خلال السنوات القليلة الماضية تغيَّرت السياسة الخارجية السعودية بناءً على عوامل داخلية وخارجية، وشمل هذا تغييرًا في الأهداف والأدوار والتوجهات والسلوكيات والأدوات، وضمن هذه العملية كان واضحًا أن السعودية عازمة على مواصلة نهجها الخارجي المدفوع بمصلحة وطنية حيوية في تنويع شراكتها والانفتاح على كافة القوى الدولية وعدم رهن مصالحها بقطب دولي واحد، لكن هذا المسار جعلها تحت تأثير الاستقطاب الدولي الجاري بين الولايات المتحدة والصين، والذي بلغ ذروته خلال السنوات الماضية أيضًا، فالصين ترغب في تعزيز مكانتها في الشرق الأوسط والانفتاح على السعودية كقوة إقليمية فاعلة، والولايات المتحدة التي قدَّرت خطأ تراجع أهمية المنطقة عادت لمراجعة نهجها وعلاقتها مع المملكة؛ لأنها لا ترغب أن تملأ الصين الفراغ الذي تركته خلفها، وفي ظل أهمية الطرفين للمملكة ومصلحتها الحيوية في الحفاظ على علاقتها مع هاتين القوتين دون التضحية بإحداهما على حساب الأخرى، فإن الإشكالية تكمن في كيفية موازنة الرياض علاقاتها مع القوتين المتنافستين وكسب ثقتهما في ظل الاستقطاب الراهن.
تجادل هذه الدراسة بأن المملكة تراهن على إمكانية متابعة مسار متوازن في العلاقات مع كلٍ من بكين وواشنطن، دون أن تكون طرفًا في القطبية التي يفرضها التنافس بين الجانبين على المنطقة والعالم باعتبار ذلك مصلحةً أساسيةً حيوية للمملكة، وفي إطار مبادئها الخارجية الجديدة المتمثلة في تنويع شراكتها وتحقيق قدر أكبر من حرية الحركة على الصعيد الدولي، والاستفادة القصوى من التنافس وهامش الحركة والمناورة المتاح أمام المملكة لخلق شراكة متوازنة مع القطبين الدوليين تخدم رؤيتها 2030، وتطلعاتها نحو سعودية جديدة فاعلة إقليميًا ودوليًا.
ستحاول هذه الدراسة أن تعالج هذه الفرضية بالاعتماد على مقولات المدرسة الواقعية التي تركز على مفاهيم القوة وتوازن القوى والمصلحة الوطنية، وسوف يستخدم الباحث المنهجَ الاستقرائي، الذي يركز على جمع البيانات والعلاقات المترابطة بطريقة دقيقة من أجل الربط بينها بمجموعة من العلاقات الكلِّية العامّة. وهو كغيره من المناهج العلمية يحدِّد الإشكالية أو الظاهرة محل البحث من أجل متابعة تفاصيلها والتعرُّف إلى مسبِّباتها، من ثمَّ الانتقال من الأمور الجُزئية إلى الأمور الكلِّية، أو بمعنى آخر، من المفهوم الخاص إلى العام. وفي إطار هذا النهج، يمكن الاستعانة باقتراب المصلحة الوطنية كأداة لاستقراء كيفية حساب الرياض لمصلحتها الوطنية في الحفاظ على علاقة متوازنة مع كلٍ من بكين وواشنطن، بدلًا عن انجذابها إلى طرف على حساب الآخر.
وللإجابة على تساؤلات الدراسة التي تتمحور حول طبيعة مصالح السعودية مع كلٍ من الولايات المتحدة والصين، والمقاربة المطروحة من الجانبين في ظل الاستقطاب الراهن، وكيفية تقدير المملكة لمصالحها الوطنية وتحديد خياراتها بناءً على ذلك، فإن الدراسة ستنقسم إلى المحاور الآتية:
أولًا: السعودية وتحولات العلاقة مع القطبين الأمريكي-الصيني
ثانيًا: علاقات متقدمة مع الصين ومبادرة أمريكية لاستعادة النفوذ
ثالثًا: الموازنة السعودية لمصالحها مع القطبين
أولًا: السعودية وتحولات العلاقة مع القطبين الأمريكي-الصيني
اعتمدت واشنطن استراتيجية المنافسة الاستراتيجية على الصعيد الدولي، وامتد تأثير هذه المنافسة إلى الشرق الأوسط، وكانت السعودية إحدى الدول التي وقعت تحت تأثير هذا الاستقطاب، ويمكن ملاحظة تأثير هذا الاستقطاب على علاقات السعودية بكلٍ من الولايات المتحدة والصين على النحو الآتي:
1. مصالح متأرجحة مع الولايات المتحدة
تأسست علاقة الولايات المتحدة والسعودية على عدة مصالح أساسية في مقدمتها المصالح الأمنية بالنسبة للسعودية، والتي ترتب عليها في هذا الصدد إرثٌ طويل من التعاون والتنسيق رفيع المستوى، فهناك تعاون واسع النطاق في المسائل الأمنية والاستخباراتية، وقد تمتعت المملكة تاريخيًا بضمانات أمنية من الولايات المتحدة، وخاصةً ضد إيران وغيرها من الخصوم الإقليميين، إضافةً إلى ذلك ما تزال واشنطن بالنسبة للمملكة المصدر الرئيسي للسلاح، ولطالما اعتبرت الرياض أنه لا توجد دولة غير الولايات المتحدة، تمتلك الأصول العسكرية المنتشرة بالمنطقة ولا الاستعداد لتقديم هذه الضمانة الأمنية والدفاعية للمملكة أو دول المنطقة بما في ذلك الصين[1].
أما الركيزة الثانية للعلاقات فكانت الارتباط الوثيق على الجانب الاقتصادي منذ اكتشاف مخزون النفط على الأراضي السعودية وربط بيعه بالدولار فيما يعرف باتفاق البترودولار، حيث تكرَّست مصلحة اقتصادية هائلة بين الجانبين، وإلى حدٍ بعيد، لا يزال الاقتصاد السعودي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالولايات المتحدة، وتستفيد السعودية من استثمارات ضخمة للشركات الأمريكية بالأخص في قطاع النفط، حيث تحافظ شركات الطاقة والبتروكيماويات الأمريكية على حضور مكثَّف في قطاع الطاقة السعودي، وتتمتَّع الولايات المتحدة بشراكات بمليارات الدولارات مع اثنتين من أكبر الشركات في المملكة العربية السعودية، أرامكو وسابك، وخلال العام 2023 أعلنت الشركات الأمريكية في مؤتمر التكنولوجيا في الرياض عن استثمارات جديدة تزيد عن 3.5 مليار دولار، كما أبرمت بوينغ مؤخرًا صفقةً مع المملكة العربية السعودية تقدر قيمتها بنحو 37 مليار دولار، وبين عامي 2017 و2023 استثمر صندوق الاستثمارات العامة السعودي أكثر من 100 مليار دولار في الولايات المتحدة الأمريكية[2].
بالإضافة إلى ذلك ما تزال الولايات المتحدة مصدرًا مهمًا للتكنولوجيا بما في ذلك تقنيات الطاقة الشمسية والهيدروجين الأخضر والطاقة النووية وغيرها من تقنيات الطاقة النظيفة، وكوجهة علمية فإن الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ترتبطان بعلاقات ثقافية وتعليمية طويلة ومتينة، إذ إن أكثر من 18000 طالب سعودي يدرسون حاليًا في الجامعات الأمريكية وتخرَّج ما يقدَّر بنحو 700,000 من المؤسسات الأمريكية على مدى العقود الخمسة الماضية، كما تساهم برامج التبادلات التعليمية والمهنية والثقافية والرياضية بين الشعبين، مثل برنامج القيادة للزائر الدولي وبرامج الزائر الرياضي وبرامج المبعوث الرياضي في هذه الوشائج الوثيقة.
ومع أن العلاقات ممتدة إلى مجالات ثانوية أخرى، فإن هذا الإرث الكبير من التعاون تعرَّض لاختبار عميق لا سيما على جانبه الأمني، وذلك بعدما خرج الشرق الأوسط من الأولويات الاستراتيجية الأمريكية، وهو الأمر الذي ترتَّب عليه خفض وجودها ونقل أُصولها إلى منطقة جنوب شرق آسيا والمحيط الهندي لمواجهة الصين، وفي الوقت نفسه لم تتلقَّ السعودية التعاون الأمني المتوقَّع في مواجهة التحديات، بل فرضت واشنطن عقوبات على تسليم أسلحة متطورة للمملكة، وضغطت عليها بشأن حرب اليمن، وهو ما أفقدَ الرياض الثقة في واشنطن كشريك استراتيجي.
وقد سبق هذا التراجع سلسلة من المواقف التي عمَّقت من فجوة الثقة لدى الرياض، إذ وظفت الولايات المتحدة بعض القضايا المزعومة كحقوق الإنسان وتمويل الإرهاب كورقة ضغط على المملكة، الأمر الذي فرضَ على العلاقة بعض التعقيدات وتسبَّب في تسرب قدرٍ كبير من انعدام الثقة في الولايات المتحدة كشريك، كما أن الأجندة الأمريكية في المنطقة، والتي انطلقت في عهد بوش الابن وانتهت بأحداث الربيع العربي وعدم الاستقرار الإقليمي الذي أعقبها، كان مثار سخط من جانب المملكة وتهديد أساسي لاستقرارها وسيادتها.
كذلك فإن نهج الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما تجاه إيران وتوقيع الاتفاق النووي والتسامح مع اتساع نطاق نفوذها الإقليمي وتدخلها في بعض دول المنطقة وتهديد الأمن والاستقرار وخلق قوس من الأزمات محيط بالمملكة، قد أسهم في فقدان الثقة بواشنطن كحليف أمني، ورغم أن ترامب حاول ترميم العلاقات والخلافات وعدَّل من سلوك واشنطن تجاه المملكة، لكن سلوكه كان انتهازيًا ولم تكن توجهاته في جوهرها تعكس تغييرًا استراتيجيًا، ولا شك أن انكشاف مظلة الحماية الأمريكية عن المنطقة، وتخليها عن حليفتها الاستراتيجية السعودية، في أكثر من مناسبة، زادَ من شكوك الرياض في مدى موثوقية الضمانات الأمنية الأمريكية، والشاهد على ذلك تخليها عن الدفاع عن المملكة ضد الهجمات التي شنَّها الحوثيون على مصافي النفط السعودية في عام 2019.
وأخيرًا كان تولي بايدن لمنصب الرئاسة إيذانًا بدخول العلاقات في مرحلة حرجة، حيث تدهورت العلاقات إلى حدٍ بعيد، واتَّضح أن هناك تخليًا أمريكيًا عن حليفها الاستراتيجي على الرغم من المصالح المشتركة في عديد المجالات، وحاولت إدارة بايدن الضغط على المملكة من أجل تبني سياسة نفطية محددة، ولم تراعِ واشنطن في هذا المجال مصالحَ السعودية الحيوية في سوق نفطٍ مستقر، وسعرٍ متوازن لصالح المنتجين والمستهلكين على السواء.
ولا يخفى أنه في أعقاب ثورة الغاز الصخري، انخفضت واردات النفط الأمريكية من المملكة العربية السعودية خمسة أضعاف بين عامي 2012 و2022، وحلَّت الصين كأكبر مستوردٍ للمنتجات النفطية من المملكة، الأمر الذي كان قد أخرج ملف الطاقة من حسابات واشنطن في الشرق الأوسط، لكن بعد الحرب الأوكرانية عاد ملف الطاقة كقضية ضمن أجندة واشنطن في المنطقة، وقد عكس رفض المملكة طلبَ الولايات المتحدة زيادةَ إنتاجها من النفط من أجل خفض الأسعار التي ارتفعت بعد الحرب الروسية على أوكرانيا مدى الفجوة التي باتت بين السعودية والولايات المتحدة، ناهيك عن أن موقف الرياض من الأزمة لم يكن مرضيًا بالنسبة لواشنطن، وهي التي طالما تلقَّت تأييدًا مطلقًا من الرياض على مواقفها.
وهكذا اتَّضح أن الولايات المتحدة وصلت إلى قناعات مفادها ضرورة تأهيل المنطقة للتعامل مع مشاكلها لخفض العبء غير الضروري على واشنطن، والتركيز على المستجدات في بحر الصين الجنوبي.
2. رغبة سعودية-صينية في الشراكة وملء الفراغ
بينما كانت تمر العلاقات السعودية-الأمريكية بمرحلة من عدم الثقة وغياب التفاهم، شهدت السياسة الخارجية السعودية تحولات عميقة وتغييرات جذرية، حيث ترك ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بصمتهُ على توجهاتها خلال السنوات الأخيرة، وربما واحدة من المعضلات التي نجح الأمير في معالجتها هي اتخاذ التدابير المناسبة لتحرير سياسة المملكة من القيود التاريخية المتوارثة، ومن الانضواء تحت تحالفات غير مرنة، بل الأخذ بزمام المبادرة والاستعداد لتغيير في المنطلقات والأدوات وتكييف السياسة الخارجية لمواكبة المستجدات، وذلك ضمن إطار مؤسسي رفيع ينسِّق بين متطلبات الداخل والخارج وعلى كافة المستويات، مع تقديم المصلحة الوطنية السعودية على أي اعتبار.
