بنغلاديش على مفترق طرق.. مغادرة الشيخة حسينة والآثار المترتبة على الديناميكيات الإقليمية

https://rasanah-iiis.org/?p=36132

تمر بنغلاديش بمنحى تاريخي مع رحيل رئيسة الوزراء الشيخة حسينة إلى نيودلهي في أعقاب اندلاع احتجاجات واسعة النطاق وأعمال عنف شملت جميع أنحاء البلاد. وفي خضم الاضطرابات والمشاعر المناهضة لحكمها، تعرض المقر الرسمي للشيخة حسينة للهجوم والنهب. ولهذه التطورات آثارٌ كبيرةٌ على المشهد السياسي والاستقرار في المنطقة. حيث أنه منذ استقلال بنغلاديش في عام 1971م، عانت البلاد من اضطرابات اتسمت بالعنف السياسي، والفساد، واتهامات بتزوير الانتخابات، مما أدى في كثير من الأحيان إلى حظر وقمع الأحزاب السياسية الرئيسية. وعلى الرغم من العودة إلى الديمقراطية في عام 1991م، إلا أن الاستقطاب السياسي والميول الاستبدادية إلى جانب أحزاب المعارضة مثل «الحزب الوطني البنغلاديشي» التي قاطعت الانتخابات الثلاثة الأخيرة، أدت إلى تزايد المخاوف بشأن التراجع الديمقراطي ما أدى استمرار الاحتجاجات. وقد خلقت الأزمة المستمرة فراغًا سياسيًا في بنغلاديش، إذ غالبًا ما هيمن التنافس بين «رابطة عوامي» التابعة للشيخة حسينة و«الحزب الوطني البنغلاديشي» على المشهد السياسي الداخلي.

اندلعت الاحتجاجات الأخيرة في بنغلاديش نتيجة استياء شعبي طال أمده من نظام المحاصصة الذي يخصص 56% من المناصب الحكومية لمجموعات مختلفة؛ منها 30% لأحفاد مقاتلي «حرب الاستقلال» عام 1971م. وقد كان نظام «المحاصصة» هذا حاجزًا يقف في وجه شريحة الشباب الكبيرة في بنغلاديش الذين يشكلون قرابة 28% من إجمالي السكان؛ فكثير من هؤلاء الشباب يطمحون للعمل في قطاعات الخدمة المدنية وسط ارتفاع معدلات البطالة، على الرغم من النمو الاقتصادي الذي تتفاخر به الحكومة. وغالبًا ما تواجه البلدان الفتية ذات الدخل المتوسط تحديات جسيمة، مثل ارتفاع معدلات البطالة وعدم تلبية الوظائف المتاحة تطلعات الشباب. وفي حالة التوزيع غير العادل لثمار النمو الاقتصادي بحيث تستفيد منه فقط الطبقة العليا للمجتمع، ستتشكل ظروف معيشية تدفع نحو نشوب الاضطرابات الاجتماعية، والثورات الشعبية كما هو الحال في بنغلاديش.

وقد تصاعدت الانتقادات التي نالت الحكومة بعد ذهاب العديد من المناصب المحجوزة إلى أنصار «رابطة عوامي». وعلى الرغم من إلغاء الحكومة لنظام المحاصصة في عام 2018م في أعقاب اندلاع احتجاجات واسعة النطاق، أعلنت المحكمة العليا في يونيو 2024م، أن هذا الإلغاء «غير قانوني»، مما دفع الشعب للخروج إلى احتجاجات جديدة كان على رأسها طلاب الجامعات والكليات. وفي يوليو 2024م، اندلعت احتجاجات جديدة في الجامعات الحكومية بسبب إصلاحات التقاعد التي يمكن أن تخفض من الدخل. وتصاعدات التوترات بعد إلقاء رئيسة الوزراء حسينة خطاب أججت فيه الوضع أكثر، إذ وصفت المحتجين بالـــ «رزاكار»، وهو مصطلح للمتعاونين الموالين لباكستان من حرب عام 1971م. وعلى إثر خطابها التحريضي، شن الجناح الطلابي لرابطة عوامي-رابطة تشاترا الموالية لحسينة والشرطة وكتيبة العمل السريع حملات قمع عنيفة، أسفرت عن مقتل حوالي 266 شخصًا، منهم طلاب وأطفال. ورغم أن الاحتجاجات اندلعت في البداية بسبب نظام «المحاصصة» لكنها سرعان ما تطورت وأصبحت منصة يُعبر فيها الشعب عن مظالمه القديمة ضد حكومة الشيخة حسينة، بما في ذلك عدم المساواة الاقتصادية، وتآكل الديمقراطية، وقمع المعارضة.

ولقد سبقت الاحتجاجات الأخيرة في بنغلاديش ظهور حملة مناوئة للهند مزجت بين المشاعر المعادية للهند والمناهضة للحكومة الحالية بهدف تحدي حكومة الشيخة حسينة، واستقطبت أنصار «الحزب الوطني البنغلاديشي» والمواطنين المحبطين من حكومتهم وأعضاء «الجماعة الإسلامية». وبينما ترى بعض جماعات المعارضة الأقلية الهندوسية مؤيدة للهند، وداعمةً أيضًا لحكومة الشيخة حسينة. وفي أعقاب الإطاحة بالشيخة حسينة، وردت عدة تقارير عن هجمات على المعابد والشركات الهندوسية في بنغلاديش، وسط تصاعد المخاوف بشأن سلامة الأقلية الهندوسية في بنغلاديش. وعلى الرغم من هذا، فقد تظافرت عدة جماعات وطلاب مسلمين واجتمعت لحماية المعابد الهندوسية. ودعت الحكومة المؤقتة بشكل عاجل إلى كبح العنف ضد الأقليات. وأصبحت جماعات المجتمع المدني والمنظمات الطلابية والجيش وأحزاب المعارضة جميعها لاعبين رئيسيين في الأزمة السياسية الجارية في بنغلاديش. وفي خضم هذه الاضطرابات، استقال كبار المسؤولين، بمن فيهم رئيس المحكمة العليا ومحافظ البنك المركزي.

منذ استقلال بنغلاديش، كان للجيش نفوذٌ كبيرٌ على السلطة هناك، شهدت به البلاد عدة انقلابات وفترات حكم عسكري. وبعد فترة وجيزة من رحيل الشيخة حسينة، وسط عدم الاستقرار، استولى الجيش بقيادة الجنرال واكر الزمان على السلطة، لكن زعماء الطلاب ظلوا معارضين للحكم العسكري. وبناءً على مطالب المحتجين، يقود الحكومة المؤقتة الآن الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل الدكتور محمد يونس الذي وعد المحتجين بإرساء الاستقرار في البلاد وضمان النمو الاقتصادي والإصلاحات. وفي إشارة إلى التطورات الأخيرة، وصف يونس يوم رحيل الشيخة حسينة بأنه «احتفال»، وبأنه «التحرير الثاني» للبلاد. وخلال فترة ولايتها، اشتبكت الشيخة حسينة مع يونس، واتهمته بـ «الفساد وغسيل الأموال واستغلال الفقراء» من خلال «بنك غرامين» الشهير الذي أسسه-وهي مزاعم نفاها باستمرار. وعلى الرغم من مواجهة أكثر من 200 تهمة على مر السنين، حافظ يونس على شعبية كبيرة في بنغلاديش، شعبيةٌ غالبًا ما كانت تعد تحدي لحكومة حسينة.

وبعد استقالتها وفرارها من بنغلاديش، اتهمت الشيخة حسينة الولايات المتحدة بالمساهمة في إقالتها بسبب رفضها التنازل عن جزيرة سانت مارتن، وهو ما زعمت أنه كان عاملًا رئيسيًا في خسارتها للسلطة. وفي رسالة إلى أعضاء حزبها، أشارت حسينة إلى أنها كان بوسعها الاحتفاظ بمنصبها لو سلمت الجزيرة وخليج البنغال للولايات المتحدة، وهو ادعاء رفضه «الحزب الوطني البنغالي» والمعارضة.

وفي ظل الأوضاع في باكستان وأفغانستان وسريلانكا وميانمار، ستُعرقل الأزمة في بنغلاديش الطريق نحو الاستقرار الإقليمي في جنوب آسيا. والآن تواجه دول مجاورة مثل الهند، التي كانت تربطها شراكة قوية مع حكومة الشيخة حسينة، مشهدًا ضبابي نجم عن التحول المفاجئ في الديناميكيات في المنطقة. وقد تصبح بنغلاديش بؤرةً للمنافسة الجيوسياسية، فمن المرجح أن تتخذ كل القوى الإقليمية والعالمية الكبرى التدابير اللازمة لحماية مصالحها وزيادة نفوذها فيها، بما في ذلك الهند وباكستان والصين والولايات المتحدة.

الجدير بالذكر هنا؛ أن الهند ترتبط مع بنغلاديش بحدود تصل إلى 4096 كم، وكانت لديها دائمًا مخاوف بشأن التسلل من بنغلاديش، وهي أيضًا مسألة مُسيسة للغاية في الهند. ووسط الاضطرابات المستمرة، يساور الهند الآن القلق من احتمالية تدفق اللاجئين، إذ كشفت تقارير مؤخرًا أن قوات أمن الحدود كانت تمنع البنغال من دخول الهند. والآن تواجه الهند تحديات قد تضرب ونفوذها غير المباشر في بنغلاديش وتصورها بأنها «الأخت الكبرى» لها، في ظل النظرة العامة لقطاعات واسعة إلى أن الهند داعمة للشيخة حسينة. ووسط استمرار الإضرابات الداخلية في بنغلاديش، أُغلقت جميع مراكز تقديم طلبات التأشيرة الهندية، ونصحت الحكومة الهندية جميع الطلاب الهنود بالعودة لبلادهم.

وعلى الرغم من ميولها الاستبدادية، لعبت الشيخة حسينة دورًا فعالاً في الحد من الفقر في بنغلاديش خلال العقدين الماضيين؛ فقد انخفض معدل الفقر من 11.8% في عام 2010م إلى 5.0% في عام 2022م. ومع ذلك، واجه الاقتصاد مؤخرًا تحديات جسيمة بسبب جائحة كورونا والحرب بين روسيا وأوكرانيا، مما أدى إلى ارتفاع التضخم إلى 10%. وفي ظل الظروف الحالية، يبقى أن نرى كيف ستتصدى بنغلاديش لهذه التحديات، فالخطوة الحاسمة هي استعادة الاستقرار لاستعادة ثقة المستثمرين وجذب الاستثمار الأجنب، عوامل ستبقى ضرورية جدًا للاقتصاد في بنغلاديش.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير