لقد أحدث الصراع الذي يشهده الشرق الأوسط منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023م اضطرابًا عميقًا في البيئة الإستراتيجية المستقرة في المنطقة منذ سنوات، حتى بات من غير المعلوم كيف سيصبح المشهد الإقليمي عشية انتهاء هذه الحرب، حيث تشتبك أطراف دولية وإقليمية متعددة في هذا الصراع، ويتجاذب الإقليم محاولة من جانب إسرائيل وإيران لفرض أمر واقع جديد على المنطقة، كما تنخرط الولايات المتحدة في هذا الصراع في محاولة لإعادة ترتيب أوراقها الإقليمية، وصياغة توازنات جديدة تخدم تطلعاتها، وهذه التوجهات لا تبدو ضاغطة على محور إيران وحسب باعتباره الجهة التي توجه إليها العمليات العسكرية الإسرائيلية والأمريكية، ولكن هي محاولة لاحتواء النزعة الإقليمية المتنامية، لتبني رؤية إقليمية للأمن والاستقرار الإقليمي بعيدًا عن الاستقطاب والانخراط في المحاور المتصارعة، وكذلك تحرك لإبعاد روسيا والصين عن التأثير في أحد مناطق نفوذ واشنطن المهمة على الساحة الدولية. تأتي كل هذه التحولات في ظل تراجع فاعلية المنظمات الدولية عن التدخل في النزاعات وخفض حدتها؛ مما يثير الكثير من الشكوك حول مستقبل النظام الدولي في ظل الأوضاع الراهنة، وتصاعد حدة الاستقطاب ونشوء النزاعات العنيفة.
يؤشر هذا الصراع متعدد الأطراف والجبهات، والذي ينطوي على قدر هائل من المصالح المتضاربة بين الفاعلين إقليميًا ودوليًا، لحدوث تغييرات جوهرية ليس في ميزان القوة بين أطراف الصراع وحسب، ولكن تغييرات إستراتيجية ذات طابع بنيوي في هيكل النظام الإقليمي وقواعده وتحالفاته، وهذا ما عبّر عنه الرئيس الأمريكي جو بايدن بقوله إن الوضع في الإقليم لن يعود كما كان في السادس من أكتوبر، أي قبل عملية طوفان الأقصى، وعبّر عنه كذلك سفير إسرائيل لدى الولايات المتحدة هيرتزوج، بقوله: كانت إسرائيل دولة في السادس من أكتوبر وأخرى في السابع من أكتوبر، والحقيقة أن إشارة بايدن وسفير إسرائيل لدى واشنطن بقدر ما توصف هذا الزلزال الإستراتيجي الذي ضرب المنطقة، بقدر ما تُشير إلى رغبة أمريكية إسرائيلية في إحداث تغيير واسع النطاق في المنطقة من منطلق هذا الصراع.
ولهذا تفترض هذه الدراسة بأن الصراع الراهن متعدد الجبهات في الشرق الأوسط قد اتسع على هذا النحو غير المسبوق؛ لأن هناك رغبه في توظيفه من أجل إحداث تغييرات جوهرية ذات طابع إستراتيجي، وبما يعكس ميزان القوى الإقليمي والدولي الراهن، وأن ما هو مطروح من تصورات ومشاريع في المنطقة يستهدف إحداث إعادة صياغة التوازنات الإستراتيجية في المنطقة، مع ما يرتبه ذلك من فرص وتحديات على القوى الإقليمية والدولية التي ترتبط مصالحها بالمنطقة، الأمر الذي يُنذر بشرق أوسط جديد قد تتمتع فيه بعض الدول بنفوذ واسع، وتُعزز فيه قوى دولية نفوذها الإقليمي، مع إضعاف نفوذ القوى المنافسة ومحاولة حصار مشروعاتها.
ستُحاول هذه الدراسة أن تعالج هذه الفرضية بالاعتماد على مقولات المدرسة الواقعية، التي تركز على مفاهيم القوة وتوازن القوى، وسوف يستخدم الباحث المنهج الاستقرائي، الذي يركز على جمع البيانات والعلاقات المترابطة بطريقة دقيقة؛ من أجل الربط بينها بمجموعة من العلاقات الكلِّية العامّة، وهو كغيره من المناهج العلمية يُحدِّد الإشكالية أو الظاهرة محل البحث من أجل متابعة تفاصيلها والتعرُّف إلى مسبِّباتها، من ثمَّ الانتقال من الأمور الجُزئية إلى الأمور الكلِّية، أو بمعنى آخر من المفهوم الخاص إلى العام. وفي إطار هذا النهج، يمكن الاستعانة بمنهج دراسة الحالة كأداة لاستقراء أهداف أطراف الصراع، وتأثير ذلك على الأوضاع والتوازنات في الشرق الأوسط، ومن ثمَّ سوف تنقسم الدراسة إلى المحاور الآتية:
أولًا: البيئة الإقليمية وأدوار القوى الفاعلة في الشرق الأوسط قبل طوفان الأقصى.
ثانيًا: طبيعة الصراع متعدد الجبهات ونهج القوى الفاعلة.
ثالثًا: التداعيات الإستراتيجية للصراع.
أولًا: البيئة الإقليمية وأدوار القوى الفاعلة في الشرق الأوسط قبل طوفان الأقصى
قبل عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023م كان التنافس بين القوى الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط قد بلغ ذروته، فعلى مدى ما يزيد عن عقدين قليلا أي منذ الغزو الأمريكي للعراق والمنطقة تمر بحالة من الفوضى وعدم الاستقرار الإقليمي؛ وذلك نتيجة التنافس وتضارب المصالح بين القوى الإقليمية، على خلفية تغير أولويات الولايات المتحدة في المنطقة، وتراجع دورها كأبرز فاعل وشريك أمني في الإقليم، وذلك في غياب أي مبادرة بديلة لحفظ الأمن والاستقرار، وقد وقف خلف هذا التراجع الأمريكي إعادة النظر في أولوياتها الدولية بصفة عامة، والنظر إلى منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ كأولوية، من أجل كبح الصعود الصيني الذي يُهدد مكانة الولايات المتحدة الدولية، ومن ثم وجدت بعض القوى الإقليمية في هذا الفراغ وهذا التنافس فرصة للحركة بحرية لتعزيز نفوذها من خلال القوة، ومن ثم فإن أدوار القوى الدولية وتوجهات القوى الفاعلة في المنطقة قد لعبت دورًا كبيرًا في رسم ملامح الشرق الأوسط، وصياغة توازناته قبل السابع من أكتوبر، ويمكن توضيح هذا التوازن من خلال متابعة نهج القوى الدولية والإقليمية الفاعلة، وأهدافها الإقليمية قبل هذا التاريخ، وذلك على النحو الآتي:
1. توجهات القوى الدولية الفاعلة
حظي الشرق الأوسط باعتباره أحد الأقاليم الفرعية الحيوية بالنسبة للقوى الدولية الكبرى، بدرجات متفاوتة من الاهتمام من جانب كل من: الولايات المتحدة والصين وروسيا، وذلك على خلفية التنافس الدولي المتصاعد بين هذه القوى خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي كان له تداعيات وانعكاسات كبيرة على الأوضاع في المنطقة، ويمكن توضيح أدوار هذه القوى ووجهة نظرها الإقليمية على النحو الآتي:
أ. مقاربة صينية متعددة المستويات لتعزيز التعاون والحضور:
للصين علاقات تاريخية عميقة ومتنوعة مع غالبية دول منطقة الشرق الأوسط، لكن هذا الحضور شهد خلال السنوات الاخيرة زخمًا كبيرًا، إذ كثَّفت الصين تحركاتها وأعادت بناء علاقاتها مع دول المنطقة، وقد جاءت هذه التحركات قبل كل شيء في إطار محاولة الصين تكريس هيمنتها الدولية من مدخل العلاقات الدبلوماسية والروابط الجيواقتصادية، وقد نجحت خلال العقود الماضية في اكتساب نفوذ مهم في المنطقة من خلال متابعة خططها الاقتصادية، وخلق شراكة عميقة مع الدول الفاعلة في الإقليم، وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى أنه اعتبارًا من عام 2022م، بلغ إجمالي حجم التجارة السنوية للسلع الصينية مع دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حوالي 368.4 مليار دولار، وهو أكثر من ضعف حجم الولايات المتحدة، كما نمت صادرات السلع الصينية إلى المنطقة من 140 مليار دولار في عام 2018م إلى 226 مليار دولار في عام 2022م، وتشارك الصين بشكل كبير في تطوير مشاريع البنية التحتية الكبرى من خلال مبادرة الحزام والطريق[1].
كما دعمت سلاسل إمدادات الطاقة والسفر والصناعة والتكنولوجيا نمو التجارة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي، حيث تضاعف حجم التبادل التجاري بين الطرفين خلال السنوات 2015-2022م بنسبة 140% 316.4 مليار دولار، ولا شك أن توقيع اتفاقيات شراكة إستراتيجية مع غالبية هذه الدول نقل العلاقات إلى مستويات أعمق، ويوضح الرسم البياني أدناه نمو الصادرات والواردات بين الجانبين خلال هذه الفترة.
رسم بياني يوضح حجم التبادل التجاري بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي
المصدر: المركز الإحصائي لدول مجلس التعاون الخليجي، https://n9.cl/azjgz
وفي الأشهر التي سبقت السابع من أكتوبر، استثمرت الشركات الصينية ما لا يقل عن 20 مليار دولار في الممر المائي الشرياني في مصر وهو قناة السويس، حيث وقعت المنطقة الاقتصادية لقناة السويس في مصر اتفاقيات بقيمة 6.75 مليار دولار مع شركة China Energy واتفاقية أخرى بمقدار 8 مليارات دولار مع مجموعة United Energy Group في هونغ كونغ؛ لتعزيز قدرات إنتاج الطاقة النظيفة في مصر، حيث شجعت بكين الشركات المملوكة للدولة على الاستثمار في قطاعات الخدمات اللوجستية والنقل والطاقة في مصر ودول المنطقة، وهكذا برزت بكين بوصفها شريكًا اقتصاديًا وتجاريًا مهمًا ومزودًا رئيسًا لاحتياجات الصين من الطاقة، وفي حين كانت تنمو مصالح الصين في المنطقة على هذا النحو فإن لديها مصلحة في تأمين الوصول إلى ممرات الشحن الحيوية والأسواق الإقليمية، ومن ثم فإنها عززت من حضورها الأمني والعسكري في منطقة البحر الأحمر والمحيط الهندي، من خلال القواعد العسكرية والمناورات البحرية المشتركة مع إيران وروسيا[2].
فضلًا عن المصالح الاقتصادية فإن المنطقة بمنزلة معبر مهم لطموحها في إعادة صياغة النظام الدولي، أو على أقل تقدير مراجعة موازين القوة الراهنة وتعديل موقعها في هرم السلطة العالمي، ثم جاءت التحركات في جانب آخر منها ردًا على المنافسة الإستراتيجية التي فرضتها الولايات المتحدة على الصين، ونقل واشنطن أصولها من الشرق الأوسط إلى بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادي؛ لإيقاف الصعود الصيني وتعطيل تطلعاتها الإستراتيجية لمراجعة النظام الدولي، فتحرك واشنطن نحو حدود الصين لحصارها يُفسر تحركًا صينيًا نحو مناطق ضمن المجالات الحيوية لواشنطن[3].
كانت أبرز ملامح الحضور الصيني في المنطقة تلك الوساطة بين السعودية وإيران، التي انتهت باستعادة البلدين للعلاقات الدبلوماسية بعد قطيعة ومواجهة دامت لأعوام، وهو الأمر الذي ترك أثره في مجريات العلاقات الإقليمية، وفتح أفقًا جديدًا للدبلوماسية والاستقرار الإقليمي، ومثّلت هذه الوساطة نموذجًا فريدًا لمبادرة الأمن العالمي، التي يتبناها الرئيس شي بوصفها صيغة للأمن العالمي بدلًا من النظام الذي تقوده واشنطن، والذي بات يُنظر إليه على نطاق واسع أنه غير فعال، ولا شك أن هذه الوساطة عززت من نفوذ الصين بل ومن مكانتها الدولية.
وتتماشى هذه المبادرة الأمنية مع التطلعات الاقتصادية والسياسية التي تُقدِّم بها بكين نفسها للمنطقة والعالم، وهي التطلعات التي تُعبر عنها بوضوح مبادرة الحزام والطريق بوصفها إطارًا للتعاون التجاري والاقتصادي يعزز من العلاقات الاقتصادية والتجارية المتنامية، ويدمج دول المنطقة في مشروع الصين الرائد على الصعيد العالمي، وهكذا يبدو أن الصين خلقت بيئة أمنية جديدة، ومقاربة بديلة عن مقاربة واشنطن التي تدفع المنطقة نحو التنافس والصراع، وهذا المشروع كان يهدف في الأخير لتعزيز مصالح الصين الاقتصادية والأمنية وتطلعاتها الجيوسياسية في إضعاف واشنطن، ويسمح بتغيير هيكل القوة العالمي لصالحها.
المصدر: https://n9.cl/aaiek
ب. مقاربة أمنية أمريكية لاستعادة النفوذ:
انتبهت إدارة بايدن إلى ضرورة إعادة النظر في سياساتها في المنطقة، التي أصبحت تعمل لصالح منافسيها، فعمدت إلى فرض ترتيبات جديدة في الشرق الأوسط، وجاءت هذه الترتيبات في إطار مراجعة إدارة بايدن لتوجهاتها الإستراتيجية التي ثبت أنها انطوت على مقاربات خاطئة، كما جاء في إطار عملية تقييم لتأثيرات الشرق الأوسط على نفوذ الولايات المتحدة العالمي وأهمية المنطقة في دعم إستراتيجيتها العالمية، ولاسيما مواجهة النزعة الجيوسياسية المتنامية لروسيا، والضغط على الصين، ومواجهة التحديات التي تفرضها على مكانة الولايات المتحدة على الصعيد الدولي، خصوصًا أن الفراغ الذي تركته واشنطن خلفها في المنطقة استغلته الصين وروسيا لبناء الشراكات الإقليمية، وتوسيع النفوذ وإدارة المنافسة الإستراتيجية مع واشنطن. ليس هذا وحسب، بل اتجهت مسارات التفاعلات الإقليمية في اتجاه معاكس لمصالح واشنطن، بما في ذلك السياسات النفطية ونزعة الاستقلالية، وتقليل الاعتماد على واشنطن من جانب دول الخليج، وخيار التقارب السعودي الإيراني الذي منح إيران فرصة لإنهاء عزلتها وتقويض فاعلية إستراتيجية واشنطن لعزلها.
بناءً على ذلك عملت واشنطن من خلال إستراتيجية متكاملة لاستعادة النفوذ الإقليمي، أبرز ملامحها إعادة صياغة العلاقة مع الشركاء الذين فقدوا الثقة في واشنطن بوصفها مزودًا أمنيًّا وحليفًا إستراتيجيًّا، وأبرزهم دول الخليج، واستعادة الردع في مواجهة الخصوم، والعمل على ترتيبات إقليمية جديدة لخلق تكامل ونظام إقليمي يخدم مصالحها، ولوضع هذه الإستراتيجية موضع التنفيذ ضغطت إدارة بايدن من أجل أولًا: بناء نظام دفاعي متكامل يضم حلفاء واشنطن، إضافة إلى إسرائيل بوصفها مظلة لحماية مصالح واشنطن الأمنية والإستراتيجية، وثانيًا: توسيع اتفاقيات إبراهام بوصفها مظلة سياسية للحلف الذي تقوده واشنطن في مواجهة محور إيران، وأخيرًا مشروع التنمية “الهند الشرق الأوسط أوروبا” كإطار اقتصادي وتجاري إقليمي يربط حلفاء واشنطن الإقليميين بشركائها الدوليين من جنوب شرق آسيا إلى أوروبا، وهو المشروع الذي اعتبره بايدن نقطة تحول في التاريخ، ويهدف إلى منافسة المشروع الصين الإستراتيجي الحزام والطريق[4].
ج. ساحة حيوية لروسيا في إطار صراعها مع الغرب:
منذ التدخل الروسي في سوريا وحتى السابع من أكتوبر سجلت روسيا حضورًا مهمًّا في الشرق الأوسط، وتزايدت أهمية المنطقة بالنسبة لروسيا بعد الحرب التي شنتها على أوكرانيا، وذلك باعتبار هذه المنطقة أحد المناطق التي تمنح روسيا أوراقًا مهمة في صراعها مع الغرب، ولا شك أسهم انسحاب واشنطن من المنطقة في تعزيز علاقات دول المنطقة بروسيا، ولعل وجود روسيا في سوريا من أبرز ملامح اهتمامها بالتواجد في المنطقة، وما يمنحه ذلك من مزايا إستراتيجية لروسيا، منها وصولها الدائم إلى المياه الدفيئة على البحر المتوسط، وهو الوجود الذي توسع ليشمل ليبيا وغرب أفريقيا وأفريقيا الوسطى والقرن الأفريقي، وقد تلقت روسيا نتيجة لهذا دعمًا مهمًّا من المنطقة فيما يتعلق بحربها على أوكرانيا، فضلًا عن فرصة للتهرب من العقوبات، حيث لم تنسجم مواقف دول المنطقة بالكلية على ما ذهبت إليه واشنطن من عقوبات وعزلة على موسكو، وهنا يُشار إلى زيارة بوتين شخصيًا لكل من السعودية ودولة الإمارات، حيث أعلن أن الإمارات هي الشريك التجاري الرئيس لروسيا في العالم العربي، وقد شملت مواضيع النقاش خلال تلك الاجتماعات التجارة في التكنولوجيا المتقدمة.
وقد كان من أبرز النجاحات الروسية لتعزيز نفوذها في المنطقة هو تحالفها الاقتصادي مع دول الأوبك، وأبرزهم المملكة العربية السعودية، وتشكيل تحالف “أوبك+”، وهو التحالف الذي ساعد روسيا في تفادي انهيارها اقتصاديًا بعد المقاطعة الغربية، وكذلك نجاح روسيا والصين في دعوة ثلاث دول من المنطقة إلى الانضمام لتجمع بريكس، وهذه الدول هي الإمارات العربية المتحدة، وإيران وربما السعودية لاحقًا، الأمر الذي يُعظم من تنامي كتلة سياسية واقتصادية تنافس التجمع الغربي في مجموعة السبع، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الامريكية.
ومن المعروف أنه على مدار سنوات قبل حرب أوكرانيا احتلت المنطقة مكانة مهمة في صادرات روسيا من السلاح، كما أدى غزو أوكرانيا إلى تسريع التعاون الإستراتيجي بين روسيا وإيران، بما في ذلك المجال العسكري، ومن المرجح أن يستمر هذا التوجّه. وفي أعقاب الغزو أشارت تقارير متعددة إلى وجود شراكة أوسع نطاقًا في مجال التكنولوجيا الفائقة والدفاع، ويتجه البلدان إلى توقيع اتفاقية شراكة إستراتيجية تعزز العلاقات، وتمثل التدريبات البحرية المشتركة بين روسيا والصين وإيران في شمال المحيط الهندي تحولًا مهمًّا باعتبارها تُعطي إشارة إلى أن العلاقات بين هذه الدول الثلاث قد وصلت إلى مستوى متقدم، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تُجري فيها إيران مناورات مشتركة مع قوتين بحريتين عالميتين بهذا الحجم في الشرق الأوسط، ومن المعروف أن المنطقة جهة فاعلة مهمة في موازنة منافسة القوى العظمى التي تجتاحها موسكو في صراعها الراهن مع الغرب، وقد سمحت المجموعة لروسيا بممارسة ضغوط دبلوماسية واقتصادية على الاتحاد الأوروبي، وإبراز قوتها العسكرية في الشرق الأوسط وأفريقيا، في حين تتواجد على الجانب الجنوبي لحلف شمال الأطلسي.
وهكذا يُلاحظ أن روسيا والصين تستفيد من علاقاتها المتوازنة بين القوى الإقليمية المتنافسة، وهو ما مهد أمامهما الطريق نحو شراكة أوسع وأعمق، وخلق لهما نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا، وارتد في شكل تأييد ما وانسجام في بعض المواقف في إطار الصراع مع الولايات المتحدة، أو على أقل تقدير تحييد القوى الفاعلة عن الانخراط في السياسات القطبية على الصعيد الدولي، وبالمقابل فإن الولايات المتحدة كانت تسعى إلى تعزيز نفوذها من خلال خلق المحاور الإقليمية وبناء التحالفات، وذلك من أجل استعادة النفوذ المتآكل في المنطقة، وهذا النهج الدولي جعل المنطقة ودولها في مواجهة ضغوط دولية واستقطاب من جانب القوى العظمى.
2. توجهات القوى الإقليمية الفاعلة
قبل السابع من أكتوبر كان التنافس بين المشاريع الإقليمية والمدفوعة بتوجهات خارجية قد أظهر الخلل والتباين في المواقف، فكان هناك مشروع اليمين الإسرائيلي والمدعوم أمريكيًا، وهناك مشروع إيران، الذي لا يمكن قراءته بمعزل عن ارتباطاتها مع روسيا والصين، وكان هناك مشروع السعودية ودول الخليج النابع من رؤية إقليمية جديدة للأمن والاستقرار، وهو المشروع الذي كان له سمت مستقل عن الارتباطات الخارجية إلى حد بعيد، ويمكن توضيح أدوار هذه القوى وأهدافها على النحو الآتي:
أ. المساعي الإسرائيلية لتغيير مجرى الصراع الإقليمي:
خلال الشهور الأولى من العام 2023م، قبل اندلاع طوفان الأقصى تنامت وتيرة التصعيد الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، حيث قتلت السلطات الإسرائيلية 220 فلسطينيًا في الضفة، كما أصدرت 2600 أمر اعتقال إداري، في حين بلغ عدد الأسرى في سجون الاحتلال 5200 أسير، وبلغ عدد المستوطنين الذين اقتحموا المسجد الأقصى 41 ألف مستوطن، إضافة إلى مئات الهجمات من جانب المستوطنين ضد الفلسطينيين، وبعدما وصلت إلى السلطة أكثر حكومة متطرفة في تاريخ إسرائيل، تمادت سلطة الاحتلال في سياسة الاستيطان، واغتيال قيادات المقاومة، وربما تقف هذه التطورات بصورة مباشرة خلف انطلاق عملية طوفان الأقصى؛ حيث كانت إسرائيل تعمل على تكريس واقع جديد فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وفرض وجهة نظر أمنية بحتة على الصراع، مستفيدة من الانقسام الفلسطيني الداخلي، وتراجع الالتزام الأمريكي بالمبادئ الحاكمة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأولها مبدأ الالتزام بحل الدولتين بوصفه إطارًا للتسوية، وكذلك تراجع أولوية القضية الفلسطينية في الفضاء الرسمي العربي والإسلامي، فضلًا عن الاستفادة من الفوضى الإقليمية، والصراع بين إيران ومحورها الإقليمي ودول الخليج.
ركزت إسرائيل على توسيع اتفاقيات إبراهام بوصفها إطارًا للاندماج والتكامل الإقليمي، وتحقيق اختراق دبلوماسي، مستفيدة من تيار عربي روج بأن القضية الفلسطينية أصبح من الممكن تحريكها من خلال تقديم حوافز إيجابية ومسارات جديدة لكل من الفلسطينيين والإسرائيليين لتحريك مسار السلام، ولم تتبن واشنطن تحقيق اختراق دبلوماسي لصالح إسرائيل بالضغط من أجل توسيع اتفاقيات إبراهام وحسب، بل قدمت واشنطن إسرائيل بوصفها شريكًا أمنيًّا حيويًّا ضمن مشروع إقليمي متكامل، هدفه خلق محور إستراتيجي حليف لواشنطن وموجه نحو إيران ومحورها، ومن ثم كان مشروع إسرائيل هو تكريس واقع جديد بخصوص تجاوز مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، والاندماج في هيكل أمني تُغير من خلاله إسرائيل مجريات الصراع التاريخي في المنطقة، وتكريس نفسها قوة إقليمية رائدة في تحالف لمواجهة إيران وحلفائها، وكذلك تكريس نفسها شريكًا تجاريًا إقليميًا، وممرًا لحركة التجارة بين آسيا وأوروبا، وذلك بحكم موقعها كحلقة وصل مهمة في مشروع التنمية بين آسيا وأوروبا.
ومن المعروف أنه منذ حصار إسرائيل لقطاع غزة والفلسطينيون يعانون من الانقسام الذي استثمرت فيه إسرائيل بقوة من أجل تهميش القضية الفلسطينية، وعلى الرغم من محاولات عدة من أجل المصالحة، إلا أنه نظرًا لوجود مشروعين متناقضين بين السلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة المسلحة، فإن كل المحاولات باءت بالفشل، واستغلت إسرائيل هذا الوضع من أجل فرض مزيد من الضغوط العسكرية على الفصائل، وفي الوقت نفسه فرض أمر واقع استيطاني في الضفة في إطار سياسة ممنهجة من أجل إحداث تغيير إستراتيجي على الأرض، ناهيك عن أن صعود تيار اليمين المتطرف بدأ يفرض أمرًا واقعًا جديدًا بالنسبة للمقدسات، وقد كانت الديناميات الداخلية في الولايات المتحدة منذ فترة ترامب وحتى المرحلة الراهنة شديدة التأثير على مسار القضية الفلسطينية، حيث اتخذ ترامب قرارًا بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونجح في الحصول على موافقة أربع دول عربية على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، في حين كانت تتم ترتيبات رعتها الولايات المتحدة والسعودية لأجل حلحلة عملية السلام وإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، ومن ثم النقاش حول ترتيبات من بينها توسيع اتفاقيات إبراهام، في مقابل حل عادل للقضية الفلسطينية، وكذلك خلق إطار تعاون اقتصادي إقليمي فيما يعرف بممر التنمية، وهو المشروع الاقتصادي الذي كان يستهدف تغيير تعاملات دول المنطقة لبناء المصالح بدلًا من الصراع، فإن هذا المسار على ما يبدو لم يكن في صالح إيران ولا إسرائيل، فمن جهة إيران فإن هذا المسار كان سيبقيها خارج دائرة الاهتمام والتأثير، ومن ثم احتفلت بعد السابع من أكتوبر بأنها أبطلته، ومن جهة إسرائيل فإن حكومتها الأشد تطرفًا لم تكن ترغب في أي التزام تجاه الفلسطينيين، ومن ثم انطلق الصراع واتسع لأن كليهما وجد فيه ضآلته[5].
ب. تعزيز إيران مكتسباتها الإقليمية:
ما يزال المنظور الأيديولوجي إلى جانب تطلعات الهيمنة الإقليمية عاملين أساسيين في تحديد تصورات إيران نحو الشرق الأوسط، فقبل عملية طوفان الأقصى كانت إستراتيجية إيران لتعزيز النفوذ الإقليمي تتعزز من خلال إعادة ترميم علاقاتها بمحورها الإقليمي الممتد من سوريا ولبنان شمالًا وحتى اليمن جنوبًا، وكانت قد نجحت في نقل التعاون بين هذا المحور تحت ما يسمى بإستراتيجية وحدة الساحات، التي يُقصد بها تحرك هذا المحور مجتمعًا في حال تعرض أحد أطرافه لهجوم، إلى جانب تعزيز إستراتيجية الدفاع الأمامي والمواجهة خارج الحدود عبر الوكلاء، والتي كانت تستهدف بالأساس ردع إسرائيل والولايات المتحدة خصم إيران الأكثر أهمية عن استهداف إيران أو مصالحها الحيوية، وحاولت أن تحصن إستراتيجيتها من خلال علاقات عميقة مع الصين وروسيا في إطار التوجه شرقًا مستفيدة من الاندفاع الصيني للعب دور بارز في المنطقة، في حين كان نفوذ واشنطن يتراجع في المنطقة[6].
بالإضافة إلى ذلك أعادت إيران نهجها تجاه دول الخليج، واستجابت للمبادرة الدبلوماسية الصينية من أجل عودة العلاقات مع السعودية، باعتبار أن هذا التوجه يخدم إيران ويحد من الضغوط التي تُثقل كاهل الاقتصاد وتتسبب في عزلة طهران الإقليمية، ومن ثم فإن تصور إيران قد قام على نهجين متباينين أحدهما يدعم الدبلوماسية مع دول الخليج، والآخر يقوم على تعزيز عناصر القوة والردع والدفاع الأمامي في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل، ولا شك أن إيران نجحت نسبيًا في التحرك على هذين المسارين، مستفيدة من التفاعلات الإقليمية وتشابك علاقات القوى الكبرى في المنطقة والتغيرات الجارية على الواقع الإقليمي في ظل تراجع مظلة الحماية الأمريكية وحضور الصين الإستراتيجي.
3. صعود دور السعودية بوصفها محفزًا للاستقرار الإقليمي:
جسدت التحركات السعودية في الشرق الأوسط قبل السابع من أكتوبر نموذجًا لصعود الأدوار المستقلة للقوى الإقليمية في ظل التنافس الدولي، هذه التحركات التي انبثقت عن مشروع رائد ركيزته الأساسية تحقيق قفزة تنموية على مختلف الصعد والمستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وهو ما تطلب بيئة إقليمية آمنة ومستقرة تخدم المشروع السعودي، وتعزز دور المملكة إقليميًا ودوليًا، لقد عملت السعودية في إطار هذا التصور على خلق مسار ذاتي مستقل يقوم على تنويع الشراكة مع القوى الدولية، دون الاضطرار إلى الاندماج في أي أطر وتجمعات يمكن أن تفرض على المملكة صراعًا وتنافسًا إقليميًا مكلفًا، ولاسيما بعد أن أدركت الرياض أنه ينبغي التحوط من الاعتماد على واشنطن كضامن أمني وداعم للرياض في المعادلة الإقليمية؛ نظرًا لمقاربات واشنطن وتنافسها مع القوى العظمى، في هذا الإطار جاءت الشراكة الإستراتيجية مع الصين والعلاقة المتوازنة مع روسيا، ومحاولة التموضع كأبرز القوى المتوسطة الصاعدة على الصعيد الدولي.
لقد سعت المملكة لخلق شرق أوسط مستقر لا يخضع للاستقطاب ولا تتصارع قواه، عبر التحرك بتوازن بين القوى الدولية المتنافسة الولايات المتحدة والصين، والتجاوب مع مبادراتهما الإيجابية ذات الطابع الأمني أو الدبلوماسي أو الاقتصادي، بما يخدم مصالح المملكة الوطنية، ولهذا تحركت السعودية بتوازن فيما يتعلق بالشراكة الاقتصادية والتجارية المطروحة من جانب القطبين الدوليين الولايات المتحدة والصين، سواء مبادرة الحزام والطريق الصينية، أو مشروع التنمية الأمريكي، لكن خلقت السعودية لنفسها مسارًا خاصًّا فيما يتعلق بالمشروعات والتصورات المتباينة والمستقطبة، فربطت السعودية بنية التكامل الإقليمي المطروحة أمريكيًا بتعاون لا يخلق صراعًا مع إيران، وبدلًا من ذلك اختارت الرياض الدبلوماسية بوصفها خيارًا رئيسًا لوضع حد للمواجهة مع إيران، كما رفضت الانضمام لاتفاقيات إبراهام دون مسار واضح للقضية الفلسطينية.
وهكذا يبدو أن الشرق الأوسط بوصفه إقليمًا ونظامًا أمنيًّا قبل طوفان الأقصى كان تحت تأثير تنافس القوى الكبرى ومشروعاتها المتنافسة متعددة الأبعاد الاقتصادية والسياسية والاقتصادية والأمنية، وكذلك تأثير تضارب مصالح قواه الإقليمية الفاعلة ومواقفها، حيث كانت المنطقة تحت تأثير مشروع أمريكي من أجل خلق توازن إقليمي جديد بين محورين محور واشنطن ويتم فيه دمج إسرائيل بوصفها قوةً مهيمنةً إقليميًا، وبين محور إيران الذي ما يزال ينظر إلى المنطقة من خلال عدسة أيديولوجية، وتتمحور تحركات طهران على خط مناقض لرؤية إسرائيل وواشنطن، فيما كان هناك مشروع تقوده السعودية من خلال الدبلوماسية كرافعة لاستعادة الأمن والاستقرار الإقليمي، ولهذا يفسر البعض عملية طوفان الأقصى على أنها رد فعل على وصول التنافس في الإقليم إلى ذروته، وأنها كانت عملية حتمية نتيجة خيبة الأمل، أو بمعنى أدق احتدام التنافس، ومحاولة بعض الأطراف تغيير الوضع الراهن وتجاوزه لأجل فرض أمر واقع جديد.
ثانيًا: طبيعة الصراع متعدد الجبهات ونهج القوى الفاعلة
انطلقت شرارة الصراع في الشرق الأوسط لأن التناقضات بين القوى الإقليمية والدولية قد بلغت ذروتها، وتضاربت مصالح الأطراف الفاعلة على نحو غير مسبوق، ويمكن تناول أبعاد هذا الصراع وساحاته وأطرافه على النحو الآتي:
1. اتساع نطاق الصراع في المنطقة
انخرط في الصراع الذي تشهده المنطقة العديد من الأطراف الإقليمية، وأهم هذه الأطراف فصائل المقاومة الفلسطينية ومعها إيران وحلفائها الإقليميين من جانب، وإسرائيل من جانب آخر، وذلك باعتبار هذه الأطراف هي المشارك الفعلي في القتال، كما امتد الصراع إلى سبع جبهات دارت فيها التفاعلات الإقليمية، ويمكن توضيح أبعاد الصراع إقليميًا على النحو الآتي:
أ. صراع وجودي ومحاولة إسرائيلية لتغيير الواقع في الأراضي المحتلة بالقوة:
أطلقت حركة حماس شرارة الصراع الراهن في الشرق الأوسط، وكان هجومها على غلاف غزة السابع من أكتوبر 2023م، وما صحبة من ضربة صاروخية إلى العمق الإسرائيلي بـ 2200 صاروخ أكبر هجوم على الأراضي المحتلة، وقد ألحق هذا الهجوم خسائر بشرية غير متوقعة، وأسفر بحسب البيانات الإسرائيلية عن مقتل 1300 شخص، وإصابة قرابة 3000 شخص، وأسر نحو 200 أسير إسرائيلي، وكانت هذه العملية مفاجأة كبرى على المستوى العملياتي ومن حيث التوقيت والنتائج، وكان لدى حركة حماس عدة أهداف أهمها إعادة التموضع على الساحة الفلسطينية، بعد أن وصل بها الحصار وتراجع التمويل المادي إلى مرحلة خانقة، بالإضافة إلى مواجهة المشروع الأمريكي الإسرائيلي الذي كان يستهدف تصفية القضية الفلسطينية، إضافة إلى إعادة القضية الفلسطينية إلى جدول الأعمال العربي والإسلامي وعلى الصعيد العالمي، وقد راهنت حماس على أن يمتد الطوفان إلى الضفة وربما إلى أبعد من ذلك، لكن في الحقيقة هذا لم يتحقق، وواجهت حماس حملة عسكرية شرسة لم تشترك فيها إسرائيل وحدها، بل شاركت معها الولايات المتحدة والدول الغربية، من خلال دعم عسكري وسياسي ودبلوماسي غير مسبوق، حيث نجحت الدعاية الإسرائيلية في تصوير ما حدث في إطار رغبة معادية لاجتثاث إسرائيل، متناسية مظالم الفلسطينيين والجرائم التي ارتكبت بحقهم، ومُنحت إسرائيل حقًا مطلقًا في استخدام القوة تحت ذريعة الحق في الدفاع عن النفس، وهو في جوهره كان حقًا مطلقًا في القتل ومساندة في الإفلات من العقاب.
في البداية شنت إسرائيل هجومًا مضادًا من أجل السيطرة على المستوطنات في غلاف غزة، وأعلنت في اليوم التالي الثامن من أكتوبر 2023م عن عملية السيوف الحديدية، بهدف استعادة الأسرى والقضاء على حماس، وقبل أن تشن إسرائيل هجومًا بريًّا على شمال قطاع غزة قامت بحملة جوية من أكثر حملات القصف دموية وتدميرًا في التاريخ الحديث، كان هدفها تهجير سكان القطاع نحو الجنوب باتجاه الحدود مع مصر، مع إحكام الحصار على القطاع، ومنع وصول المساعدات والإمدادات بما في ذلك الغذاء والماء والوقود، وقد اضطر ذلك حماس إلى التعاطي مع الواقع، ومحاولة تخفيف وطأة الأزمة الإنسانية والكارثة، أو بالأحرى المذبحة وحرب الإبادة التي يتعرض لها سكان القطاع، وبالتالي الدخول في صفقة من أجل تخفيف حدة الأزمة الإنسانية، وعلى الرغم من الضغوط الدولية واتفاقات الهدنة الذي تم بموجبها تبادل بعض الأسرى بين حماس وإسرائيل في نوفمبر 2023م، غير أن إسرائيل واصلت حملتها على القطاع في ديسمبر 2023م، وبدا اليمين الإسرائيلي مصممًا على الاستمرار في القتال حتى القضاء على حماس نهائيًّا، ومتابعة خططها في تعقب عناصر حماس وقياداتها، وإحكام الحصار على القطاع بعد اقتحام رفح والسيطرة على محور فيلادلفيا.
وقد صاحبت هجمات إسرائيل انتهاكات واسعة، وواجهت اتهامات بأنها تمارس حرب إبادة ضد قطاع غزة، حيث سقط ما يقرب من 50 ألف شهيد غالبيتهم من الأطفال والنساء، وما يقارب من 100 ألف جريح ناهيك عن المفقودين تحت الأنقاض، وتنفيذًا لوعودها نجحت إسرائيل في اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، وصالح العاروري نائب رئيس الحركة في لبنان، كما نجحت في اغتيال خليفة هنية ومهندس عملية طوفان الأقصى يحيى السنوار.
فبشهادة المحكمة الدولية فإن ما تقوم به إسرائيل يُفيد بأن هناك أسبابًا كافية للاعتقاد بأن إسرائيل تشن حملة إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، ما قد يؤكد ذلك أن إسرائيل تتحرك بعيدًا عن الأهداف التي وضعتها للحرب، وهي هزيمة حماس واستعادة الرهائن، ولهذا فإن البعض يُشير إلى أن هناك أهدافًا خفية لإسرائيل، وهي القيام بعملية تطهير عرقي، باعتبارها الطريقة الوحيدة للخروج من إشكالية الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين، كما أنها الوسيلة الفعلية لإنهاء أي جذور للمقاومة في الأراضي المحتلة ككل، وهذا ما يُفسر عدم إفصاح إسرائيل عن أي خطة لليوم التالي في غزة بعد توقف إطلاق النار، وذلك لأنهم بحسب ما ذهب عالم السياسة الأمريكي ميرشايمر لا يريدون حلًا سوى إخراج الفلسطينيين من غزة، وتطهيرها عرقيًّا، وذلك عبر قتل أعداد كبيرة من الفلسطينيين الأبرياء، ومنحهم حافزًا قويًّا للخروج، عن طريق قتلهم، واتباع سياسة التجويع، وجعل القطاع غير صالح للعيش[7] .
ولا يفوت التنويه إلى شن إسرائيل حملة على الفلسطينيين في الضفة الغربية في محاولة لتصفية جيوب المقاومة، والقضاء على أبرز قيادات المقاومة، وقمع أي تمرد من فلسطيني الضفة، وذلك من خلال التوغل واقتحام المخيمات، وهجمات المستوطنين على القرى، الأمر الذي جعل العام 2023م الأكثر دموية بالنسبة للفلسطينيين منذ عشرون عامًا، وهو ما صاحبه تزايد لعمليات المقاومة في داخل الخط الأخضر، وردًا على ذلك استهدفت إسرائيل المقاومين من حماس وحركة الجهاد، وشنت هجمات على مخيمات جنين وطولكرم.
وعلى الرغم من ردود الفعل الدولية والإقليمية المعارضة للحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، إلا أن عدة عوامل أسهمت في الاستمرار في التصعيد، وأهمها: أن إسرائيل وجدت في الحرب فرصة من أجل القضاء على التهديدات الوجودية على المدى البعيد، بالإضافة إلى ذلك وجدت إسرائيل في الصراع فرصة من أجل إضعاف محور إيران، وكسر معادلة الردع التي تحاول تعزيزها من خلال فصائل المقاومة، كما أن استمرار الحرب يؤجل البت في مسؤولية نتنياهو وربما تهديد مستقبله السياسي، كذلك فإن المعركة تصادف أهداف اليمين المتطرف المسيطر على السلطة، كما يستفيد نتنياهو من ظروف الانتخابات الأمريكية، التي تحول دون ضغوط الإدارة الأمريكية على نتنياهو، ويبدو أن الدعم الدولي الذي تلقته إسرائيل قد شجعها على محاولة وضع حد نهائي للتهديدات الأمنية التي تواجهها، بل دفعها لأن تتخذ من هذا الصراع فرصة من أجل إعادة تشكيل الشرق الأوسط ككل.
وهكذا ومع أن إسرائيل أعلنت في سبتمبر على لسان وزير دفاعها يوآف غالانت أن الجناح المسلح لحماس لم يعد موجودًا بوصفه تشكيلًا عسكريًا منظمًا، ويشارك الآن في تمرد ضد الجيش الإسرائيلي، ورغم أن إسرائيل ركزت جهودها بعد عام من حرب الإبادة على غزة تجاه حزب الله على الجبهة الشمالية، لكنها ما تزال تواصل عملياتها على القطاع، وتعتبر الحرب وجودية، في حين لا يبدو أن هناك نوايا للتهدئة ووقف إطلاق النار قبل القضاء على حماس، وفي ظل التحديات أمام تحقيق هذا الهدف فإن الحرب على هذه الجبهة تبدو بلا أفق.
ويُلاحظ أن الخطاب السياسي الإسرائيلي انتقل من التركيز على حق الدفاع عن النفس، ومواجهة تهديدات فصائل المقاومة في فلسطين والجماعات المحسوبة على إيران لأمن إسرائيل وحدودها، إلى خطاب هجومي يستهدف تغييرات أوسع في الشرق الأوسط، يمكن فهمها من إشارات القيادات الإسرائيلية حول عدم السماح بقيام دولة فلسطينية في تجاهل لكافة القرارات والمرجعيات الدولية، ليس هذا وحسب بل الإشارة إلى فرض أمر واقع جديد على المنطقة ككل، ويكون هذا الواقع ترجمة لتفوق إسرائيل الإقليمي، ويبدو أن هذه الثقة الإسرائيلية مستمدة من تفوقها العسكري والتكنولوجي والنجاحات التي حققتها خلال عام منذ بداية حربها على غزة، فضلًا عن حقها المطلق في استخدام القوة دون قيود، والحماية الأمريكية المطلقة التي تجنبها تحمل المسؤولية أو الملاحقة، إضافة إلى الغطاء الدبلوماسي والدعم العسكري والمادي اللامحدود من جانب واشنطن.
ويبدو أن ما عجزت حكومة إسرائيل عن تحقيقه في السياسة والدبلوماسية قبل السابع من أكتوبر تحاول أن تفرضه من خلال العمل العسكري، حيث أصرّ نتنياهو على الدخول إلى رفح رغم الاعتراضات الأمريكية الباهتة والمخاوف الإقليمية، بل وأصرّ على السيطرة على محور صلاح الدين ومحور فيلادلفيا؛ وذلك بهدف إحكام القبضة على قطاع غزة وتصفية وجود حماس والتمهيد لمرحلة ما بعد الصراع، التي تدور تصوراتها حول إنهاء أي مقاومة لمشروع الاحتلال وأي فرصة لبقاء مشروع الدولة الفلسطينية، وفي تحدٍ لاتفاقية السلام المبرمة مع مصر برعاية أمريكية، وسعى بلا هوادة لجعل حماية أمن إسرائيل منطلق لتحركات إسرائيل الإقليمية بلا قيود أو حدود.
ب. الصراع على جبهة لبنان وضغوط إسرائيلية غير مسبوقة على حزب الله:
تطورت قواعد الاشتباك بين حزب الله وإسرائيل بعد السابع من أكتوبر 2023م، واتخذت مسارًا تصعيديًا؛ حيث بدأت وفق قواعد الاشتباك العادية بين الجانبين في المنطقة الحدودية والتصعيد المحسوب، لكن الحزب انضم بوصفه جبهة إسناد لحماس فيما بعد، حيث بدأ الأمر بإفساح الحزب المجال للمقاومة الفلسطينية في لبنان لشن هجماتها تجاه الأراضي المحتلة، لكن نظرًا لأن ردود إسرائيل كانت تستهدف حزب الله، لعدم درايته بمواقع المقاومة الفلسطينية في لبنان فقد قام حزب الله بقصف المواقع العسكرية الإسرائيلية على شريط الحدود، ولاسيما معدات التجسس وأجهزة الرادار، وتزايدت وتيرة العمليات بعدما ردت إسرائيل على ذلك بغارات جوية على القرى والبلدات الجنوبية، وظل هذا الوضع لقرابة ثلاثة أشهر منذ السابع من أكتوبر، ولم يتخطَ الطرفان حدود الاشتباك وقواعده لشهور متتالية، وتجنبًا لأي استهدافات في العمق، وقد أدت الهجمات المتبادلة إلى عملية نزوح وإخلاء شبه كامل للمناطق على الحدود، مع أضرار جسيمة في البنية التحتية على طول الحدود.
حاولت الولايات المتحدة وفرنسا التوسط من أجل وقف القتال على جبهة لبنان، لكن حزب الله أصرّ على ربط جبهة لبنان بجبهة غزة، واتخذ الجانبان مسارات متفاوتة من التصعيد، لكن مع تطور الأحداث خرجت الاشتباكات عن السيطرة، إذ وسعت إسرائيل من استهدافاتها لقيادات حزب الله، ولاسيما البارزين منهم على غرار اغتيال فؤاد شكر، الذي كان يعد أحد القادة العسكريين البارزين في حزب الله، كما تم استهداف العديد من القادة الميدانيين، وتطورت الهجمات الإسرائيلية خلال سبتمبر 2023م، حيث فجرت إسرائيل آلاف من أجهزة الاتصالات المحمولة وأجهزة اللاسلكي التي يستخدمها عناصر الحزب، وهو ما أسفر عن 42 قتيلًا وإصابة 3500 آخرين، وكان واضحًا أن إسرائيل من تقف خلف هذا الهجوم، واعتبر زعيم حزب الله هذا العمل بمنزلة إعلان حرب.
مع ذلك، تابعت إسرائيل هجماتها على الضاحية الجنوبية، واستهدفت قيادات فرقة الرضوان، بزعم أنهم يخططون لشن هجوم بري على شمال إسرائيل، حيث اغتالت 16 من قيادات الحزب من بينهم قياديين عسكريين بارزين، هما إبراهيم عقيل قائد فرقة الرضوان، وأحمد وهبي القائد السابق للفرقة نفسها، بل وسعت من هجومها على كامل جنوب لبنان وصولًا إلى صور والبقاع الغربي، ونفذت مجددًا غارة على الضاحية قيل إنها استهدفت القائد العسكري لقطاع الجنوب علي الكركي، وردًا على ذلك شن حزب الله هجومًا على المخازن الرئيسة لفيلق الشمال في قاعدة نيمرا الإسرائيلية، والكتيبة الصاروخية والمدفعية بثكنة يوآف، فضلًا عن قصف مجمع الصناعات العسكرية رفائيل شرق حيفا، ثم بعد توسع القصف الإسرائيلي بشكل غير مسبوق، امتد القصف الذي وجهه حزب الله تباعًا حتى عمق 120 كم شرق حيفا، حيث دوّت صفارات الإنذار للقبة الحديدية في مناطق تمتد من شرق حيفا إلى شرق تل أبيب، على بعد كيلومترات قليلة من مطار بن جوريون، وكان ذلك إيذانًا بنسف قواعد الاشتباك.
كانت الهجمات الإسرائيلية مفاجئة وغير متوقعة، واستهدفت هرم القيادة الميداني، وأثبتت وجود اختراق كبير لصفوف الحزب، وهو ما أربك الحزب إلى حد بعيد، وفي حين كان يظن الحزب أن لديه متسع من الوقت للملمة أوراقه، فاجأته إسرائيل بشن هجوم غير مسبوق استهدف زعيم حزب الله حسن نصر الله، ثم أعقبت ذلك بهجوم بري في غياب أي أفق للتراجع عن التصعيد، واستهداف لكافة بنية الحزب المدنية والعسكرية ولقياداته، لكن واجهت إسرائيل مقاومة قوية من جانب عناصر الحزب في الجنوب، وعلى ما يبدو لم تتأثر خطط هذه الكتائب في المواجهة بما جرى في الضاحية، ومع الوقت بدا أن حزب الله يستعيد عافيته التنظيمية والميدانية، ويتابع بوتيرة أكبر استهدافاته للعمق الإسرائيلي بالصواريخ والطائرات المسيرة، وآخرها استهداف منزل رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه، وهو ما يعني أن هذه الجبهة ستظل مشتعلة، والحقيقة لا تنظر إسرائيل إلى لبنان بوصفها جبهةً مساندةً لغزة، بل إلى خصم يجب إنهاء تهديده على المدى الطويل وذراع لإيران يجب بترها، ولاسيما بعد أن تزايدت قدرات الحزب على مدار السنوات الأخيرة، ومن ثم فإنها تأخذ من هذه الحرب على الحزب منطلقًا من أجل تغيير واسع النطاق على جبهة الشمال.
ج. صعود الحوثيين بوصفهم لاعبًا مؤثرًا في التفاعلات الإقليمية:
دخل الحوثيون على خط الصراع متعدد الجبهات في الشرق الأوسط في 19 نوفمبر 2023م، وذلك من خلال عمليات عسكرية استهدفت جنوب الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولاسيما منطقة إيلات، وبالتوازي مع ذلك شنت هجمات في البحر الأحمر والمحيط الهندي استهدفت في البداية السفن المتجهة إلى إسرائيل على وجه الخصوص، ثم وسعت الجماعة من استهدافاتها؛ حيث لم تقتصر هجمات الحوثيين على السفن ذات الروابط المباشرة بإسرائيل، وإنما شملت سفن الحاويات، وناقلات النفط، وناقلات الغاز الطبيعي المسال، وناقلات البضائع السائبة والسفن الأخرى ذات الأصول المختلفة، كما لم تقتصر الهجمات على البحر الأحمر بل اتسعت جغرافيًا لتشمل خليج عدن والمحيط الهندي.
وقد أجبر سلوك الحوثيين الولايات المتحدة على اتخاذ إجراءات تصعيدية ضد الجماعة اليمينة، حيث شكلت واشنطن إلى جانب بريطانيا تحالف الازدهار في 19 ديسمبر 2023م، وبالتزامن مع ذلك أعادت الولايات المتحدة تصنيف الحوثيين جماعة إرهابية، فضلًا عن حملة من الضغوط والعقوبات؛ بهدف وقف هجمات الحوثيين على إسرائيل، وعلى حركة الملاحة في المنطقة، وعقب ذلك شكل الاتحاد الأوروبي، في 19 فبراير 2024م قوة بحرية جديدة تحت مسمى”خطة أسبيدس” لمواجهة تهديدات الحوثيين، ومن جانبهما أعلنت كل من إيران وروسيا والصين، أنها ستجري تدريبات مشتركة تحت اسم «حزام الأمن البحري – 2024م» خلال الفترة من 11 إلى 15 مارس 2024م بالقرب من خليج عُمان؛ بهدف «العمل على سلامة النشاط الاقتصادي البحري»، وتُشير هذه التطورات إلى انتقال الصراع والتنافس إلى منطقة البحر الأحمر، وإلى مزيد من الحضور العسكري الغربي في المنطقة.
لقد تركت عمليات الحوثيين أثرها على حركة التجارة عبر البحر الأحمر؛ إذ بسبب تحويل مسار السفن، أصبحت سعة سفن الحاويات في البحر الأحمر أقل بنسبة 80 % مما كان متوقعًا في يناير 2024م، مقارنة بمستويات الفترة (2017 -2019م)، ومع أن الحوثيين واجهوا العديد من الضربات والاستهدافات الجوية من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، إلا أنهم ربطوا إيقاف هجماتهم بوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
لقد حاول الحوثيون تكريس موقعهم في الصراع الإقليمي، وحددوا هويتهم العقدية بالارتباط بمحور المقاومة، الذي تقوده إيران ضد إسرائيل والولايات المتحدة، ولا يعني ذلك أن الجماعة غير مستفيدة من هذا الصراع في تصدير أزمتها الداخلية للخارج، وعدم الالتزام بخطة السلام المطروحة بين اليمنيين، والقيام تحت لافتة شعار الانتصار لغزة بالحشد والتعبئة الداخلية واستعادة الشرعية، فضلًا عن تحصيل عوائد من مرور السفن عبر البحر الأحمر، وهو ما يوفر للجماعة موارد يمكن من خلالها معالجة أزمة نقص المواد الأساسية، كما يُقدم الحوثيون أنفسهم من خلال هذه الهجمات بوصفهم فاعلًا مهمًّا لدول محور الشرق الصين وروسيا، الذين لديهم تطلعات للعب دور على الساحة الإقليمية ومراجعة النظام الدولي ككل، كما يُقدم الحوثيون أنفسهم بوصفهم لاعبًا إقليميًّا مؤثرًا في التطورات الإقليمية القادمة.
يُثبت تشكيل الولايات المتحدة للتحالف الدولي لحماية البحر الأحمر، والذي تمَّ الإعلان عنه في ديسمبر 2023م، وجهة النظر تلك، إذ على الرغم من الهدف المُعلَن وهو التصدِّي لهجمات الحوثيين وحماية حركة التجارة عبر البحر الأحمر، فإنَّ هناك احتمالًا بأنَّ أهدافًا غير مُعلَنة ترتبط بتعاظُم مكانة منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي في الإستراتيجية الأمريكية على الصعيد الدولي، التي قد تدفع واشنطن إلى عسكرة المنطقة، وذلك في إطار إستراتيجية واشنطن لإعادة الانتشار بهذه المنطقة، وتوسيع نفوذها على نحوٍ فعّال، وبالتالي تأمين السيطرة على مضيق باب المندب، وقطع الطريق على مبادرة الحزام والطريق الصينية، ومواجهة النفوذ المتصاعد لروسيا وإيران وتركيا في هذه المنطقة، وفي الوقت نفسه حماية المصالح الإسرائيلية، ولعب دور بارز في إعادة هيكلة التوازنات الإستراتيجية بشرق أفريقيا.
د. تغيير قواعد الاشتباك بين إيران وإسرائيل:
كان طوفان الأقصى اختبارًا عمليًّا لإستراتيجية إيران الإقليمية، وعقيدة الدفاع الأمامي التي عملت على ترسيخها على مدار السنوات الماضية، حيث نسقت إيران بين محورها الإقليمي ما يعرف بإستراتيجية وحدة الساحات، وبالتالي دخل على خط الصراع حزب الله، الذي شن هجومًا على شمال إسرائيل إسنادًا لقطاع غزة، من أجل تخفيف الضغط على فصائل المقاومة، وربط الحزب مصير معركة الشمال بوقف القتال في غزة، كما دخل الحوثيون على خط الصراع عبر عملية إسناد من جبهة اليمن، ودخلت المقاومة في العراق على خط المواجهة باستهداف القوات الأمريكية في العراق والأردن، كما وجهت هجماتها إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، لكن أدخلت عملية طوفان الأقصى نمطًا جديدًا من المواجهة بين إيران وإسرائيل، حيث تم تبادل الهجمات، وهذا أدى بدوره لنشأة معادلة قوة إقليمية جديدة من شأنها أن تستمر إلى ما هو أبعد من نهج المواجهة المحسوبة التي حافظ عليها البلدان من قبل.
وردًا على الغارة الإسرائيلية على قنصلية إيران في دمشق في أبريل 2024م، التي أدت لمقتل عناصر من الحرس الثوري، واعتبرتها طهران اعتداءً على سيادتها، أطلقت إيران عملية الوعد الصادق 1، عبر هجوم مباشر على إسرائيل بالصواريخ والطائرات المسيرة، وذلك بعد أن أعطت الولايات المتحدة معلومات حول الهجوم وهو ما جعله محدود التأثير، لكن إسرائيل ردت على هذا الهجوم بهجمة على الدفاعات الجوية الإيرانية في أصفهان، قرب المواقع النووية من أجل الحفاظ على الردع، وكشفت هذه العملية عن نقاط ضعف في دفاعات إيران العسكرية، كما كشف اغتيال إسماعيل هنية في طهران عن ضعف استخباراتي مماثل، ورغم وعود إيران بالرد على هذه الحادثة، إلا أن الحشد الأمريكي العسكري والمخاوف من أن تتورط إيران في معركة لا يمكن تحمل نتائجها قد دفعها إلى تأجيل ردها، متحججة بإعطاء فرصة للمفاوضات الجارية حول الهدنة في غزة، لكن فشلت المفاوضات في تحقيق وقف إطلاق النار، وبدلًا من ذلك وسعت إسرائيل من نطاق مواجهتها مع حزب الله، وبدأ التصعيد بتفجير آلاف أجهزة البيجر التي يحملها عناصر الحزب، ثم اغتيال 16 من كبار قادة الحزب، وكذلك زعيمه التاريخي حسن نصر الله، ومعه نائب قائد فيلق القدس عباس نيلفروشان، وهو ما اعتبر تهديدًا غير مسبوق ليس لحزب الله بل لإيران، خصوصًا في ظل التهديدات الإسرائيلية المباشرة لإيران وللنظام تحديدًا.
لهذا ولحفظ ماء الوجه واستعادة الردع وعدم خسارة ثقة الحلفاء، ودون سابق إنذار غامرت إيران بإطلاق عملية الوعد الصادق 2، على الرغم من المخاوف من ضربة إسرائيلية أكبر، وذلك في الأول أكتوبر 2024م، وذلك عبر هجوم على مواقع عسكرية إسرائيلية باستخدام صواريخ باليستية، وقد قدرت واشنطن وإسرائيل هذه الهجوم بأنه أكبر من هجوم أبريل 2024م، لكن يبدو أن تأثير هذا الهجوم ودلالاته كانت مهمة، ولاسيما أن الولايات المتحدة قد نشرت عقبه منظومة ثاد الدفاعية المتطورة في إسرائيل، إلى حد ما أسهمت هجمات إيران في استعادة الردع، كما نجح حزب الله في إعادة تنظيم صفوفه وترتيب أوضاعه للتأقلم مع تطورات الصراع وقواعد الاشتباك، بعد الهجوم البري الذي شنته إسرائيل على جنوب لبنان.
ردًا على هذا الهجوم الإيراني قامت طائرات مقاتلة إسرائيلية عبرت المجال الجوي العراقي بإطلاق صواريخ بعيدة المدى على أهداف داخل إيران، وتُشير تقارير غير مؤكدة إلى أن هجمات مماثلة استهدفت الدفاعات الجوية السورية والعراقية، على الرغم من أن المصادر العراقية نفت هذه الادعاءات، وتقول إسرائيل إن 20 موقعًا في إيران تعرض للقصف، ووُصفت جميعها بأنها أهداف عسكرية، وصرحت إسرائيل بأن الغارات الجوية استهدفت على وجه التحديد مراكز إنتاج الصواريخ الإيرانية وأنظمة الدفاع الجوي الأرضية، محذرة من أن إسرائيل قد تختار أهدافًا إضافية لضربات مستقبلية إذا رأت ذلك ضروريًا، في رسالة إلى طهران بأن يد إسرائيل الطويلة قد تصل إلى كافة أراضي إيران، لكن من جانبها قللت إيران من تأثير الضربات، وأدعت أنها تسببت في أضرار محدودة، واحتفظت بحقها في الرد على انتهاك سيادتها وفقًا للقانون الدولي، ويبدو أن إسرائيل تجنبت مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية أو قطاع الطاقة بسبب الضغوط الأمريكية، وعدم الرغبة في الوصول إلى نقطة الصدام الشامل في هذا الصراع، لكن على أية حال يعد هذا التطور تصعيدًا كبيرًا بين الجانبين، وتجاوزًا لقواعد الاشتباك المعروفة، إذ إنه لأول مرة تُهَاجَم أراضي إيران على هذا النحو من قوى خارجية منذ الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي[8].
تتوعد إيران بإطلاق عملية الوعد الصادق 3 للرد على إسرائيل، إلا أن ذلك يعد تصعيدًا عالي المخاطر في ظل المعادلة الجديدة المتضمنة تداعي قدرات محور المقاومة، ويذهب بعض الخبراء إلى الاعتقاد بأن إيران قد تُعيد النظر في عقيدتها النووية، ومع أن إيران لم تتخذ بعد القرار الحاسم بتسليح قدراتها النووية، لكن نظرًا للتهديدات الإسرائيلية والفعالية المحدودة للضربات الصاروخية والأعمال بالوكالة ضد خصم متفوق تكنولوجيًا مثل إسرائيل، فإن إيران قد تنظر بشكل متزايد إلى إمكاناتها النووية باعتبارها عنصرًا حاسمًا في إستراتيجيتها الأمنية الأوسع نطاقًا، ويُشار هنا إلى مطالب أعضاء مجلس الشورى من المرشد إعادة النظر في فتواه بتحريم الحصول على السلاح النووي، وإعادة النظر في عقيدة إيران النووية، ليس هذا وحسب، بل ناقش البرلمان مشروع قانون تحت عنوان “تشكيل تحالف دفاعي-أمني بين فصائل المقاومة والدول الداعمة لها في أكتوبر 2024م، وذلك في مواجهة الضغوط والتحديات التي فرضها الصراع على إسرائيل، ويسعى هذا التحالف إلى إنشاء بنية دفاعية مشتركة، لمواجهة التهديدات الخارجية ودعم بعضهم بعضًا في أوقات الأزمات، كما يهدف هذا التحالف إلى محاولة إيران الحفاظ على استثماراتها الإقليمية على مدار سنوات في محور المقاومة، والعمل على لملمة الصفوف بعد الضربات الإسرائيلية المتعاقبة، وخلق معادلة إقليمية جديدة، الأمر الذي يعني حفاظ إيران على عمقها الإستراتيجي في غرب آسيا، وربما الاستعداد لمواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وتوحيد الصفوف وجذب قوى جديدة إلى محورها، بما في ذلك قوى دولية مناهضة للهيمنة الأمريكية ومقاومة لنفوذها الإقليمي[9].
هـ . الدور العربي ودور السعودية لتفادي الفوضى الشاملة:
عدَّت السعودية القضية الفلسطينية في صدارة اهتماماتها، وهو ما أكد عليه ولي العهد ورئيس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان، في افتتاح الدورة التاسعة لمجلس الشورى السعودي في سبتمبر 2023م، مؤكدًا أيضا على عدم توقف المملكة عن عملها الدؤوب نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية” والأهم تأكيده على أن المملكة لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون ذلك”، وهو موقف غاية في الأهمية بالنسبة للمشهد الإقليمي الذي كانت واشنطن وإسرائيل ترغبان أن ترسماه للمنطقة، حيث تُقدم المملكة رؤية بديلة لرؤيتي واشنطن وإيران، ويتفق مع ذلك ما ذهبت إليه المملكة بتقديم بيان إلى محكمة العدل الدولية في 20 فبراير 2024م، أكدت فيه عدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ 57 عامًا، ودعت إسرائيل إلى إنهائه. وفي أعقاب الهجوم الإسرائيلي الأخير على لبنان، أصدرت وزارة الخارجية السعودية بيانًا حثت فيه جميع الأطراف على ممارسة أقصى درجات ضبط النفس، وتجنيب المنطقة وشعوبها محنة حرب أخرى.
كما تتحرك المملكة في إطار عربي وإسلامي ودولي من أجل بناء إجماع في مواجهة التحديات الدولية والإقليمية التي تفرض تحديات غير مسبوقة بشأن القضية الفلسطينية، وقد كان استضافة الرياض لمؤتمر القمة الإسلامية والعربية الاستثنائية انعكاسا لهذا النهج، حيث أكد البيان الختامي للقمة على أنه لا سلام مع إسرائيل قبل انسحابها إلى حدود 1967م، وأدان العدوان على لبنان وغزة، ودعا لوقف إطلاق النار، وبدوره شجب ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان ما وصفها بأنها “إبادة جماعية” ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين خلال خطابه في القمة[10].
كما تدعم المملكة إلى جانب القوى الإقليمية العربية والخليجية الدبلوماسية بوصفها إطارًا لتسوية الصراع، ولا ترغب في اتساع نطاق الحرب، وتؤيد حقوق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة، ومبدأ حل الدوليتين وتؤكد على موقفها التاريخي المنبثق عن المبادرة العربية لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وتقف على مسافة متساوية من أطراف الصراع الإقليميين، ولهذا لم تتدخل على خط الصراع في أي من ساحاته، حتى في الساحات البعيدة التي كانت مدعوة لها، والتي تمس مصالحها الأمنية والاقتصادية، كتحالف الازدهار لحماية الامن والاستقرار في البحر الأحمر، وهو ما يُشير إلى حسابات دقيقة تبني عليها دول منطقة خياراتها الإستراتيجية وترتيباتها الإقليمية في هذا الصراع.
خريطة توضح مبادرة السلام العربية 2002م
ويلاحظ أنَّ حرب غزة وحَّدت مواقف بعض القُوى العربية الرئيسة، لكن دون تحرك جماعي فاعل بالنظر إلى التعقيدات المرتبطة بالصراع وتشابك العلاقات المرتبطة به، فيما ظلَّ نفوذ الصين وعلاقاتها بحُلفاء الولايات المتحدة في المنطقة مسارًا غير مرتبط بواشنطن، وهو ما يؤكِّد أنَّ المنطقة قد تغيَّرت دينامياتها لتؤكِّد حدود نفوذ واشنطن، ولعل دول الخليج كانت قد اختبرت خلال ما يزيد عن عام التفاهم مع إيران، وثبت أنه خيار إستراتيجي مهم حقق لدول المنطقة قدرًا يُعتد به من الأمن والاستقرار، وخلق قدرًا من التفاهم تم من خلاله تجاوز بعض العقبات والتحديات، وكان من أهم ثماره أنه حمى دول الخليج من أن تكون طرفًا في الصراع الراهن، الذي من المحتمل أن يمتد إلى المنطقة كلها، لكن اتساع نطاق الصراع ربما يُعرض أمن دول الخليج للخطر، بالنظر إلى أن طهران ما تزال تنظر إلى دول الخليج على أنها حليف أساس للولايات المتحدة، وتنظر بترقب كبير إلى أن دخول بعض دول المنطقة في علاقات تطبيع مع إسرائيل سيكون هدفه الأساس، وأحد أهم جوانبه هو التحالف في مواجهة إيران وحلفائها.
ربما استفادت بعض الدول العربية من الصراع في تحييد ضغوط واشنطن، ولاسيما فيما يتعلق بفرض التطبيع مع إسرائيل والابتعاد عن الصين، وفي هذا السياق يُشار إلى الموقف السعودي الأكثر تعبيرًا عن الموقف العربي العام، إذ كثفت المملكة جهودها الدبلوماسية لوقف الصراع؛ حيث دعت المملكة لقمة عربية استثنائية في نوفمبر 2023م، لبحث تداعيات الوضع في غزة، وأدانت القمة بشكل جماعي العدوان الإسرائيلي، ووصفت الوضع بالكارثة الإنسانية، كما شكلت المملكة لجنة وزارية برئاسة وزير خارجيتها، مهمتها عرض قرارات القمة والمطالب العربية والإسلامية على الأمم المتحدة والقوى العالمية، ولعبت اللجنة دورًا كبيرًا في إقناع العديد من الدول بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتعزيز قبولها في عضوية الأمم المتحدة من خلال التصويت في الجمعية العامة، ووصلت جهودها إلى العمل على إنشاء تحالف دولي من أجل الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
2. أدوار القوى الدولية في الصراع
كشف الصراع متعدد الجبهات عن حقيقة أدوار القوى الخارجية وحدودها في التأثير على التفاعلات الإقليمية، ولاسيما التفاعلات ذات الطابع الصراعي، وذلك من أجل خلق توازن جديد يضمن لها مصالحها ويدعم تطلعاتها الدولية، ويمكن تحديد النهج والأدوار للقوى الدولية على النحو الآتي:
أ. انخراط عسكري أمريكي وعودة الشرق الأوسط لصدارة الاهتمامات:
تعاطت الولايات الأمريكية مع الصراع عبر عدة مسارات، فبداية قدمت إدارة بايدن دعمًا سياسيًا لا محدود لإسرائيل ولحكومتها المتطرفة، وأيدت حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بصورة مطلقة، كما أنها قادت حملة دعائية للترويج للرواية الإسرائيلية حول الأحداث، وتجنبت أي ضغوط إقليمية أو دولية من أجل وقف الصراع وحرب الإبادة التي شهدها قطاع غزة، كما وفرت غطاءً دبلوماسيًا لحماية إسرائيل دوليًا، ففي مجلس الأمن استخدمت واشنطن حق الفيتو ضد كل القرارات المتعلقة بالأزمة والرامية إلى إنهاء الصراع. ومع أن إدارة بايدن قد حاولت من خلال الوساطة إظهار دورها كوسيط، لكن فقدانها الرغبة أو القدرة على الضغط على رئيس الحكومة الإسرائيلية أظهر ضعف دور واشنطن الدبلوماسي، وربما كشف عدم رغبة بايدن في الضغط على إسرائيل، وذلك خشية تأثير ذلك على حظوظه في البداية ثم حظوظ كاميلا هاريس في الانتخابات الرئاسية، ويرى البعض أن سبب التناقض بين قوة الولايات المتحدة ومساعيها لتأكيد الهيمنة وعجزها عن رعاية مسار لوقف إطلاق النار، أنها لا ترغب، أو أنها في الشرق الأوسط باتت أقل تأثيرًا مما يعتقد رغم كل النفوذ والمصالح الواسعة في المنطقة.
أما اقتصاديًا فقد قدمت واشنطن دعمًا غير محدود لإسرائيل، ففي أبريل 2024م صادق الرئيس الأمريكي جو بايدن على حزمة دعم مالي لإسرائيل بقيمة 26 مليار دولار بينها نحو 14 مليار دولار للدعم العسكري، وقبل هذه الحزمة كان قد تم رصد مساعدات بأكثر من 10 مليارات دولار لتعزيز الدفاعات الجوية واستبدال مخزون الذخائر الذي استخدمته إسرائيل في الحرب على غزة، حتى إن بايدن تباهى بأن إدارته قدمت لإسرائيل ما لم تقدمه أي إدارة أخرى لإسرائيل[11].
وعسكريًا، عززت واشنطن من وجودها العسكري، وأعادت نشر أصولها العسكرية بالمنطقة بما في ذلك حاملات الطائرات والغواصات النووية والقطع البحرية المختلفة، وأسراب الطائرات المقاتلة من طراز “F-35″ و”F-15″ و”F-16″ و”A-10” التابعة للقوات الجوية الأمريكية في المنطقة، ومؤخرًا نشر ثلاث من منظومات دفاعية من طراز ثاد، ونشر 100 جندي معها، وذلك من بين سبعة بطاريات تمتلكهم الولايات المتحدة، ولم يسبق أن نشرت واشنطن هذه المنظومة بالمنطقة إلا في الإمارات، بعد هجمات الحوثيين في 2019م، وكذلك حافظت واشنطن على وجود عسكري متزايد في الشرق الأوسط طوال العام الماضي، “مع حوالي 40 ألف جندي، وما لا يقل عن اثنتي عشرة سفينة حربية وأربعة أسراب طائرات مقاتلة تابعة للقوات الجوية، منتشرة في جميع أنحاء المنطقة، لحماية الحلفاء ولتكون بمنزلة رادع ضد الهجمات”[12].
كما شنت القوات الأمريكية بالفعل هجمات على المليشيات في العراق وسوريا واليمن، وذلك من أجل ردع محور إيران الذي شن هجمات منسقة على الاحتلال الإسرائيلي، وفي مواجهة الاضطرابات في البحر الأحمر على خلفية حملة الحوثيين أطلقت واشنطن مبادرة أمنية متعددة الجنسيات، تحت اسم “حارس الازدهار”، تعمل تحت مظلة القوات البحرية المشتركة، وقيادة فرقة العمل 153 التابعة لها، وتهدف هذه العملية إلى مواجهة التحديات الأمنية جنوب البحر الأحمر وخليج عدن بشكل مشترك، ولضمان حرية الملاحة وتعزيز الأمن الإقليمي.
كما اختبرت واشنطن خلال العام دفاعاتها الإقليمية المنسقة مع دول غربية وبعض دول المنطقة؛ من أجل التصدي لهجمات إيران ردًا على الهجمات الإسرائيلية، وخلال أبريل 2024م نجحت بالفعل في التصدي لهذه الهجمات، لكن كانت النتائج أقل من المتوقع في الهجوم الذي شنته إيران بصواريخ باليستية في مطلع أكتوبر 2024م، لهذا قامت واشنطن بنشر دفاع جوي من منظومة ثاد لأجل حماية إسرائيل، واتضح أنه بدلًا من “التحول نحو آسيا” الذي تبنته إدارة بايدن، انتهى الأمر إلى إنفاق قدر هائل من رأس المال السياسي والمالي والعسكري في الشرق الأوسط[13].
وعلى الرغم من أن واشنطن لم تتخل عن الدبلوماسية من أجل احتواء الصراع ومنع تمدده، لكن مبادراتها لم تفضِ إلى نتيجة إيجابية، فمقترح بايدن نهاية مايو 2024م لإنهاء الحرب في غزة، وما أعقبه من جولات مفاوضات كان أخرها في أغسطس 2023م لم يُكتب له النجاح، حيث راوغت إسرائيل لنواياها المبيتة في عدم الوصول إلى تسوية تُنهي الصراع، وتمسكت حماس من جانبها بشروط تقود إلى وقف الحرب والانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة.
لكن لا يمكن الجزم بأن موقف واشنطن من الصراع لم يكن خلفه رغبة أمريكية في إعادة ترتيب المنطقة لخدمة مصالحها، فدعم إسرائيل في جانب منه يضعف محور إيران الإقليمي، ويؤكد نفوذها، ويدعم تطلعاتها في بنية إقليمية تقودها بمساعدة إسرائيل، كما أنه يحد من نفوذ الصين وروسيا، ويجذب دول الخليج من جديد نحو واشنطن، ولهذا ربما يمكن القول إن المشروع الإسرائيلي وجد دعمًا أمريكيًا غير مسبوق.
مع ذلك لا يمكن التغاضي عن بعض الضغوط التي حاول بايدن أن يمارسها على حكومة إسرائيل من أجل تغيير مواقفها، وتخفيف الضغط الذي تتعرض له إدارة بايدن تحت وطأة الإبادة التي تقوم بها إسرائيل في قطاع غزة، والاحتجاجات التي ضربت الجامعات الأمريكية، والحركات التي تشكلت لمعارضة سياسة إدارة بايدن وباتت مؤثرة في مجرى المنافسة الانتخابية، وذلك خشية من تدهور سمعة الولايات المتحدة على خلفية موقفها من هذه الحرب، لهذا حاول بايدن الضغط على نتنياهو من خلال اتهامه بأنه لا يبذل الجهود اللازمة من أجل تحرير الأسرى، لإحراجه داخليًا بعد رفض الصفقة، ولاعتقاد بايدن بأن نتنياهو يسعى لتعزيز حظوظ ترامب الذي يبدي دعمًا أكبر لنهج إسرائيل الأكثر تشددًا.
لكن ظل بايدن الذي لديه اعتقاد أيديولوجي وإستراتيجي راسخ بشأن وجود إسرائيل غير مستعد لاستخدام أوراق الضغط الامريكية الممكنة على نتنياهو أو حكومته، وقد تراجع عن وقف بعض واردات الأسلحة لإسرائيل، ودعم كل السياسات التي تبناها نتنياهو من غزو رفح إلى احتلال محور فيلادلفيا، ثم الهجوم البري على لبنان.. إلخ، وذلك على الرغم من معارضته لكل هذه الإجراءات في البداية، لكن يبدو أن الاختلاف في وجهات النظر بين الولايات المتحدة وإسرائيل مهما وصل من مرحلة حرجة لا يمكن أن يؤثر على الالتزام الأمريكي تجاه إسرائيل، حتى لو قادت تصرفات نتنياهو إلى حرب إقليمية واسعة النطاق، ويستغل نتنياهو الضغط الأمريكي الضئيل في عام انتخابي حاسم، والهجمات التي تشن على إسرائيل من أجل متابعة خطته وجناحه المتطرف، وربما تجد الولايات المتحدة نفسها في ظل هذا الانسياق خلف إسرائيل أمام حرب إقليمية متسعة ربما لم تكن ترغب بها.
ب. الحذر الصيني والانحياز دون تحمل عواقب:
بخلاف الدعم المطلق الذي قدمته واشنطن لإسرائيل، أدانت الصين هجوم حماس في السابع من أكتوبر، ولكنها لم تتهم حماس بأنها منظمة إرهابية، وهو ما أثار حفيظة إسرائيل، وعقب الهجمات دعت الطرفين إلى خفض التوتر في أقرب وقت ممكن، وجددت التأكيد على الاقتراح الخاص بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وحل الدولتين لحل المشكلة، وأدانت هجمات إسرائيل على قطاع غزة، وفي هذا الصدد قال وزير الخارجية الصيني في لقاء مع نظيريه الروسي والإيراني: “سندعم نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه الوطنية”[14].
وقد استند التعاطي الصيني مع الصراع في الشرق الأوسط بعد السابع من أكتوبر إلى نهج راسخ يتميز بعدم التدخل والحياد السياسي، والحذر الشديد تجاه التورط في الصراعات العديدة في المنطقة، ومن ثم اتسمت مبادرات الصين بطابع سياسي ودبلوماسي، إذ دعمت بكين الجهود المتعددة الأطراف لإنهاء العنف في غزة واحتواء الصراع واسع النطاق، وذلك عبر المشاركة بفاعلية في جهود مجلس الأمن من أجل وقف إطلاق النار ومعالجة الأزمة الإنسانية، وفي هذا الإطار استخدمت بكين حق النقض “الفيتو” ضد مشروع قرار طرحته الولايات المتحدة الأمريكية في 15 أكتوبر 2023م، إذ اعتبرته يشمل عناصر كثيرة تفرق ولا تجمع، وتتجاوز البعد الإنساني، وغير المتوازن وتخلط الحق والباطل، كما أنه لا يعكس الدعوة القوية لوقف إطلاق النار وإنهاء العنف. لكنها أيدت قرارين تم طرحهما في مجلس الأمن الدولي الذي فشل في إصدارهما؛ بسبب استخدام الولايات المتحدة الأمريكية لحق النقض، أحدهما تقدمت به روسيا في 16 أكتوبر 2023م، ويدعو إلى وقف إطلاق النار بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وحماية المدنيين ومنع استهدافهم، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة. أما القرار الثاني فتقدمت به البرازيل في 18 أكتوبر 2023م، ويتبنى الدعوة إلى هدنة إنسانية والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة.
كما أيدت الصين مشروع القرار العربي الذي تقدمت به الأردن بوصفها ممثلًا عن المجموعة العربية، في الدورة الاستثنائية الطارئة العاشرة للجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي حمل عنوان “الأعمال الإسرائيلية غير القانونية في القدس الشرقية المحتلة وبقية الأراضي الفلسطينية المحتلة”، الذي تم التصويت عليه في 27 أكتوبر 2023م، وحظي بأغلبية 121 عضوًا، وعارضته 14 دولة، فيما امتنعت 44 دولة عن التصويت. ويدعو القرار إلى هدنة إنسانية وفورية دائمة ومستدامة تقضي بوقف الأعمال العدائية، وتوفير السلع والخدمات الأساسية للمدنيين في شتى أنحاء غزة فورًا ودون عوائق.
كذلك شاركت الصين في قمة القاهرة للسلام 2023م، التي عُقدت في 21 أكتوبر 2023م، حيث دعت القمة إلى وقف الحرب الدائرة في غزة، التي راح ضحيتها الآلاف من المدنيين الأبرياء، وطالبت باحترام قواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وإعطاء أولوية خاصة لنفاذ وضمان تدفق المساعدات الإنسانية والإغاثية وإيصالها إلى مستحقيها في غزة، والتحذير من مخاطر امتداد رقعة الصراع الحالي إلى مناطق أخرى في الإقليم. وعكست كلمة مبعوث الصين إلى منطقة الشرق الأوسط، تشاي جون، خلال القمة موقف بلاده من الحرب على غزة، إذ يرى الجانب الصيني ضرورة منع توسيع رقعة الصراع، ووقف إطلاق النار وإنهاء القتال في أسرع وقت ممكن، وأن استخدام القوة دون تمييز أمر غير مقبول، ولابد من فتح ممر الإغاثة الإنسانية في أقرب وقت ممكن، ويجب على إسرائيل أن تستأنف الإمدادات العادية مثل المياه والكهرباء والوقود لقطاع غزة، ووقف العقاب الجماعي على سكان القطاع[15].
كما قام المسؤولون الصينيون بزيارات رفيعة المستوى إلى المنطقة؛ للاشتراك في الجهود من أجل وقف القتال والتواصل مع الأطراف المرتبطة بالأزمة بما في ذلك إسرائيل وحماس، واستضافت الصين محادثات مصالحة بين حركتي حماس وفتح، وفي حين أبدت الصين اهتمامًا واضحًا بمزيد من المشاركة والوساطة، إلا أن جهودها ظلت متواضعة نسبيا[16].
وراقبت الصين من بعيد مسار الأزمة التي خضعت إلى حد كبير لإملاءات إسرائيل وداعميها في الغرب، الذين أذعنوا إلى حد كبير لنهج القوة المفرطة الذي تابعته حكومة نتنياهو المتطرفة، إذ قامت الولايات المتحدة بتوفير السلاح والدعم المادي والغطاء الدبلوماسي وتدخلت لردع الجماعات المسلحة الحليفة لإيران، التي تُقدم الإسناد للمقاومة الفلسطينية، وهو ما أسهم في إطالة أمد الصراع ووسع من نطاقه وخلق أسوأ كارثة إنسانية في المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية ضربت معها مصداقية الغرب والنظام الدولي، وهو ما قدرته الصين على أنه مكسب في سياق جهودها لمراجعة النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.
ورغم وجود فرصة لتعزيز حضورها ودبلوماسيتها الإقليمية ومنافسة دور واشنطن الإقليمي، فإن الصين تمسكت بموقفها المحايد تجاه الصراعات الإقليمية ومبدأ عدم التدخل، ولهذا لم تكن الصين طرفًا في مسار الوساطة بشأن وقف إطلاق النار والرهائن، بقيادة قطر ومصر والولايات المتحدة، واكتفت أن تضع نفسها وسيطًا محتملًا، حيث دعا وانج يي، وزير خارجية الصين، إلى عقد مؤتمر سلام دولي، وأكد دعم بكين “لحل الدولتين”.
والمستغرب أن الصين، التي لديها مصلحة حيوية في سلامة النقل البحري عبر البحر الأحمر وباب المندب، وفي الوقت نفسه تعول على المنطقة كجغرافيا اقتصادية حيوية لمشروعها العالمي الحزام والطريق، غير أنها لم تشارك في تحالف الازدهار الذي شكلته واشنطن، لمواجهة الاضطرابات التي سببها الحوثيون في المنطقة، وذلك رغم أن الهجمات على الناقلات حملت مخاطر كبيرة على المصالح الاقتصادية الصينية، سواء عبر فرض تكاليف تجارية باهظة على الصين، التي تعتمد بشكل كبير على سلاسل التوريد العالمية، أو تعريض أصول الاستثمار الصينية في المنطقة للخطر، وبدلًا من ذلك نشرت الصين بصورة منفردة أسطولًا بحريًا في خليج عدن، بزعم القيام بمهمة لمكافحة القرصنة، ولكن على ما يبدو أن هذا كان ردًا على التوترات في البحر الأحمر[17]، وربما تريد إرسال رسالة بأنها فاعل دولي مستقل، ولا يمكن أن تنضوي تحت تحالف تقوده الولايات المتحدة.
لكن مؤخرًا بدأ الموقف الصيني الذي كان مؤيدًا للموقف الفلسطيني والعربي في الاتجاه نحو تحقيق التوازن بين حقوق الشعب الفلسطيني وبين مخاوف إسرائيل الأمنية[18]، وهو ما ظهر أيضًا في عدم إدانة إسرائيل على قتل زعيم حماس يحيى السنوار، على غرار ما ذهبت إليه بعد اغتيال إسماعيل هنية، وهو ما قد يُشير إلى إعادة تموضع صيني من الصراع في المنطقة اتساقًا مع مبدئها الراسخ في الحياد وعدم الانحياز لأي طرف، ولاسيما بعد الامتعاض الإسرائيلي من موقف الصين المنحاز إلى الفلسطينيين وفصائل المقاومة وإيران، وكذلك رغبة في وضع حد للصراع الذي يبدو أنه يعزز من نفوذ الولايات المتحدة إقليميًا وشريكتها إسرائيل، وذلك على حساب مصالح الصين ونفوذها، كذلك فإن امتداد الصراع إلى لبنان واحتمال انتشاره بالمنطقة، وربما يطال منطقة الخليج والمنشآت النفطية في إيران وبعض دول المنطقة يهدد إمدادات الطاقة المتدفقة إلى الصين، ويرفع من سعر الطاقة بما يضيف مزيدًا من الأعباء على الاقتصاد الصيني الذي يمر بأزمة ركود.[19]
يمكن تفسير التعاطي الصيني الحذر مع الصراع في إطار غياب المصلحة الحيوية، ومبدأ عدم التدخل الذي تتبناه منذ فترة طويلة بصفة عامة وتجاه الصراعات في الشرق الأوسط تحديدًا، وهذا المبدأ أساسي ضمن “المبادئ الخمسة للتعايش السلمي” التي تدعم سياسة الصين الخارجية، أو ربما ترى بكين عدم انطواء الصراع الجاري على تهديدات حيوية لمصالحها في المنطقة، أو ربما ترك الباب مواربًا أمامها في المستقبل، من أجل خلق مسار مستقل للسلام الإقليمي المتجمد منذ سنوات، على غرار ما قامت به بين السعودية وإيران، وهو الأمر الذي لن يعزز نفوذها في الشرق الأوسط وحسب ولكن على الصعيد العالمي.
ج. استغلال روسي للصراع:
تدخلت روسيا مبكرًا على خط الأزمة، وأجرى مسؤوليها اتصالات مع أطراف الأزمة ودول المنطقة المعنية من أجل بحث وقف اطلاق النار، وكانت رسالة موسكو الأساسية ترتكز على موقفها الراسخ من الصراع، وهو عدم جدوى استخدام القوة في تسوية النزاع، وضرورة العودة إلى المفاوضات على أساس الشرعية الدولية التي تنص على إقامة دولة فلسطينية ضمن حدود 1967م وعاصمتها القدس الشرقية، تعيش بأمن وسلام إلى جانب إسرائيل، وفي هذا السياق دعت الخارجية الروسية الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي إلى وقف فوري لإطلاق النار، ونبذ العنف، وممارسة ضبط النفس اللازم، وإقامة عملية تفاوضية، بمساعدة المجتمع الدولي، تهدف إلى إقامة سلام شامل ودائم طال انتظاره في الشرق الأوسط.
وعلى خطى الصين فإن روسيا اعتبرت الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية ما آلت إليه الصراعات، لأنها من وجهة نظر موسكو تتحمل المسؤولية عن التصعيد الحالي بوصفه نتيجة مباشرة للفشل المزمن في الامتثال للقرارات ذات العلاقة الصادرة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، ولقيام الغرب عمليًا بعرقلة عمل رباعية الشرق الأوسط للوسطاء الدوليين التي تضم روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وفي حين لم تهاجم روسيا أي من طرفي الأزمة بل إنها لم تعتبر حماس منظمة إرهابية، فإنها تركت الباب مواربًا أمام قبول دورها كوسيط، وذلك استنادًا إلى علاقاتها الجيدة مع الطرفين، وإمكانية طرحها كبديل في ظل الانحياز الأمريكي، فضلًا عن المطالب بدخولها كضامن في أي صفقة، كما أن لها علاقة جيدة مع الأطراف غير المباشرة للصراع كإيران، ولديها خبرة في النزاعات الإقليمية، وتواجد مهم على ساحات سوريا ولبنان واليمن، وبالفعل طرح بوتين مبادرة للوساطة رحب بها الجانبان إسرائيل وحماس.
وعلى أساس هذه المبادرة استقبلت روسيا وفدين من حماس في أكتوبر 2023م ويناير 2024م برئاسة رئيس مكتب العلاقات الدولية في الحركة موسى أبو مرزوق، للنقاش حول سبل تسوية الصراع، واستكملت موسكو جهودها الدبلوماسية عن طريق استقبال قادة فصائل حماس والجهاد الإسلامي وحركة فتح، وأجرت هذه الأطراف محادثات في موسكو في 29 فبراير 2024م، وذلك بهدف الدخول على خط المصالحة الفلسطينية والعمل على توحيد الموقف الفلسطيني، وبالتالي تعزيز أوراق موسكو، لكن انتقدت إسرائيل زيارات وفود المقاومة إلى روسيا واعتبرتها تأييدًا لما قامت به حماس من هجمات على إسرائيل.
لكن لم يمنع ذلك روسيا من انتقاد سياسة التهجير التي حاولت إسرائيل فرضها على سكان قطاع غزة، واعتبرت الاستيطان عاملًا مباشرًا لما قامت به حركة حماس في السابع من أكتوبر، كما أكد بوتين على حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، معتبرًا الأرض التي يعيش عليها الفلسطينيون أرضهم تاريخا، وأعلن رفض حصار قطاع غزة، ورفض العملية البرية على القطاع، واعتبرت روسيا على لسان وزير خارجيتها لافروف القصف الإسرائيلي يتعارض مع القانون الدولي، ويخاطر بالتسبب في كارثة يمكن أن تستمر لعقود، ودعا إلى معالجة الأزمة الإنسانية في القطاع، ورفضت روسيا عرقلة إسرائيل وصول المساعدات الإنسانية، كما اعترضت على لسان مندوبها بالأمم المتحدة ادعاءات إسرائيل باستخدام حماس هذه المناطق المدنية لأغراض عسكرية بوصفها مبررًا لمهاجمة المناطق السكنية ومخيمات اللاجئين والمستشفيات في القطاع.
وعلى الجانب الإنساني قدمت روسيا مساعدات غذائية إلى المدنيين في قطاع غزة، وقد أظهرت وسائل الإعلام الروسية تعاطفًا لافتًا مع معاناة الفلسطينيين ومع حقوق الشعب الفلسطيني، مع انتقادات واسعة للموقف الأمريكي وللتغطية الغربية المنحازة إلى الاحتلال الإسرائيلي، ويبدو أن مواقف روسيا المدفوعة بالأساس من تنافسها مع الولايات المتحدة قد أزعجت إسرائيل، ودفعها إلى استقبال الرئيس الأوكراني زيلنيسكي بعد رفض ذلك قبل السابع من أكتوبر، بل طالبت بعض الأصوات بتوحيد المواقف الإسرائيلية مع الغرب في حرب أوكرانيا[20].
إضافة إلى ذلك، قدمت روسيا مشروعين لمجلس الأمن دعا الأول إلى وقف إنساني دائم لإطلاق النار، وإدانة لكل أعمال العنف ضد المدنيين وجميع الأعمال الإرهابية، وتأمين إطلاق الأسرى، وتوفير المساعدات الإنسانية للقطاع، والسماح بإجلاء المدنيين الراغبين في ذلك، لكن رفضت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا واليابان مشروع القرار، ودعا الثاني إلى هدنة إنسانية لمعالجة الأوضاع المتفاقمة، لكن استخدمت ضده الولايات المتحدة حق الفيتو. واتساقًا مع موقفها من الصراع استخدمت موسكو حق النقض كما فعلت الصين ضد قرار قدمته الولايات المتحدة، لأنه يمنح إسرائيل حق الدفاع عن النفس، ويصنف حركة حماس منظمة إرهابية ويتهمها باستهداف المدنيين، كما عادت روسيا في ديسمبر 2023م واستخدمت حق النقض ضد قرار قدمته الإمارات واتهمت موسكو واشنطن بأنها استحوذت على المناقشات بشأنه خلف الكواليس، وأفرغته من مضمونه واعتبرت أن من يصوت على القرار سيكون متواطئًا في تدمير قطاع غزة، بالإضافة إلى ذلك أيدت روسيا القرار العربي في الجمعية العامة في أكتوبر 2023م، الذي دعا إلى هدنة إنسانية دائمة تُفضي إلى إنهاء الأعمال العدائية، وقد كشفت مواقف الصين وروسيا عن وجود أرضية مشتركة بشأن النزاع الجاري، كما كشفت مداولات مجلس الأمن عن التنسيق المشترك الروسي الصيني في مواجهة الولايات المتحدة[21].
لكن خلافًا للصين كانت روسيا حاضرة في المشهد العسكري الإقليمي، إذ بدت أكثر جرأة في تعاونها العسكري مع إيران، والذي اتخذ دفعة مهمة منذ الحرب الروسية على أوكرانيا، وازداد زخمًا مع الصراع الجاري في الشرق الأوسط، حيث يجري الحديث عن استعداد روسيا لتنفيذ اتفاق بموجبه قد تسلم روسيا إيران طائرات من نوع سو 35 المتقدمة، فضلًا عن أنظمة دفاع جوي من نوع أس 400، وهي مساعدات مهمة في ظل الهجمات المتبادلة بين إيران وإسرائيل منذ بداية الصراع، كما يجرى الحديث عن تعاون روسيا مع بعض الجماعات المسلحة المنخرطة في الصراع ضد إسرائيل، وخصوصًا جماعة الحوثي التي تنخرط في مواجهة مع الولايات المتحدة والغرب في البحر الأحمر والمحيط الهندي، وهي مواجهة ليست بعيدة عن اهتمامات روسيا ومصالحها في مواجهتها الجارية مع الغرب في أوكرانيا، حيث تركز الولايات المتحدة جهودها على الصراع في الشرق الأوسط بدلًا من الصراع في أوكرانيا، كما أجرت روسيا مناورات بحرية مشتركة في 19 أكتوبر 2024م مع سلطنة عمان وإيران في المحيط الهندي[22].
وهكذا يتضح أن باب المواجهة قد انفتح على مصراعيه في المنطقة، وقد تم تجاوز قواعد الاشتباك التقليدية، ودخلت تغييرات مهمة على العقيدة القتالية للقوى المنخرطة في الصراع، وأن هذا الصراع طال جبهات عدة من إيران شرقًا حتى فلسطين غربًا، ومن لبنان وسوريا والعراق شمالًا حتى اليمن جنوبًا، وبات يمثل تهديدًا كبيرًا للأمن والاستقرار الإقليمي ككل، وهو صراع من المحتمل أن يتسع ليشمل المنطقة بأسرها، وأن بعض القوى الدولية تنخرط في هذا الصراع استنادًا إلى رغبتها في التأثير على نفوذها الإقليمي، ومن ثم مكانتها الدولية.
ثالثًا: التداعيات الإستراتيجية للصراع
بينما تخوض الدول والجماعات صراعات مصيرية، ولا يبدو أن هناك أفقًا للتسوية التي تضع حدًا للحرب الإقليمية الراهنة، فإنه يمكن قراءة التغيرات ذات الطابع الإستراتيجي التي صاحبت الصراع، والتغييرات في موازنين القوى الإقليمية على النحو الآتي:
1. التحولات ذات الطابع الإستراتيجي
كشف الصراع عن جملة من التحولات ذات الطابع الإستراتيجي في المنطقة، أهما ما يأتي:
أ. حرب غير مسبوقة في غياب أي ترتيبات للأمن الإقليمي:
يمثل الصراع الدائر في المنطقة صراعًا مختلفًا عن بقية الصراعات التي شهدها الإقليم عبر تاريخه، فالصراع متعدد الجبهات والساحات، كما أنه عابر للحدود فتتدخل فيه دول عدة كإيران وإسرائيل واليمن والعراق، بعضها لا يمتلك حدود مباشرة مع إسرائيل، هذا ناهيك عن طبقات الصراع التي تتشابك فيها هذه الدول إلى جانب جماعات مسلحة من غير الدول، كحزب الله في لبنان وجماعة أنصار الله الحوثي في اليمن والمليشيات الشيعية في العراق وسوريا، وفصائل المقاومة في غزة والضفة. هذا الصراع يدور على سبع جبهات مختلفة، في مشهد شديد التعقيد يُشير إلى طابعه الاستثنائي، وحالة الفوضى التي تركها خلفه في المنطقة، كما أنه يُشير إلى أزمة ممتدة قد تطول، نظرًا إلى أن الأطراف المتصارعة تخوض معاركها بأسقف مرتفعة ووفق معادلات صفرية، وطموح لإعادة تشكيل هيكل القوة الإقليمي.
خريطة توضح جبهات الصراع في الشرق الأوسط
المصدر: https://www.bbc.com/arabic/articles/cyd0j66vqr4o
ويجرى هذا الصراع في حين تفتقر المنطقة إلى أي ترتيبات للأمن الإقليمي، بل جرت في وقت اتسمت التحالفات فيه بالسيولة والمرونة، حيث ما تزال بعض القوى الإقليمية راغبة في عدم الانحياز لأطراف الصراع الرئيسيين إيران أو إسرائيل، كما أن القضية الفلسطينية تفرض قيودها على توجهات هذه القوى، بالإضافة إلى ذلك اتسع نطاق المواجهة الإقليمية بصورة مطردة وغير مسبوقة، حيث امتدت إلى القرن الأفريقي وشمال المحيط الهندي، إذ بعدما دخل الحوثيون على خط الصراع في فلسطين المحتلة أصبحت منطقة البحر الأحمر وتخومها جزءًا من الصراع الراهن، حيث ينشط في هذه المنطقة قوات أربعين دولة أو ما يقاربها، وهو تحول جوهري في نطاق الحرب الدائرة، وتحول جوهري في الأطراف المتدخلة بصورة مباشرة في الحرب وفي الساحات التي وصل إليها، وربما تمثل عملية حارس الازدهار، التي تقودها الولايات المتحدة ردًا على الهجوم والإسناد الذي قدمه الحوثيون لما يسمى محور المقاومة، تأكيدًا على قدرة إيران على ربط ساحات الصراع في الشرق الأوسط بعضها بعضا في اختبار لعقيدتها وإستراتيجيتها الدفاعية، إضافة إلى ذلك تُشير الأدوار المتداخلة للقوى الدولية والإقليمية وطبيعة الحرب وتعدد طبقاتها إلى الكثافة في التدخل والعزيمة على إحداث تغييرات جوهرية في موازين القوة الإقليمية.
ب. نزعة عدوانية في ظل تغيير العقائد العسكرية:
نظرًا لأن هناك رغبة في إحداث تغيير جوهري في ميزان القوى الإقليمي، فإن الأطراف المنخرطة في الصراع طورت عقائدها وإستراتيجيتها للتعاطي مع هذا الطموح، ومن ثم تحول الصراع من نطاقه المحسوب ومناطقه الرمادية إلى مواجهة مباشرة أكثر عدوانية، فبداية تلقت إسرائيل ضربة قاسية في السابع من أكتوبر 2023م، وتعرضت عقديتها العسكرية لانكشاف كبير، في ظل مواجهة التهديدات القادمة من جبهات متعددة، وربما تكبدت خسائر بشرية كبيرة لم تتكبدها على مدار عقود منذ إعلان قيامتها في عام 1948م، لكن أثبت الصراع قدرة إسرائيل على تغيير عقيدتها العسكرية، إذ إنها لأول مرة تخوض حربًا طويلة على هذا النحو، بعد الانطباع الراسخ القائم على اعتماد إسرائيل بصفة دائمة على إستراتيجية “الحرب الخاطفة” التي لا تستغرق سوى أيام قبل أن تتوقف، وربما هذه المرونة والتكيف يتناسب مع حجم الطموح الإسرائيلي في الإقليم وإحداث تغيير جذري في ميزان القوة الإقليمي لصالح إسرائيل، فضلًا عن الدعم الأمريكي في تعزيز هذه العقيدة الجديدة، ومساعدة إسرائيل على تحمل هذا النمط الجديد من العمل العسكري، وهكذا فإن إسرائيل على ما يبدو حوّلت 7 أكتوبر من تحد وخلل أمني خطير إلى فرصة لتوجيه ضربات قاصمة إلى خصومها في المنطقة[23].
أما إيران فقد تعرض محورها لضربة كبيرة مع أول اختبار لنظرية الدفاع الأمامي مع إسرائيل، إذ على ما يبدو حولت أساس إستراتيجية الأمن القومي والعسكري الإيراني تدريجيًا من الاعتماد على الحلفاء العسكريين غير الحكوميين في المنطقة نحو شكل جديد من أشكال الردع، من خلال مزيج من التدخل المباشر وعبر الوكلاء وتكامليا بدلًا من إستراتيجية المنطقة الرمادية، وفي هذا الإطار يبدو أن إيران اعتمدت نمطًا هجينًا جديدًا أكثر هجومية، تخلت عن الصبر الإستراتيجي وتأجيل الرد لحين الوقت المناسب، وبات عليها مواجهة نهج التصعيد الإسرائيلي بردود مناسبة وسريعة لعدم تمادي الخصم.
التغيير الأهم في هذه الإستراتيجية هو الاعتماد على قوة الصواريخ الباليستية، والنجاح في اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية الأقوى في العالم، الأمر الذي يُشير إلى مركزية القوة الصاروخية الإيرانية في إستراتيجية الأمن القومي الإيراني الجديدة، وهو ما يعنى ورقة مهمة في يد إيران وربما لن تكون قابلة للتفاوض مع الغرب في المستقبل، وهذه القوة قد تفتح لإيران سوقًا مهمًّا لبيع السلاح باعتبار فاعليتها، ولاسيما إلى دول كروسيا، كما قد يجذب قوى أخرى للتعاون التكنولوجي والعسكري معها، ومع أن هناك جدلًا بشأن تغيير العقيدة النووية، لكن على ما يبدو أن إيران تتحسب لردود فعل الرئيس المنتخب ترامب على مثل هذا التغيير، وهو المعروف بنهجه الحاسم وغير المتوقع، وهذا قد يؤجل أي تفكير إيراني بهذا الشأن، لكنه ربما لا يلغيه بالكلية في ظل الخلل في التوازن لغير صالح إيران بعد هذا الصراع.
ج. نمط جديد من الأسلحة والعمليات الهجومية:
على المستوى العملياتي أثبت الصراع أن ما تشهده المنطقة هو حرب غير مسبوقة في التاريخ العسكري، يُستخدم فيها التقدم في الأسلحة والحروب السيبرانية وغيرها من الأدوات الفاعلة، والواقع أن الجيش الإسرائيلي لا يحارب وحده، لكنه يتلقى دعمًا من حلفاء أقوياء أبرزهم الولايات المتحدة وبريطانيا، لهذا على الرغم من أهمية العوامل الجيوسياسية غير أن الصراع يُلقي الضوء على دور التكنولوجيا الحديثة في الحروب العسكرية، إذ تُشير مجريات الصراع إلى اختبار لأدوات جديدة غير تقليدية، سواء عبر هجمات سيبرانية ذات طابع مسلح كما حدث في هجوم إسرائيل عبر أجهزة الاتصال لدى عناصر حزب الله، أو عبر مئات من الطائرات دون طيار وضرباتها الموجهة عن بعد، أو الصواريخ الإيرانية الباليستية بعيدة المدى التي تختبرها لأول مرة وبصورة غير اعتيادية، حيث تعبر صواريخ إيران الفرط صوتية وطائراتها المسيرة عبر حدود عدة دول نحو الأراضي المحتلة، وكذلك تعبر طائرات الحوثيين وصواريخهم بعيدة المدى نحو الأراضي المحتلة، وذلك مقابل استخدام إسرائيل لأسلحة نوعية من أجل اختراق التحصينات والأنفاق التي يتحصن بها عناصر الفصائل والقيادات، التي احتاجت على سبيل المثال لقنابل نوعية تزن مئات الأطنان من المتفجرات، من أجل اختراق التحصينات، كما حدث في عملية اغتيال حسن نصر الله ورفاقه في بيروت، فضلًا عن أهمية الأجهزة الحديثة في كشف مسرح العمليات العسكرية، ودور الدفاعات الجوية متعددة الطبقات في التصدي لعشرات الهجمات الصاروخية وبالطائرات المسيرة، ولا شك أن هذه الثورة العسكرية سيكون لها تأثير كبير على الأمن والاستقرار الإقليمي، ولاسيما في ظل حالة الفوضى والاضطرابات التي تشهدها المنطقة داخل دولها أو بين القوى الإقليمية المختلفة.
د. احتمالات متزايدة لاتساع نطاق الحرب:
مع أن هناك حرصًا من جانب أطراف الصراع على عدم الوصول إلى الحرب الشاملة، لكن هذا الواقع المعقد قدر يفرض على المنطقة حربًا ممتدة لن تنتهي جولاتها على المدى القريب، وربما تعيش المنطقة أجواء اللاحرب واللاسلم التي عاشتها في منتصف القرن الماضي، كما لن يتمكن طرف من حسمها دون خسائر فادحة، إذ رغم أن الدول لا تخوض حروبًا تريد ألا تخوضها غالبا، ويلجأ الساسة والإستراتيجيون للتهدئة قبل الوصول إلى حالة الصراع الشامل، ويكتفون بالضغط من أجل ضبط سلوك المنافسين، لكن مكمن الخطورة في الشرق الأوسط أن هذا الصراع المستمر له طابع جيوسياسي بين مشروعين إقليميين، وكذلك بين قوى دولية تسعى لتعزيز نفوذها في المنطقة، ومن ثم قد يتحول إلى حرب أوسع نطاقًا، وذلك نتيجة احتمال وقوع حوادث أو أخطاء إستراتيجية، بحيث يفقد القادة السيطرة على مجرياتها، وقد حذر وزير الخارجية الأمريكي من استمرار هذا الوضع بقوله إن الهجمات في الشرق الأوسط “تزيد من خطر النتائج الخطيرة التي لا يمكن لأحد التنبؤ بها، ولا يمكن لأحد السيطرة عليها بشكل كامل”، ويزيد من هذه المخاطر أن قرار الحرب ليس بيد الدول الوطنية وحسب، بل بيد جماعات لديها مصالح ومخاوف وجودية، وتمتلك قدرات تفوق قدرات وإمكانيات الدول التي تنتشر بها، وتُسيطر على مواقع حساسة مؤثرة دوليًا، ولديها قدرات تطال فاعلين رئيسيين دوليين وإقليميين[24].
خريطة توضح تأثير هجمات الحوثيين على حركة التجارة الدولية عبر المنطقة
المصدر: https://n9.cl/mfxj1
هـ . قضية احتلال لا يمكن تجاوزها:
تواجه الحركة الوطنية الفلسطينية مأزقًا تاريخيًا، ففي حين يواجه الفلسطينيون فصلًا عنصريًا، وحرب إبادة وتطهير عرقي وتهجير قسري، فإنها تعاني انقسامًا حادًا، وتفتقر إلى مشروع سياسي أو مقاوم لمواجهة الوضع الراهن، كما لا تجد القضية الدعم الكافي في محيطها التاريخي، بل باتت محط تجاذب في إطار المشروعات المتضاربة بين القوى الإقليمية المتنازعة، يُلاحظ ذلك في حين يواجه الشعب الفلسطيني نكبة جديدة، حيث تعرض سكان قطاع غزة لأسوأ حملة عسكرية في تاريخيه في غياب أدنى حماية دولية أو تطبيق حد أدنى من القواعد والمعايير، وما يزال السكان في القطاع المحاصر تحت القصف والإبادة بلا مخرج أو أمل، في مشهد يكشف عن طبيعة الاحتلال الإسرائيلي، ونهجه اللاإنساني غير المتصور في القرن الحادي والعشرين.
مع ذلك كشفت الأزمة أنه ما يزال هناك ارتباط كبير بين القضية الفلسطينية وباقي القضايا في المنطقة، وأنه لا يمكن فصلهما عن بعضهما بعضا، وأنه من الصعب تجاهل حقوق الفلسطينيين التاريخية، أو فرض واقع خاص بشأنها من جانب الاحتلال، وهذا التصور يعني أن الصراع حول القضية المركزية في الإقليم سوف يظل قائمًا، إذ إن محاولة تصفيتها بمنزلة تصور معاكس لصيرورة التاريخ التي تؤكد على استحالة وأد قضايا التحرر الوطني، فضلًا عن أن قدرة إسرائيل على تحمل التحدي الأخلاقي والإنساني لتصفية هذه القضية على النحو المتصور من جانب اليمين الإسرائيلي يبدو محدودًا، فالحرب لم تدرج القضية الفلسطينية ضمن جدول أعمال الحكومات، وعلى أجندة المنظمات الدولية وحسب، بل إنها أعادت تعريفها للأجيال الجديدة التي كانت قد طمست علاقتها بالقضية الفلسطينية على المستوى العربي والإسلامي، بل إن القضية أثارت اهتمام القطاعات الشعبية في المجتمعات الغربية، وتعرضت السردية الإسرائيلية للتآكل، وباتت قضية فلسطين تجد تعاطفًا كبيرًا، وتغيرت العديد من المفاهيم حول حقيقة المقاومة الفلسطينية، وحقها الأصيل في مواجهة الاحتلال بكافة الوسائل، كحق مشروع لا جدال بشأنه.
و. عودة الشرق الأوسط لواجهة الأحداث الدولية:
مع أن الواقع الراهن في المنطقة يتحدى المقولات والسرديات التي روجت لنهاية أهمية الشرق الأوسط في السياسة العالمية، إذ جلب الصراع القوى المتنافسة، وأهمها الولايات المتحدة التي بدلًا من الانسحاب باتت تعمل قواتها في مسرح الإقليم بقوة، لكن على الرغم من ذلك فإن الواضح أن الولايات المتحدة تفتقر إلى فهم واضح لحدود القوة العسكرية في هذا الصراع على غرار ما حدث من تدخلات سابقة في المنطقة وخروجها في الأخير دون تحقيق أهدافها، حيث لم تتمكن واشنطن من تحقيق الكثير باستخدام الجيوش، وخاصة أنها تنخرط في أكثر من صراع على مستوى العالم، وتسعى قوى منافسة لاستغلال ذلك، كذلك فإن التفوق الظاهر للولايات المتحدة على مسرح العمليات في المنطقة حتى الآن لم يساعدها في تشكيل التحالف الإقليمي الذي تطمح إليه، فدول المنطقة التي تتبنى مسارًا ثالثًا كدول الخليج ما تزال تُفضل سياسة غير منحازة في هذا الصراع إلا لصالح القضية الفلسطينية، وما تزال غير راغبة في أن يكون التقارب مع واشنطن على حساب العلاقة مع الصين أو روسيا، أو حتى على حساب العلاقة مع إيران، وهذا دليل إضافي إلى التطلعات المتزايدة في خلق توازن إقليمي جديد.
ويُشير فشل المبادرات الدبلوماسية الأمريكية لوقف الحرب إلى قائمة طويلة من الإخفاقات الدبلوماسية الأمريكية في المنطقة منذ اتفاقيات السلام بين إسرائيل ومصر والأردن، وربما يعود ذلك لأن موقف واشنطن المتحيز في الصراع يعرقل أي جهد دبلوماسي فعّال، ولا شك أن الافتقار إلى الدبلوماسية الفعّالة يُضيف مزيدًا من الأعباء أمام واشنطن، فالصراعات في المنطقة معقدة ولا تحل نفسها تلقائيًّا، وتحتاج إلى قوة مؤثرة على كافة الأطراف، وهي شروط لا تتوفر إلا للولايات المتحدة، من جهة أخرى فإن عدم وجود نهج دبلوماسي يُفقد الولايات المتحدة نفوذها الإقليمي قبل أن تعيد ترميمه، فضلًا عن التأثير على مكانتها الدولية كضامن للأمن والاستقرار الدولي، ويدعم الدعاية التي تروج لفقدان منظومة العمل الدولي التي تقودها واشنطن للفاعلية والجدوى[25].
2. حدود التغيير في التوازنات الإستراتيجية
أظهر الصراع تحولات مهمة على صعيد توازن القوة الإقليمي، حيث يُشير الصراع إلى تغير في بنية الأمن الإقليمي، ودليل على طبيعة المرحلة الانتقالية في النظام الدولي وصعود أدوار القوى المتوسطة، ويمكن توضيح ذلك كما يأتي:
أ. خلل في الميزان العسكري لصالح إسرائيل ومحاولة لإعادة تشكيل المنطقة:
كشف الصراع عن تفوق عسكري إسرائيلي كبير، وخلل في ميزان القوة العسكري بينها وبين أي قوة إقليمية أخرى، وذلك على الرغم من المواجهة والخسائر غير المسبوقة التي تتعرض لها، فقد أثبت الصراع حقيقة قوة الجيش الإسرائيلي، بما في ذلك تجهيزاته التكنولوجية ودقة الاستخبارات والعمليات المشتركة، والتفوق الجوي، فضلًا عن الدفاعات الجوية غير العادية التي تحمي سماء الأراضي المحتلة، وكذلك إمكانية العمل على جبهات متعددة في آن واحد، كما أظهر الصراع نفوذ إسرائيل على الساحتين العالمية والإقليمية، حيث حيدت العديد من الحكومات في هذا الصراع، وهو ما يُشير إلى نفوذها السياسي والدبلوماسي، كما أثبت الصراع أن إسرائيل أصبح لديها سلطة كبيرة على الإدارات الأمريكية، بما في ذلك إدارة بايدن الحالية، التي بدت أكثر ضعفًا أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي، حتى وإن ذهب البعض إلى وجود تنسيق بين الجانبين خلف الأبواب المغلقة.
المهم أن هذا التفوق الإسرائيلي، دفعها إلى التفكير فيما هو أبعد من الانتصار وتحقيق أمن إسرائيل، بل التفكير في تغيير خريطة الشرق الأوسط، وترى إسرائيل أن هذا الشرق الأوسط الجديد سوف تتمتع فيه بمكانة القوة المهيمنة والأكثر تأثيرًا، والتي توسع حدودها الجغرافية بناء على التفسيرات والنبوءات الدينية، ولا تُقيم فيه أي اعتبار لحقوق الشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقهم في دولتهم المستقلة، وتستخدم فيه إسرائيل قوتها العسكرية في أي مكان بالمنطقة وفقًا لتقدير التهديدات التي تمس بأمن إسرائيل ولا تستثني في ذلك أي قوة إقليمية، مع ما يعنيه ذلك من تأكيد للمكانة وقوة الردع وإملاء الشروط والتدخل في شؤون الدول وقراراتها في المنطقة، وذلك ضمن رؤية لإحداث تغيير في البيئة الإستراتيجية وإعادة صياغة التوازنات الإقليمية.
تظهر نزعة الهيمنة الإقليمية لإسرائيل في تصريحات عناصر حكومة نتنياهو والخرائط التي يعرضها المسؤولون في المحافل المختلفة، التي تخلو من أي إشارة إلى دولة فلسطينية، بل ضمت إحداها الأردن ضمن حدود دولة إسرائيل، فضلًا عن أن هناك عددًا من الوزراء في الحكومة اليمينية الإسرائيلية لا يؤمنون بحل الدولتين، وقد عرض نتنياهو نفسه خلال كلمته أمام الأمم المتحدة خرائط للدول التي لديها علاقات مع إسرائيل أو التي تنوي التطبيع معها، وخريطة أخرى للدول التي تدور في فلك إيران، في إشارة إلى نظرة نتنياهو وحكومته إلى مستقبل الشرق الأوسط المتسق مع أهداف إسرائيل، وهو المشروع الأمريكي نفسه الذي يهدف إلى تقسيم المنطقة إلى محورين تدير من خلالهما إسرائيل نفوذها، وتحقق عبرهما تفوقها الإقليمي، وقد حذر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كلمة له مما سماه “الطموحات التوسعية الإسرائيلية”، وقال “سيطمعون في أراضي وطننا بين دجلة والفرات، ويعلنون صراحة من خلال خرائط يلتقطون الصور أمامها أنهم لن يكتفوا بغزة”[26].
وهنا يمكن الإشارة إلى ما قاله ترامب: “عندما أنظر إلى خريطة الشرق الأوسط، أجد إسرائيل بقعة صغيرة جداً. في الحقيقة قلت هل من طريقة للحصول على المزيد من المساحات؟”، وتصريح ترامب ربما يُشير إلى احتمال وجود تفاهمات، أو وعود خلف الكواليس ترمي إلى تمكين إسرائيل من توسيع حدودها على حساب جيرانها، وهذا المشروع ربما يتخطى حدود السيطرة الكاملة فلسطين التاريخية مع ضم أجزاء من لبنان، وربما إزاحة الحدود مع سوريا ضمن مشروع إسرائيل الكبرى، وهو أمر ليس مستبعدًا في ظل التنافس بين الحزبين في الولايات المتحدة على إثبات الولاء لإسرائيل، وانجراف غالبية المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين المتطرف، والشعور بالتفوق الإقليمي على جيرانها، والإفلات من المسؤولية، وهي الأمور التي تغذي رغبتها في الهيمنة الإقليمية وإضعاف القوى المحيطة بها من خلال القوة أو الاختراق[27].
ب. خسائر إيرانية وخيارات بديلة للدفاع عن البقاء:
مقابل صعود خطاب الهيمنة الإقليمية من جانب إسرائيل، والتأييد الأمريكي للتحركات والعمليات الإسرائيلية، فإن الضربات المتلاحقة التي لحقت بإيران وأذرعها الإقليمية، قد دفعت بهذا المحور إلى الزاوية، فعلى الرغم من بعض مظاهر المقاومة، وما يبدو من توحيد وتنسيق بين الجبهات فيما يعرف بإستراتيجية وحدة الساحات، فإن إستراتيجية إيران المحسوبة تحقق الردع عند حده الأدنى، وتخسر إيران مع استمرار القتال في عدة جبهات القوة التي استثمرتها في بعض حلفائها وأذرعها الإقليمية، فعلى سبيل المثال تراجعت قوة حماس في غزة تحت وطأة الضغط العسكري الإسرائيلي غير المسبوق، وإن لم تُحسم المعركة بعد.
كما تعرض حزب الله لضربة مؤلمة ليس بسبب اغتيال قائده التاريخي حسن نصر الله وحسب، ولكن أيضًا لجهة تمكن إسرائيل من إلحاق خسائر غير مسبوقة طالت قيادات الصف الأول والثاني ومخازن أسلحة الحزب، وهو ما كشف عن حالة تفوق عسكري واستخباراتي إسرائيلي غير مسبوق تجاه حزب الله، وربما يقود توسيع العملية البرية في جنوب لبنان لإبعاد الحزب حتى جنوب الليطاني، وتدمير أهم قدراته على الحدود، مع ما يعنيه ذلك من انكشاف إقليمي لإيران وتراجع لأهم عناصر قوة الردع.
ومن جهة أخرى فإن قدرة إيران على الصمود في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية قد يقود النظام إلى أزمة شرعية غير مسبوقة، ولاسيما بعد تعرض الأراضي الإيرانية للهجوم المباشر من إسرائيل، واحتمال مواجهة أي رد من جانب إيران بردود أكثر قوة من إسرائيل، وهو ما قد يُضعف قدرة النظام بصورة غير مسبوقة، وهكذا يبدو أن الصراع الراهن يقوض قدرات إيران العسكرية بل ويقوض قدرتها على تفعيل نشاط أذرعها لما قد يترتب على ذلك من عواقب.
ويبدو أن تعاون روسيا والصين مع إيران على أهميته لكنه يبقى محدودًا، ويخضع لحسابات البلدين الخاصة، وليس أدل على ذلك من موقف البلدين من الهجوم الإسرائيلي في نهاية أكتوبر 2024م على عدة مواقع عسكرية داخل إيران، حيث لم يرق رد فعل البلدين إلى درجة تعكس علاقاتهما الخاصة مع إيران، وهذا ربما ما دفع البعض في إيران إلى اعتبار البلدين حليفين إستراتيجيين ادعاء مضلل، كما يُشير هذا الواقع أيضا إلى ضعف مردود تطلعات إيران نحو الشرق، حيث لا يمكن التعويل عليهما في أي معادلة إقليمية لمواجهة محور الولايات المتحدة وإسرائيل، وهذا ما قد يدفع إيران إلى التعويل على الدبلوماسية مع الغرب كآلية لخفض التوتر والحفاظ على النفوذ والمصالح بدلًا من المواجهة والتعرض لخسارة إستراتيجية كبرى[28].
لكن لا يفوت التنويه إلى أن حشر إيران في الزاوية دفعها إلى الرد عبر هجمات صاروخية على مواقع عسكرية بالأراضي المحتلة، وهو ما أظهرت معه طهران أنها ستقف أمام تهديدات نتنياهو، التي وصلت حد التهديد بتغيير النظام، على غرار الرسالة التي وجهها عبر منبر الأمم المتحدة مخاطبًا الشعب الإيراني بقوله في 30 سبتمبر 2024م “إن إسرائيل تقف بجانبكم” وأضاف بـ”أن اللحظة التي ستتحرر فيها بلادكم أقرب مما يتصور الناس”[29]، وذلك في تهديد مباشر للنظام الإيراني، وهو الخط الأحمر الذي كان وما يزال غير مسموح بتجاوزه أو الاقتراب منه بالنسبة للمرشد ونظامه، وعلى هذا النحو ربما تقود التطورات إلى تغيير كبير في نهج إيران، وإحداث تغييرات جوهرية على عقيدتها القتالية، عبر مشاركة حاسمة من قواتها خارج الحدود وهجمات من داخل أراضيها على إسرائيل، وذلك في محاولة لتحقيق توازن ردع يحد من رغبة إسرائيل في إحداث تحول كبير في ميزان القوى الإقليمي في غير صالح إيران وحلفائها، بل مهاجمة قوى إقليمية تساعد إيران، وهو ما ظهر من تهديد قائد الحرس الثوري باستهداف أي دولة تسمح لإسرائيل باستخدام مجالها الجوي في أي استهداف لإيران[30].
ولا شك أن تبادل الهجمات بين إيران وإسرائيل أدى بالفعل إلى نشوء معادلة قوة إقليمية جديدة من شأنها أن تستمر إلى ما هو أبعد من هذه المواجهة المحدودة، ومع أن إيران قد تلجأ إلى مراجعة عقيدتها النووية بوصفها قوة ردع لمواجهة الخلل في ميزان القوة مع خصومها، لكن من غير المرجح أن يؤدي تغيير العقيدة النووية إلى حل المعضلات الإستراتيجية التي تواجهها إيران على الفور، وذلك نظرًا لأن التحرك نحو امتلاك سلاح نووي من المرجح أن يؤدي إلى نشوب صراع في الأمد القريب، وفي الأمد الأبعد، حتى الحصول على الردع النهائي لن يحمي النظام بالضرورة من الأعداء في الداخل والخارج، الذين سيستمرون في استغلال ضعف الاستخبارات، وضعف الأسلحة التقليدية بما فيها الدفاعات الجوية، وفشل الاقتصاد، وتآكل الشرعية[31].
ج. السعودية كموازن إقليمي وقائد لتيار الاستقرار:
ما تزال القوى الإقليمية الفاعلة تعمل على التصدي لما تحاول إسرائيل أن تفرضه بالقوة، وقد أخذت السعودية على عاتقها قيادة جهود فعالة من أجل وضع حد للصراع الراهن، ولاسيما أنها تواجه ضغوطًا غير مسبوقة من جانب الولايات المتحدة، من أجل التخلي عن موقفها التاريخي بشأن القضية الفلسطينية، لكن نظرًا إلى مكانتها الإسلامية والعربية، فإن المملكة قد انحازت إلى مبدئها الراسخ بشأن القضية الفلسطينية، وأثبتت تحديًا في مواجهة المشروع الأمريكي الإسرائيلي، الذي يقفز على الاستحقاقات الفلسطينية التاريخية، بل إنها تقود جهودًا دولية من أجل فرض أمر واقع جديد بشأن القضية الفلسطينية، وهذه الجهود تعد بمنزلة طريق ثالث بدلًا من الاستقطاب الإقليمي الراهن، وبدلًا من الصراع، وذلك من خلال التعاون مع الشركاء الإقليميين والدوليين، كما تقود جهودًا عربية وإسلامية، من أجل خلق إجماع بشأن القضية الفلسطينية، وما تتعرض له من تحديات.
ليس هذا وحسب بل إن واقعية المملكة في ظل الصراع الراهن، قد نجحت في تجنيب المنطقة الانزلاق نحو حرب شاملة، حيث نأت بنفسها عن الانضمام إلى محور الولايات المتحدة، وبالتالي العودة إلى مربع المواجهة مع إيران، كذلك فإنها تموضعت على مسافة وسط من الأطراف الدولية المتصارعة، التي ترغب في استغلال الأزمة من تعزيز مكانتها على حساب القوى الإقليمية ومصالحها، ولعل هذا الموقف هو الركيزة التي يمكن التعويل عليها في المستقبل، إذ ما تم تجنب المواجهة الشاملة أو حالة التصعيد الراهن باعتباره مسارًا آمنًا للأمن والاستقرار الإقليمي.
وعلى الرغم من أن إسرائيل ما تزال تروج إلى إمكانية التطبيع مع المملكة رغم نواياها بشأن تصفية القضية الفلسطينية، إلا أن الموقف السعودي الحاسم بشأن العلاقة بين التطبيع والتسوية خلق واقعًا مختلفًا بشأن القضية الفلسطينية، ليس في العلاقة بين البلدين وحسب بل على المستوى الإقليمي، حيث حسمت المملكة من خلال تصريحات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ووزير الخارجية بشكل قاطع أنه لا تطبيع دون تسوية للقضية، ودعمت ذلك بجهود غير مسبوقة من أجل الاعتراف بالدولة الفلسطينية، لمواجهة إسرائيل محاولة طمسها، وهو ما يعد إعادة توجيه لكامل البوصلة الإقليمية والدولية بشأن القضية، ليس هذا وحسب، بل نجحت المملكة في أن تنحي قضية التطبيع عن المناقشات الجارية مع الولايات المتحدة بشأن توقيع البلدين اتفاق شراكة إستراتيجية جانبا، وربما يعد التقدم في اتفاقيات الذكاء الاصطناعي دليل على هذا النجاح في فك الارتباط بين التطبيع والعلاقة مع واشنطن[32].
وهكذا بخلاف القوى الإقليمية المنخرطة في مواجهة متعددة الجبهات برزت المملكة ومعها بعض الدول الخليجية والعربية بوصفها تيارًا إقليميًّا ثالثًا، لديه منظور مختلف للأمن الإقليمي، ويرغب في ألا يختل التوازن لصالح أي من القوى المتصارعة، كما لا يرغب في أن تُجرف المنطقة إلى مرحلة من الفوضى والصراع، ويخشى أن تستغل الولايات المتحدة غياب دور الصين في الأزمة لفرض إملاءاتها وضغوطها على دول المنطقة، بما في ذلك إعادة المنطقة إلى مربع الصراع والمواجهة، وتقديم الدعم الكامل لإسرائيل من أجل تشكيل المنطقة بما يضر بمكانة هذه الدول ومصالحها.
لهذا رغم حدَّة الاستقطاب الأمريكي-الصيني من غير الوارد أن تتَّخذ الرياض قرارًا بالانفصال عن الولايات المتحدة، أو الذهاب إلى التحالف الكامل مع بكين، وبدلًا من ذلك ربما تسعى الرياض إلى اتباع إستراتيجية حذرة وودية لتعزيز العلاقات مع القطبين بما يخدم مصالحها الحيوية، مع استخدام العلاقات المتنامية مع بكين للحصول على أكبر قدر من المكتسبات من واشنطن؛ لأنه من منظور واقعي لا غنى للرياض من علاقة متوازنة مع القطبين الكبيرين، فبالنسبة للولايات المتحدة فإنها ما تزال الشريك الأمني الذي لا توجد قوة بما في ذلك الصين قادرة على أن تكون بديلًا له في المنطقة، فالولايات المتحدة تمتلك أقوى حضور عسكري، وهي أهم شريك على هذا الصعيد لدول الخليج والسعودية، التي ما تزال تنسِّق بصورة كبيرة مع واشنطن في هذا المجال، وبالنسبة للصين فقد أثبتت حرب غزة أنها غير مستعدة لأن تكون فاعلًا أمنيًا إقليميًا، بل هي تبدو غير منزعجة من الدور الأمريكي في المنطقة، وغير مستعدة لتحمل تكلفة وتبعات الانخراط الأمني والعسكري في أزمات المنطقة، بل ربما ترى في ذلك إشغالًا لواشنطن وزيادة الأعباء عليها، لصرف تركيزها عن منطقة بحر الصين الجنوبي وأزماته، ولكونها قطبًا دوليًّا موازنًا لا غنى عن تعميق الروابط التجارية والاقتصادية وفي قطاع الطاقة معه، وفي الأغلب لن تعارض واشنطن علاقات صينية-سعودية أعمق في مجالات الاقتصاد والتجارة، لكنها ربما تتحفَّظ على أن يمتد التعاون إلى المجالات الدفاعية والأمنية والتكنولوجيا الحساسة، ومن هذا المنطلق يمكن موازنة مصالح السعودية بالدفاع عن مصالحها الحيوية مع واشنطن وبكين، مع تجنُّب أن تكون المملكة قضيةَ استقطاب بين الجانبين، وتعظيم المنافع، وخلق توازن ومعادلة تخدم خطط المملكة ومشروعها الطموح داخليًا ونظرتها لمكانتها الإقليمية والدولية، بل ربما يسفر تطوير علاقات متينة مع الطرفين في أن تصبح المملكة أداةً وسيطة في تهدئة التوترات وإدارتها مستقبلًا.
ويؤكد عقد مجلس التعاون الخليجي في 16 أكتوبر أول قمة رفيعة المستوى له مع الاتحاد الأوروبي في بروكسل، وقبل ذلك الانخراط في التكتل المكون من ستة أعضاء في اجتماعات وزارية مشتركة مع البرازيل والهند وروسيا، وبموازاة بدء حوار غير رسمي مع إيران إلى نهج خليجي نشط، من أجل خلق نقطة توازن وصيغة منضبطة في الصراع الإقليمي الراهن، فالأزمة الراهنة التي يمر بها الإقليم، تفرض تحديات على مصالح دول الخليج، وفي حين تبدو القوى الفاعلة التقليدية في المنظومة العربية غير قادرة على خلق توزان في الصراع الراهن، فإن دول الخليج تراهن على جذب قوى فاعلة دولية لإبعاد المنطقة عن النظرة الأحادية أو القطبية، أملا في تحقيق التوازن في ظل المنافسة المتصاعدة في المنطقة، كما تراهن على ما يبدو على دمج إيران واحتوائها بدلًا من التموضع في محاور متصارعة معها، وذلك أملا في أن تنشأ في المنطقة صيغة توازن جديدة لا تقوم على المواجهة والصراع[33].
د. عودة أمريكية في ظل نظام غير قطبي:
يمكن تقييم قدرة واشنطن على صياغة توازن إستراتيجي جديد من خلال تقييم تأثير دورها في التأثير على أربع قضايا، هي: نفوذ إيران الإقليمي، ودمج إسرائيل إقليميًا، وإبعاد الصين، وإضعاف مشاركة دول المنطقة في مبادرة الحزام والطريق. وهذا يعنى أنه يجب النظر إلى الصراع في الشرق الأوسط من المنظور الإستراتيجي الأمريكي لتأكيد هيمنتها على النظام الدولي، في ظل الحملة التي تقودها القوى الدولية المنافسة، التي تستهدف الحد من مكانة الولايات المتحدة على الصعيد الدولي، فالواضح أن محددات الموقف الأمريكي في أوكرانيا أو بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادي هو المنظور نفسه الذي يوجه موقفها الراهن في الشرق الأوسط، فبحسب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن فإن قوى دولية كالصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية تسعى إلى حل النزاعات الإقليمية بالإكراه أو القوة، واستخدام اعتماد البُلدان الأخرى على الاقتصاد والطاقة كسلاح من أجل تبديد أسس قوة الولايات المتحدة، وتفوقها العسكري والتكنولوجي، وعملتها المهيمنة، وشبكتها التي لا مثيل لها من التحالفات والشراكات، وأن واشنطن وفقًا لذلك مضطرة للتعامل بحزم مع هذه التهديدات، وتقويض افتراضات قوى كإيران وكذلك الصين وروسيا في المنطقة، والحد من قدرتهم على التعاون أو خلق نهج إقليمي مختلف عمّا تراه واشنطن، كما كان يعتقد بعد الوساطة الصينية بين السعودية وإيران التي مهدت الطريق نحو السلام الإقليمي، وتفكيك منظومة الأمن الإقليمي القائمة على مواجهة إيران برعاية أمريكية، كما تتطلع واشنطن إلى ضمان تدفق الاستثمارات من المنطقة نحو الأطلنطي بدلًا من الشراكة مع الصين كضمانة أساسية للتفوق الأمريكي العالمي، ولاسيما التعاون في المجال التكنولوجي، والأهم من ذلك استعادة واشنطن ثقة حلفائها الإقليميين، والحد من نزعتهم المتعارضة مع التوجهات الأمريكية لإحياء تحالفاتها التاريخية المهمة لتعزيز مكانتها وتفوقها الدولي.
ربما نجحت الولايات المتحدة في إظهار حضورها الإقليمي وأهميته، ولاسيما حضورها العسكري، الذي لا يضاهيه حضور آخر ولا يعوضه أي طرف دولي، مع ما يحمله ذلك من رسالة أمريكية لدول المنطقة، تشكك في أهمية الصين وحتى روسيا كشريك يمكن الاعتماد عليه في ظل الأزمات والصراعات، خصوصًا أن موقف الصين من الصراع اقتصر على التحرك الدبلوماسي والسياسي، وهو ما أظهر افتقارها إلى أهم ما تطلبه المنطقة، وهو وجود شريك أمني قوي ينهض بمهام الاستقرار ودفع السلام.
ولا شك أن التدخل الأمريكي في الصراع في الشرق الأوسط خدم واشنطن، وذلك عن طريق استثمار هذا الصراع في إعادة تنشيط التحالفات وبناء الشركات، إذ تستفيد واشنطن من تأجيج المنافسة الجيوسياسية لجذب الحلفاء، وذلك على غرار ما حدث في أوروبا وفي جنوب شرق آسيا، ويظهر ذلك على سبيل المثال من الاتفاقية الدفاعية التي أبرمتها واشنطن مع الإمارات، والتي رفعت فيها مستوى الشراكة الدفاعية إلى مستوى شريك دفاعي رئيس على غرار شراكة واشنطن مع الهند، مع توقيع اتفاقيات رائدة في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وذلك بهدف إبعاد أبوظبي عن التعاون العسكري والتقني مع بكين. وهذه الاتفاقية كنموذج تعني الكثير بالنسبة لإستراتيجية واشنطن الإقليمية، المتمثلة في حصار نفوذ الصين في شرق آسيا والشرق الأوسط، ولهذا التحرك أيضا دلالاته المهمة بالنسبة للسعودية، التي تخوض مفاوضات مع الولايات المتحدة حول اتفاقية أمنية وتعاون نووي، إذ قد تُفهم هذه التحركات بوصفها جزءًا من عملية منسقة تحاول واشنطن من خلالها أن تخلق واقعًا إقليميًا جديدًا داعمًا لنفوذها، وهيكل تعاون تعيد من خلاله صياغة التوازنات الإقليمية.
بالإضافة إلى ذلك استغلت واشنطن هذا الصراع ووجهت ضربة قوية لإيران ومحورها الإقليمي، وقد تنجح في تفكيك قدراتها على الردع على المستوى البعيد، وذلك تمهيدًا لبناء منظومة أمنية إقليمية جديدة على غرار التي تشكلت في أبريل 2024م بين الولايات المتحدة ودول أوروبية وأخرى عربية، للتصدي لهجمات إيران على إسرائيل. وبصفة عامة أثبتت الحرب تفوق واشنطن ودورها المهم في التأثير على مجريات الصراع في المنطقة، فإسرائيل لم تكن لتهاجم الأراضي الإيرانية والمنشآت العسكرية على هذا النحو دون مساعدة الولايات المتحدة، ودون قوة الردع التي توفر لها الحماية من ردود فعل إيران، كما جرى مع نشر منظومات الدفاع الجوي “ثاد”، ونشر القاذفات الإستراتيجية، واستخدام طائرات بي 52 لضرب الحوثيين وغيرها من الإجراءات، وهذا ما يثبت افتقار إسرائيل وحدها إلى القدرة العملية على إلحاق أضرار بالغة بإيران، أو استكمال هذه الحرب من دون الدعم الأمريكي اللامحدود، وهذا يعني أن لواشنطن قدرة للتأثير على مسار الصراع على جبهتي لبنان وغزة، وتخفيف الأعمال العدائية المتصاعدة إذ ما عزمت على تحقيق ذلك، وفعلت أدواتها المعطلة بسبب الانحياز والازدواجية وتأثير المنافسات الحزبية والحسابات الانتخابية[34].
مع ذلك يعد الصراع كاشفًا للتحولات الجارية في النظام الدولي، وافتقاره إلى طابعه القطبي السابق، حيث لم تعد الولايات المتحدة الموجه الوحيد للتفاعلات الخاصة بالمنطقة، لكن هذا النظام في الوقت نفسه لم يصل بعد إلى النمط المتعدد، فبداية هناك غياب كامل لدور المؤسسات الدولية، وانتهاك واضح وصارخ للقواعد والمعايير، بما يعني غياب النظام القائم على القواعد الذي تدعي واشنطن الدفاع عنه وحمايته، وفي ظل ذلك هناك انحياز أمريكي وازدواجية معايير غير مسبوقة، خصوصًا إذ ما تمت مقارنة موقف واشنطن من الحرب الروسية على أوكرانيا وما تقوم به إسرائيل في غزة ولبنان.
فما يزال نهج واشنطن يُثير مخاوف دول المنطقة، حيث هناك تغيير في الموقف الأمريكي المتعارف عليه من القضية الفلسطينية، وهناك انسجام ودعم لوجهة النظر الإسرائيلية، وعدم رغبة في تفعيل قدرة الولايات المتحدة الدبلوماسية، بل الاختفاء خلفها لمداراة الموقف الأمريكي المتحيز لإسرائيل، مع ترك المساحة لها، بل ودعمها من أجل مضاعفة استخدام القوة لفرض أمر واقع على المنطقة ككل، ومدها بكل ما تحتاجه من وسائل وضمانات لتحقيق ذلك[35].
إضافة إلى ذلك ما تزال قناعات واشنطن الراسخة والإستراتيجية أن التهديد الأمني الأعظم الذي تواجهه ينبع من خارج هذه المنطقة، وتسعى إلى إعادة توجيه تركيزها نحو المنافس الجديد، أي الصين، دون إنفاق كل مواردها في مناطق مثل الشرق الأوسط، مع ضرورة الأخذ بالاعتبار أن حضور واشنطن أيضًا مرتبط بتضييق الخناق على الصين في هذه المنطقة، وهو ما يُضعف قدرة واشنطن على إعادة صياغة التوازنات الإقليمية بشكل حاسم[36].
هـ . حضور صيني روسي رغم عدم استعداد للمخاطرة وتحمل الأعباء:
أثبت الصراع أن الصين ما تزال شديدة التحفظ على لعب دور أكبر على الصعيد العالمي، والاستعداد للمخاطرة وتحدي الهيمنة الأمريكية، رغم ما تطرحه من أفكار ومبادرات حول الأمن والسلام العالمي، وفي الشرق الأوسط تحديدًا أثبتت حرب غزة الحقيقة الراسخة بحدود دور الصين والتمحور حول الاقتصاد، والاعتماد على واشنطن بوصفها مزودًا للأمن الإقليمي.
لكن لا يعني ذلك أن المنطقة باتت تحت تأثير القطبية الأمريكية بصورة مطلقة كما كان الوضع في الماضي، فالصراع أثبت أن العالم قد تخطى مرحلة القطبية، وإن لم يكن قد وصل إلى التعددية بعد، وهو ما يعنى أن هذا الصراع لن تحسمه القوى الإقليمية المنخرطة في المواجهة وحسب، بل ستلعب القوى الدولية دورًا مهمًا في مجرياته، وهذا ربما يُطيل أمد الصراع في المنطقة، ولاسيما إذا ما عزمت الصين وروسيا على الاستثمار فيه بقوة من منطلق إضعاف نفوذ واشنطن، عبر خلق توازن لمحور إيران في مواجهة محور الغرب إسرائيل.
ولا شك أدى فشل إدارة بايدن-هاريس في التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة إلى منح الصين أكبر قفزة دعائية لها في العالم العربي، فقد أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة الباروميتر العربي في الفترة 2023-2024م في خمس دول ارتفاع شعبية الصين، في حين عانت صورة الولايات المتحدة من انخفاض حاد وفي عهد الحقبة نفسها، انضمت دولتان عربيتان – مصر والإمارات العربية المتحدة – وإيران إلى تحالف البريكس بقيادة الصين، مما عزز النفوذ الصيني كزعيم بين الاقتصادات الناشئة، وواصلت تجارة الصين مع الدول العربية نموها، لتصل إلى 120 مليار دولار مع المملكة العربية السعودية في عام 2023م[37].
من جهة روسيا ليس مستغربًا أن تستثمر في الأزمة الراهنة، وتبدو من خلال تعاونها الدفاعي مع إيران راغبة في أن يطول أمد الأزمة لفرض مزيد من التعقيدات أمام واشنطن، وتشتيت جهدها بعيدًا عن أوكرانيا، ولا شك تُقدر الصين الانخراط الأمريكي في هذه الأزمة على أنه فرصة يدعم تطلعاتها الإقليمية في السيطرة على تايوان في المستقبل، كما يعزز من جهودها لمراجعة مكانتها الدولية، ومن ثم فإن الصراع بمنزلة محطة مهمة على طريق تحديد هيكل القوة العالمي وترتيباته وتحالفاته، ودور بعض القوى الإقليمية الفاعلة في ذلك[38].
كذلك فإن القوى الإقليمية الفاعلة ذات الثقل السياسي والدبلوماسي تتحفظ على نهج واشنطن، والاستقطاب الذي تحاول أن تفرضه على دول المنطقة، وما تزال لديها رغبة في الاحتفاظ بشراكتها مع الصين، وعلاقاتها المتميزة مع روسيا، ولا ترغب بالتضحية بمصالحها مع هذين البلدين فقط من أجل تحقيق طموح واشنطن، وتنتهج هذه الدول مبدأ تنويع العلاقات والشراكات، وينبع ذلك من إيمان راسخ بأن هناك تحولات دولية مهمة في هيكل القوة العالمي، وهناك ضرورة لعالم متعدد الأقطاب يحترم القواعد والمعايير.
و. توازنات جيواقتصادية وجيوتكنولوجية:
يعد الصراع الدائر في الشرق الأوسط بمنزلة نموذج لتأثير المنافسة على الاقتصاد العالمي وحركة التجارة، فالحرب ضمن أسبابها اندلعت لأن هناك تدافعًا بين تطلعات للقوى الدولية والإقليمية لخلق واقع اقتصادي جديد، فهناك تنافس أمريكي صيني من أجل السيطرة على مسارات التجارة العابرة من المنطقة من الشرق إلى الغرب، وهذا التنافس انخرطت فيه القوى الإقليمية، وتوزعت أعباؤها بين مبادرة الحزام الصينية وطريق التنمية الأمريكي، وهو ما فجر الصراع الجيوسياسي الراهن.
وقد برزت هذه الأبعاد بوضوح بعدما تعقدت الملاحة عبر مضيقي باب المندب وهرمز، وتضررت بصورة مباشرة اقتصادات بعض الدول، وتباطأت حركة التجارة بين الشرق والغرب، وأضيفت تكلفة إلى نقل البضائع عبر طريق رأس الرجاء الصالح، بما قد يمتد إلى كل دول الشرق الأوسط، وفي حين أن هناك تهديدات باستهداف المنشآت الحيوية في ظل الصراع الراهن، بما في ذلك المنشآت النفطية، فإن آثار الصراع سيكون لها صدى دولي كبير، من حيث ارتفاع أسعار الطاقة في السوق العالمي، والتأثير على مصالح واستقرار العديد من الدول الكبرى بما في ذلك الصين والولايات المتحدة، وهو ما يُشير إلى أن حلفاء إيران بيدهم ورقة تأثير مهمة على مجرى الصراع، ولاسيما إذا ما اتسع نطاق الصراع، واتخذت المواجهة نمطًا أكثر عدوانية[39].
وكان لهذه الأهمية الاقتصادية دور في الحضور العسكري المكثف حول الممرات الرئيسة في المنطقة، وهذا الحضور يتمظهر في صور عديدة، منها قواعد عسكرية وحضور قوات وعمليات عسكرية، ونظرًا لوجود هذه القوات بالقرب من أهم ممرين ملاحيين في المنطقة، هما مضيق هرمز ومضيق باب المندب، وبالتالي يمكن القول إن المنطقة تشهد عسكرة غير مسبوقة، وهو ما يثير مخاوف أبعد من التأثير على الصراع الراهن بين إسرائيل وإيران، حيث يفرض الوجود الأمريكي تحديًا أمام مبادرات الصين العالمية، ومنها مبادرة الحزام والطريق، كما يؤثر على تجارة الصين المتدفقة نحو الغرب، ويؤثر على سلاسل الإمداد الصينية على المسرح التجاري العالمي، وربما هذا ما منع الصين من المشاركة في أي من العمليات العسكرية في البحر الأحمر، وبدلًا من ذلك قامت باتفاقيات مع الحوثيين لتسهيل عبور سفنها دون التعرض للهجوم[40]، كما قدمت روسيا مساعدات تقنية بحسب وول ستريت جورنال للحوثيين، لمساعدتهم في شن هجمات على السفن الأمريكية والغربية[41]، وهو ما يُشير إلى محاولة القوى العالمي استغلال البيئة الأمنية المضطربة، من أجل فرض قيود على الخصوم، وعلى مصالحهم الأمنية والجيواقتصادية في الشرق الأوسط.
ويظهر التنافس في مجال الذكاء الاصطناعي بوصفه واجهةً للتنافس الجيوتكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين في المنطقة، وليس سرًا أن المملكة العربية السعودية والإمارات لديهما طموحات كبيرة عندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي، من أجل حجز مساحة عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، وعند مقارنة الصين والولايات المتحدة كشريك، فإن الولايات المتحدة تبدو رائدة في هذا المجال، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن يكون التعاون مع الولايات المتحدة على حساب الصين، فالتنافس الجيوسياسي وفقدان الثقة في واشنطن يلقي بظلاله على العلاقات، كما أن العلاقات عميقة للغاية بين الصين وهذه الدول في المجال التكنولوجي، لهذا على الأرجح لن تقع المملكة العربية السعودية في فخ التنافس التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين، ومن غير المرجح أيضًا أن تتضرر علاقاتها مع القوتين[42].
خاتمة
يحتاج الشرق الأوسط الجديد الذي ترمي الولايات المتحدة وإسرائيل إلى تدشينه إلى نصر حاسم من جانب إسرائيل على فصائل المقاومة الفلسطينية وعلى محور إيران الإقليمي، مع ضرورة تفهم عربي طوعي لتفوق إسرائيل وتغاضيها عن القضية الفلسطينية، وهذا أمر يبدو من الصعب تحقيقه، فالولايات المتحدة رغم أنها تقدم دعمًا غير مسبوق لإسرائيل، لكن لديها خطوطها الحمراء بشأن تصفية القضية الفلسطينية، فما يزال هناك قطاع أمريكي يعتد به رافض لأفكار وإملاءات اليمين المتطرف في إسرائيل، لكن لا ننس أن ترامب الذي فاز بالانتخابات يمكن أن يقدم لإسرائيل الوقت والدعم للمضي قدمًا في تنفيذ مشروعها، ولاسيما أن الترشيحات التي قدمها لتولي المسؤولية في إدارته من المؤيدين أيديولوجيًا لإسرائيل ومن المعادين لإيران، ولا شك أن انتهاج هذه الإدارة سياسة غير واقعية ربما يزيد من الفوضى الإقليمية، وقد يتسع نطاق الصراع في غير صالح الولايات المتحدة ونفوذها الإقليمي والعالمي.
فحتمًا ستبقى القضية على الطاولة تحت أي ظرف، وسترفض دول عربية رئيسة كالسعودية أن يتم القفز على هذه القضية، وتجاهل الشرعية الدولية والمبادرة العربية، ولاسيما أن ذلك سوف يأخذ من مكانتها وقوتها الناعمة على الصعيد العربي والإسلامي، ومن ثم لن تقبل بالانضمام لاتفاقيات إبراهام، وبالتالي لن يمر مشروع الشرق الأوسط الجديد دون السعودية التي ظهرت بوصفها قائدًا إقليميًا مهمًا ولاعبًا حيويًا لا غنى عنه في إحداث التغيير المطلوب، والأهم من ذلك أن المملكة تقود مسار يتعارض مع الرؤية الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا إلى حد ما من خلال التأكيد على أولوية القضية الفلسطينية، وهو ما ظهر من محاولتها تدشين تحالف دولي من أجل الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو تحالف في جوهره يعني التصدي لمشروع الهيمنة الإسرائيلية، وخلق إجماع وتوزان إقليمي ودولي يحمي المنطقة من المشروعات الأيديولوجية المتطرفة سواء من جانب إسرائيل أو إيران.
من جهة ثانية هناك مصر والأردن، الدولتان المهمتان في هذا الصراع، واللتان ليس لديهما الاستعداد لقبول مخططات إسرائيل، إذ على الرغم من أنه لديهما علاقات دبلوماسية واتفاقيات سلام مع إسرائيل لكنهما يشعران بالقلق من نوايا إسرائيل التوسعية وتصدير الأزمة الفلسطينية إلى داخل حدودهما، وسوف يقفان حجر عثرة أمام أي عملية انتقالية في المنطقة باعتبارها تهدد مصالحهما وأمنهما وسيادتهما، وقد ظهر ذلك في رفضهما لصفقة القرن، وفي عدم الاستعداد والرفض القاطع لتهجير الفلسطينيين إلى داخل أراضيهما رغم الضغوط غير المسبوقة.
كذلك فإن شرق أوسط جديد يحتاج إلى مواجهة مباشرة وحرب واسعة النطاق مع إيران، من أجل وضع حد لطموحها النووي، ووقف التقدم الذي تحرزه في هذا المجال قبل تحوله لقوة ردع هائلة تغير ميزان القوى الإقليمي، أو العمل على تغيير النظام، لكن ما تزال الولايات المتحدة لا تدعم رغبة إسرائيل في عمل عسكري لإحداث هذا التغيير، بالنظر إلى تكلفته الكبيرة على واشنطن، وعدم الاستعداد لخوض معارك عسكرية على أكثر من جبهة، كما أن دول الخليج التي استعادت علاقاتها مع إيران لا ترغب في أن يتم تقسيم المنطقة على أساس هذا النوع من المحاور المتنافسة والمتصارعة، وأن يتم تصنيفها في محور ضد آخر، وما تزال تؤكد على رغبتها في تنويع العلاقات، والانفتاح على كافة القوى والتموضع كمعبر لتدفق المصالح.
بالمقابل فإن قدرة فصائل المقاومة على البقاء، وقدرتها على تحصيل الدعم من قوى إقليمية كإيران أو قوى دولية كالصين أو روسيا، يكرس الأمر الواقع الإقليمي السائد منذ ثورات الربيع العربي، والذي أعقبه صعود دور بعض الجماعات من دون الدول في عدد من الدول العربية كالعراق وسوريا ولبنان واليمن، فضلًا عن فصائل المقاومة الفلسطينية التي قد تجد في حرب الإبادة الراهنة قدرة على تجديد ذاتها وتجنيد مزيد من العناصر، وحشد التأييد في المحيط الأوسع العربي والإسلامي، وهذا يعني البقاء على حالة الفوضى الإقليمية مع تغييرات في توازن الردع بين هذه الأطراف وفقًا لمعطيات الصراع وحسابات المكسب والخسارة، لكن ربما لن يذهب أحد إلى تحقيق انتصار كامل، وربما يجسد الصراع في أحد تجلياته نموذجًا لانتشار القوة العالمية خارج نطاق الجهات الفاعلة الرئيسة من الدول، وربما طمس الحدود بين الجهات الفاعلة من الدول وغير الدول.
ومع أن الولايات المتحدة حاضرة بقوة لأجل إعادة صياغة التوازنات الإستراتيجية في المنطقة، لكن الشرق الأوسط طالما كان استثنائيًا في الخضوع لإرادة التغيير الأمريكية، لقد كان كذلك في وقت كان فيه التفوق الأمريكي محسومًا، وهذا ما كشفت عنه التطورات منذ غزو العراق وحتى أحداث الربيع العربي، فما بالنا والمنطقة تشهد حضورًا لقوى دولية أكثر تأثيرًا ترغب في أن تنازع واشنطن مكانتها وترغب في استهلاك قوتها في صراعات طويلة، في حين قد لا تتمكن واشنطن من متابعة المنافسة الجيوسياسية على ثلاثة مسارح عالمية في الوقت نفسه، ناهيك عن انتهاج بعض القوى الإقليمية سياسة مستقلة ونهج لا ينسجم بالضرورة مع إملاءات الولايات المتحدة.
وهكذا فإن المواجهة ستكون السمة المميزة للمنطقة في ظل تضارب المصالح، وعدم قدرة أي طرف على الاستسلام أو الحسم، وستعزز الدول من نفقاتها العسكرية، وسوف تضطر على مدى السنوات القليلة المقبلة إلى التعامل مع سباق تسلح جديد وكبير في كل من الأسلحة التقليدية، وربما النووية من أجل تفادي الخلل في الميزان العسكري والإستراتيجي، ولأنها تمثل رمانة ميزان التوازن الإقليمي المرتقب، فإن انحيازات دول الخليج إلى أي من أطراف الصراع أو بقائها على الحياد سيكون شديد التأثير على ميزان القوى الإقليمي والترتيبات الإقليمية المتعلقة بالأمن الإقليمي، وتحديد القضايا ذات الأولوية في المنطقة، وعلى الأرجح لن تتخلى القوى الفاعلة عن تموضعاتها، بما في ذلك محاولة دول الخليج والسعودية تحديدًا أن تتبع نهجًا مستقلًا، يقوم على تنويع الشراكات وعدم الانجرار خلف الاستقطاب، ومحاولة تجنيب المنطقة الدخول في حرب إقليمية باردة، أو ظهور خلل في ميزان القوى الإقليمي لصالح أي من أطراف الصراع.
[1] Adel Abdel Ghafar, Hana El Shehaby, Omar H. Rahman, China’s Approach to Palestine and Israel: Towards a Greater Role?, (July 16, 2024), accessed: October 30, 2024, https://n9.cl/t9q43
[2] Adel Abdel Ghafar, Hana El Shehaby, Omar H. Rahman, China’s Approach to Palestine and Israel, Ibid.
[3] UK Ministry of Defence , Global Strategic Trends: Out to 2055, Seventh Edition, (27 September 2024), accessed: October 30, 2024, https://n9.cl/fh54c
[4] Karen DeYoung and Missy Ryan, How Joe Biden lost his grip on Israel’s war for ‘total victory’ in Gaza, (October 3, 2024), accessed: October 30, 2024, https://n9.cl/fd3yp
[5] موقع الجزيرة نت، “لماذا طوفان الأقصى”.. وثيقة لحماس تروي أحداث 7 أكتوبر، (21 يناير 2024م)، تاريخ الاطلاع: 30 أكتوبر 2024م، https://n9.cl/gtpnz
[6] Alam Saleh, Zakiyeh Yazdanshenas, China-Iran strategic partnership and the future of US hegemony in the Persian Gulf Region, British Journal of Middle Eastern Studies, (May 17, 2023), accessed: Nov. 4, 2024, https://n9.cl/8n1p8
[7] أحمد منصور، جون ميرشايمر: أهداف إسرائيل الخفية من الحرب على غزة، (25 مايو 2024م)، تاريخ الاطلاع: 31 أكتوبر 2024م، https://n9.cl/h2oj1
[8] Rishi Iyengar, What Israel’s Attack on Iran Means for the Region, Foreign affairs, (October 26, 2024), accessed: accessed: October 30, 2024,
[9] نصرت الله تاجيك، سازمان جهاني همكاري گروههاي مقاومت مشروع (در شرف تاسيس)، صحيفة اعتماد، (۱۵ مهر۱۴۰۳هـ.ش)، تاريخ الاطلاع: 30 أكتوبر 2024م، https://bit.ly/3TS27rh
[10] فرانس 24، قمة الرياض: إجماع عربي إسلامي على إقامة دولة فلسطينية وتوحيد الجهود ضد تصعيد إسرائيل في لبنان وغزة، (11 نوفمبر 2024م)، تاريخ الاطلاع: 17 نوفمبر 2024م، https://n9.cl/gijo93
[11] الجزيرة نت، بايدن يخصص 14 مليار دولار لإسرائيل وغالبية الأميركيين تعارضه، (21 أكتوبر 2024م)، تاريخ الاطلاع: 30 أكتوبر 2024م، https://n9.cl/5fxj8
[12] موقع بي بي سي عربي، ما مدى توسع الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط منذ 7 أكتوبر؟، (8 أكتوبر 2024م)، تاريخ الاطلاع: 30 أكتوبر 2024م، https://n9.cl/3vurc
[13] سي إن إن عربي، “وسط التوترات مع إيران”.. أمريكا ستنشر نظام “ثاد” الصاروخي المتقدم في إسرائيل وسترسل قوات لتشغيله، (13 أكتوبر 2024، تاريخ الاطلاع: 1 ديسمبر 2024، https://n9.cl/ez8cr
[14] China Global Television Network, Wang Yi speaks with Iranian foreign minister on Gaza crisis, (Oct 15, 2023), accessed Oct 30. 2024, https://n9.cl/3vn2y
[15] مبارك أحمد، أبعاد الموقف الصيني من الحرب على غزة، قناة القاهرة الإخبارية، (6 نوفمبر 2023م)، تاريخ الاطلاع: 30 أكتوبر 2024م، https://n9.cl/74ewd
[16] Ido Gadi Raz, China’s new mediating role and the Palestinian-Israeli conflict, Taylor & Francis, (29 Aug 2024), accessed Oct. 30. 2024, https://n9.cl/q6ezo3
[17] Adel Abdel Ghafar, Hana El Shehaby, Omar H. Rahman, China’s Approach, Ibid.
[18] Beatrice Farhat, China’s Middle East diplomat meets Hamas’ Haniyeh in Qatar, (Mar 19, 2024), accessed Oct. 30. 2024, https://n9.cl/maftp
[19] Dale Aluf, What to make of China’s softening rhetoric on Israel, Gaza war, al-monitor, (Oct 21, 2024), accessed: Oct. 30. 2024, https://n9.cl/ao2rg
[20] رؤية للتخطيط والدراسات الإستراتيجية، الموقف الروسي من العدوان الإسرائيلي على غزة: الأبعاد والمحددات، (4 أبريل 2024م)، تاريخ الاطلاع: 30 أكتوبر 2024م، https://politicalstreet.org/6377/
[21] Sercan Çalışkan, Understanding China’s Position on the Israel-Palestine Conflict, the diplomat, (December 15, 2023), https://n9.cl/d0vk86
[22] Amwag, Deep Dive: GCC-Iran engagement heats up as regional war looms, (Oct. 25, 2024), accessed October 30. 2024, https://n9.cl/0nk0x4
[23] محمد عباس ناجي، ارتدادات التصعيد: هل تتجه إيران نحو تغيير سياساتها الدفاعية؟، انتررجونال للتحليلات الإستراتيجية، (14 أكتوبر 2024م)، تاريخ الاطلاع: 30 أكتوبر 2024م، https://n9.cl/gf0dx
[24] Erik Lin-Greenberg, Wars Are Not Accidents, foreign affairs, (October 8, 2024), accessed: October 31, 2024, https://n9.cl/qrmqd
[25] Steven Simon and Jeffrey Feltman, The Least Bad Option for Lebanon, foreign affairs, (October 30, 2024), accessed: October 30, 2024, https://n9.cl/s3f43
[26] Stephen M. Walt, Israel’s ‘Mission Accomplished’ Moment in the Middle East, Foreign policy (October 2, 2024), accessed: October 30, 2024, https://n9.cl/qs5oh
[27] Richard Haass, The Lessons and Legacy of October 7, project-syndicate, (Oct 2, 2024), accessed Oct. 30. 2024, https://n9.cl/ejxfz
[28] محسن صالحیخواه، چین و روسیه کجا هستند؟، سایت هم میهن، (۰۸ آبان ۱۴۰۳هـ ش)، تاريخ الاطلاع: 1 نوفمبر 2024م، https://n9.cl/bgbs5
[29] مصطفى سيد، نتنياهو للشعب الإيراني: إسرائيل تقف لجانبكم والنظام يدفع بكم إلى الهاوية، موقع الأمصار، (30 سبتمبر 2024م)، تاريخ الاطلاع: 30 أكتوبر 2024م، https://www.alamssar.com/368588
[30] Nicole Grajewski, Iran Is at a Strategic Crossroads, Carnegie endowment (October 3, 2024), accessed: October 30, 2024, https://n9.cl/q83oj
[31] Ali Vaez, Iran’s Year of Living Dangerously, foreign affairs, (October 11, 2024), accessed: October 30, 2024, https://n9.cl/s8ofmo
[32] Jennifer Gnana, Saudi-Israel normalization ‘off table’ until Palestinian statehood, FM says, .al-monitor, (Oct 31, 2024), accessed: Nov. 3, 2024, https://n9.cl/8cgr3
[33] مهران هاغيريان، تحول في دول مجلس التعاون الخليجي يوازن بين مصالح الدول الأعضاء وتحقيق الشمولية، موقع أمواج، (28 أكتوبر 2024م)، تاريخ الاطلاع: 3 نوفمبر 2024م، https://n9.cl/pi1aj
[34] حسن أبوطالب، حروب« البينغ بونغ» بين إسرائيل وإيران.. مواجهات مفتوحة ومخاطر كبيرة، مركز الأهرام للدراسات السياسة والإستراتيجية، (31 أكتوبر 2024م)، تاريخ الاطلاع: 4 نوفمبر 2024م، https://n9.cl/pazn6
[35] Gulf International Forum, Iran-Israel Escalation: Expert Outlook, (October 1, 2024), accessed: October 30, 2024, https://n9.cl/voi7k
[36] Sedat Laçiner, The Effects of the Ukraine War on the European Balance of Power: From Dream World to Reality, modern diplomacy (June 22, 2023), accessed: October 30, 2024, https://n9.cl/pp4sz
[37] Joyce Karam, In Middle East, China’s influence unconstrained by Trump, Harris, al-monito, (Nov 1, 2024), accessed: Nov. 3. 2024, https://n9.cl/51phw
[38] Arash Reisinezhad, Iran’s Israel Strategy Has Already Changed, foreign policy, (October 11, 2024), accessed October 30. 2024, https://n9.cl/7xr5dr
[39] Gulf International Forum, Iran-Israel Escalation: Expert Outlook, (October 1, 2024), accessed: October 30, 2024, https://n9.cl/voi7k
[40] By Sam Dagher, Mohammed Hatem, Yemen’s Houthis Tell China, Russia Their Ships Won’t Be Targeted, Bloomberg, (March 21, 2024), accessed: October 30, 2024, https://n9.cl/wax7x2
[41] Benoit Faucon, and Thomas Grove, Russia Provided Targeting Data for Houthi Assault on Global Shipping, The Wall Street Journal, (Oct. 24, 2024), accessed: October 30, 2024, https://n9.cl/sdyaw
[42] Jack Dutton, With $40B fund, Saudi Arabia looks to become world leader in AI, (Mar 20, 2024), accessed: October 31, 2024, https://n9.cl/g5cjc0