يفكِّر الإستراتيجيون الإيرانيون منذ العام 1979م في حماية إيران خارج الحدود، وعدم انتظار الخصم للوصول إلى مقربة منها، فضلًا عن حدودها وقلبها. ومن هُنا نشأت نظريات فرعية متعلِّقة بتصدير الثورة، وتخليق جماعات وفصائل دون الدول الوطنية تأتمر بأمر طهران، وتحذو حذوها، وتتّبِع الولي الفقيه فقهيًا وسياسيًا وتدين له بالولاء المطلق. أمّا على مستوى الإستراتيجية الإسرائيلية، فيعتقد الإستراتيجيون الإسرائيليون في الآونة الأخيرة، أنَّ معركتهم مع أذرُع إيران المستمِرَّة منذ عقود لن تحِلّ معضلة إسرائيل، وأنَّه لا بُدَّ من الذهاب إلى الرأس لتأديبه أو قطعه مباشرة، في إشارة إلى طهران. ووسط هاتين الرؤيتين، تُوجَد رؤىً إقليمية ودولية تسعى للخروج بالمنطقة من براثن حرب شاملة رُبَّما تضر الجميع، وتنادي بالعيش المشترك، وبحقِّ الفلسطينيين في قيام دولة مستقِلَّة على حدود 1967م، واحترام المدنيين من كل الأطراف، في محاولة للوقوف في مكان وسط معتدل بين غُلاةٍ من الجانبين.
في الجمعة الماضية 4 أكتوبر، حرَصَ المرشد الإيراني علي خامنئي على أن يخطُب خُطبة الجمعة بنفسه، بعد مقتل زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله، في الغارة الإسرائيلية على مقرّ قيادة حزب الله في الضاحية الجنوبية ببيروت، في ٢٧ سبتمبر الماضي. وتُعَدُّ تلك أول خُطبة جمعة له منذ خمسة أعوام، حيث أراد بعْث رسائل إلى عدَّة أطراف داخلية وخارجية، بعد هجوم بلاده الصاروخي على إسرائيل، في العملية التي أُطلِق عليها «الوعد الصادق 2»، بعد خمسة أشهر من «الوعد الصادق 1»، التي كانت ردًّا على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق. واللافت أنَّ الخامنئي خطَبَ خُطبة باللغة العربية موجَّهة إلى العالم العربي، خاصَّةً الشعبين الفلسطيني واللبناني، وتُعَدُّ تلك هي المرَّة الثانية، التي يخطب فيها بالعربية متوجِّهًا برسائل إلى العالم العربي، بعد خطبته الشهيرة بالعربية إبانَ ما سُمِّي بثورات الربيع العربي في 2011م.
ويمكن القول إنَّ خُطبة الجمعة في إيران من أعمال السيادة، فهي من مهام المرشد الأعلى/الولي الفقيه، إذا شاء خطبها بنفسه، وإذا شاء أناب غيره فيها. ومع ذلك، ففي معظم الأحيان ومنذ عهد الخميني حتى الآن، وكَّلَ الوليُ الفقيه غيره لينوب عنه في خُطبة الجمعة، وحرصَ فقط على خطبتها بنفسه في الأوقات الحرِجة، التي يريد من خلالها توصيل رسالة مهمَّة إلى الداخل والخارج. فمثلًا، خطَبَ خامنئي الجمعة يوم 3 فبراير 2012م، وفي يناير 2020م خطَبَ الجمعة بعد الهجوم الصاروخي على قاعدة عين الأسد ردًّا على مقتل قاسم سليماني؛ قائد «فيلق القدس» السابق، ثمَّ في الرابع من أكتوبر الجاري بعد مقتل حسن نصر الله. وبالتالي، فالمرشد لا يخرج لخُطبة الجمعة إلّا إذا أراد توصيل رسائل متعدِّدة إلى أطراف داخلية وخارجية. وجديرٌ أن نقِف مع تلك الرسائل واللمحات التي صرَّح بها أو ألمح إليها في خُطبته، لمعرفةٍ أدقّ بالعقل الإيراني وماهية تصرُّفاته.
أولًا: رسائل إلى الجماعة الشيعية والداخل الإيراني
أبرزَ خامنئي معركته من أول خُطبته، كمعركة عن الجماعة الشيعية برُمّتها، وكامتداد للمعارك الأولى، التي خاضها الشيعة ضدّ خصومهم. لذا، بدأ بالصلاة والسلام على النبي محمد، ثمَّ «آله الطاهرين»، ثمَّ خصَّ بالذكر منهم الأئمة «الاثني عشرية»، ولم يترضَّ أو يُسلِّم على أيٍّ من الصحابة الآخرين. ويبدو من خطاب خامنئي ومفرداته خشيته من تذمُّر الحواضن الشعبية، لا سيّما الشيعية منها، وخوفه انفضاضَها من حول حزب الله؛ فذكَّرهم بأنَّ حسن نصر الله كان الخليفة والبديل لغياب موسى الصدر وعباس الموسوي. وقد تعمَّد ذِكْر الاسمين؛ فموسى الصدر له سُمعة جيدة في العقل الجمعي اللبناني والشيعي، ولم يكُن منهجهُ قريبًا من منهج الولائيين، فكأنَّ خامنئي أرادَ توحيد الصف اللبناني بين قادة أمل وشبابها وبين حزب الله وقواعده. لكن تبقى الحقيقة قائمةً بأنَّ ما بين نصر الله وموسى الصدر فجوة فكرية وعملية كبيرة، فلم يكُن موسى الصدر ولائيًا وكان عابرًا فوق المذهبية والطائفية بخلاف نصر الله، كذلك فإنَّ الخلاف الذي بين القيادة الإيرانية وعائلة الصدر مشهور، وقد أُهين «السيِّد رضا الصدر»؛ الأخ الشقيق لموسى الصدر في إيران، بعد أن دافع عن أستاذِه محمد كاظم شريعتمداري.
ونخلُص من هذا، إلى أنَّ خامنئي هدَفَ إلى تجاهُل الخلاف الداخلي الشيعي، وأرادَ توحيدَ اللبنانيين وعموم الشيعة على حسن نصر الله، باعتباره جنديًا من جنود الولي الفقيه. ويؤكِّد ذلك نداءه إلى حزب الله وحركة أمل في عبارة واحدة بقوله: «أعزّائي، يا شعب لبنان الوفي، يا شباب حزب الله وحركة أمل المُفعَمَ بالحماسة! يا أبنائي، هذا أيضًا طلبُ سيِّدنا الشهيد اليوم من شعبه وجبهة المقاومة والأُمّة الإسلامية جَمعاء». وشنَّع في نفس الوقت على «العدو» استهدافه للمدنيين؛ بسبب عجزه عن هزيمة المقاومة وحزب الله. إذن، أرادَ خامنئي أن يُلملِم حواضن الحزب في لبنان، باعتباره حزبًا مقاومًا، وأنَّ إسرائيل هي السبب في قتْل المدنيين وليس حزب الله.
أيضًا، ففي المرّات التي خطَبَ خامنئي الجمعة، كان ينصرف بعد الخُطبة مباشرةً، لكنَّه حرصَ هذه المرَّة على البقاء، حتى أمَّ المصلين في صلاة العصر، في محاولة للظهور في ثوب الشجاعة وتطمين الجبهة الداخلية الشيعية داخل إيران وخارجها، خصوصًا بعد ما تردَّد في بعض القنوات الإعلامية، أنَّه دخَلَ مخبأهُ بعد اغتيال حسن نصر الله. ويبدو أنَّ مقتل نصر الله بالطريقة التي تمَّت، أقلقت الإيرانيين، لا سيّما الحواضن الشعبية للولائيين، فأرادَ خامنئي أن يستعيدَ صورتهُ كقائدٍ ثوري، وكوليٍ فقيه لعموم الجماعة الشيعية، متحدِّيًا إسرائيل وأمريكا؛ أي محاولة أكيدة للعودة إلى الروح المعنوية لما قبل اغتيال نصر الله. وقد نجحَ خامنئي في ذلك إلى حدٍّ كبير، خصوصًا بين أتباعه ومقلِّديه وسط الجماعة الشيعية.
ثانيًا: التذكير بفضائل لبنان
في محاولة من خامنئي لاحتواء الشعب اللبناني، وخشية انفضاض اللبنانيين من حول حزب الله، ذكَّرهم خامنئي بالتاريخ بين الجانبين الإيراني واللبناني، قائلًا: «نحنُ الإيرانيون قد عرفنا منذ زمنٍ بعيد لبنان وفَضائِلَه، فقد أغدقَ عُلماءٌ لبنانيّون من فيْض علمهم على إيران، في العَهدين السّربِداري والصّفوِي، خلال القرن الثامن والعاشر والحادي عشر للهجرة، ومِنهُم محمّدُ بنِ مكّيّ العامليُّ الشهيد، وعليّ بن عَبدِالعَالِ الكَركي، وزينُ الدينِ العامِلِيُّ الشهيد، والحسينُ بن عبدِالصّمَدِ العَامِلِي، وابنُه بَهاءُ الدّينِ المَعروف بالشَّيخِ البَهائِيّ، وغَيرُهُم مِن رِجالِ الدّينِ والعِلم».
