عزمهُ على مواصلة الحرب، ومقايضة نتائجها مع حُلفائه الأساسيين. وفي الوقت نفسه، يسعى نتنياهو إلى المتاجرة بأيّ إنجازات ميدانية يحقِّقها، مثل اغتيال القادة البارزين؛ لبيعها للإسرائيليين وتقديمها كإنجازات داخلية، تُظهِر جبروت «حكومة الحرب»، التي يرأسها. ومن بين هذه الاغتيالات، نذكر اغتيال صالح العاروري؛ نائب رئيس المكتب السياسي لـ «حماس»، ومحمد الضيف؛ القائد العام لكتائب عز الدين القسام، (لم تؤكِّد حماس خبر اغتياله)، وفؤاد شكر؛ المسؤول العسكري الأول وكبير مستشاري الأمين العام لـ «حزب الله»، وصولًا إلى إسماعيل هنية، الذي كان على رأس قائمة المطلوبين لدى إسرائيل وحُلفائها في الغرب.
يشابه توظيف هذه الاغتيالات، ما فعلهُ جورج بوش الابن بإعدام صدام حسين صبيحة عيد الأضحى، وباراك أوباما بعد مقتل أسامة بن لادن، ومقتل قاسم سليماني بأمرٍ من دونالد ترامب، حيث وُظِّفت كل هذه الاغتيالات المذكورة كإنجازات سياسية وعسكرية لتعزيز الموقف الداخلي لـ «حكومة الحرب»، وفتْح فُرَص جديدة لكسب مزيد من الدعم الخارجي. إنَّ تأثير مثل هذه العلميات يمتدُّ نحو حُلفائها الأساسيين؛ حيث تعزِّز إسرائيل موقفها الإستراتيجي بالمنطقة، على الرغم من كل المخاطر التي يمكن أن تنتُج عن مثل هذه الاغتيالات، تجُرّ بها المنطقة إلى حرب شاملة مُحتمَلة، حيث لا تتردَّد «حكومة الحرب» في جرِّ حُلفائها، خاصَّةً الولايات المتحدة الأمريكية، إلى حربٍ جديدة في المنطقة بعد التصعيد الأخير.
إنَّ فتْح جبهات الحرب، ومهما كانت النتائج، يُتيح لنتنياهو فُرصةً جديدة لإنقاذ نفسه والبقاء قيد الحياة السياسية، وهو ما نجح فيه نسبيًا حتى اللحظة، خاصَّةً في مواجهة إيران وحزب الله في لبنان والميلشيات في كلٍّ من العراق وسوريا؛ ما يعزِّز استمراريته السياسية. في حين ترَكَ نتنياهو أمرَ الحوثيين لحُلفائه في الغرب، خصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية؛ ما يعكس إستراتيجيته في توزيع الأعباء العسكرية والسياسية على حُلفائه. وتدُلّ المواقف المُعبَّر عنها دوليًا أو حتى إقليميًا، على نجاح إسرائيل في إستراتيجية فتْح جبهات جديدة للاشتباك، حيث استطاعت تل أبيب كسْب رهان الدعم الدولي والإقليمي، بعدما شنَّت طهران هجومها عليها بتاريخ 13 أبريل 2024م. وعلى الرغم من تواضُع نتائج ذلك الهجوم، فقد أصدرت العديدُ من دول العالم بلاغات تُدين طهران وتُظهِر الدعمَ لإسرائيل، علمًا أنَّ الأخيرة هي السابقة بانتهاك القانون الدولي، بقصف سفارة إيران في دمشق على الأراضي السورية وقتل 16 شخصًا، من بينهم محمد رضا زاهدي، الذي يُعَدُّ ثاني أعلى رتبة عسكرية في «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني. إنَّ توسيع دائرة الصراع وتعدُّد أطرافها، خدَمَ سياسات نتنياهو المتطرِّفة على المستوى الدولي بشكلٍ عملي وظيفي، لا سيّما بعد الحراك الطُلّابي الذي أحرج حُلفاء إسرائيل. لذلك، كان توسيع دائرة الصراع فُرصةً له لإعادة توجيه اهتمامات القادة والداعمين، بما في ذلك تعطيل المناقشات حول المطالبة بوقف إطلاق النار في غزة، وتحوير الاهتمام نحو جهة أخرى ثانوية. فبدلًا من مناقشة وقْف إطلاق النار في مجلس الأمن، يتِم التركيز على مناقشة إدانة إيران. وهذا الأسلوب اتّبعته سابقًا الولايات المتحدة الأمريكية في العراق وبعض دول المنطقة، في سياق الربيع العربي. وهي إستراتيجية في تدبير الأزمات والنزاعات، التي تُعرَف بإعادة ترتيب أولويات الأجندة، بمعنى صرف الانتباه عن القضايا الرئيسية إلى قضايا أخرى ثانوية أو أقلّ أهمِّية، والتي تكون نتائجها محسومة ومعروفة سلفًا، من خلال تسليط الضوء عليها في وسائل الإعلام، وفرضها على الأجندات السياسية وتوجيه أنظار الرأي العام بعيدًا عن القضايا الأكثر حساسية.
