تداعيات اغتيال حسن نصر الله ومستقبل الصراع في الشرق الأوسط

https://rasanah-iiis.org/?p=36493

مقدمة

في حلقة جديدة من حلقات الانكشاف الاستراتيجي لحزب الله اللبناني أمام إسرائيل، أعلن الجيش الإسرائيلي في السابع والعشرين من سبتمبر 2024م، اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله والقيادي في الحزب على كركي وإبراهيم عقيل وعدد آخر من قيادات الصف الثاني للحزب، فضلًا عن العميد عباس نيلفروشان مساعد القائد العامّ للحرس الثوري لشؤون العمليات، في سلسلة غارات جوية على المقر المركزي للحزب في بيروت الواقع تحت الأرض أسفل مبنى سكني في منطقة الضاحية الجنوبية. قبل أن يعلن حزب الله رسميًّا مقتل نصر الله، كانت كل المؤشرات تدل على اغتياله، كتصريحات بعض المسؤولين الإيرانيين عن وجود بدائل لكل قائد من قادة ما يُسَمَّى «محور المقاومة» وأن الحزب ليس مرتبطًا بشخصية واحدة وإعلان مسؤولين في الحزب فقدان الاتصال بالأمين العامّ، ما يفتح الأسئلة حول التداعيات على مستقبل الحزب في لبنان بعد اغتيال نصر الله، وما انعكاسات مقتله على الميليشيات المسلحة الموالية لإيران في بقية ساحات النفوذ الإيرانية، واتجاهات ردود الفعل الإيرانية، ثم ما السيناريوهات المحتملة للصراع الدائر في الشرق الأوسط.

أولًا: التداعيات على حزب الله ومستقبل لبنان

يُعَدّ اغتيال حسن نصر الله حدثًا مفصليًّا، ليس على مستوى ما يمثله من دور محوري في منظومة الحزب، ولكن أيضًا لما يمثله من دور مهم على مستوى لبنان وإيران، إذ يعد إحدى أهمّ الشخصيات المؤثرة في السياسة الإقليمية الإيرانية في لبنان وخارجه.

  1. حسن نصر الله ومحورية الدور في حزب الله:

خلال أكثر من 30 عامًا من تولِّيه مسؤولية حزب الله، نجح نصر الله في بناء منظومة حزب الله وتحويله إلى كيان سياسي وعسكري قوي في لبنان وتشكيل دولة داخل الدولة، مع شبكة موازية من الخدمات الاجتماعية التي تنافس تلك التي تقدمها الحكومة والتي عمل الحزب لعقود من الزمن على تقويضها. كذلك نجح نصر الله في أن يكون لاعبًا رئيسيًّا في المنطقة، لا سيما في إدارة ملفات صراعات المنطقة، كالمواجهة مع إسرائيل وإدارة الصراع السوري لصالح إيران. ولكن رغم نجاحاته في عديد من الأحداث، فإنه أيضًا واجه تحديات عديدة تمثلت في حالة من التوتر اللبناني الداخلي بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في عام 2005، وبعد التفجيرات التي حدثت في مرفأ بيروت عام 2022.

كذلك واجه حزب الله أحد أكبر تحدياته منذ أكتوبر 2023م، بعد أن واجه ضغوطًا داخلية وخارجية تجاه موقفه من عدم فتح جبهة ضد إسرائيل للمساعدة على تخفيف الضغط على حماس في غزة. وتكبد الحزب إثر ذلك خسائر بعد أشهر من القتال عبر الحدود والهجمات الإسرائيلية التي استهدفت شخصيات مهمة في الحركة، بفعل ربط الحزب نفسه وموقفه بموقف إيران، التي قررت «ضبط النفس» في عديد من الهجمات التي شنتها إسرائيل مؤخرًا، كحادثة اغتيال هنية وفؤاد شكر، بجانب فشل الحزب في استخدام قوته الصاروخية المخزونة، فمنها ما دُمّر في مخازنه، ومنها ما استصعب إطلاقه بسبب الرصد الإسرائيلي أو الانكشاف الأمني، وتحولها من ميزة لقوة  الحزب إلى عبء عليه، فضلًا عن الفشل الأمني وعدم القدرة على السيطرة على تسرب المعلومات، التي كانت كإشارة مُنحت إسرائيل زمام المبادرة في إضعاف الحزب وصولًا إلى مقتل قائده نصر الله.

  • التداعيات على الحزب:

رحيل نصر الله عن منظومة الحزب يمثِّل لحظة محورية وفارقة في مآلات ومصير المنظومة ككل، إثر التحوُّل الطارئ في هيكليتها بعد الإنهاك والقضاء على معظم قياداته، وبات الحزب بذاته في أضعف حالاته، وسيواجه مرحلة قاسية من التخبط العملياتي والمعنوي، نتيجة لتخلخل بنيته القيادية، والقيادة والسيطرة (الاتصالات) التي استطاعت إسرائيل اختراقها، وسيكون لذلك تداعيات سريعة قد تظهر آثارها جليَّةً إذا ما أتبعت إسرائيل ذلك باجتياح بري يتطلب من الحزب نظام قيادة وسيطرة لن يكون متوفرًا بسرعة تَطوُّر الأحداث.