وخامنئي هُنا كأنَّه يرُدّ على كثير في الداخل اللبناني من الناقدين لـ «حزب الله»؛ بسبب إدخاله لبنان معركةً ليست معركته، يقولون إنَّها معركة إيران الحقيقية. وعندما أرادَ تعريف اللبنانيين بالعلاقة التاريخية بين الجانبين، ارتكن إلى العلاقات الشيعية فقط، دون علاقات البلدين بكافَّة أطيافهما وألوانهما، ثمَّ اعتبر تلك المعارك، التي أدخلَ فيها حزب الله لبنان، اعتبرها خدمةً للبنانيين، وأداء الديْن لهم. والمُلاحَظ أنَّه ذكر الفترة الصفوية دون وجَلٍ من ذكرها، على الرغم من إدراكه بفظائع الصفويين ضدّ أهل السُنَّة بشهادة المؤرِّخين الشيعة أنفسهم؛ ما يدُلّ على هضمه لتلك المعاني المذهبية، وقصده إلى توحيد صفِّ الشيعة من خلفه، دون النظر إلى عموم الأُمَّة، كما يَزعم أو يُزعَم.
ثالثًا: زوال إسرائيل
طالما ردَّدت القيادة الإيرانية مفردات «زوال إسرائيل»، وأنَّها دولة هشَّة غير قادرة على البقاء، لكن الواقع أنَّها اغتالت جنرالات إيرانيين في قلب العاصمة السورية، واغتالت إسماعيل هنية في قلب طهران داخل مقرّ الحرس الثوري، وتنصَّتت على قادة حزب الله، واغتالت عددًا كبيرًا منهم، في ظل صمت إيراني طويل قبل «الوعد الصادق 2» سمَّته بـ «الصبر الإستراتيجي». وكرَّر المرشد الإيراني في خطبته تلك مسألةَ زوال إسرائيل، قائلًا: «هذا الكيان الخبيث، بلا جذور، ومزيَّفٌ ومتزعزع، وقد أبقى نفسه قائمًا بصعوبة عبرَ ضخّ أمريكا الدعم له، ولن يُكتبَ له البقاء بإذن الله تعالى. والدليل الواضح على ذلك، أنَّه أنفق مليارات الدولارات في غزة ولبنان منذ عام، وأُغدِقَت عليهِ المساعدات المختلفة من أمريكا، وعدد من الدول الغربية، وقد مُنِيَ بالهزيمة في مواجهة بضعة آلاف من المكافحين والمجاهدين في سبيل الله المحاصرين الممنوعين من أيّ مساعدة خارجية، وكان إنجازَهُم الوحيد قصْف البيوت والمدارس والمستشفيات ومراكز تجمُّع المدنيّين». فهو يتكلَّم هُنا عن هزيمة إسرائيل من بضعة آلاف من المكافحين، ولم يبيِّن مفهومَ النصر والهزيمة عنده؟ فإذا كان مقتل آلاف المدنيين، بل واغتيال قادة المقاومة أنفسهم، وتدمير غزة وبيروت ولبنان واحتمال توسُّع الحرب إلى سوريا والعراق واليمن ورُبَّما إيران، إذا كان ذلك كلّه ليس هزيمةً تستدعي المراجعات الفكرية ونظر أهل الرأي والفكر، ومقترحات المؤسَّسات والمراكز الفكرية، فما هي الهزيمة إذن؟ وما هو النصر؟ هذا تشوُّهُ إدراكٍ من القيادة الإيرانية يُنذر بخطرٍ جسيم، فهو أولًا يؤِّشر على أنَّ تلك القيادة ما عاد يعنيها أرواح قادتها، فضلًا عن أرواح الأبرياء والمدنيين، ومن ثمَّ فهي مستمِرَّة في معركتها حتى النهاية، باعتبارها معركةً مقدَّسة. وهو نفس الخطاب تقريبًا، الذي ردَّده «أبو عبيدة»؛ الناطق باسم حركة حماس في السابع من أكتوبر؛ الذكرى الأولى لأحداث 7 أكتوبر 2023م. والعجيب أنَّ خامنئي ينقل عن قادة إسرائيل أنَّهم اعترفوا بالهزيمة، وأقرُّوا بالعجز، بقوله: «واليوم، فإنَّ العصابة الصهيونية المجرمة أنفسهم قد توصَّلوا أيضًا إلى هذه النتيجة، وهي أنَّهم لن يحقِّقوا النصر أبدًا على حماس وحزب الله»، لكنَّه لم يبيِّن أين توصَّلوا، ومن هُم الذين توصَّلوا؟ فقط عبارات إنشائية شعبوية لترميم الصورة الكلِّية عنه كقائد، وعن إيران كدولة تدافع عن الشيعة، أو من المُفترَض أنَّها كذلك، وجاء هذا السياق وسط اتّهامات لطهران، بأنَّها تُجري معاركها خارج حدودها، ولا تبالي بتدمير عواصم حليفة لها مقابل إبقاء المعركة بعيدًا عن طهران!
أيضًا، فإنَّ الحديث عن النصر الدائم وأنَّ النصر في نهاية المطاف حليف المقاومة، يؤجِّل حقيقةً مسألةَ التفكير أو إجراء أيَّة مراجعات فكرية وسياسية وإستراتيجية؛ لأنَّ المراجعات لا تكون غالبًا إلّا مع الهزائم، لكن خامنئي يرى أنَّ ما يحدُث هو نصرٌ مؤزَّر لغزة ولبنان وأذرعه في الإقليم؛ وبالتالي لا حاجة إلى مراجعات أو مساءلات!
رابعًا: مركزية الشهادة وتبرير الاغتيال
في محاولةٍ لتطمين «عناصر المقاومة» في حزب الله وحماس وغيرهما، استذكر خامنئي اغتيال عدد من قادة «الثورة الإسلامية» في بداية ثمانينات القرن العشرين، إبان ما سمّاه البعض بالحرب الأهلية في إيران، وشهِدَت إيران حينئذٍ عمليات اغتيال واسعة بين صفوف السياسيين ورجال الدين، إذ قال مذكِّرًا لهم: «يا أهلنا المقاومين في لبنان وفلسطين! أيها المناضلون الشُّجعان! أيُّها الشعب الصبور الوفي! هذه الشّهادات وهذه الدّماء المسفوكة، لا تُزعزِعُ عزيمتكم، بل تَزيدُكم ثباتًا. ففي إيران الإسلامية خلال ثلاثة أشهرٍ من صيف 1981م، جرى اغتيال العشراتِ من شخصياتنا البارزة والمميَّزة، مثل السيِّد محمد بهشتي، ورَئيسُ جُمهوريّةٍ مثلُ رجائي، وكان كلُّ واحدٍ منهم من أعمدة الثورة على المستوى المحلِّي أو الوطني، ولم يكُن فُقدانهم هيِّنًا، لكنَّ مسيرة الثورة لم تتوقَّف ولم تتراجع، بل تسارَعَت». وإذا كانت مسيرة الثورة لم تتراجع بسبب اغتيال هؤلاء، فإنَّه يريد القول إنَّ مسيرة المقاومة لن تتراجع أيضًا باغتيال قادتها، فخرج بنتيجة مفادها أنَّ النصر سيكون حليف المقاومة، التي جعلت هاجس «الكيان» حِفْظ وجوده، وهو هاجسه الأول منذ نشأته؛ وبالتالي فإنَّ المقاومة أرجعته سبعين سنةً للوراء.
إذن، أرادَ خامنئي أن يذكِّر عناصر المقاومة وعموم الشعبين اللبناني والفلسطيني، بأنَّ «الشهادة في سبيل الله» للقادة والجنود، تنعكس إيجابًا على سيْر العمل الجهادي ضدّ «الكيان»، ومن ثمَّ ليست هذه الاغتيالات مؤثِّرةً في ديمومة المقاومة أو فاعليتها، واستدَلَّ بما جرى لقادة في الثورة الإيرانية بداية ثمانينات القرن العشرين. لكنَّه تجاهل أنَّ الاغتيالات داخل إيران كانت حربًا أهليةً بين متنازعين في الداخل من أهل الوطن الواحد، ولم تكُن القُوى الدولية مؤثِّرةً في المشهد الداخلي، بالصورة التي عليها الآن في لبنان وفلسطين؛ وبالتالي فإنَّ الحثّ على المواجهة من أجل المواجهة بلا عتاد وبلا قيادة وفي معركة لا توازُن فيها ولا تكافؤ، هو عملٌ انتحاريٌ صرْف، يريد فقط الضغط على إسرائيل ومواجهتها خارج الحدود الإيرانية، وكأنَّه لا مانع لدى الإيراني من بتْر تلك الأذرُع، التي أسَّسها وأنفقَ عليها، إذا كان في سبيل حفْظ أمنه القومي وأفكاره الكُبرى، التي ينشدها.
خامسًا: الوحدة الإسلامية في مواجهة العدو
ركَّز خامنئي في خطابه على مسألة وحدة المسلمين والعالم الإسلامي، لمواجهة «العدو الإسرائيلي»، ففي بداية خطابه قال: «هذا الخطاب موجَّهٌ للأُمَّةِ الإسلامية جَمعاء، إلّا أنَّه موجَّهٌ بشكلٍ خاصّ إلى الشعبين العزيزين اللبناني والفلسطيني»، لكنَّه في نفس الوقت لم يبيِّن خارطة طريق لتلك الوحدة، ولم يبيِّن حتى مفهوم الأُمَّة، هل هي تلك التي تخضع لولايته فقط، أم حتى المخالفين له في المنهج والمذهب! على أنَّه لم يذكُر أيّ خيطٍ ممّا يربطه بتلك الأُمَّة، بل ركَّز فقط على الإرث الشيعي، السربداري والصفوي، وعُلماء الشيعة وأئمتهم فقط، دون ذِكْرٍ لأيّ فقيه أو عالم من علُماء أهل السُنَّة! وفي ذكرى استشهاد الحسين بن علي منذ أسابيع، تكلَّم خامنئي عن المعركة بين الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية المستمِرَّة إلى يوم القيامة! وبالتالي، فإنَّ مفهوم الأُمَّة عند خامنئي هي تلك الأُمَّة، التي تُذعِن لولايته كوليٍّ فقيه لكافَّة المسلمين، على أنَّ تلك الولاية في المنظور الإستراتيجي الإيراني غير محدودة جغرافيًا ولا مذهبيًا، أمّا مَن لم يخضع لتلك الولاية أو لم يعترف بها، فهو داخلٌ في دائرة الجبهة اليزيدية!
إذن؛ فالصراع القائم بين دولتين، إحداهما/ إيران تحتكر الحق والمذهب والدين، وتريد من الجميع أن يكون تحت ولاية الولي الفقيه باعتباره إمامًا للمسلمين جميعًا، لا للإيرانيين فقط أو حتى لعموم الشيعة، ودولة أخرى/ إسرائيل تريد تغيير منطقة الشرق الأوسط برُمّتها، ولها أطماعٌ دينيةٌ قديمة من النيلِ إلى الفرات، كما نصَّ العهد القديم!
خاتمة
أرادَ خامنئي من تصدُّره لخُطبة الجمعة إعادة اللُحمة إلى الإيرانيين وعموم الجماعة الشيعية، ورفْع الروح المعنوية التي افتقدوها بعد الإهانات المتكرِّرة، التي تعرَّضت لها إيران وأذرُعها، بدايةً باستهداف إسرائيل للقنصلية الإيرانية في سوريا، واغتيال إسماعيل هنية وفؤاد شكر وعدد من قادة حزب الله؛ وأخيرًا حسن نصر الله، فسَادَ شعورٌ شيعي باليأس والهزيمة والإحساس بالإهانة، وتحوَّلَ «الصبر الإستراتيجي» الإيراني، الذي كان يُروَّج له في الوسط الشيعي، إلى نصر إستراتيجي لإسرائيل؛ وبالتالي جاءت الضربة الصاروخية الإيرانية على المُدُن الإسرائيلية ثمَّ خُطبة خامنئي العلنية، وهي الأولى منذ خمس سنوات؛ لإعادة ترميم العقل الجمعي الشيعي، وتذكيره بأهمِّية الجهاد وفضْل الشهادة في سبيل الله، وأنَّ العاقبة والنصر في النهاية للمقاومة في لبنان وغزة، وأنَّ «الكيان» ليس إلّا تلك الشجرة الخبيثة التي اجتُثَّت من فوق الأرض، مَا لَهَا مِنْ قَرَار! وذلك خطابٌ بمفردات دينية ومذهبية، وتعبئةٌ روحيةٌ خالصة لا مدخل للبراجماتية السياسية فيه، ولا لجوءَ فيه للدبلوماسية؛ ما يؤكِّد أنَّ مقصدهُ الأول حِفْظ التماسك الداخلي لصفوف المقاومة وحواضن التقليد الشيعية، وهدفهُ الرئيسي في تعزيز شرعية القائد وترميمها، بعد اتّهامات بالخور والضعف والاختباء في الأنفاق!