وإذا كان هناك نجاحٌ آخر لنتنياهو بعد فشله في غزة، فهو نجاحهُ في إخراج إيران من منطقة الظل، وهو بحدِّ ذاته هدفٌ إستراتيجي سعت إليه إسرائيل منذ فترة، بعدما كانت المواجهات بين الطرفين تِتم عن طريق الوكلاء. لكن بعد أن خرجت إيران إلى العلن في 13 أبريل، استقبلت تل أبيب ذلك بنوع من الإيجابية الواضحة، حيث وظَّفت إسرائيل هذا الوضع لتحرير نفسها من القيود الأخيرة، التي فرضها عليها حُلفاؤها، لا سيّما تلك المتعلِّقة بعدم التصعيد العسكري. ومن جانب آخر، ستعزِّز المواجهة الثنائية من عُزلة الجانب الإيراني في الساحة الدولية؛ الأمر الذي أعطى دفعةً قوية لنتنياهو بشكل خاص، وأمدّه بزخمٍ جديد يعزِّز من خلاله موقفه في الداخل والخارج، في مقابل انحسار الخيارات المُتاحة أمام الجانب الإيراني في شخص الرئيس الجديد بزشكيان، والذي سيواجه تحدِّيات كبيرة متعلِّقة بإحداث تغييرات مهمَّة في سياسته الخارجية، وإقامة علاقات جيِّدة مع الغرب، وهو ما لم تكُن إسرائيل لتسمح بحدوثه في الوقت الراهن، ما لم تقدِّم طهران تنازلات وضمانات إضافية.
إنَّ الضربات الانتقامية المُحتمَلة من الجانب الإيراني بعد اغتيال إسماعيل هنية في طهران، باتت وشيكةً لا محالة، إلّا أنَّ هذه التحرُّكات قد تُدخِل إيران في متاعب جديدة، وتدفعها نحو حربٍ هي لا ترغب في خوضها إلا من خلال وكلائها في المنطقة؛ فهي لديها تاريخٌ طويل في استخدام أسلوب الحرب بالوكالة. غير أنَّ إسرائيل نجحت في استدراج طهران، بل وإحراجها؛ لأنَّها باتت مطالبةً بالرد على هذه الحادثة بشكلٍ يتناسب مع أهمِّية الموقف، ومكانة المُغتال، وطريقة الاغتيال. وبالتالي، فإنَّ أيّ رد قوي من جانب إيران، قد يقابله رد فعل إسرائيلي بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية وحُلفائها؛ ما قد يؤدِّي إلى حلقة مفرَّغة من التصعيد، تُعيد ترتيب أولويات الحرب في الشرق الأوسط، مع إعادة تشكيل أدوار اللاعبين الإقليميين. ترتيبٌ قد يُخرِج غزةَ من حسابات التسوية العاجلة، ويقلِّل الضغط على إسرائيل للوقف الفوري لإطلاق النار؛ ما يجعل من غزة مرَّةً أخرى ضحيةً لتوسُّع أطراف النزاع، والنتيجة هي بلا شك تفاقُم الأوضاع الإنسانية بشكلٍ يُنذر بكارثة إنسانية وصحية وبيئية خطيرة.
بشكلٍ عام، يظل خطر سوء التقدير من كلا الجانبين قائمًا، إذ يبيِّن رصْد الخطاب السياسي الرسمي لكلا الطرفين، كيف تسعى كلٌّ من إيران وإسرائيل للحفاظ على سُمعتها الردعية في المنطقة. وكلا الجانبين، يعتمدُ ورقة التهذيب وسياسة تلقين الدروس كآلية للردع. فقد صرَّحت الخارجية الإسرائيلية بعد الهجوم الإيراني: «يتعيَّن على إيران أن تدفع ثمن عدوانها»، بينما قالت الخارجية الإيرانية بعد اغتيال هنية: «سنستخدم حقّنا المشروع لمعاقبة إسرائيل». تعكس هذه التصريحات رغبةَ إسرائيل من جهة في إحراج طهران، وفي نفس الوقت تسعى إيران إلى تبرير موقفها العسكري بشكلٍ يحفظ سمعتها الردعية، مثلما حدَثَ مع إسرائيل يوم السابع من أكتوبر.