عمومًا، يمثِّل الاستبدال بنصر الله تحدِّيًا غير مسبوق، بخاصة في ضوء النجاحات العسكرية الإسرائيلية التي أدَّت بالفعل إلى تدمير البنية القيادية لحزب الله، وقد تواجه قيادة حزب الله تحديات كبيرة، إذ كانت شخصية حسن نصر الله القيادية وطول مدة قيادته للحزب، عاملًا حاسمًا في الحفاظ على تماسك الحزب، وسيتعيَّن على خليفة نصر الله التنقل بحذر بين مختلف الفصائل الداخلية في لبنان، وفي الكيفية التي سينتهجها لترسيخ سلطته بسرعة داخل المنظومة، وفي التعامل مع الحلفاء الإقليميين، فضلًا عن مواجهة التهديدات العسكرية المستمرة من إسرائيل.

  • التداعيات على لبنان:

سيكون بكل تأكيد لأحداث وفاة نصر الله تداعيات على لبنان، حيث يلعب الحزب دورًا مركزيًّا في الديناميكيات السياسية والعسكرية داخل الدولة، وقد تؤدِّي حالة الإرباك في صفوف الحزب إلى نوع من الاضطراب السياسي في المشهد اللبناني، كما أن من أبرز التحديات على لبنان كيفية إدارة إيران للمشهد اللبناني بعد فقدانها أبرز أدوات نفوذها في لبنان، فلحسن نصر الله دور واضح وكبير في إدارة التوازنات والتحالفات الإيرانية مع باقي القوى الداخلية في لبنان، وبالتالي قد يدفع فقدانه طهران نحو بناء تحالفات جديدة داخل لبنان، من خلال تعزيز العلاقات مع الفصائل الشيعية الأخرى، أو حتى من خلال الجماعات غير الشيعية.

ثانيًا: الانعكاسات على الميليشيات في ساحات النفوذ

يأتي تأثير اغتيال نصر الله على أداء بقية الميليشيات المسلحة الموالية لإيران في ساحات التمدد والنفوذ في الحرب الدائرة ضد إسرائيل، من واقع قدرة إسرائيل على أن تثبت للميليشيات أن لديها ذراعًا طويلة يمكنها تطبيق نظرية الانكشاف الاستراتيجي لأي من بقية الميليشيات المسلحة الموالية لإيران بعد نجاحها في التطبيق على ما تعتبره إيران «درة التاج» أو «بندقية إيران في الشرق الأوسط»، حزب الله اللبناني، ذلك الانكشاف متكامل الأركان الذي تتبدى ملامحه في ما يلي:

  1. 1- قدرة إسرائيل على الاختراق من العمق عندما أقدمت على تفجير العدد الكبير من أجهزة البيجر وأجهزة اللاسلكي، التي وصلت إلى أيادي قيادات في حزب الله اللبناني.
  2. 2- تَمكُّن إسرائيل من تنفيذ مخطَّط اغتيالات مُحكَم ضد كبار قيادات الحزب للقضاء على مستقبله، وأحدثها اغتيال الأمين العامّ ذاته، بل والقدرة على الاغتيال وإعلان النجاح في الاغتيال قبل إعلان الحزب ذاته، ما من شأنه أن يزيد إسرائيل قوة أمام الميليشيات الموالية لإيران، وسيناريو الصمت الذي اتبعه الحزب تجاه مقتل أمينة العامّ يعيد إلى الأذهان سيناريو الصمت الإيراني عند مقتل الرئيس السابق رئيسي.
  3. 3- إعلان الصحافة الإسرائيلية والغربية أن الضربات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية دمرت نصف القدرات الصاروخية لحزب الله.
  4. 4- رصد إسرائيل اجتماعات الحزب كافة في الضاحية الجنوبية يعكس الضعف الاستراتيجي والتخطيطي لحزب الله اللبناني وذراع إيران الطويلة نحوها.
  5. 5- تَمكُّن إسرائيل من ضرباتها الاستراتيجية لمواطن قوة حزب الله أربك حساباته وأضعف قدراته على اتخاذ القرارات في توقيتات مناسبة، لا سيما في ظلّ ضَعف خطاباته وانتظاره الإذن من إيران التي بدت غير راغبة في الدخول في حرب مع إسرائيل، مما أضعف موقف الحزب وكشفه أمام إسرائيل.
  6. 6- اختراق الجيش الإسرائيلي موجة برج مراقبة مطار رفيق الحريري الدولي وطلبه من طائرة إيرانية عدم الهبوط في المطار، وعدم دخول الأجواء اللبنانية، محذِّرًا من أنه سيلجأ إلى استعمال القوة في حال هبطت تلك الطائرة في المطار، مما يشير إلى نية إسرائيل قطع الإمدادات المحتمَلة من إيران لحزب الله.
  7. 7- إبطال نظرية الدفاع الأمامي التي اعتمدت عليها إيران كثيرًا للمناوشة مع أعدائها، فبعد الاستهدافات الإسرائيلية في الداخل الإيراني، لم تعُد هذه النظرية قائمة.

اغتيال أكبر شخصية قيادية مؤثرة لدى إيران من شأنه التأثير في قرارات وحسابات بقية الميليشيات المسلحة المنخرطة في الصراع ضد إسرائيل، في العراق وسوريا على وجه التحديد، لكونهما الحلقتين الأضعف في النفوذ الإيراني الإقليمي، فإذا كانت إسرائيل قادرة على ضرب مُقدَّرات وقيادات حزب الله الذي يشكل الحلقة الأقوى في محور ما سمَّته إيران بالمقاومة، فهذا معناه قدرتها على أن تطال ذراعها الطويلة، ليس فقط الميليشيات في سوريا الحدودية ولا العراق المجاورة لسوريا، بل يمتدّ كما ذكر نتانياهو في خطابه في الجمعية العامة إلى كل أرجاء الشرق الأوسط، بما فيها إيران التي كشفتها إسرائيل ووضعت حدًّا لردودها، وبالتالي قد يضعف اغتيال نصر الله قرارات الميليشيات العراقية في ضرباتها المحدودة والضعيفة بالأساس باتجاه إسرائيل.

أما الحوثيون في اليمن فقد لا يؤثّر مقتل نصر الله كثيرًا على مواقفهم وهجماتهم تجاه إسرائيل، بل سيظلّ الحوثيون في هجماتهم ضد إسرائيل وسفن التجارة الدولية القادمة أو المتجهة إلى إسرائيل بخاصة في ظلّ تَطلُّع الحوثيين بالأساس إلى خطف الأضواء من حزب الله لصالح أدوارهم وتأثيراتهم في الإقليم الشرق أوسطي، فالأمر عند الحوثيين مختلف عنه في بقية الساحات لجهة الموقع الجغرافي الذي يسمح لهم بالتأثير في التجارة الدولية وتأثير البعد التاريخي في اتخاذ قرارات استراتيجية ضد اليمن خصوصًا.

أما التداعيات على حماس والصراع في غزة، فمن غير المتوقع أن يؤثِّر ذلك كثيرًا في قرارات حماس تجاه المطالب الإسرائيلية لوقف الحرب في القطاع المدمَّر، وإن كانت فيها رسائل إلى قادة حماس بأن إسرائيل قادرة على الوصول إلى قادتها، فيبدو أن إدارة حماس للحرب مع إسرائيل أكثر حنكة وتَفوُّقًا من إدارة حزب الله الذي ينتظر القرارات من إيران، فهذه المسألة مختلفة لحماس التي لديها قدر من الاستقلالية عن إيران في ما يخصّ القضية الرئيسية المتعلقة بالحصار المُحكَم على القطاع والاحتلال الإسرائيلي عمومًا، لذلك ظهر عدد القيادات الكبير الذي قتلته إسرائيل من حزب الله ذي القدرات الأكبر مقارنة بحماس في أيام قليلة، كما أن القادة الاستراتيجيين لحماس والمتحكمين في القتال الميداني لم تستطيع إسرائيل على مدى العام القضاء عليهم في غزة رغم احتلالها القطاع بأكمله، مقارنة بالوضع في حزب الله بلبنان الذي استطاعت اغتيال عديد من قياداته الكبرى في غضون أسابيع قليلة.

بغضّ النظر عن مقتل نصر الله، وإن كان يشكِّل ضربة من العيار الثقيل لإيران ولمحور المقاومة برمته، فإن تداعيات مقتله تتجاوز بكثير ذلك الأمر، إذ ترسي إسرائيل من خلال اغتياله معادلات جديدة للصراع في الشرق الأوسط بأنها قادرة على ردع الميليشيات وتفكيكها قبل حتى التفكير في الدخول في حرب مع إسرائيل (ما جرى مع حزب الله نموذج في القدرة على تحييد الميليشيات قبل دخولها في حرب مع إسرائيل)، وترسل تل أبيب من خلالها رسالة قوية للغاية بأنها باتت قادرة على تحقيق وفرض السلام بالقوة بأشكالها وأنواعها كافة في الشرق الأوسط، وأنها في عهد نتانياهو لن تتوقف عن التصعيد ما دامت سياساته تحصد المكاسب على مرأى ومسمع الجميع، بما يعزز فرصه الداخلية أكثر وأكثر ويمنحه الثقة والقدرة على مزيد من التصعيد وتجاوز الخطوط الحمراء التقليدية كافة في المنطقة وإرساء خطوط حمراء جديدة لصالحه. أما إيران التي دأبت خلال المرحلة الماضية على ترسيخ خطاب وفكرة القوة والصمود ودعم القضية الفلسطينية والقدرة على مواجهة إسرائيل، فربما تجاوزتها المرحلة، ولا سيما بعدما تمكنت إسرائيل من كشف ضعف إيران، ووضع حدّ لردودها بمزيد من الضربات في الداخل والخارج، وعدم قدرتها على الردّ، وربما ساعد موقفها الضعيف وتصريحات مسؤوليها بعدم قدرة حزب الله على مواجهة إسرائيل، في دفع إسرائيل إلى التمادي في الهجمات، ما من شأنه إدراك إسرائيلي لضرورة رسم معادلات جديدة تُفرَض على مستقبل المنطقة وقضاياها.

