قمة المستقبل.. تعهدات على الورق؟

https://rasanah-iiis.org/?p=36563

منذ تولِّيه منصب الأمين العام للأُمم المتحدة، يبذل أنطونيو غوتيريش جهودًا كبيرة تكلَّلت في «قمَّة المستقبل»، حيث بلغ تفاؤله ذروته بإصلاح النظام العالمي، من خلال إعداد أجندة مشتركة مقرونة بخِطَّة عمل. ودارت المداولات في الفترة من 20 سبتمبر إلى 23 سبتمبر 2024م، في مقر الأمم المتحدة؛ لمعالجة الاستقطاب والتناقضات، التي تواجه النظام العالمي.

وفي خطابه أمام الجمعية العامة للأُمم المتحدة، قال غوتيريش: «نحن هُنا لإعادة التعدُّدية من حافَّة الهاوية. والآن أصبح مصيرنا المشترك، أن نسير عبرها. هذا لا يتطلَّب الاتفاق فحسب، بل يتطلَّب العمل أيضًا».

اعتمدَ زعماء العالم بعد التصويت بأغلبية ساحقة، على مشروع قرار «ميثاق المستقبل»؛ الرامي لمعاجلة التحدِّيات العالمية من تغيُّر المناخ والصراعات والفقر. ويتكَّون الميثاق من 42 صفحة، تتعهَّد بتغيير حياة 8 مليارات من سُكّان الأرض للأفضل. على الرغم من معارضة روسيا وحلفائها (إيران وبيلاروسيا وكوريا الشمالية ونيكاراغوا والسودان وسوريا) الإعلان النهائي للميثاق، لكنّها لم تستطِع أن تمنع اعتماده، لا سيّما أنَّ الاتفاق تمكَّن من حشْد أغلبية بموافقة 193 دولةً عضوًا.

وتذكُر الوثيقة أنَّ الاتفاق يأتي في «وقتٍ يطرأ فيه على العالم كلِّه تحوُّلُ عميق، ونواجه فيه مخاطر كارثية ووجودية متصاعدة.. وإخواننا في البشرية يعانون أشدّ المعاناة، وإن لم نغيِّر مسارنا، سنصبح مهدَّدين بمستقبلٍ تستحكم فيه الأزمات والانهيار».

يتضمَّن الاتفاق 56 إجراءً بشأن عدَّة قضايا، من بينها القضاء على الفقر، والتخفيف من آثار تغيُّر المناخ، وتحقيق المساواة بين الجنسين، وتعزيز السلام وحماية المدنيين، وتنشيط النظام متعدِّد الأطراف لاغتنام «الفُرَص المتاحة اليوم وغدًا».

وتُلزِم الاتفاقية قادةَ العالم بإصلاح مجلس الأمن المكوَّن من 15 عضوًا؛ لجعله أكثر تمثيًلا لعالم اليوم، و«تصحيح الظُلم التاريخي الواقع على أفريقيا»، التي ليس لها مقعدٌ دائم، ومعالجة التمثيل الضعيف لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ وأمريكا اللاتينية.

ويشمل «ميثاق المستقبل» «التعاهد الرقمي العالمي»؛ وهو أول ملحق في الميثاق، كما يُعَدُّ أول اتفاق عالمي لتنظيم الذكاء الاصطناعي عالميًا. ويتعهَّد بإنشاء «لجنة علمية دولية مستقِلَّة في الأُمم المتحدة»؛ لتعزيز الفهم العلمي للذكاء الاصطناعي، وما يحمله من مخاطر وفُرَص. كما يُلزِم الأُمم المتحدة ببدء حوار عالمي حول حوكمة الذكاء الاصطناعي، مع جميع اللاعبين الرئيسيين.

ويبقى الهدف الأصعب تحقيقًا، هو إصلاح مجلس الأمن المكوَّن من 15 عضوًا، وجعله أكثر تمثيلًا للعالم.