إيران والسيناريوهات المُحتمَلة.. الخروج من الظل وتوظيفات الحرب مع إسرائيل
منذ الإطاحة بحُكم الشاه محمد رضا بهلوي سنة 1979م، وإعلان قيام «الجمهورية الإسلامية الإيرانية»، سعى النظام الجديد إلى إرساء دعائم حُكمه وتعزيز نفوذه في المنطقة. وشكَّلت الحرب الإسرائيلية على فلسطين جزءًا أساسيًا من أيديولوجيته السياسية والدعائية، إذ تقود إيران جهودًا واضحة لتعزيز نفوذها الإقليمي، بما في ذلك الحفاظ على استمرارية النظام القائم، محاولةً بناءَ شرعيتها في المنطقة كمحور مناهِض للغرب، كالولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب إسرائيل، اللتان أطلقت عليهما اصطلاح «الشيطان الأكبر» و«الشيطان الأصغر» على التوالي، معتبرةً إيّاهما أصلَ الشر في المنطقة.
إنَّ توظيف طهران للأزمة الفلسطينية يُظهِر بوضوح فيما يُعرَف بمحور الممانعة، الذي كشَفَ عن نفسه في الأزمة السورية واليمنية. تمكَّنت إيران من التوغُّل في المنطقة، وتعزيز موقعها الإقليمي، مستغِلَّةً الأزمات السياسية التي كانت تعيشها معظم الأنظمة العربية، كما سعت إلى تشويه صورتها وشيطنتها في جميع الأحوال. وبشكلٍ عام، أدَّت هذه الدعاية إلى تضخيم قوَّة إيران في الشرق الأوسط، في حين قوَّضت النفوذ العربي وشيطنة تحرُّكاته في المنطقة.
إنَّ المواقف التي كانت تعبِّر عنها طهران ضدّ واشنطن، بمثابة الوقود الذي تستخدمه لتحقيق التوازن في سياساتها الداخلية وتعزيز الوحدة الوطنية. إنَّ الإبقاء على مناطق الوكلاء في حالة النزاع أو في حالة القابلية للاشتعال، كان دائمًا أحد الأهداف الإستراتيجية لإيران. فهي بالمناسبة توظِّف هذه الحالات كأوراق ضغْط في عمليات التفاوض الدولية والإقليمية، وفي الوقت نفسه تستخدمها كوسيلة دعائية لحشد الدعم الشعبي وتعزيز شرعيتها الوطنية، سواءً على المستوى الإقليمي أو المحلِّي، وذلك تحت راية محور الممانعة. وهو ما يُتيح لها فُرَصًا لمدِّ نفوذها الإقليمي، ويعزِّز قُدرتها على التأثير في صناعة القرار، أو على الأقلّ المشاركة فيه، بشكلٍ يغطّي على تأثير بعض الدول الكُبرى في المنطقة. وقد تجسَّدَ ذلك بالفعل في اجتماعات أستانا حول الأزمة السورية، التي لعِبَت فيها إيران دورًا محوريًا في توجيه مسار المفاوضات. والأمر نفسه، يمكن ملاحظته في الحرب على غزة، حيث باتت إيران لاعًبا أساسيًا في عمليات التصعيد والتهدئة، من خلال توجيه مسار الأزمة، عبر التأثير على السلوك العسكري لوكلائها في المنطقة.
يُرجَّح أن تستثمر إيران النزاعات المُفتعَلة في المنطقة بشكل يخدم مصالحها، وهو أمرٌ طبيعي في سياق تعزيز نفوذها الإقليمي، والحفاظ على مكاسبها وسيادتها الوطنية. ويرى المسؤولون الإيرانيون، أنَّ الدعم المادِّي واللوجستي الذي تقدِّمه طهران لـ «حزب الله» في لبنان والجماعات الموجودة في العراق وسوريا واليمن، هو مصدر الحماية الرئيسية لإيران. ومع ذلك، فإنَّ توظيف هذه الأزمات والنزاعات الإقليمية، قد لا يخدم دائمًا الأجندة الإيرانية، خاصَّةً على المستوى المحلِّي، بل يمكن أن يكون سببًا في اندلاع احتجاجات شعبية تهدِّد استقرارَ النظام القائم.
في السنوات القليلة الماضية، شهِدَت إيران سلسلةً من الاحتجاجات بمناطق عديدة في البلاد، حيث طالب المتظاهرون بإصلاحات سياسية واقتصادية وتشريعية واسعة، في ظل تدهور الأوضاع الاجتماعية وتراجُع الحرِّيات، حيث خرَجَ المتظاهرون يهتفون بشعار «لا غزة ولا لبنان.. روحي فداء لإيران»؛ ما يعكس استياءهم من إستراتيجية الممانعة كآلية لتعزيز مصالح النظام الخارجية على حساب التوازن التنموي بالداخل. لكن سُرعان ما تعود مرَّةً أخرى مظاهر الوحدة بسبب توسُّع نطاق الحرب، حيث تُبرَّر مختلف أنماط الدعم، كوسيلة الدفاع عن النفس، من خلال إستراتيجية الدفع بالوكلاء إلى الأمام، دون أن يكون لها انخراط مباشر في المواجهات.
لقد أخفقت إيران في الحفاظ على هذا الأسلوب، بعد فشلها في حماية شخصية سياسية رمزية في الصراع في المنطقة، حيث تواجه طهران تحدِّيات ميدانية جديدة تُعيق مسارها في الحفاظ على أسلوبها في إدارة النزاعات، فقد أصبحت المواجهة المباشرة وشيكةً وقريبة أكثر من أيّ وقتٍ مضى؛ ما يحِدُّ من خياراتها العسكرية المُتاحة بالمقارنة مع مرحلة ما قبل الاغتيال. إنَّ إستراتيجية الدفع بالوكلاء إلى الأمام، هي أسلوب حافظت عليه طهرن لعقودٍ من الزمن، وبفضله نجحت في تحقيق أهدافها بالمنطقة، خاصَّةً الحفاظ على حدودها وسيادتها بعيدًا عن الاشتباكات المباشرة، إذ كانت تتعامل مع التهديدات المُحتمَلة قبل وصولها إلى حدودها. وكانت لبنان وسوريا تمثِّلان دائمًا ساحاتها المفضَّلة لتحقيق طموحاتها الإستراتيجية، والحفاظ على أمن حدودها.
وفي الختام، ينتظر العالم اليوم، ليرى ما إذا كانت إيران ستشنُّ هجومًا مضادًّا على إسرائيل. ومثلما ذكرنا، اتّخذت طهران قرارًا منذ عقود، بعدم الدخول في أيّ مواجهة مباشرة مع إسرائيل قد تخرج عن السيطرة، وتنحدر إلى حربٍ شاملة غير متكافئة. وبعد نجاح إسرائيل في إحراج إيران وإخراجها من الظل بدفعها إلى المواجهة المباشرة، باتت خيارات إيران للرد والانتقام محدودةً للغاية. وكما ذكرنا سابقًا، فإنَّ طهران تُدرِك أنَّ الدخول في مواجهات مباشرة مع إسرائيل ليس في مصلحتها، مهما كانت النتائج المُحتمَلة. لذلك، فهي تفضِّل تجنُّب الاشتباكات المباشرة، ودعْم وكلائها في المنطقة، خاصَّةً الحوثيين وحزب الله. تُدرِك إيران أنَّ نجاحها في الحرب مع الجانب الإسرائيلي على المستوى الداخلي يتِم عبر الوكلاء، إلّا أنَّها وجدت نفسها مُضطَرَّةً بل ومُجبَرةً على الرد العسكري لإنقاذ ماء الوجه، بالمقارنة مع حجم الضربة التي تعرَّضت لها، وسقوط «أسطورة الردع الإيراني». ومن المرتقب أن يكون رد فعل الإيرانيين عبارة عن ضربات منسَّقة؛ لتجنُّب نتائج مُبالَغ فيها. وتشمل الخيارات المُتاحة أو المُحتمَلة، حسب الخبراء والمختصِّين العسكريين، مجموعةً من الخيارات، منها:
- – شنّ هجوم على إسرائيل باستخدام طائرات بدون طيّار، وإطلاق صواريخ بالستية تضرب أهدافًا محدَّدة.
- – شنّ هجوم منسَّق بين إيران وحركة حماس، وحزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، بالإضافة إلى الميليشيات في العراق وسوريا.
- – استهداف البعثات الدبلوماسية الإسرائيلية بالخارج.
- – إمكانية استهداف البعثات في المناطق التي ينشط فيها وكلاء إيران، خاصَّةً في العراق ولبنان.