ثالثًا: اتجاهات ردود الفعل الإيرانية على اغتيال نصر الله

في ما يتعلق بردود الفعل الإيرانية المحتمَلة حول اغتيال الأمين العامّ لحزب الله، يمكن الإشارة إلى الاتجاهين التاليَيْن:

الاتجاه الأول هو التصعيد: أهمية حزب الله في المشروع الإيراني قد تدفع طهران إلى منح الحزب ضوءًا أخضر كمرحلة أولى والميليشيات الأخرى في العراق ولبنان كمرحلة تالية أو بشكل متزامن لتصعيد كبير يتجاوز كل قواعد الاشتباك، بهدف دفع إسرائيل إلى مراجعة اندفاعها وتصعيدها المستمر عبر تكبيدها خسائر قوية تؤدي في المحصلة الأخيرة إلى التوصل إلى هدنة أو وقف الحرب على الحزب، وإن لم يؤدِّ ذلك إلى وقف الحرب على غزة بالعودة إلى قواعد الاشتباك السابقة للتصعيد الإيراني. ولعل كلمة المرشد الأعلى التي أشار فيها إلى أن لبنان سيجعل إسرائيل تندم على أفعالها، وأن مصير المنطقة ستحدده قوى المقاومة وعلى رأسها حزب الله، وتقليله من انعكاسات الضربات الإسرائيلية بوصفها أضعف من أن تسبِّب ضربًا لبنية حزب الله كما حصل مع حماس، بقوله ان إسرائيل لم تتعلم دروسًا من حرب غزة. كل هذه التصريحات تصبّ في اتجاه التصعيد غير المباشر الذي كثيرًا ما خدم إيران فحقَّق لها كثيرًا من المكاسب مع تجنيبها المواجهة المباشرة، إذ غالبًا ما يقع العبء الأكبر على وكلائها. غير أن السلوك الإسرائيلي منذ بدء الحرب في أكتوبر الماضي يسعى لكسر هذه المعادلة، إذ انتقل إلى الاستهداف المباشر لإيران باعتبارها المسؤول الأول عن كل ما يجري، ولربما هذا ما يفسر الأنباء المتداوَلة عن استعدادات داخل إيران لهجوم إسرائيلي محتمَل.

الاتجاه الثاني هو الانكفاء: أثبت عدم رد إيران على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران فشل معادلة الردع التي حاولت إيران إرساءها بتوجيه ضربات «شكلية» مباشرة إلى إسرائيل عقب مقتل قادة من فيلق القدس في استهداف مبنى تابع للسفارة الإيرانية في دمشق. وبرَّر المسؤولون الإيرانيون «تراجعهم التكتيكي أمام العدو» بأنه إدراك إيراني لمحاولة إسرائيل جَرَّ طهران إلى حرب شاملة ومواجهة مع الولايات المتحدة.

بكل تأكيد لا تخلو القراءة الإيرانية من وجاهة، فالولايات المتحدة ستردّ مباشرة على إيران في حالة توجيهها ضربات حقيقية وقوية إلى إسرائيل، لأنه طوال الشهور الماضية أثبت الموقف الأمريكي رفضه السياسات الإسرائيلية على مستوى الخطاب فقط، سواء بالرفض الليِّن لبعض الممارسات أو التهديد بعدم تزويدها بأسلحة ما، أو عدم علمه بخطوات تصعيدية تُقدِم عليها إسرائيل، أو نفي علاقته المباشرة بها. أما عمليًّا فلم يتوقف الدعم المالي والعسكري والدبلوماسي وتأكيد حماية إسرائيل عقب كل خطوة تصعيدية بتوجيه مزيد من القطع العسكرية إلى المنطقة.

انطلاقًا من هذه الخلفية، من المرجح أن لا تخرج إيران عن الخط السابق بالاستمرار في مواصلة ما تصفه بالصبر الاستراتيجي لتبرير حالة العجز التي تعيشها في المواجهة الحالية للمحافظة على استمرار النظام الذي يعاني أوجه قصور كبيرة داخليًّا وهشاشة تحالفاته الخارجية بما يجعله غير قادر على خوض مواجهة شاملة إلا في حالة تَعرُّضه لضربة كبيرة جدًّا تهدِّد النظام الإيراني نفسه، وقد تقود هذه العملية إيران إلى اتخاذ مسار جديد من الدبلوماسية مع الغرب، بخاصة مع الولايات المتحدة التي يتوقع أن تلجأ إلى شَتَّى السبل للضغط على إيران. أما ما دون ذلك فطريقة ردّ الفعل على اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني هي المعبِّر الحقيقي عن المقاربة الإيرانية لإدارة التنافس الإقليمي مع الولايات المتحدة وإسرائيل. أما حالة الإنكار التي وردت في كلمة المرشد التي قلّل فيها أهمية الضربات الإسرائيلية لحزب الله رغم إبادة كل قادة الصف الأول وفي مقدمتهم أمينه العامّ حسن نصر الله، فهي لا تزيد على كونها مجرَّد دعاية موجَّهة إلى الجمهور الداخلي.