من منظور واقعي ورؤية متكاملة لأجل تعزيز مكانة المملكة وريادتها، تبنَّت السعودية سياسةً خارجية تقوم على تنويع الشراكات، وتحقيق قدرٍ كبير من الاستقلالية في تحديد مصلحتها وأولياتها بما يخدم مصالحها الوطنية، وعدم التقيد بأجندة أيٍ من القوى الكبرى، والبُعد عن سياسة المحاور والاستقطاب التي تمارسها القوى الدولية، وتعزيز الاستقرار الإقليمي كرافعة للتنمية والتعاون، وخلق مسارٍ متوازن دون الوقوع في فخ الاستقطاب الراهن.
ولا يخفى على أحد أن الفراغ الذي تركته واشنطن خلفها في الشرق الأوسط، والقناعة التي ترسَّخت لدى الرياض بأنَّه لا يمكن لها الاعتماد التام على دعم الولايات المتحدة ووجودها في المعادلة الإقليمية بعد أن قرَّرت نقل أصولها إلى منطقة شرق آسيا لحصار النفوذ الصيني المتصاعد على الصعيد العالمي، كان عاملًا حاسمًا في إعادة الرياض وجهة نظرها في نهجها الخارجي، إذ كانت السعودية أكثر القوى الإقليمية التي تضرَّرت من تقلبات سياسة واشنطن خلال السنوات الأخيرة، وأكثر القوى التي أزعجها إملاءات واشنطن، وسياساتها الإقليمية التي أفسحت المجال لإيران من أجل تهديد الأمن والاستقرار الإقليمي، كما أن المملكة ربما أرادت أن ترسل من خلال نهجها الخارجي الجديد رسالةً مفادها أن هناك بدائل وهناك تكلفة كبيرة للتضحية بالعلاقات مع المملكة لتحقيق توازنات أخرى.
وكما كان هو حال المملكة فإن الصين، التي أصبحت تواجه ضغوطًا في بيئتها الإقليمية نتيجةَ الاستراتيجية الأمريكية، وبدأت ترسم ملامحًا لنهج خارجي جديد لنقل المنافسة مع الولايات المتحدة إلى مناطق خارج مجالها الحيوي؛ وبالتالي التقت رغبة بكين والرياض في المضي قدمًا على طريق تطوير العلاقات، وفي هذا الإطار جاءت الزيارات المتبادلة بين الجانبين، وأبرزها زيارة الرئيس الصيني التاريخية وغير المسبوقة إلى السعودية في ديسمبر 2022، والتي انتقلت بعدها العلاقات إلى طور جديد وهو الشراكة الاستراتيجية الشاملة، بل فتحت هذه الزيارة أمامَ الرئيس الصيني الباب لعلاقات أكثر عمقًا مع دول الخليج والدول العربية ككل، وكانت فرصةً لدفع مشروعات الصين العملاقة، حيث تعتبر الصين المملكة ذات موقع جيوسياسي له أهمية خاصة في إطار مشروع الحزام والطريق، باعتبارها جغرافية تصل طموح الصين بأفريقيا غربًا وأوروبا شمالًا، وكان كذلك فرصة لاختبار استراتيجية ملء الفراغ ردًا على استراتيجية الولايات المتحدة في إشغال الصين بالأزمات بمحيطها الإقليمي.
وبينما اعتبرت الصين أن الذهاب إلى الشرق الأوسط هو ردٌ مناسب على التحرك الأمريكي بما في ذلك الضغط على بكين من خلال ورقة تايوان وغيرها من الأوراق في المنطقة، فإن السعودية اعتبرت أن الشراكة مع الصين تخدم مصلحتها وتطلعاتها وخططها الوطنية وتعلي من خياراتها وتوازناتها بين القوى الدولية، حيث راهن البلدان على تحول العلاقات السعودية-الصينية من هيكل محدد قائم على النفط والتبادل التجاري إلى شراكة أكثر شمولاً تتضمن مشاريع البنية التحتية ونقل التكنولوجيا المتقدمة، بل طال التعاون مجالي الأمن والدفاع[3].
ويمكن القول إن هذه التحركات أثمرت عن نتائج إيجابية عزَّزت الثقة بين الجانبين ودفعت التعاون الصيني-السعودي قدمًا على صعيد التعاون الاقتصادي والتكنولوجي والسياسي ومنحنه مزيدًا من الزخم والفاعلية، وهو الأمر الذي مهَّد لوساطة تاريخية قامت بها الصين بين السعودية وإيران، حيث دفع دخول بكين على خط المحادثات التي كان يقودها العراق من أجل إعادة العلاقات وتهدئة التوترات بين الرياض وطهران نحو إبرام اتفاق بين طهران والرياض، وبموجبه تمت استعادة العلاقات بين الجانبين في مارس 2023، ومن ثم الدفع نحو مبادرة رائدة لتحقيق الاستقرار الإقليمي، وخلق إطار التفاهم بين إيران ودول المنطقة بدلًا عن المواجهة والتصعيد.
وقد مثَّلت الخطوة الصينية اختراقًا مهمًا في الشرق الأوسط، لأنها قدَّمت مقاربةً أمنيةً رائدة، راهنت من خلالها على إيجاد ثغرة في منظومة العلاقات المرتبطة بواشنطن في المنطقة، وتحديًا لمنظور واشنطن الأمني القائم على خلق هياكل أمنية متنازعة تدير من خلالها مصالحها وتكيف نفوذها، ومن ثم منح الاتفاقُ الصينَ فرصةً أكبر من أجل تعزيز نفوذها وحضورها، فضلًا عن جني عوائد هذا الاستقرار من خلال دفع مزيد من الاستثمارات والشراكات مع دول المنطقة، وهو ما يتَّفق مع مبادرات الرئيس الصيني العالمية على الصعيد الأمني والاقتصادي والتي يرغب من خلالهما مزاحمةَ الولايات المتحدة في قياداتها الدولية.
هكذا بدا التطور الذي طرأ على العلاقات السعودية-الصينية كبداية لعهد جديد من الثقة المتبادلة، والمصالح المشتركة المتزايدة خلال السنوات الأخيرة، وفي الوقت نفسه إعادة للتموضع في إطار الترتيبات الدولية والإقليمية في المرحلة الانتقالية الراهنة، ورهان مشترك على المصالح الحيوية للجانبين ويدفعها قدمًا، كما أنه رهان على ترتيبات أمنية تدفع الأمن والاستقرار الإقليمي، الأمر الذي يضمن تدفُّق مصالح البلدين، لا سيما على الصعيد الاقتصادي والتبادلات التجارية، وتأكيد المكانة الدولية.
ثانيًا: علاقات متقدمة مع الصين ومبادرة أمريكية لاستعادة النفوذ
تطورت علاقات السعودية بالصين، وترتَّب على ذلك جملة من المصالح التي باتت حيويةً بالنسبة للرياض، وهذا التقارب أزعج واشنطن، وتخوَّفت من تأثيراته الجيوسياسية، وبدا أنها مصممة على قطع الطريق على هذا التعاون المتنامي؛ وبالتالي طرحت مبادرةً جديدة لشرق أوسطٍ يخدم مصالحها، ويمكن توضيح مصالح المملكة المتنامية مع الصين، وما هو مطروح أمريكيًا على السعودية من أجل تقييد هذا العلاقة، وذلك على النحو الآتي:
1. مصالح سعودية متنامية مع الصين
العلاقات السعودية-الصينية علاقات تاريخية وممتدة، وبينهما مصالح عديدة تعزَّزت بعد تطوير العلاقات إلى شراكة استراتيجية، والاقتصاد هو أكثر هذه المصالح حيويةً، إذ تعتبر الصين أهم شريك اقتصادي دولي للمملكة، وذلك باعتبارها أكبر عميل لصادرات الهيدروكربونات، حيث تستورد أكثر من 50٪ من نفطها من دول مجلس التعاون الخليجي و18٪ يأتي من المملكة العربية السعودية وحدها، وبهذه النسبة تحتل المملكة المرتبة الثانية بين موردي النفط إلى بكين، وذلك بعد روسيا التي حلَّت في المركز الأول بعد السعودية منذ العقوبات الغربية على صادرات النفط الروسية[4].
كذلك تعتبر السعودية شريكًا مهمًا للصين في مبادرة الحزام والطريق، حيث دخلت المملكة في شراكة مع شركات صينية في مشاريع البنية التحتية التي تخصُ المبادرة بما في ذلك الموانئ والسكك الحديدية فائقة السرعة والطرق والمناطق الصناعية في منطقة الخليج وعلى سواحل البحر الأحمر، وفي النصف الأول من عام 2022، تلقَّت المملكة العربية السعودية 5.5 مليار دولار من الاستثمارات والعقود من خلال مبادرة الحزام والطريق الصينية، وهكذا تعتبر السعودية ثاني أكبر متلقٍّ للاستثمار الصيني في مبادرة «الحزام والطريق» عالميًّا.
والأهم بالنسبة للمملكة هو شراكتها التكنولوجية المتنامية مع الصين، والتي بفضلها عملت المملكة على تعزيز البنية التحتية الرقمية والتكنولوجيا الجديدة، ولا سيما الذكاء الاصطناعي، والتحول الرقمي، وشبكات الجيل الخامس وتطبيقات المدن الذكية ومراكز البيانات السحابية الكبيرة، ويشار هنا إلى أن شركة هواوي أطلقت في سبتمبر 2023 “منطقة سحابية” جديدة في الرياض تهدف إلى دعم الخدمات الحكومية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وما يزال هناك خبراء من أصول صينية على رأس مؤسسات وشركات تهتم بأبحاث الذكاء الاصطناعي في السعودية، وتتبنَّى السعودية مبادرةً لتعليم اللغة الصينية في المدارس لتعميق التعاون بين الجانبين رسميًا وشعبيًا.
يشمل التعاون بين الجانبين كذلك مجالات المعادن النادرة وسلاسل التوريد والسيارات الكهربائية والطاقة المتجددة، وأمن الطاقة العالمي، وفي هذا الإطار وقَّع البلدان عشرات الاتفاقيات المتعلِّقة بالطاقة الهيدروجينية وتصنيع المركبات الكهربائية وتكنولوجيا المعلومات، ويشار هنا إلى استحواذ صندوق طريق الحرير الصيني على حصة 49% في شركة الطاقة المتجددة السعودية أكوا باور، التي تُعد ذراعًا استثماريًا رئيسيًا للمملكة في مشاريع الطاقة المتجددة بجميع أنحاء المنطقة وخارجها، وهكذا تحتاج السعودية إلى الصين في دعم جهودها لتنويع اقتصادها استعدادًا لمرحلة ما بعد النفط الأحفوري[5]. كما وقَّعت شركة هندسة الطاقة الصينية عقدًا بقيمة 6.98 مليار يوان (972 مليون دولار) لبناء محطة للطاقة الشمسية في المملكة العربية السعودية، وهو ما يمثِّل أحدث حلقة في سلسلة من صفقات الطاقة المتجددة بين الصين والسعودية[6].
وبعد أن خفَّضت الولايات المتحدة من مبيعات أنظمة دفاعية للمملكة تزايد التعاون بين الرياض وبكين في هذا المجال، فمنذ عام 2017 تعاونت المملكة مع الشركات الصينية في تطوير وتصنيع الطائرات العسكرية بدون طيار والصواريخ البالستية، وتزايدت مشتريات السعودية من الأسلحة الصينية في إطار تنويع مصادر تسليحها، حيث حصلت المملكة على حصة كبيرة من المسيَّرات القتالية الصينية (CH4)، و(Wing Loong)، كما وقَّع الجانبان على شراكة لتصميم وتصنيع طائرات بدون طيار أخرى ونقل تقنيتها إلى المملكة، كذلك شهدت المعارض الدفاعية السعودية مطلع العام 2024 حضورًا لافتًا للشركات الصينية مقارنةً بالمشاركة الأمريكية، وبحسب تقارير أمريكية فإن السعودية اتَّجهت لتصنيع صواريخ بالستية محليًا بمساعدة صينية، ناهيك عن أن تقارير أخرى أفادت بأن الرياض وبكين وقَّعتا عدَّة اتفاقيات تتعلَّق بالتعاون النووي المدني، ومن المتوقَّع أن تتزايد مجالات التعاون؛ إذ خلال زيارة الرئيس الصيني وقَّع البلدان اتفاقيات شراكة بقيمة 30 مليار دولار[7].
ومع أن الصين لا يُنظَر إليها كمزود أمني في الشرق الأوسط، لكنها منذ 2017 أصبح هناك مؤشرات على تنامي الحضور الأمني للصين في المنطقة، إذ منذ ذلك الحين أنشأت قاعدةً بحرية لها في جيبوتي، وهي أول قاعدة بحرية للجيش الصيني خارج الحدود، وأعقب ذلك زيارات متكررة للبحرية الصينية للموانئ في المنطقة، وكذلك تدريبات بحرية مشتركة مع دول المنطقة ومن بينها السعودية، ففي أكتوبر 2023، شاركت البحرية السعودية والصينية للمرة الثانية في تدريبات مشتركة تحت راية السيف الأزرق، والتي أُقيمت في تشانجيانغ بمقاطعة قوانغدونغ[8]، وامتدَّ التعاون لاستضافة وزارة الدفاع بالمملكة مسؤولين عسكريين لتبادل الخبرات.
لكن الأهم من ذلك أن الصين لأول مرة تلعب دورًا في الصراعات الإقليمية، حيث توسَّطت بين إيران والسعودية، ونجحت في إنهاء القطيعة بين الجانبين؛ وبالتالي أسهمت جهودها في ضبط سلوك إيران، وضمان التزامها ببنود الاتفاق، ومن ثم فإن الصين مهمةٌ لدعم سياسة المملكة المتعلِّقة بالتهدئة والاستقرار الإقليمي، فضلًا عن تسوية القضايا الخلافية مع إيران، والسيطرة على تطلعات إيران وتدخلاتها بما قد يضر بمصالح المملكة واستقرارها.
وفي إطار مصلحة المملكة في تعزيز حضورها الدولي، فإن الصين رحَّبت بمبادرات المملكة من أجل الحصول على عضوية بعض المنظِّمات متعدِّدة الأطراف، كمنظَّمة شنغهاي للتعاون ومنظَّمة بريكس وذلك في إطار تطلعات المملكة للانفتاح على العالم وقواه ونماذجه المختلفة، وهو مسار تحاولُ من خلاله المملكة أن تصبح فاعلًا دوليًا وإقليميًا، وإثبات نفسها كقوّة جديدة صاعدة، ضمن نظام عالمي قيدَ التشكُّل، استنادًا إلى تنامي التأثير الجيوسياسي وحرِّية الحركة المتاحة لها، وممارسة سياسة خارجية واقعية نتيجةَ التحرُّر من الانتماءات والإملاءات الأيديولوجية، والاحتفاظ بسياسة غير منُحازة إلى أيٍّ من القوى الدولية المتصارعة، بل توظيفها الصراع الراهن في المناورة وتعزيز المكانة والتأثير.
2. مراجعات أمريكية للاحتواء واستعادة النفوذ
كانت الولايات المتحدة تنظُر بترقب إلى تحركات الصين الإقليمية، ودور المملكة في فتح الطريق أمام الصين لتمديد حضورها في الشرق الأوسط؛ لهذا أكَّد بايدن أمام الزعماء العرب في قمة جدة في 2022 أن الولايات المتحدة لن تغادر الشرق الأوسط، وقال “لن نبتعد ونترك فراغًا لتملأه الصين أو روسيا أو إيران.. الولايات المتحدة لن تذهب إلى أي مكان”، وقد عزَّزت الحرب الروسية على أوكرانيا من مخاوف واشنطن ولفتت انتباهها إلى خطأها الاستراتيجي في تقدير مدى أهمية المنطقة والسعودية بالنسبة لمكانتها ودورها على الصعيد العالمي، لا سيما ما يتعلَّق بالتنسيق الدبلوماسي، والسياسات النفطية، كما أثارت الولايات المتحدة أن السعودية لم تعُد تشعر بأنَّها مقيَّدة بأجندة واشنطن الدبلوماسية والأمنية، في المنطقة والعالم، وهو ما تجلَّى في رفض المملكة للضغوط الأمريكية بعد الحرب الروسية على أوكرانيا من أجل زيادة إنتاجها من النفط.
كما نظرت الولايات المتحدة إلى التوجُّهات السعودية، خصوصًا تجاه إيران والصين، على أنَّها خصمٌ من رصيدها خصوصًا ما يتعلَّق بمكانتها الدولية. فبعدما توافقت سياسة المملكة لعقود تجاه إيران مع سياسة الولايات المتحدة، فإنَّها اتّخذت قرارًا براجماتيًا مفاجئًا بعقد اتفاق لتطبيع العلاقات مع إيران، وكان الاتفاق في جوهره لا يتوافق مع المفهوم الأمريكي للأمن الإقليمي، إذ كانت الولايات المتحدة تسعى إلى الحفاظ على تأثيرها عبر تنسيق أمني أوسع في المنطقة يضُم إسرائيل، من أجل مواجهة خطر إيران.
وجاءت حرب غزة والهجمات التي قام بها حلفاء إيران الإقليميين على القوات الأمريكية في عدَّة جبهات كإثبات لخطأ واشنطن الاستراتيجي بالانسحاب من المنطقة، حيث اضطرَّت لمراجعة خططها، وأعادت قواتها وأصولها العسكرية إلى المنطقة، لكن بتنسيق أقل مع الحلفاء وهو ما ظهرَ من موقف المملكة على سبيل المثل من عدم المشاركة في تحالف حارس الازدهار لتأمين التجارة في البحر الأحمر، حيث كان هذا واحدًا من المؤشرات على تأزُّم علاقة الولايات المتحدة بأهم حلفائها وتباين المقاربات بينهما.
وكذا أصبحت واشنطن مضطرةً إلى إعادة النظر في علاقاتها مع السعودية لأنها باتت في موقع ومكانة تتيح لها التأثير في المشهد العالمي مستقبلًا، واكتساب هامش من الاستقلالية والإرادة الحرَّة في ظلّ المنافسة الأمريكية-الصينية على المنطقة، وذلك من خلال الاستفادة من مكانتها في قطاع الطاقة والاقتصاد بطُرُق مختلفة في المرحلة المقبلة. بل مع تحوّل العالم نحو الطاقة المتجدّدة، تضاعفت أهمية السعودية، لأن جهود حكومتها تركّز بشكل أساسي على قطاعات التكنولوجيا، بالتوازي مع الاستفادة من ثروتها لتمويل مشروعات الطاقة المراعية للمناخ ومبادرات الاقتصاد الأخضر الأخرى في جوارها وحول العالم. ومن أبرز معالم إعادة واشنطن تقييمها لعلاقاتها مع المملكة كان تزويد الرياض بأسلحة وذخائر متطورة كانت قد حظرتها منذ عام 2017[9].
ليس هذا وحسب بل بعدما انتشرت في المنطقة شبكات للوجستيات والنقل والطاقة، وأصبحت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مركز شبكات التجارة العالمية، سواءً بفضل المسارات القديمة، مثل قناة السويس، أو تلك الجديدة والمقترحة، فضلًا عن لعب موانئ المنطقة ومطاراتها دورًا موسّعًا في الشؤون الدولية، فإن كل ذلك زادَ من أهمية الموقع الجيوسياسي والتجاري للمملكة[10].
من هذا المنطلق حاولت الولايات المتحدة احتواءَ خلافاتها مع المملكة وأجرت حوارًا استراتيجيًا منذ مطلع العام 2023، وعلى طاولة الحوار وضعت واشنطن منظورها للأمن الإقليمي والذي تأسَّس على دخول السعودية في اتفاق لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وإنشاء تحالف دفاعي أمني متكامل في الشرق الأوسط يضم إسرائيل وتقوده الولايات المتحدة، وفي مرحلة متقدمة من الحوار طرحت واشنطن مشروع الممر الدولي الهند أوروبا، والذي يمر عبر الشرق الأوسط وتحديدًا من الإمارات والسعودية، وهي مبادرة هدفها الأساسي إضعاف نفوذ المبادرة الصينية الحزام والطريق، لكن ربطت السعودية هذا المنظور بمطالب خاصةً توفير ضمانة أمنية استراتيجية ومستدامة على غرار شراكة واشنطن مع اليابان لمعالجة مخاوفها واستعادة الثقة في الولايات المتحدة كحليف، وكذلك طلبت الرياض مشروع بناء محطة لإنتاج الطاقة النووية قادرة في الوقت نفسه على تخصيب اليورانيوم، لدعم قطاع الطاقة ومن أجل موازنة المشروعات النووية الإقليمية في إيران وإسرائيل، ناهيك عن وضح تصور لتسوية القضية الفلسطينية[11].
لا شك أن المنظور الأمريكي حركته الرغبة في استعادة النفوذ الإقليمي، وفي الوقت نفسه قطع الطريق على النفوذ الصيني المتنامي وتقييد علاقة الصين بأهم قوة إقليمية وهو السعودية، إذ يشار إلى أن واشنطن تسعى لإبقاء الرياض على التعامل بالدولار في التداولات النفطية وعدم بيعها نفطها للصين بالعملة الصينية وهي اليوان، وكذلك وضع قيود على تطوير علاقاتها التجارية مع الصين تحديدًا في المجال التقني.
ثالثًا: الموازنة السعودية لمصالحها مع القطبين
من الواضح أن المملكة ترغب في الاحتفاظ بالعلاقة المتطورة مع كلٍ من الصين والولايات المتحدة، مع تفادي الاستقطاب؛ وذلك في إطار الدفاع عن مصلحتها الوطنية، ويمكن توضيح مصفوفة المصالح السعودية مع القطبين وتقاطعاتها، وكذلك نهج المملكة المتوقع ومكتسباتها، والتحديات المحتملة على النحو الآتي:
1. نهج متوقع
يمثِّل الحفاظ على نهج متوازن في العلاقة مع كلٍ من بكين وواشنطن مصلحةً حيويةً للمملكة، ينبع من تقدير للذات على صعيد الممكنات أو المكانة التي ترغب المملكة في تبوئها، وهذا المسار يبدو أنه من الصعب التخلي عنه، لأنه مبنيٌ على أساس راسخ، ومستمدٌ من مبادئ باتت بمثابة عقيدة خارجية للمملكة على الصعيد الدولي، وهي تنويع الشراكات والاستقلالية ورفض الاستقطاب.
يعزز هذا النهج أن السياسة الخارجية السعودية اتَّسمت خلال السنوات الأخيرة بالواقعية والبرجماتية معًا، كما اتَّسمت بالاستمرارية وتُحركها المصلحةُ الوطنية، ضف إلى ذلك اكتساب صانع القرار السعودي مناعةً في مواجهة القوى الخارجية؛ لأن السياسة باتت معززةً بشرعية وتأييد داخلي واسع النطاق، لا سيما في ظل المشروع الوطني الطموح والنجاح في إحداث نقلة تنموية نوعية، ووضع المملكة في مرتبة متقدمة على كافة الأصعدة.
التقدير السعودي للعلاقة مع واشنطن أنه لا يجب أن يكون على حساب بكين والعكس، فمن جهة واشنطن ليس من مصلحة الرياض فك الارتباط بالكلية مع الولايات المتحدة، فهذا ليس ممكنًا؛ لأن هناك مصالح حيوية تحكم العلاقات، وهذه المصالح تتسم بالحيوية والديمومة والتكامل، فالولايات المتحدة ما تزال مزودًا أمنيًا مهمًا وشريكًا دفاعيًا في الإقليم، ومصدرًا لا غنى عنه للسلاح، وفيما يبدو أن الولايات المتحدة تطرح مبادرتها من أجل استرضاء المملكة ومعالجة مخاوفها الأمنية، ولكن لا يعني ذلك أن الرياض ترغب في العودة إلى نمط العلاقة التاريخي الذي وقفت فيه خلف واشنطن، بل إنها ترغب في ضبط العلاقة وإعادة تشكيلها على أُسس متوازنة ومصالح متبادلة.
في الوقت نفسه فإن الرياض لا تبدو عازمةً على خسارة بكين لصالح واشنطن؛ لأن نهج المملكة تجاه الصين لم يكن بقصد النكاية والانتقام من واشنطن، ولكن كان انعكاسًا للواقع داخل المملكة وتوجهات قيادتها والمبادئ الجديدة التي أرستها لدورها على الصعيد الدولي، وقراءة للواقع الدولي وحضور الصين اللافت وصعودها وإمكانية الاستفادة من التعاون معها في مختلف المجالات، لا سيما أن منظور الصين يبدو تنمويًا شاملًا، وهو ما يتناسب مع رؤية المملكة 2030؛ وبالتالي يمكن دمج مشروع الرؤية من مبادرات الصين الرائدة بما في ذلك مبادرة الحزام والطريق.
وجديرٌ بالذكر القول إن السعودية بنت علاقةً متينة مع روسيا والصين، وهي علاقات ليست عابرة، وربما يمثل التراجع عنها خصمًا من صورة المملكة ومن موثوقيتها ومكانتها؛ لهذا فإنها لن تتراجع عن هذه العلاقة تحت أي ضغوط أو إملاءات، والمملكة ترغب في أن تكرِّس من خلال هذه الجهود لسياسة خارجية جديدة مقبولة من الجميع، والأهم أن كافة الأطراف بحاجة إلى المملكة كشريك سياسي واقتصادي لا غنى عنه إقليميًا ودوليًا؛ وبالتالي فإن هناك توازنًا ممكنًا لعلاقات متبادلة ومتوازنة.
ولا شك أن المملكة لديها الرغبة في الاستفادة من علاقة بناءة مع القطبين الدوليين، حيث لا ترغب المملكة أن تكون طرفًا في أي استقطاب، ولا ترغب في أن تكون طرفًا في أي حرب باردة إقليمية لصالحهما، لا سيما أن المملكة نجحت عبر الصين في نقل علاقاتها مع إيران من مربع الصراع إلى مربع التهدئة، وإدارة الخلافات، ويبدو البلدان حريصان على نمط جديد من العلاقة قد لا يرقى إلى التعاون ولكنه لن يصل إلى المواجهة، إذ تلعب الصين دورَ ضامن لهذا الاتفاق، وهذا التوجه ينسجم مع مصلحة الرياض في التهدئة الإقليمية وعدم خلق محاور متصارعة تستهلك جهدها ومواردها وتعرقل مشروعها التنموي الطموح.
كذلك باتت المملكة على قناعة بأهمية وجود توازن في هيكل القوة العالمي، لا سيما أن المملكة ترى أن غياب التوازن والعودة للمنافسة أضر بالأمن والسلام العالمي وأشعل الصراعات والحروب، وأن المنظومة الغربية عليها مآخذٌ فيما يتعلَّق بالأجندة التي يحاول الغرب فرضها على دول العالم، والتي كانت سببًا في كثير من الأزمات، وفي المقابل فإن المنظومة الشرقية الصينية والروسية ليس لديها هذه الأجندة، ولا تحاول أن تفرض شروطها على الدول، وتحترم سيادة الدول، ولا تتدخَّل بشؤونها الداخلية، ناهيك عن أن بعضًا من مصفوفة القيم الغربية الحديثة تتعارض مع مصفوفة القيم الإسلامية التي تتبنَّاها المملكة، ومن ثم فإن خلق علاقة متوازنة مع الأقطاب فضلًا عن أنها تمنح المملكة قدرةً على مواجهة الضغوط والإملاءات وتوفير البدائل وأوراق الضغط المناسبة لتحقيق مصالحها، فإنها تعزز دورها كوسيط مقبول لدى الجميع، بل إنها مستدعاةٌ للعب هذا الدور.
من بين الاعتبارات التي تضعها المملكة بالاعتبار في أهمية موازنة علاقتها مع الأقطاب الدولية هو رغبتها في تحصين نفسها من تقلبات الغرب ونهجه المتوسع في استخدام العقوبات ضد خصومه بل وبعض حلفائه، والشاهد على ذلك مصادرة الغرب للأُصول الروسية واستخدامها لتمويل أوكرانيا في الصراع، حيث إن الغرب بدا وكأنه مستعدٌ للسيطرة على الأصول والأرصدة في حالات الخلاف بل واستخدامها لتشغيل آلة الحرب ضد أصحابها، بدلًا من اللجوء إلى القانون الدولي.
كما أن المملكة مقبلةٌ على إنجازات ومشاريع كبيرة وترغب في كسب الجميع للمشاركة فيها مثل تنظيم معرض إكسبو، وتنظيم كأس العالم، والرياضات الشتوية، ومشاريع سياحية كبرى، وغيرها من الأنشطة، وليس من مصلحتها الدخول في استقطابات تُعيق نجاح المشاريع المستقبلية التي تعولُ عليها كثيرًا.
2. مكتسبات وتحديات محتملة
بالنظر إلى التوازنات الراهنة بين القوى الدولية، فإن المنافسة العالمية تُتيح مجالًا للمناورة ومساحات لحرية الحركة أمام صانع القرار السعودي، كما أنها تعزز مكانتها وأهميتها بالنسبة لهذه القوى، وإمكانية الدخول في تحالفات متعددة الأطراف بما يخدم المشروع الوطني السعودي، كما يوفر لها بدائل وشركاء ومصادر متنوعة للسلاح، ويمنحها أوراقًا في مواجهة الضغوط، كما تسهم هذه الموازنة في خدمة مشروع التنمية ورؤية 2030، وقد نجحت المملكة من خلال تنويع شراكتها في إرسال رسالة واضحة بأنها، بعكس التصور الأمريكي، يمكن أن تخلق مسارها الخاص في العلاقات الدولية متعددة الأطراف بما يخدم مشروعها ومصالحها الوطنية، وقد ظهر أثر ذلك في مراجعة الولايات المتحدة لموقفها من المملكة، وفي طرح مبادرات جديدة للتعاون ومحاولة معالجة مخاوف السعودية والكف عن سياسة الضغوط والإملاءات، وهو ما يجعل خيار التوازن أنسب لمصالح المملكة.
لكن يبقى خيار السعودية في الدفاع عن مصلحتها في علاقة متوازنة يواجهُ تحديات رئيسية، إذ أن الاستقطاب بين واشنطن وبكين بلغ ذروته، ويفرضُ الصراع نفسه على مجريات العلاقات الدولية، فالولايات المتحدة في إطار رغبتها في الحفاظ على مكانتها الدولية ربما لن تكون متسامحةً مع خصومها، فما بالنا بالحلفاء الذين يعززون من قوة التحالف المناهض لقيادتها، والسعودية تحديدًا ينظر لها على أنها حليفٌ استراتيجي لواشنطن لم يخرج عن عباءتها قط منذ تحالفهما منذ ما يقرب من قرن من الزمن، كما يعتقدُ الأمريكيون من كلا الحزبين بشكل متزايد أن البلدانَ التي تتجاوزُ حدودًا معينة مع الحزب الشيوعي الصيني لا يمكن أن تكون شريكةً لأمريكا.
كما أن هناك قضايا عالقة بين واشنطن والرياض، بما في ذلك توقيع معاهدة دفاع تُصر السعودية على توقيعها كركيزة للتعاون الأمني بين الجانبين، فضلًا عن برنامج نووي سلمي تدعمهُ واشنطن، وكذلك السماح لها بالوصول إلى أنظمة الأسلحة الأكثر تقدمًا في واشنطن، فضلًا عن تخفيف التدقيق على نقل التكنولوجيات الحساسة، وتسريع مراجعة الاستثمارات السعودية في شركات التكنولوجيا الأمريكية والبنية الأساسية الحيوية، وهي مسائل معقدة لن تمر بسهولة من دولاب صنع القرار الأمريكي في ظل حربه المستعرة في هذه المجالات مع الصين، وإذا ما وافقت واشنطن فإنها ستربط استجابتها لهذه المطالب بشروط قد لا تكون مرضيةً للرياض.
من أهم هذه الشروط تقييد علاقة الرياض ببكين، وهو مطلبٌ يُضر بمصلحة المملكة ويُفقِدها مصداقيتها الدولية، وكذلك شروطٌ تتعلَّق بالتطبيع مع إسرائيل والانضمام إلى اتفاقيات إبراهام، وهو إجراءٌ بات مستبعدًا، لا سيما أن مطلب السعودية بخلق مسار مؤكد لا رجعة فيه نحو إقامة دولة فلسطينية يصطدمُ بتوجهات اليمين الإسرائيلي المتطرفة؛ لأنها توجهات مدفوعة بنبوءات دينية حول نهاية العالم وأيدولوجيا توسعية عدائية مخيفة، فضلًا عن تحفظ السعودية في لعب دور بارز في هيكل أمني لا يتضمن أهدافًا عادلة وإحلالَ سلام شامل، ومن المتوقع أن يُشعِل حربًا باردة إقليمية مع إيران في جوهرها تضُر بمصلحة المملكة في إقليم مستقر يخدم رؤيتها ومشروعها الطموح[12].
خلاصة
رغم حدَّة الاستقطاب الأمريكي-الصيني من غير الوارد أن تتَّخذ الرياض قرارًا بالانفصال عن الولايات المتحدة أو الذهاب إلى التحالف الكامل مع بكين، وبدلًا عن ذلك ربما تسعى الرياض إلى اتباع استراتيجية حذرة وودية لتعزيز العلاقات مع القطبين بما يخدم مصالحها الحيوية، مع استخدام العلاقات المتنامية مع بكين للحصول على أكبر قدر من المكتسبات من واشنطن؛ لأنه من منظور واقعي لا غنى للرياض على علاقة متوازنة مع القطبين الكبيرين، فبالنسبة للولايات المتحدة فإنها ما تزال الشريك الأمني الذي لا توجد قوة بما في ذلك الصين قادرة على أن تكون بديلًا له في المنطقة، فالولايات المتحدة تمتلك أقوى حضور عسكري وهي أهم شريك على هذا الصعيد لدول الخليج والسعودية، التي ما تزال تنسِّق بصورة كبيرة مع واشنطن في هذا المجال، وبالنسبة للصين فقد أثبتت حرب غزة إلى أنها غير مستعدة لأن تكون فاعلًا أمنيًا إقليميًا، بل هي تبدو غير منزعجة من الدور الأمريكي في المنطقة وغير مستعدة لتحمل تكلفة وتبعات الانخراط الأمني والعسكري في أزمات المنطقة، بل ربما ترى في ذلك إشغالًا لواشنطن وزيادة الأعباء عليها لصرف تركيزها عن منطقة بحر الصين الجنوبي وأزماته، لكنها كقطب دولي موازن لا غنى عن تعميق الروابط التجارية والاقتصادية وفي قطاع الطاقة معه، وفي الأغلب لن تعارض واشنطن علاقات صينية-سعودية أعمق في مجالات الاقتصاد والتجارة، لكنها ربما تتحفَّظ على أن يمتد التعاون إلى المجالات الدفاعية والأمنية والتكنولوجيا الحساسة، ومن هذا المنطلق يمكن موازنة مصالح السعودية بالدفاع عن مصالحها الحيوية مع واشنطن وبكين، مع تجنُّب أن تكون المملكة قضيةَ استقطاب بين الجانبين، وتعظيم المنافع، وخلق توازن ومعادلة تخدم خطط المملكة ومشروعها الطموح داخليًا ونظرتها لمكانتها الإقليمية والدولية، بل ربما يسفر تطوير علاقات متينة مع الطرفين في أن تصبح المملكة أداةً وسيطة في تهدئة التوترات وإدارتها مستقبلًا.
[1] Ali Shihabi, A Saudi-American Alliance?, hoover Institution, (July 6, 2023), accessed: August 21, 2024, https://n9.cl/dytbft
[2] Felicia Schwartz and Andrew England, How Saudi Arabia won back Biden, Financial Times , (June 17 2024), ), accessed: August 21, 2024, https://n9.cl/fnaqe
[3] Christopher S. Chivvis, Aaron David Miller, and Beatrix Geaghan‑Breiner, Saudi Arabia in the Emerging World Order, Carnegie endowment, (November 6, 2023), accessed: August 21, 2024, https://n9.cl/c730e
[4] Al Jazeera , Russia overtakes Saudi Arabia as China’s top oil supplier,(20 Mar 2023), accessed: August 21, 2024, https://n9.cl/vu2wd
[5] Power-technology, China’s Silk Road Fund acquires 49% stake in ACWA Power RenewCo, (May 11, 2020), accessed: August 21, 2024, https://n9.cl/4igr8
[6] Reuters, China Energy Engineering signs $972 million solar deal with Saudi partners, (August 13, 2024), accessed: August 21, 2024, https://n9.cl/q3whfj
[7] الجزيرة نت، علي جمعة العبيدي، هل ترسم السعودية خطوط المستقبل الأمني والجيو-اقتصادي؟، (5 يناير 2024)، تاريخ الاطلاع: 21 أغسطس 2024، https://n9.cl/mbp05
[8] Duncan Bartlett, China and Saudi Arabia: A Partnership Under Pressure, the diplomat, (November 20, 2023), accessed: August 21, 2024, https://n9.cl/lor0a
[9] سي إن إن، الولايات المتحدة ترفع الحظر عن مبيعات الأسلحة الهجومية للسعودية، (10 أغسطس 2024)، تاريخ الاطلاع: 25 أغسطس 2024، https://n9.cl/3f5wy
[10] بارين كايا أوغلو, ستيفن كيني، الولايات المتحدة والصين في الشرق الأوسط: ثلاثة سيناريوهات حتى عام 2050، معهد الشرق الأوسط،( 30 أبريل, 2024)، تاريخ الاطلاع: 21 أغسطس 2024، https://n9.cl/m173wk
[11] : هشام الغنّام وعمر العمران، لن تتخلى السعودية عن الصين لأجل أمريكا، ثمانية، (3 أغسطس 2024)، تاريخ الاطلاع: 21 أغسطس 2024، https://n9.cl/hd9xn
[12] Andrew Exum, The Saudi Deal the U.S. Actually Needs, the Atlantic, (May 31, 2024), accessed: August 21, 2024, https://n9.cl/mz7o8s