والملحق الثاني للميثاق، هو «إعلان الأجيال المقبلة»، الذي يتضمَّن التزامات للتحرُّك بشكلٍ عاجل لمعالجة التحدِّيات البيئية الحرجة، وتعزيز التعاون استجابةً للاتّجاهات الديموغرافية، والاستثمار في التعليم الجيِّد للجميع، بما في ذلك محو الأُمية الرقمية لسدِّ الفجوات الرقمية.

النوايا الحسنة لغوتيريش في مواجهة الواقعية السياسية

لا يمكن لأحد التقليل من نجاح غوتيريش في حشْد دعمٍ ساحق للميثاق شمل 193 دولةً عضوًا، وفي الوقت نفسه لا يمكن التقليل من صعوبة التحدِّيات، أكان ذلك على مستوى التمويل والتنفيذ، أو ضرورتها المُلِحَّة؛ ناهيك عن أنَّ التعاون متعدِّد الأطراف في سياق جيوسياسي محفوفٌ بالمخاطر ويتطلَّب رأس مال دبلوماسي قوي وتحالفات متنوِّعة.

وعلى الرغم من معارضة روسيا وحلفائها للاتفاق، فإنَّ الانقسام بين الشمال والجنوب يبقى واضحًا، كما كان منذ تأسيس الأُمم المتحدة، وهُنا تؤكِّد مشاركة أفريقيا القوية في قمَّة المستقبل، على أنَّها لن تقِف مكتوفة الأيدي بعد الآن. 

الجدير بالذكر أنَّ قانون الأُمم المتحدة يُعطي كل دولة عضو فيها «صوتًا واحدًا في الجمعية العامَّة»؛ هذه ميزة لدول شمال الكرة الأرضية، فهُم يشعرون في المنظَّمات التابِعة للأُمم المتحدة وكأنَّهم في بيتهم أكان ذلك في مجلس الأمن أو وصندوق النقد الدولي، أو منظَّمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والبنك الدولي، لا سيّما أنَّ منهم من يتمتَّع بحقِّ النقض. فهل يستطيع ميثاق المستقبل إصلاح هذا التفاوت المتأصِّل في النظام العالمي؟ مع أنَّ الإجابة على هذا السؤال بعيدة كل البُعد عن التفاؤل.

إنَّ الإجماع شبه الكامل على معالجة التحدِّيات العالمية من منْع ارتكاب الأعمال الوحشية، وتخفيف حِدَّة الفقر المدقع، والحدِّ من انبعاثات الغازات المسبِّبة للانحباس الحراري العالمي، وسدّ الفجوة التكنولوجية، يبعث على التفاؤل بمستقبل أفضل. ولا شكَّ أنَّ عناوين الأخبار من فلسطين وأوكرانيا، والفيضانات في مختلف أنحاء العالم، طغت على مداولات القمَّة. لكن هذه القمَّة أعادت الأُمم المتحدة للصدارة؛ لمعاجلة كوارث العالم وأزماته، التي طال أمدها. فهل تستطيع الدبلوماسية متعدِّدة الأطراف تغيير مسار الاتّجاهات العالمية؟ نعم ستستطيع، فقد شمِلَت القمَّة على منتدى آخر لمناقشة عملية إصلاح طويلة الأجل في 25 سبتمبر، لن نرى ثمار هذه القمَّة بين عشية وضحاها، إذ سيكون إصلاحًا تدريجيًا. 

إنَّ الجهود النبيلة والحسنة، التي بُذِلت لعقد القمَّة حول قضايا ليست مُدرَجةً على جدول أعمال السياسة العُليا، من خلال منتدى يمنح الجميع أصواتًا متساوية، قد تشكَّلت بسبب مصالح الأطراف في التحالفات العسكرية والصناعية وتكتُّلات النفط والكُتَل الإمبريالية الجديدة. لذلك؛ يجب أن يستمِرّ السعي نحو تشكيل نظام متعدِّد الأطراف أكثر مساواة، يعمل على تمثيل أكبر لدول جنوب العالم، مع تعزيز قوَّتها ومصالحها، لكن دون مبالغة في التغيير ما لم يُسفِر عن نتائج ملموسة.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير