بينما ينتظر الرئيس المنتخب دونالد ترامب مراسم تنصيبه في يناير 2025م، ثمة اهتمام وفضول كبير يدور حول مستقبل سياسته الخارجية نحو الشرق الأوسط، ولاسيما أنه قد قال خلال حملته الانتخابية إنه سيُنهي فورًا الصراع في فلسطين، ويعالج ملفات إقليمية أخرى. ومع معرفة المراقبين مهارات ترامب في عقد الصفقات ونهجه في التعاملات، فضلًا عن أهداف حملته الانتخابية التي تضع مصالح الولايات المتحدة أولًا، وتسعى لتبني سياسة خارجية انعزالية، ثمة أملٌ يحذو البعض من أن يُطفئ ترامب النار المشتعلة في المنطقة، وعلى الرغم من علاقة ترامب بإسرائيل وصداقته الوثيقة مع نتنياهو، يتضح لنا من ماضيه أنه لم يخشَ مواجهة نتنياهو، أو أن يسمي الأشياء بمسمياتها، على عكس بايدن. ولكن كيف لهذه التوقعات وأهداف ترامب المزعومة أن تتماشى مع سياق تعييناته لإدارته الجديدة؟ ما النهج الذي ستتخذه إدارته نحو الصراع في فلسطين ونحو إيران؟ هل حقًا لدى ترامب رؤيةٌ لإنهاء الصراع في فلسطين؟ وهل ستكون هناك تداعيات مع دول الخليج، مما سيؤدي إلى توتر العلاقات بين الولايات المتحدة والخليج؟ هذه الأسئلة بالغة الأهمية لفهم الاتجاه الذي يسير نحوه الشرق الأوسط في ولاية ترامب الثانية.
يتضح من تعيينات ترامب المبكرة، أن هدفه المزعوم عن تبني سياسة خارجية انعزالية، وتخفيف سيادة الولايات المتحدة في الساحة الدولية ذهب أدراج الرياح مع تعيين ماركو روبيو وزيرًا للخارجية ومايك والتز مستشارًا للأمن القومي، وكلاهما يؤمن بتفوق الولايات المتحدة وقدرتها العسكرية لفرض نفوذها وزعامتها في جميع أرجاء العالم، ناهيك أنهما يتبنيان موقفًا مُتشددًا من فلسطين وإيران، مما يُلمح عن موقف ترامب وتوجهاته تجاه المنطقة بعد التنصيب، هذه التعيينات وغيرها مثل تعيين مايك هاكابي، سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل، فاجأت العديد من المتابعين، وحتى أتباع حركة «ماغا» أمثال روبيو وهاكابي ووالتز كلهم مؤيدون للصهيونية ومن الصقور ضد إيران، وتعكس تباينًا واضحًا مع هدف ترامب لتخفيف التوترات وإحلال السلام في المنطقة المبتلاة بالصراعات. فما المتوقع من إدارة ترامب في المرحلة القادمة فيما يتعلق بفلسطين، وإيران، والعلاقات الأمريكية الخليجية؟
في الجبهة الفلسطينية، تحققت أمنيات نتنياهو بتعيين ترامب مسؤولين مناصرين للصهيونية في مناصب عُليا ممن عبروا صراحةً عن دعمهم لسحق «حماس»، دون اعترافهم بمدى المعاناة الإنسانية أو الحاجة لفتح المعابر أمام المساعدات الإغاثية لمساعدة شعب غزة الذي يعاني في القطاع. ليس لدى روبيو ولا والتز نقطة نهاية أو إستراتيجية خروج من غزة، وعلى الأرجح سيتولون زمام قيادتهم بناءً على ما يرى نتنياهو؛ أي إلى أن يرى نتنياهو أنه قد «جز العشب» كاملًا في غزة، ويعارض المستشار المقرب لترامب للسياسة الإسرائيلية، ديفيد فريدمان، حل الدولتين ويدعو لحل الدولة الواحدة، مع فرض سيادة إسرائيل وسيطرتها على كامل الأراضي الفلسطينية بما فيها ضم الضفة الغربية، وهنا يؤيد المسيحي الإنجيلي مايك هاكابي هذا الحل. أما محادثات وقف إطلاق النار وما بعدها سوف تتأجل أكثر مع تصعيد نتنياهو لعمليات القضاء على من تبقى من عناصر «حماس» وخلاياها الممزقة في غزة. وسيشهد لبنان سيناريو مُشابهًا مع إعطاء نتنياهو الضوء الأخضر للاستمرار في ملاحقة عناصر «حزب الله» في لبنان، وستصبح محادثات وقف إطلاق النار حلمًا بعيد المنال في المدى القريب، رغم أن مبعوث ترامب للبنان مسعد بولس -بعلاقاته الواسعة في جميع أروقة السياسية اللبنانية ومصلحته الشخصية في البلاد- سيعمل على الدفع قُدمًا نحو وقف إطلاق النار، ولكن قد يصطدم مع روبيو ووالتز في هذا الصدد. وعمومًا، من المتوقع أن تشهد الجبهتان سيناريو مروعًا يتمخض عنه تداعيات شاملة على أمن المنطقة واستقرارها، ولاسيما مع تسريع رجال ترامب الأزمات بدلًا من كبح جماحها، وهذا ما يمكن استنتاجه من تصريحات ترامب خلال حملته الانتخابية.
أما إيران، ستواجه أوقاتًا عصيبة، فالمسؤولون في إيران منزعجون من عودة ترامب وتعيناته الجديدة، ولاسيما أن روبيو ووالتز يدعمان حملة «الضغوطات القصوى» على طهران، ويريان أن طهران المعرقل الرئيس للسلام والاستقرار في المنطقة. وسيذهب هذان المسؤولان تمامًا عكس سياسة بايدن في التهدئة مع إيران، وسيُصعّدان من الضغوطات عليها بفرض عقوبات على النظام، لكبح عملياته ودعمه لوكلائه في المنطقة، وسوف يتحول التركيز إلى الضغوطات أكثر من الدبلوماسية، رغم أن ترامب قال بوضوح إنه منفتحٌ على الحوار مع الحكومة الإيرانية، وهذا متوقع من رجل أعمال؛ فهو يريد كسب المزيد من الكروت على طاولة المفاوضات، وبالتالي ضغوطات أكبر على إيران، مما سيرجح كفته عند عقد الصفقات. لم ترق «خطة العمل الشاملة المشتركة» لترامب ودائرته الضيفة، فهم يرونها غير دائمة وغير شاملة بما يكفي؛ لأنها لم تشمل قضايا مثل برنامج إيران للصواريخ الباليستية، ولا دعمها لوكلائها في المنطقة، وفي حال أُبرم اتفاقٌ جديد في مرحلة ما، فمن المتوقع أن يكون أكثر ديموميةً وشموليةً، وهذا ما أشار إليه ترامب، إذ قال إنه يُفضل اتفاقية مجزأة تشمل داخلها اتفاقيات لقضايا محددة عالقة مع إيران، وقبل وصولنا لهذه المرحلة، من المتوقع أن نشهد اضطرابًا يعصف بالعلاقات بين أمريكا وإيران، رغم إظهار إيران حُسن النية لفتح حوار مع ترامب في ولايته الثانية، ولكن في حال ردت إيران بعنف في المنطقة لتقوية نفوذها في وجه ترامب، ستكون هذه الخطوة مخاطرًة كبيرًة من إيران، فهي تواجه رجل أعمال ليس من السهل ابتزازه، أو الضغط عليه للرضوخ لنتائج لا تعجبه، وهذا الموقف الإيراني من المُرجح أن يُغضب الصقور أكثر؛ مما يفاقم التشاؤم حول تقدم العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران.
أما دول الخليج، فهي تمر إلى حدٍ ما في مأزق؛ تُريد أن تضمن علاقاتها مُستقرةً مع الولايات المتحدة تحت ولاية ترامب الثانية، وإجبار نتنياهو على وقف حربه في غزة مع استمرار تقاربها مع إيران على المسار الحالي. وتعمل دول الخليج الآن على تبني سياسات خارجية متعددة الاتجاهات، وتنفيذ الرؤى الوطنية الاقتصادية، وتخفيف حِدة التصعيد مع إيران؛ لذا من غير المحتمل أن تقبل بتصعيد الولايات المتحدة عقوبات على إيران؛ خشية من رد فعل إيراني واتهامات لها بالانحياز إلى ترامب، وبالتالي إغلاق الانفراجة بينهما، وعلى ترامب أن يدرك أن الوضع الآن مختلفٌ عمّا كان عليه خلال إدارته الأولى؛ فلدى دول الخليج أولوياتٌ وطموحاتٌ أخرى؛ فقد اتجهت نحو التنويع، مع تعزيز علاقاتها مع الصين، وينتظر أن نرى ما إذا كان ترامب ومسؤولوه يضعون الاعتبارات الخليجية في الحسبان أم يتجاهلونها، وإن تجاهلوها ستكون هناك عواقب خطيرة للغاية على مسار العلاقات بين الولايات المتحدة والخليج؛ إذ سيدفع هذا التجاهل دول الخليج للتوجه شرقًا نحو الصين، وهو ما سيُفاقم من توتر العلاقات بين الولايات المتحدة والخليج، ولاسيما أنه من المتوقع أن يُسرّع ترامب عجلة المنافسة الاقتصادية والتكنولوجية والجيوسياسية الأمريكية في وجه الصين.
خلاصة القول؛ من المتوقع أن تهُب رياح تعصفُ بالمنطقة تحت رئاسة ترامب الثانية؛ وذلك مع إعطاء نتنياهو الضوء الأخضر، وفي ظل اللقاء الأخير الذي جمع وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر مع ترامب وجاريد كوشنر، فقد فُسّر هذا الاجتماع أنه أعطى نتنياهو مخططًا للتصعيد في غزة ولبنان قُبيل تنصيب ترامب، ووضع خطط لما بعد يناير القادم، خاصةً فيما يتعلق بوكلاء إيران في سوريا والعراق، وتحديد خطة ترامب تُجاه إيران، بالموافقة على شن ضربات جوية تستهدف المواقع النووية والنفطية الإيرانية في الوقت الحالي، ولكن هذا قد يتغير إذا قامت إيران برد فعل عنيف عند وصول ترامب للسلطة؛ مما سيُغير الديناميكيات الدائرة بين الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل، وكذلك ديناميكيات المنطقة ككل.