رابعًا: أثر اغتيال نصر الله على مستقبل التماسك الفكري والعقدي لجنود الحزب

يُعد “حزب الله” حزبًا عقديًا في المقام الأول، والحرب التي يخوضها في الإقليم هي حربٌ عقدية، ويتم بناءُ وتهيئة أفراده عقديًا على نظرية ولاية الفقيه، والسمع والطاعة للولي الفقيه. وإذا كان ثمة ارتباط شخصي ومصلحي ووجداني بين عناصر الحزب وحسن نصر الله، فإنّ الولاءَ الأكبر لعناصر وجنود الحزب وحواضنه الشعبية يعود إلى الوليّ الفقيه الإيراني، بتقليده فقهيًا وسياسيًا في كافة شؤونهم؛ وبالتالي فغياب نصر الله الكاريزماتي سيؤثر مؤقتًا على العناصر والأفراد، وربما منظومة التواصل داخل الحزب بين هيئاته المختلفة، سيما وأن عملية الاغتيال جاءت في سياق اغتيال عدد كبير من الصف الأول والثاني للحزب، ممن أسَّسوا منظومته الفكرية والعسكرية! وذلك إلى أن يتم ترتيب البيت الداخلي للحزب برعاية إيرانية، وتنسيق مباشر من “الولي الفقيه” باعتباره حزبًا ولائيًا، وذراعًا من أذرُع المرشد بتمويل وفكر ثوريّ إيرانيّ! وبالتالي تكمُن الأزمة التي يمر بها “حزب الله” في أزمة إيران نفسها، منذ اغتيال قادتها العسكريين في قنصليتها بدمشق، ثم ردها الباهت والمحدود بالمسيَّرات في الداخل الإسرائيلي، ثم مقتل (أو اغتيال) الرئيس إبراهيم رئيسي جرَّاء تحطم طائرته، ثم اغتيال إسماعيل هنية في قلب طهران وداخل مقر الحرس الثوري، وبروز أزمة القيادة الإيرانية! فإبراهيم رئيسي كان الخط الطبيعي لفكر الخميني وخامنئي في الفكر والمنهج وإعلاء ثقافة الطاعة والاستبداد الديني ومواجهة الغرب، وكان نصر الله على نفس الخط أيضًا، وفي حين تشهد إيران أزمةً حقيقية في خلافة خامنئي بعد مقتل رئيسي، فإن “حزب الله” سيمر بأزمة قيادة حقيقية، حتى ولو تم اختيارٌ سريع لقائد جديد، وهو المرجح؛ فإنّه لن يملأ فراغ نصر الله بسهولة، لأسباب ترجع إلى شخصية نصر الله نفسه، وطول مكوثه في قيادة الحزب، وأسباب متعلقة بهاششة الوضع الراهن للحزب وإيران نفسها بعد تعرُّضهم لضربات مهينة، واختراق طولي في صفوف الحزب، ومقتل عدد كبير من قادة الصف الأول والثاني. 

أيضًا ثمة ملحوظة هنا متعلقة بالبنية الفكرية لعناصر “حزب الله”، فتلك البنية تم التأثير عليها كثيرًا بعد دخول الحزب بقوته الضاربة لإخماد انتفاضة السوريين ضد النظام السوري بقيادة بشار الأسد، فبعد أن كانت عقيدة الحزب تتجلَّى فيما تسميه أدبيات الحزب بـ”المقاومة”، و”الجهاد” استشعرَ قطاعٌ من عناصر الحزب بأنهم كالمرتزقة، يخدمون حيث كانت المصلحة الإيرانية لدرجة مساندتهم لحزب البعث الذي يُحكَم بتكفيره في الأدبيات الإيرانية، خاصةً الجناح العراقي منه، أو التعاون معه براجماتيًا، كما هو الحال مع البعث السوري. فاستشعر عناصر “حزب الله” أنهم ما عادوا أصحاب قضية بل كمقاتلين مرتزقة يُزجّ بهم في كل موضع خارج النطاق التأسيسي المنهجي الذي تأسَّس عليه الحزب من أول يوم، وهو مواجهة “العدو الصهيوني”، ومن هنا جاء الاختراق الفكري الذي تلاه الاختراق الفعلي التجسسي العسكري، والذي وصل إلى مواقع قيادية، كما تجلَّى في ماهية خارطة الاستهداف الإسرائيلي لقادةٍ كبار في الحزب.

أزمة خلافة نصر الله وأبرز المرشحين:

ثمة أزمةٌ تواجه الحزب اليوم بعدما أعلن رسميًا مقتلَ حسن نصر الله في الغارة الإسرائيلية، تتمثَّل في البديل الذي سيخلفُه؛ لأسباب متعلِّقة بشخص البديل نفسه بعدما حيّدت إسرائيل معظمَ، وإنْ لم يكن كلَّ قادة الصف الأول والثاني للحزب وأهمُّهم: فؤاد شكر وإبراهيم عقيل وعلي كركي، ومتعلِّقة أيضًا بشروط القيادة نفسها، فإن لم يكن ثمة شروط لائحية دستورية على غرار شروط خلافة الولي الفقيه، إلا أن ثمة أعرافًا لا يمكن تجاهلها، فالشيخ عباس الموسوي، وصبحي الطفيلي وحسن نصر الله جميعهم معمَّمون من فئة رجال الدين وممن درسوا في الحوزات العلمية الشيعية، أي ليس الأمر هنا كحالة القادة العسكريين للحرس الثوري، بل تحرص إيران بأن يكون قادة الفصائل التابعة لها من المعمَّمين أو المقرَّبين من الوسط الديني، بحيث يكونون كأداة الوصل بين المرشد باعتباره الفقيه الأكبر والمجتهد المطلق وعموم الحواضن الشيعية.

ومن ثم تضيق دائرة المرشحين؛ ليكون أبرزهم كالتالي:

  • الشيخ نعيم قاسم: وهو نائب الأمين العام للحزب، وتضاربت الأخبار حول حضوره ومقتله، وبغض النظر عن صحة تلك الأخبار إلا أن كارزميته السياسية والدينية والخطابية ليست مثل نصر الله، وليست مثل صفي الدين، وتداولت أنباءٌ عن خلافته المؤقتة لنصر الله إلى حين اجتماع مجلس شورى الحزب، وتداولت أنباءٌ أخرى عن خلافته الرسمية لنصر الله؛ وبالتالي فنحن أمام منافسة حقيقية بين أبرز رجلين في الحزب الآن، نعيم قاسم وهاشم صفي الدين. الأنباء الواردة تفيد بأنه تسلَّم قيادة حزب الله بشكل موقّت، بصفته نائب الأمين العام “لحزب الله”، إلى حين اجتماع مجلس شورى الحزب، وانتخاب أمين عام جديد.
  • السيد هاشم صفي الدين: من مواليد ١٩٦٤م، في منطقة صور اللبنانية، وهو ابن خالة حسن نصر الله، وصهر قاسم سليماني، ومقرَّب من فيلق القدس ونخبة الحكم في طهران، ويعدونهُ لخلافة نصر الله منذ العام ١٩٩٤م، وهو أقرب شخص لنصر الله فعليًا، صفي الدين الذي أُدرج على قائمة الإرهاب الأمريكية سنة ٢٠١٧م، لعب أدوارًا في الأنشطة السياسية والمالية والاجتماعية والتنظيمية للحزب منذ العام ١٩٩٤م، مما يجعلهُ شخصيةً حاسمةً داخل الإطار السياسي والإستراتيجي للمنظَّمة. وبنى خلال مراحل دراسته بإيران علاقات قوية مع القيادة الإيرانية، خاصةً داخل الحرس الثوري الإيراني، وساعدته هذه العلاقات في تكوين مكانة رئيسية بين الحزب وإيران. وقد أعلنت تسريبات إسرائيلية أنه تولى بالفعل مكان نصر الله، وبدأ في اتخاذ قرارات داخلية في الحزب.
  • الشيخ صبحي الطفيلي: وهو أحد مؤسسي “حزب الله” السابقين وأمينه السابق، إلا أنه انشق عن الحزب سنة ١٩٩٨م، وأعلن معارضته لولاية الفقيه، ووصفها بأنها بدعة شيعية، إلا أن له قبولًا وأتباعًا في الحواضن الشيعية؛ باعتباره مؤسس الحزب، وفترته شهدت كثافةً بالعمليات المسلحة ضد إسرائيل. خلافته لنصر الله وإن كانت مستبعدةً باعتبار المعنيين بالاختيار جميعهم من داخل الحزب لا من خارجه، وباعتبار عملية الولاء والثقة في المركزية في التنظيمات الإسلامية، وباعتبار الفاعل الإيراني المهم كذلك، إلا أنه يبقى مطروحًا كسيناريو في حال أرادَ الحزب الخروجَ من مأزقه أو ترميم صفوفه وإجراء مراجعات داخلية عميقة بمنأى عن الفاعل الإيراني والسعي لتغليب المشاركة الوطنية على الهيمنة على الخصوم السياسيين في فترة نصر الله.

خامسًا: السيناريوهات المحتملة للصراع في الشرق الأوسط

على خلفية العملية النوعية التي قامت بها إسرائيل، واغتالت خلالها أمين عام “حزب الله” حسن نصر الله وكبار قادة الحزب؛ فإن المنطقة أمامَ احتمالات متعددة أبرزها:

1. توتر إقليمي شامل واتساع نطاق الصراع:

يُشير هذا الاحتمال إلى أن العملية الإسرائيلية ربما تؤدي إلى تعبئة على كافة الساحات، في لبنان والعراق واليمن وسوريا وغزة، وأن وتيرةَ العمليات سوفَ تتزايد انتقامًا للعملية الإسرائيلية؛ وبالتالي لن تتوقف إسرائيل عن الرد، ربما بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، وقد يطال الرد الإسرائيلي إيرانَ نفسها، وهو ما يعني دخول المنطقة في مرحلة لا محدودة من الصراعات والمواجهات المفتوحة، وهذا بلا شك سوف يُضيف مزيدًا من عدم الاستقرار إلى المنطقة، وتهديدًا لممراتها البحرية وحركة التجارة عبر مضائقها وخطوطها الملاحية، وقد يطال ذلك مضيق هرمز في حال تعرَّضت إيران لضربة مباشرة؛ وهو ما يعني انتقالَ التوترات إلى الخليج العربي، ولا يستثنى من هذا التوتر وجود حراك شعبي في بعض الدول العربية بالمنطقة بالنظر إلى رفض حرب الإبادة التي تقوم بها إسرائيل في غزة، فضلًا عن استشعار الخوف من نموها كقوة إقليمية قد تفرض نفوذها على المنطقة ككل، وهو ما هدَّد به نتنياهو بالفعل خلال الفترة الأخيرة، وربما يمنحُ الصراعُ الراهن فرصةً للدول الكبرى لتصفية خلافاتها، إذ قد تتدخَّل الصين وروسيا بصورة أو بأخرى وعبر وسائل أكبر في محاولة للاستفادة من التطورات الراهنة وتوظيفها لإضعاف الولايات المتحدة سواءً إقليميًا أو دوليًا.

يُعزز هذا الاحتمال أنه وعلى الرغم من أن هذا الاختراق، هو عملية نوعية لها تأثيرٌ كبير على واحدة من أهم جبهات المواجهة مع إسرائيل، وسبقها اختراق واسع تم على أساسه استهداف القيادات العليا في الحزب، وربما تعطيل بعض أهم قدراته عبر آلاف الضربات العسكرية للمواقع التابعة للحزب، لكن يُشير العسكريون إلى أن الاغتيالات غالبًا لا تؤدي إلى حسم الصراعات العسكرية، لا سيما مع الجماعات المسلَّحة ذات الطابع الشعبي، والتي تخوض مواجهات غير متماثلة، كما أن هذه الجماعات على غرار “حزب الله” ليست كالجيوش النظامية وطبيعة القيادة بها أُفقية، ويمكنها استعادة ترتيب أوضاعها في وقت قصير، كما أن اغتيال رموزها يتم توظيفه من أجل مزيد من التعبئة والتجييش، كذلك فإن عملية الاغتيالات قد تعطي إشارةً إلى كافة الساحات بأنه لم يعُد هناك رفاهية من أجل متابعة الردود المحسوبة، وأنها سوف تنالُ نصيبها من الهجمات الإسرائيلية إذا لم تفرض واقعًا جديدًا على الصراع، وربما تدخل إيران في إعادة تقدير ردودها وردود الجماعات التابعة لها، بناءً على التطورات الجارية؛ فعدم استعادة بعضٍ من الردع في مواجهة إسرائيل يعني في الأخير القضاء على نفوذ إيران وضرب كافة أذرعها المسلحة وتصفية القيادات التي تعتمد عليها؛ وهو ما يعني خسارة استثماراتها التي كلَّفت جهودًا ومواردَ طائلة على مدار أكثر من أربعة عقود، وربما تقرأ روسيا والصين أن التفوق الإسرائيلي على هذا النحو يعني هيمنةً أمريكيةً مطلقة على المنطقة، وهو ما قد يجعلها من خلف الستار عاملًا في تأجيج الصراع من أجل تعقيد المشهد أمام واشنطن، خصوصًا أن روسيا لديها رغبة في أن يكون الصراع في الشرق الأوسط وسيلةً لتخفيف المواجهة على جبهة أوكرانيا، وترغب الصين في أن تُظهِرَ للعالم طبيعةَ الخلل في النظام الدولي الذي تقودُه واشنطن؛ وذلك في إطار صراعها معها على تغيير الواقع الدولي.

2. استعادة إسرائيل للردع وتهيئة المنطقة لما بعد حرب غزة:

وهو ما يعني نجاحَ إسرائيل في ردع كافة الجماعات المسلحة وفرض أمرٍ واقعٍ جديد على الصراع، ومتابعة عمليات الاستهداف للمواقع والقيادات، والنجاح في الحد من التهديدات القادمة من كافة الجبهات، وربما البدء في تنفيذ مرحلة ما بعد الحرب في غزة، وهذا في مجمله يعني انتصارًا إسرائيليًا ساحقًا على كافة خصومها، والاستعداد لتنفيذ خطة اليمين الإسرائيلي في خلق واقعٍ جديد في الأراضي المحتلة سواءً في غزة أو الضفة، وهو واقعٌ ليس به وجودٌ أو اعترافٌ بأي دولة فلسطينية، فضلًا عن فرض أمرٍ واقعٍ جديد على الشرق الأوسط ككل من منطلق التفوق الساحق لإسرائيل، وربما ترتيبات جديدة من أجل جنوب لبنان على غرار ما حدث في ثمانينات القرن الماضي، وهذا قد يتطلَّب عمليةً برية نحو جنوب لبنان، مع استعدادٍ في إطار أوسع مع الولايات المتحدة وبريطانيا من أجل التعامل مع الحوثيين والفصائل في العراق وسوريا.

يُعزز هذا الاحتمال تقديرَ إسرائيل أن هذه المعركة التي تخوضها معركةٌ مصيرية لا مجالَ فيها لأنصافِ الانتصارات، أو الاكتفاء بالاستهدافات الجوية مع ترك عناصر القوة العسكرية على حالها في يد الجماعات “المقاومة”، والتقدير بأن هناك فرصةً ربما لن تتكرر من أجل نقل الانتصارات الإسرائيلية الإقليمية إلى مرحلة جديدة على غرار الانتقالات الكبرى التي صاحبت إعلان الدولة في عام 1948م، أو النقلة التي أحدثتها حربا عام 1967م، وحرب أكتوبر، ولا شك أن التفوق العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي الواضح، والنجاح في قلب معادلة الردع خلال فترة قصيرة مع إيران و”حزب الله” يُعزز من فرص هذا الاحتمال، فالهجمات على “حزب الله” وقياداته ربما تكون أثَّرت بشدة على قدرة إيران على استخدام هذه الجبهة بالكفاءة نفسها، وربما تُعيد إيران دعمها لما يُعرَف بوحدةِ الساحات، كما يُعزز هذه الاحتمال أيضًا أن التقديرات الأمريكية تتطابق مع التقديرات الإسرائيلية، إذ ترى واشنطن في هذا الصراع فرصةً من أجل إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، وفرصةً لتجاوز إخفاقاتها الماضية، ودفع تصوراتها حول الأمن الإقليمي قُدُمًا، كما أنها فرصة من أجل ردع إيران والحد من نفوذها الإقليمي، وربما دمج إسرائيل في المنطقة في أُطر سلام وتعاون متكامل، وربما تجدُ بعض القوى الإقليمية في هذه التطورات مكاسبَ خاصة تُعزز من مصالحها، لا سيما القوى المناوئة لإيران و”لحزب الله”، وربما تقدِّر إيران في إطار مخاوفها على بقاء النظام واحتمال أن تطال اغتيالات إسرائيل المرشدَ نفسه إلى التوقف عن التصعيد مؤقتًا؛ تفاديًا لخسارة جسيمة قد تُطيح بالنظام.

3. حرب استنزاف طويلة الأمد عبر الإقليم:

يُشير هذا الاحتمال إلى أن الفصائل المسلحة في ظل هذا التفوق الإسرائيلي والمساعدة الأمريكية وردع إيران؛ فلن يكون بمقدورها الرد القوي الذي يبعث برسالة رادعة إلى إسرائيل، ومن ثم ستأخذ خطوات للخلف من أجل إعادة ترتيب الأوضاع وترتيب الصفوف، لكنها ستظل حريصةً على توجيه ضربات استنزاف لإسرائيل عبر العديد من الجبهات من أجل حرمانها من تحقيق الانتصار الساحق، وضمن هذا الاحتمال قد تتراجع إسرائيل عن وتيرة التصعيد الراهن والاكتفاء برمزية عملية اغتيال نصر الله وقيادات الحزب. حرب الاستنزاف قد تشمل استمرار توجيه ضربات من جنوب لبنان ومن سوريا والعراق لكنها تظل محدودةً وأقل من السابق، مع إسناد من جبهة اليمن لكن دون استفزاز يقود إلى التصعيد.

يُعزز هذا الاحتمال أن الفصائل ما تزال لديها القدرة على توجيه الضربات، وأنها مضطرة للرد على العدوان الإسرائيلي وإلا ستكون قد فقدت مصداقيتها، كما أن عدم ردها يعني لها الهزيمة، وإيران ربما لا ترغب في التصعيد الشامل لكنها قد ترفض الاستسلام الكامل، ومن ثم ستُتابع عملية تصعيد محدود ومحسوب تجنبها المواجهة الشاملة، وبالمقابل قد لا يكون بمقدور إسرائيل الاستمرار على وتيرة التصعيد الراهن، والاستمرار في حرب تخصم من رصيدها ومواردها وصورتها العالمية، كما أن الولايات المتحدة قد ترى -وهي على مقربة من الانتخابات- ضرورةَ التهدئة ووقف حالة التصعيد الراهنة، ومن جهة أخرى فإن العديدَ من دول المنطقة تنظر بتوجس إلى التطورات الراهنة على الرغم من وجود بعض التنافس الإقليمي، إذ أن التصعيد الإقليمي وعدم الاستقرار لا يصبان في صالح دول المنطقة، وأن أي مشاريع إسرائيلية ستفرض العديدَ من علامات الاستفهام والتحفظ، خاصةً أن دولَ المنطقة ليست مستعدةً لتكون طرفًا في تحالفات قد تقودً إلى حربٍ باردةٍ إقليمية.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير