زيارة بوتين لأذربيجان تعمق مخاوف إيران الجيوسياسية في القوقاز

https://rasanah-iiis.org/?p=36184

بواسطةد.محمد بن صقر السلمي

على الرغم من مصالح إيران المتعددة مع روسيا، والتي بلغت مستوىً غير مسبوق بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، حتى أن البعض ذهب إلى احتمال دخول الجانبين في تحالف أعمق وأوثق، لا سيما على الجانب العسكري، غير أن بعض تحركات موسكو غالبًا ما تكشف عن تضارب المصالح بين الجانبين في بعض القضايا، وهذا ما اتَّضح من ردود فعل إيران على زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للعاصمة الأذربيجانية باكو، ولقائه الرئيس الأذربيجاني، إذ جدَّدت هذه الزيارة مخاوف إيران بشأن مصالحها الحيوية في منطقة القوقاز، تلك المصالح التي تضرَّرت إلى حد بعيد منذ التحولات الدراماتيكية التي جرت بعد حرب 2020م، بين أذربيجان وأرمينيا، إذ غيَّرت نتائج هذا الصراع موازينَ القوة في المنطقة، وأنهت الوضع الإقليمي المستقر عبر عقود من الزمن.

تاريخيًا هذه المنطقة لا تتكامل فيها مصالح روسيا وإيران، بل هي منطقة تتقاطع فيها مصالحهما بوصفها مجالًا حيويًا وأساسيًا للبلدين، مرتبطٌ بصورة مباشرة بأمنهما واستقرارهما؛ فالبلدان يومًا ما كانا يتمتعان بسيادة على هذه المنطقة، وقد كان من نتيجة ذلك تاريخٌ ممتد من الصراعات والخلافات، وهذا التقاطع على الأغلب كان عاملًا حاسمًا في عدم اندفاع روسيا لتعميق شراكتها مع إيران بصورة عامة أو في تلك المنطقة، باعتبار هذه الشراكة قد تعزز نفوذَ إيران كمنافس إقليمي في هذه المناطق، فما بالنا وأن ترتيبات مهمة تقودها روسيا تشهدها هذه المنطقة تقدِّرها إيران على أنها تهديدٌ حيوي لمصالحها.

إن زيارة بوتين لأذربيجان مزعجةٌ لإيران؛ لأن أجندته تنطوي على تنشيط دبلوماسية روسيا وتعزيز مصالحها في فضاءاتها الحيوية القديمة، وذلك عوضًا عن انقطاع اتصال روسيا بالغرب على كافة الأصعدة، إذ يعطي بوتين ضمن هذه الأجندة الأولويةَ لاتفاق سلام بين أذربيجان وأرمينيا يُعاد معه ترسيمُ الحدود ويوسع من حدود خصمها التاريخي أذربيجان، لكن تستقبل إيران هذه التحركات بوصفها إعادةَ صياغة للتوازنات الاستراتيجية في هذه المنطقة لصالح روسيا وأذربيجان وتركيا.

فإيران ترى أن أجندة بوتين عند حدود إيران من جهة القوقاز تتقاطع مع تركيا وأذربيجان، إذ يدعم الرئيس الروسي مشروعَ إنشاء “ممر زنغزور”، والضغط الروسي من أجل تنفيذ هذا المشروع سيغيرُ ميزان القوة لصالح أذربيجان في مواجهة إيران، وسيقطع الاتصال البري بين إيران وأرمينيا؛ وبالتالي يعرقل حركة انتقال البضائع الإيرانية عبر أرمينيا، ولا شك أن هذه الممر أيضًا قد يحدُ من المزايا التي ستجنيها إيران من ممر الشمال-الجنوب، ومع أهميتها كمعبر للممرات الدولية المقترحة بين الشرق والغرب، فضلًا عن أن تركيا المنافس الإقليمي لإيران ستكتسب نفوذًا متزايدًا، إذ يربطها هذا الممر بصلة برية مباشرة مع فضائها التركي، وصولًا إلى آسيا الوسطى في قوس جيوسياسي وممر اقتصادي متصل حول إيران من جهة الشمال.

وربما لن يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ أن أرمينيا التي انزعجت من تحركات بوتين ومن تقاربه مع أذربيجان، اتَّهمت قوات حفظ السلام الروسية بأنها لم تحرِّك ساكنًا في العملية الخاطفة التي استعادت من خلالها أذربيجان إقليم ناغورني قره باغ في 2023م، ومن ثم جمَّدت مشاركتها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا وبدأت في التقارب مع الغرب من أجل موازنة التحولات الجارية في المنطقة، وفي هذا الإطار أرسلت مساعدات إنسانية إلى أوكرانيا، وقامت بالانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي أصدرت مذكرة اعتقال بحق فلاديمير بوتين، وهو ما يعني بالنسبة لإيران؛ أولًا: كسب الغرب موطأ قدم جديد في مواجهة إيران، وربما تقود المنافسة المتصاعدة في هذه المنطقة إلى استدعاء الناتو والولايات المتحدة، مع ما يعنيه ذلك من مخاطر وتهديدات جسيمة لأمن واستقرار إيران، ثانيًا: مزيدٌ من الحضور والنفوذ الروسي في فضاء إيران الحيوي ودعمٌ غير مسبوق من جانب موسكو لأذربيجان، ثالثًا: حرب باردة في القوقاز وجبهة جديدة من التحالفات الممتدة والصراعات التي تُنهك إيران وتضعفها.

ولا يفوت التنويه إلى خطورة هذه التطورات على إثارة المشاعر القومية التركية والآذرية، مع ما يعنيه ذلك من تهديدات لوحدة الأراضي الإيرانية ولسيادتها الإقليمية؛ لأن ما يجري يدفع بالقضية الآذرية عبر الحدود بين إيران وأذربيجان إلى الواجهة، ويجدد نزعات الانفصال، وهو من المسائل المعقدة التي تنظُر إليها إيران بحساسية شديدة بالنظر إلى تركيبة سكانها المعقدة وانتشارهم الجغرافي عبر الحدود، والذي قد يطلق شرارةَ الانفصال ليس من جهة القوقاز وحسب، ولكن من جهات عديدة يقود بعضها التمرد على الدولة الإيرانية.

وهكذا يمكن القول إن منطقة القوقاز مرشحةٌ لدخول عصر جديد من المنافسة الدولية والإقليمية، مع ما يحمله ذلك في طياته من تحولات في غير صالح إيران، فاحتمال تجدُّد الصراع في أي لحظة أمرٌ وارد، لا سيما بعد سحب روسيا قوات حفظ السلام من الإقليم محل النزاع في أبريل الماضي، بل وتجدُّد الاشتباكات من حين لآخر، كما جرى خلال زيارة الرئيس بوتين لباكو، لكن هذه المرة ربما لن يقتصر الصراع على الجارتين في القوقاز، لكن ستكون هناك أطرافٌ عديدة لديها أجندتها الخاصة في المنطقة ستجدُ في الصراع فرصةً من أجل تمرير أجندتها، وهنا قد تتدفَّق على إيران مخاطر متعددة، وربما تكون مضطرةً إلى فتح جبهة جديدة من الصراع من أجل الدفاع عن سيادتها أو مصالحها أو نفوذها المهدَّد في هذه المنطقة، ولن يتوانى خصومُ إيران في إنهاكها واستنزافها في هذا الصراع؛ من أجل الضغط عليها والتأثير على حضورها في جبهات أخرى.

وأخيرًا يمكن القول إن مواقف روسيا وتحركاتها غالبًا ما تُثير مخاوف إيران، وتؤكد على أن تعاونهما في بعض القضايا مبنيٌ على مصالح مؤقتة وضرورية للجانبين، وهو ما يُشير إلى أن تعويلَ إيران على التوجه شرقًا محدود التأثير، خصوصًا فيما يتعلَّق بالتوجه نحو روسيا؛ لأنها لا تتوانى عن التخلي عن إيران في أي قضية قد تتعارضُ فيها مصالحهما، وفي القوقاز تحديدًا ستُحيي تحركاتُ روسيا جوانبَ تاريخية وجيوسياسية للصراع بين البلدين، وهو ما قد يجعلُ للتعاون بين الجانبين سقفًا محددًا، خصوصًا أن هذه التحركات تأتي إلى جانب مواقف عديدة لم تتلقَّ فيها إيران الدعمَ الذي كانت تنتظرُه من روسيا.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
رئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية