من الهيمنة إلى الانحسار.. مستقبل ولاية الفقيه بعد أحداث سوريا قراءة في خطاب خامنئي

https://rasanah-iiis.org/?p=37042

بعد سقوط دمشق بيد المعارضة السورية المسلَّحة، وهروب بشّار الأسد يوم الأحد الثامن من ديسمبر الجاري إلى موسكو، خرجَ المرشد الإيراني علي خامنئي في لقاء مع مجموعة من الإيرانيين، قِيل إنَّهم من «مختلف الفئات»، ليُبدي غضبهُ من سقوط الأسد، ويشرحُ موقفهُ وموقف الدولة الإيرانية من تسارُع الأحداث في سوريا، التي بدأت بسقوط حلب في يد المعارضة المسلَّحة يوم الجمعة 29 نوفمبر الماضي. وصاحَبَ ذلك اللقاء، نشْر المرشد لسلسلة من التغريدات على موقع «إكس» (تويتر)، تبيِّن موقفهُ وموقف إيران من جُملة الأحداث والتغييرات في سوريا، وينسبها إلى فاعلين إقليميين، لا سيّما الأتراك، لكن مركزها حسب قوله، في أمريكا وإسرائيل. ولم يكتفِ بذلك، بل أرجعَ عجْز إيران في إنقاذ الأسد إلى الطيران الأمريكي، الذي أعاقَ -حسب وصفه- وصولَ أيّ إمدادات إلى سوريا في ظل الأزمة، لكنَّه في تغريدة أخرى، قال إنَّه لا يمكن الدفاع نيابةً عن الجيش السوري، وأنَّ قوّات التعبئة كان من المُفترَض أن تدافع مع الجيش، لا أن تحارب بدلًا عنه. وإذا ضُمَّت تصريحات مسؤولين إيرانيين آخرين إلى تصريحات خامنئي، سنجِدُ تضاربًا واختلافًا بيِّنًا، لكنَّنا سنركِّز على تصريحات المرشد، باعتباره رأس النظام وواضعَ سياساته، وأهمّ رجل في تراتبيته، بوصفه الولي الفقيه. وفي هذا التقرير، سنبيِّن ما ورائيات هذه التصريحات المتتالية للمرشد الإيراني، وتفكيك جوانبها الإستراتيجية والأيديولوجية، وأسباب قلق المرشد والنُّخَب الإيرانية الحاكمة من عموم التغييرات في سوريا، لدرجة يمكن القول إنَّها كانت بمثابة زلزال بالنسبة لهم، يفوقُ مقتل حسن نصر الله وهاشم صفي الدين وإبراهيم رئيسي. لكن الأهمّ من ذلك، وهو مكمنُ المخاوف الحقيقية لدى الولي الفقيه الإيراني، هو الخوف من انهيار نظرية الحُكم القائمة منذ العام 1979م، وهي نظرية ولاية الفقيه، فتآكُلها في الأطراف وبين الحواضن يؤثِّر في قلْب المركز، وهو ما يمثِّل تحدِّيًا للنظام الإيراني ومأزقًا لنظرية ولاية الفقيه. لذا، فنحن أمام سيناريوهات للتعامل مع هذا المأزق، وهو ما سيُجليه هذا التقرير، فيما يلي:                                  

أولًا: موقف خامنئي من أحداث سوريا  

اختلفَ موقف خامنئي في بداية الأحداث عن آخرها؛ ما يدُل على المفاجأة التي تعرَّض لها صانع القرار الإيراني، ويدُل على الخوف من الأحداث، والقلق من تراجُع الدور الإيراني، وهيمنة ولاية الفقيه ووصايته.        

اتّهام المعارضة المسلَّحة: في بداية تحرُّك جماعات المعارضة السورية المسلَّحة تجاه حلب وتحريرها يوم 29 نوفمبر الماضي، كتَبَ خامنئي في الأول من ديسمبر الماضي يصِف المعارضة بالجماعات التكفيرية، متّهِمًا إيّاها بتشتيت أنظار الأُمّة عن قضية فلسطين، بدلًا من الالتفات إلى الواقع الخبيث لـ «الكيان الصهيوني». ثمَّ بعد سقوط الأسد وهروبه إلى موسكو، ودخول قوّات المعارضة دمشق في الثامن من ديسمبر، كتَبَ خامنئي في الحادي عشر من ديسمبر -أي بعد يومين من سقوط بشّار- معلِّقًا على أحداث سوريا، قائلًا: «ممّا لا شكّ فيه أنَّ ما حدَثَ في سوريا، هو نتاج مخطَّط أمريكي-صهيوني مشترك». ثمَّ في تغريدة أخرى في نفس اليوم، اتّهم تركيا بالوقوف خلف أحداث سوريا، والتعاون مع أمريكا وإسرائيل. وفي نفس اليوم أيضًا، عقَدَ لقاءً مع فئات من الشعب، استدلَّ فيه على صحة رؤيته بدخول الدبّابات الإسرائيلية الأراضي السورية، حتى باتت على مقربة من دمشق. وخامنئي وإن تكلَّم كثيرًا عن المقاومة، وأنَّها «ليست في العتاد العسكري فقط، بل عقيدة في القلوب»، فإنَّه في نفس الوقت لم يتطرَّق إلى الإنسان السوري، ولا إلى كرامته، التي استُبيحت من النظام البعثي، أو المعتقلات، التي امتدَّت على طول جغرافيا الدولة السورية، فكأنَّ الفعل المقاوِم يُبيح كلَّ ذلك. وإذا كانت المقاومة هي الوقوف ضدّ الهيمنة، كما كرَّر خامنئي في خطابه، فإنَّ من حقّ الشعب السوري أن يثورَ ضدّ هيمنة الإيراني والشيعي في دولته، بعد أن همَّشوهُ فيها، وأرادوا تغييرَ إرثه ومذهبه وحضارته.       

تبرئة المرشد لنفسه وانتقاده الجيشَ السوري: يبدو أنَّ خامنئي أرادَ توجيه رسائل للداخل الإيراني والشيعي، لمواجهة التشكيك والاتّهامات بالفشل والتقصير، فاتّهم الجيشَ السوري بالتقاعس، وقال إنَّه ليس من المنطقي وليس من المقبول من الرأي العام، أن يقاتل الجيش الإيراني بدلًا من الجيش السوري؛ بمعنى أنَّ عدمَ قُدرة الإيرانيين على دعْم بشّار ليس بسبب الإيرانيين أنفسهم، بل بسبب الجيش السوري المتقاعس عن القتال؛ وبالتالي فإنَّ البديل أن يذهب الإيرانيون أنفسهم للقتال ضدّ المعارضة المسلَّحة بدلًا من الجيش السوري، وهو مرفوضٌ حسب خامنئي. لكنَّه لم يكتفِ بذلك، بل برَّأ نفسه من ذهاب شباب الشيعة من إيران والعراق إلى سوريا، أثناء الثورة والحرب الأهلية وقتال الجيش السوري ضدّ المعارضة المسلَّحة والجيش السوري الحُرّ، بقوله: «كانوا يطلبون منِّي -أنا العبد- مرّاتٍ عَّدة، ويسألون، ويكتبون، ويبعثون الرسائل، ويتوسَّلون أنْ اسمحوا لنا بالذهاب إلى سوريا لنتصدَّى للعدو. طبعًا، لم يكُن ذلك مناسبًا؛ أي لم تكُن حينها تُرتأى مصلحةٌ في ذلك، لكنَّهم كانوا يذهبون».   

ولم تقِف اتّهاماته عند الجيش السوري، بل اتّهم بعض قوّات التعبئة الشيعية ممَّن ذهبت إلى سوريا من العراق وإيران ومن داخل سوريا نفسها، اتّهمهم بالتقصير والتخاذل، بالقول: «درَّب الشهيد سليماني في سوريا مجموعةً مكوَّنةً من عِدَّة آلاف من الأشخاص، ومن شبابهم أنفسهم، وسلَّحهم، ونظَّمهم، وأعدَّهم، فصمدوا. طبعًا، لاحقًا تسبَّب البعض منهم أنفسهم، المسؤولون العسكريون نفسهم في ذاك البلد، في المشكلات والمعوِّقات، وغضُّوا الطرْف -للأسف- عمَّا كان يصُبّ في مصلحتهم».  

فهو أولًا اّتهم الجيش السوري بالتقاعس، ثمَّ برّأ نفسه من إرسال الشباب والميليشيات إلى سوريا، ثمَّ اتّهم هؤلاء الشباب والميليشيات التي درَّبها وأعدّها قاسم سليماني، بالتقاعس وإحداث المشكلات والمعوِّقات. على أنَّ كلامه عن ذهاب بعض شباب الشيعة دون إذنه لا يصحّ، ولا يمكن التسليم به، حتى وفقًا لأعراف التشيُّع ونظرية ولاية الفقيه وتخريجات أحكامها الولائية.  

إذن، فالمشكلة الكُبرى من وجهة نظر خامنئي، لم تكُن في إستراتيجيته، وخِطَّة الإيرانيين المُمنهَجة في التمدُّد بسوريا والعراق، وخنْق الإقليم وإحداث الفوضى والاضطرابات، واستقدام ميليشيات شيعية من باكستان وأفغانستان وتدريبها وتسليحها، بل تكمُن المشكلة في الجيش السوري، وفي الشباب الشيعي نفسه الذي ذهب دون إذنه، وكذلك في الميليشيات التي أخطأت التقدير العسكري في سوريا.

وهذا يؤكِّد ما نريده هُنا، من أنَّه يسعى إلى ترميم ولاية الفقيه، ويعمل على تعزيزها، والدفاع عنها ضدّ حملات التشكيك والغضب، إثر الهزائم المتتالية، وهو ما سنُجليه في دلالات خطابه.       

ثانيًا: دلالات خطاب خامنئي.. انحسار ولاية الفقيه وأزمة المشروع   

إنَّ ما بعد السابع من أكتوبر 2023م ليس كما قبله بالنسبة للأمريكيين والإسرائيليين؛ وبالتالي بالنسبة للإيرانيين أيضًا، فقد اتُّخذ قرارٌ بتصفية المشروع الإيراني، ومواجهته، حتى ولو أدَّى الأمر إلى مواجهة حاسمة في المركز نفسه. وبالتالي، جاءت أحداث غزة ثمَّ أحداث لبنان، وأخيرًا أحداث سوريا؛ لتقليم أظافر طهران. وفي تلك الآونة، قُتِل عددٌ كبير من قادةٍ حركيين ودينيين وعسكريين مقرَّبين من طهران، مثل حسن نصر الله وهاشم صفي الدين وفؤاد شكر، وإسماعيل هنية وصالح العاروري ويحيى السنوار، ومن قبل هؤلاء وبعدهم مقتل عددٌ كبير من الجنرالات والمستشارين العسكريين الإيرانيين في سوريا، واستهداف بعضهم في اليمن. وأدَّت كل تلك الأحداث إلى إظهار مدى هشاشة المشروع الإيراني، وعدم قُدرة الإيرانيين على الرد، أو حتى صياغة إستراتيجية تحفظ مشروعهم، الذي استثمروا فيه مليارات الدولارات، واستغرقوا أكثر من أربعين سنة، دون رغبة من عموم الشعب الإيراني، فكان القرار مركزيًا من الولي الفقيه وحاشيته المقرَّبة؛ وتلك الأحداث لها دلالتان مهمَّتان، هُما:   

1.هشاشة المشروع وشيخوخة الفاعلين: هذا العجز الإيراني وتهافُت محورها بسرعة، وإن رجَعَ إلى عامل خارجي يتمثَّل في قلق الإقليم كلّه من المشروع الإيراني ومن ثمَّ مواجهته، فإنَّه يرجع في ذات الوقت إلى عامل داخلي هو أشدّ خطورةً وأكثر خطرًا، ويهدِّد الدولة الإيرانية في صيغتها الإسلامية المعاصرة، وهو شيخوخة النظام وكوادره ومنظِّريه، وعدم قُدرة نُخَب الحُكم على إفراز أفكار جديدة وجيل جديد يؤمن بالثورة ومبادئها، أو يحمل الراية من بعدهم. فمعظم قادة المؤسَّسات تقدَّم بهم العُمر، وما عادوا قادرين على الإبداع والتجديد، فضلًا عن الفجوة الكبيرة بين جيل الشباب والنساء وجيل الثورة، الذي لا يزال يمسك بزمام الحُكم منذ سنة 1980م حتى اليوم.   

وعندما تولَّى هذا الجيل حُكم إيران بعد الثورة، كان جيلًا شابًّا يمكنه الفعل الثوري والحركي، أمّا هذا الجيل بعد أربعين سنة، والذي بلغ معظم رجالاته التسعين من العُمر أو قريبًا منها، فإنَّ فعله الثوري لم يعُد ثوريًا في حقيقة الأمر، بل إحداث اضطراب وقلق وفوضى في الإقليم كلّه، وليس في إيران وحدها. وتخطَّت نظرية تصدير الثورة كلَّ الخطوط الحمراء، لتصير عبئًا حتى على دول ليست مجاورةً لإيران ولا لأذرعها (كما حدَثَ في مصر مثلًا من انهيار دخْلِ قناة السويس بسبب الحوثيين). وبات الشباب الإيراني من الجيل المعاصر أشدّ كُفًرا بالثورة ومبادئها؛ كتصديرها، والاستثمار بمليارات الدولارات لدعم ميليشيات خارجية في وقت يعاني فيه الإيرانيون من تضخم شديد وأزمة اقتصادية جارفة، علاوةً على فساد نُخَب الحُكم ورجال الدين، والذي يتجلَّى يومًا بعد يوم. وبالتالي، لا يمكن الحديث عن ثورة أو زخم ثوري أو مشروع أيديولوجي لهذا الجيل، الذي ما رأى من نتائجها إلّا الأعباء الحياتية المرتفعة، والتشدُّد الديني، والاهتمام بالقشور دون الأُصول.   

2.انحسار ولاية الفقيه: وهذه الهشاشة تنعكس على أمر مهم آخر، وهو المرتبط بانحسار نظرية ولاية الفقيه في الداخل الإيراني، بعد تهميش الأذرع الخارجية، وإضعافها بشِدَّة. فولاية الفقيه المُطلَقة -بقراءتها الخمينية- هي نظرية شاملة، بحيث لا تحدّها الحدود ولا المذاهب، فهي ليست مرتبطةً بالجغرافيا الإيرانية؛ أي عابرة للحدود، وبالتالي يسمِّي خامنئي نفسه بـ«ولي أمر الإسلام والمسلمين»، وليس ولي أمر الإيرانيين وحدهم أو الشيعة فقط.

لكن هذه الولاية، التي امتدَّت إلى العراق ولبنان وسوريا واليمن، ومجموعات في باكستان وأفغانستان، تتعرَّض لهزّات عنيفة في لبنان وسوريا والعراق واليمن. فسوريا كمثال، هي الدولة الأهمّ لإيران؛ فهي محاذية لإسرائيل، وهي معبر حيوي ورئيسي يربط بين طهران وبيروت؛ وبالتالي، فإنَّ فقدان سوريا يمثِّل ضربةً إستراتيجية لإيران، وكذلك إضعاف حزب الله بقوَّة في الحرب الأخيرة، وضرب حركتي حماس والجهاد، وكذلك الضغط على الميليشيات العراقية من قِبَل مرجعية النجف، بمطالبتهم تسليمَ السلاح إلى الدولة والضغط عليهم من فاعلين دوليين وإقليميين. كل ذلك يؤدِّي إلى الانتقاص من شمولية ولاية الفقيه ولا محدوديتها، بل وسُمعتها بين الجماعة الشيعية؛ فالصدمات والهزائم بطبيعتها النفسية تعقبها انتقادات داخلية واتّهامات مُتبادَلة. فالولي الفقيه كان يعتمدُ على تلك الأذرع؛ للهيمنة وبسْط ولايته، وممارسة العُنف والقوَّة، أمّا اليوم فباتت ولايته شبه محصورة في الداخل الإيراني، بل حتى الداخل الإيراني نفسه يشهد خلافات كبيرة، وترتيبات ما بعد خامنئي، وفوز «الإصلاحيين» بمقعد الرئاسة وطموحهم لتغيير تركيبة الحُكم بعد خامنئي. وبالتالي، يتجلَّى هذا المأزق الكبير، الذي تمُرّ به النظرية. وهذا يؤدِّي بنا إلى طرْح سؤال المآلات والمؤشِّرات المستقبلية.       

ثالثًا: المآلات والسيناريوهات المستقبلية

تبدو إيران هذه المرَّة في مواجهةِ أكبرِ أزمة منذ بداية الثورة الإسلامية لعام 1979م وحتى اليوم؛ فهي في مواجهة مباشرة مع الإقليم ومع الغرب، وكفاءة أجهزتها الداخلية لم تعُد كما كانت من قبل، من جرّاء الشيخوخة (العُمرية والفكرية)، التي هيمنت على نُخَب الحُكم، وغضب قطاع واسع من الجماهير؛ بسبب التضخم والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وعدم إيجاد حلول واقعية، والفجوة الكبيرة بين جيل الثورة وجيل الشباب والنساء، لا سيّما من مواليد هذا القرن؛ ويمكن حصْر المآلات والسيناريوهات المستقبلية فيما يلي:  

السيناريو الأول/ المراجعات الفكرية والعملية: يفترِض هذا السيناريو إجراء الإستراتيجيين الإيرانيين والمنظِّرين من النُّخَب الدينية والحوزوية، مراجعات فكرية شاملة تشمل كل السياسات، التي اتُّبِعت منذ العام 1979م وحتى اليوم، والتي أدَّت إلى اضطراب واسع، وغضب داخلي وخارجي من نُخَب الحُكم الإيرانية. وهذا السيناريو يطالب به نفرٌ من «الإصلاحيين» الإيرانيين على اختلاف مشاربهم، فبعضهم يطالب بتعديلات دستورية تنهي حقبةَ ولاية الفقيه وتؤسِّس لدولة ديمقراطية، وآخرون يطالبون بإنفاذ الدستور الحالي وعدم تجاوزه من «المحافظين»، ويعتبرون مواده كافيةً لإقامة حُكمٍ رشيد لولا انتهاكهُ من قِبَل رجال الدين مرَّةً تِلو أخرى. لكن السيناريو يفترض مراجعات أشمل من الالتزام الدستوري، سواءً بصيغته الراهنة أو بتعديلات جوهرية، هو افتراض مراجعات تمَسّ بنيةَ الفكر المحافظ والتقليدي نفسه، باعتبار الإخفاق الداخلي والخارجي، الذي أحدثه وتسبَّب فيه.      

في المقابل، تبدو القيادة الإيرانية مستمِرَّةً في نفس سياساتها، دون أدنى تراجُع عن نهجها في المنطقة، ودون نيّة عمل أيّ مراجعات فكرية وعملية حقيقية؛ فالمراجعات تبدو في عقْل صانع القرار الإيراني وكأنَّها ضرْب من الفشل، والفشل كأنَّه ضدَّ عناية الله ورعايته. والمرشد يقدِّم نفسه على أنَّه حارسُ الإسلام والمذهب في الأرض، ونائبٌ عن المعصوم، والمعصوم نائبٌ عن الله؛ فالمرشد نائبٌ عن الله؛ وبالتالي فالفشل لا يجوز في حقِّه، والهزيمة تُبرَّر على أنَّها ابتلاءات أو تكتيكات، أو ترويج الهزيمة على أنَّها نصر، كما حدَثَ في حرب لبنان، عندما خرجَ نعيم قاسم منذ أسابيع ليقول إنَّ حزب الله انتصر انتصارًا أكبر من انتصار 2006م. لكن سياسة المُضي قُدُمًا في نفس الطريق وذات السياسات، وإن بدت في عين صانع القرار الإيراني دليلًا على الاستمرارية والفاعلية والوجود، فإنَّها تدُلّ في حقيقة الأمر على خشيته من التراجع؛ فالتراجع يعني من وجهة نظره الفشل والإخفاق، ومن ثمَّ التساؤلات الداخلية، ومن ثمَّ إزاحة النظام، أو موته إكلينيكيًا. أمّا المُضي قُدُمًا في ذات السياسات، فمعناه أيضًا نهاية النظام على المدى البعيد؛ لأنَّه يؤدِّي إلى تراكُم المشاكل، وزيادة الفجوة بين الجيل المعاصر وُنَخب الُحكم، وزيادة دوائر الغضب، كما حدث في سوريا أخيرًا.    

السيناريو الثاني/ انحسار مشروع الثورة الإسلامية وإخفاق أهدافها: يفترض هذا السيناريو إخفاقَ مشروع الثورة الإسلامية، وانحساره. ومشروع الثورة نقصد به هُنا أدبياتها ومقولاتها التي تأسَّست عليها، مثل تصدير الثورة، وشمولية الولاية، ومركزية الأحكام الولائية، ونحو ذلك من مُخرَجات أنتجتها تنظيرات النُّخَبة الدينية الثورية ما بعد 1979م. وإنَّما يفترض هذا السيناريو انحسار المشروع (انحسار وليس نهاية)، لأسباب وجيهة، منها عدم إجراء مراجعات جادَّة وحقيقية، كما افترض السيناريو الأول، ومنها مُجمَل التحدِّيات الواقعية التي تواجه النظام في الداخل والخارج، كالفجوة الفكرية والعُمرية بين جيل الثورة والجيل المعاصر من الشباب والنساء. لكن السبب الرئيسي، الذي قد يؤول إلى هذا الانحسار، هو السبب نفسه، الذي يعتبرهُ خامنئي والنُّخَبة الدينية سببًا في الثبات والفاعلية، وهو المُضي قُدُمًا في ذات المشروع الإيراني الثوري.

 فخامنئي إن قرَّر المُضي قُدُمًا في ذات النهج ونفس السياسات التي انتهجها النظام منذ تأسيسه (وهو المرجح) فإنه قد يتسبب في إخفاق المشروع أو حتى انهياره؛ وبالتالي يمكن القول: إذا كان الخميني قد أسَّس للنظام الموجود، فإنَّ خامنئي رُبَّما يؤسِّس لنهايته بسياسته الراهنة، المتمثِّلة في قتْل كفاءات الداخل وتوغُّل الاستبداد وتحويله الدولةَ إلى «جمهورية خوف وعُنف»، والمتمثِّل خارجيًا في نزاعِه مع الإقليم برُّمته، وإحداثه قلقًا واضطرابًا طالَ الجميع، مع تخطٍّ تام للخطوط الحمراء المُتعارَفة في النظام الإقليمي والدولي، حتى بدا تصدير الثورة شبيهًا أو أقرب إلى العمل الإرهابي المتعدِّي للحدود والخطوط، والمهدِّد لكافَّة الأنظمة والقوانين والحكومات، مع فتْح جبهات متعدِّدة في نفس الوقت، دون حساب القُدرة الإيرانية على الفعل أو إحكام الفعل، وحساب ردَّة فعل الخصوم. وكذلك تقديم «فقه المغامرات» على «فقه العقل»؛ فأُصيب الإيرانيون بتشوُّهٍ إستراتيجي أدَّى إلى تضخيم الذات الإيرانية، مقابل قُوى إقليمية ودولية تملكُ من التكنولوجيا والعتاد العلمي والعسكري ما يفوقُ الجانبَ الإيراني بكثير. وبدا ذلك في تفجير أجهزة اللاسلكي لعناصر حزب الله، واغتيال هنية في قلب طهران، وقُدرة الطائرات الإسرائيلية على التحليق فوق إيران مع عجْزٍ تام للدفاع الجوِّي الإيراني.

كان هذا كلّه، من المُفترَض أن يكون محفِّزًا للإيرانيين على إعادة التموضع، وعمل مراجعات حقيقية داخلية، والتوقُّف للتفكير والرجوع خطواتٍ للخلف، وفتْح قنواتٍ دبلوماسية حقيقية مع الفاعلين في الإقليم، دون التمترُس الأيديولوجي، والالتفاف على المصالحات والتفاهمات الإقليمية. لكن هذا لم يحدُث، ومن الصعب أن يحدُث في بيئةٍ دينيةٍ مستبِدَّة، هي جزءٌ من طبيعة ونتاج ولاية الفقيه ووصايته، والمناخ الذي أسَّس له، وأراده.            

السيناريو الثالث/ إعادة الترميم والبحث عن بدائل: يفترض هذا السيناريو إعادةَ إيران لترميم مكانتها في الشرق الأوسط والإقليم، والبحث عن وسائل جديدة للتصعيد والمواجهة، وتنفيذ المشروع الإيراني بسُبُل أقلّ تكلفةً وأشدّ ذكاءً من قبل، بعبارة أخرى: يفترَض مُضِّيها قُدُمًا في مشروعها، لكن مع تغيير في التكتيكات. وهناك فارقٌ بين هذا السيناريو وسيناريو المراجعات الفكرية؛ لأنَّ هذا السيناريو لا يلزم منه مراجعات، بل تكتيكات جديدة للبحث عن بيئة آمنة، وتنفيذ نفس المشروع وذات السياسات بتكتيكات مختلفة رُبَّما تكون أقلَّ كُلفة، لكن مع بقاء نظرية الحُكم كما هي دون مساس بثوابتها ومخرجاتها الفقهية والسياسية. فإذا افترضنا أنَّ إيران لن تستسلم، وسوف تستمر في سياسة التصعيد وذات النهج المضطرب في الإقليم، وهذا هو الأرجح بناءً على تصريحات خامنئي وتصريحات القادة الإيرانيين، بل وتصريحات قادة حزب الله والحوثيين والفصائل المسلَّحة العراقية، فإنَّها لا شكّ ستبحث عن بدائل في آسيا ومناطق أخرى، كما صرَّح خامنئي نفسه. فقد أكَّد أنَّ محور المقاومة سيتواجد بقوَّة في عموم آسيا، ورُبَّما يقصد باكستان وأفغانستان، حيث البيئة الرخوة التي يمكن للإيرانيين التمدُّد فيها، أو دعْم الجماعة الشيعية هناك لصالح أهداف إيرانية. وقد يقصد التعاون مع الشرق ضدّ الغرب؛ أي مع الصين وروسيا، ورُبَّما أرادَ التهديد فقط، والتورية عن تكتيكات جديدة سيتبعها في نفس الأماكن محل الإخفاق؛ أي العراق وسوريا ولبنان.   

لكن السؤال الأهمّ: هل يمكن لإيران أن تجِد بيئةً آمنة في سوريا الجديدة ما بعد بشّار؟ الحقيقة أنَّ ذلك صعب في المدى القريب والمتوسِّط؛ بسبب دعْم طهران لبشّار الأسد والسُمعة السيِّئة لطهران بين عموم السوريين، كذلك فإنَّ الخطاب الرسمي الصادر عن الجولاني (أحمد الشرع) وقادة المعارضة السورية، هو خطابٌ موجَّهٌ ضدّ طهران بالدرجة الأولى. على الناحية الأخرى، فإنَّ فاعلين إقليميين دعموا الحراك السوري ضدّ بشّار لهدف رئيسي، هو ضرب الوجود الإيراني في سوريا، مثل تركيا ودول الخليج، ولا سيّما السعودية وقطر. وبالتالي، فالنُّخَب العسكرية السورية الجديدة تُدرك ذلك، أي أنَّ شرعيتها الإقليمية وغطاءها الدولي مُستمَدٌّ من ذلك الهدف، وهو إبعاد إيران عن سوريا تمامًا، وإرجاع سوريا إلى الحضن العربي بعيدًا عن سياسة إيران التدميرية.     

لكن في نفس الوقت، قد يُقال إنَّ طهران تعاملت من قَبل مع تنظيم القاعدة في أفغانستان والعراق ضدّ القوّات الأمريكية؛ فيمكن بالتالي أن تتعامل مع الإسلاميين السوريين ضدّ إسرائيل وأمريكا، ويمكن فهم كلمة خامنئي في هذا الصدد، عندما قال: «سوف تتحرَّر المناطق المحتلَّة من سوريا على أيدي الشباب السوريين الغيارى؛ لا تشُكُّوا في أنَّ هذا الأمر سيحدُث. لن يثبت لأمريكا موطئ قدم أيضًا، وبتوفيقٍ من الله وحولٍ منه وقوَّة، ستطرُد جبهةُ المقاومة أمريكا من المنطقة».  والجواب: أنَّ البيئة السورية مختلفةٌ تمامًا عن البيئة العراقية والأفغانية، فالإسلاميون اليوم، على الرغم من شِدَّة الخلاف بينهم وبين طهران سياسيًا وعقديًا، فإنَّهم كذلك ليسوا وحدَهم في سدَّة السُلطة بسوريا، وإن كانوا على رأس الحربة، لكن جموعَ السوريين بمختلف ألوانهم اليوم ضدّ نظام البعث ومع الثورة؛ وبالتالي فهُم ضدّ طهران، وهُم مراقِبونَ لعمل الإدارة الجديدة، ومترقِّبونَ لأفعالها وصنيعها. إضافةً إلى أنَّهم يدركون الغطاءَ التركي والخليجي والإقليمي والدولي لهم، ويدركون شروطه وأبعاده ومقاييسه، التي لا بُدَّ من الالتزام بها، حتى تُوجَد لهم مساحات للعمل والمناورة السياسية والغطاء الدولي. كذلك لاختلاف البيئة، فالأفغان كانوا يتحرَّرون من الأمريكان والعراقيون كذلك. أمّا السوريون فكانوا يتحرَّرون من إيران نفسها، وبشّار أحد أذرعها؛ وبالتالي فلا يمكن للإيرانيين دخول سوريا توظيفًا لتيّار أو استغلالًا لأحداث معيَّنة؛ فالأمر مختلفٌ تمامَ الاختلاف عن النماذج السابقة. لكن ما يمكن قوله في هذا السياق، إنَّ طريق إمداد حزب الله وإن انقطع في سوريا، وسيؤثِّر لا شك على الحزب وقوّاته، إلّا أنَّه لا يمكن القول إنَّه بمثابة الموت الإكلينيكي لـ «حزب الله» على نحوِ ما يذهبُ البعض؛ لأنَّ الحوثيين كمثال لا يربطهم طريق برِّي بطهران، ومع ذلك يصلهم السلاح الإيراني، ولأنَّ إيران أيضًا متفنِّنةٌ في الالتفاف على القانون الدولي، ومتمرِّسةٌ على طُرُق التهريب غير الشرعي، بدءًا من المخدّرات وليس نهايةً بالسلاح. فالحزب اللبناني وإن تأثَّر كثيرًا، وضُرِب في مقتل، إلّا أنَّ تلك التأثيرات لا تمثِّل موتًا إكلينيكيًا له، ما لم يُضرَب أو يُكبَح المركز نفسه في قلب طهران. لكن في نفس الوقت، فالمسألة ليست طُرُق إمداد فقط، بل كانت سوريا طريقًا لعبور المستشارين العسكريين والميليشياتيين من لبنان إلى بغداد وطهران والعكس عبر سوريا، دون تتبُّع أو كشْف عن هويّاتهم. أمّا بعد سقوط بشّار، فسوف يختلف الأمر كثيرًا، ولذا يمكن القول إنَّ إيران فقدت حليفًا إستراتيجيًا وأهمّ نقطةٍ حيوية فيما سمَّتهُ بـ «محور المقاومة».   

خاتمة

تبدو نُخَب الحُكم الإيرانية اليوم في أزمة؛ بسبب ما يواجهُه المشروع الإيراني من عقبات، وتبدو ولاية الفقيه نفسها في مأزق، من جرّاء التغييرات الكبيرة في الإقليم، والضربات العنيفة التي تعرَّض لها الإيرانيون وأذرُعهم في الإقليم، مثل حركتي حماس والجهاد، وحزب الله ونظام البعث في دمشق.     

لكن الأهمّ من هذا كلّه، أنَّ ذلك انعكس على المرشد الإيراني نفسه، وعلى نظرية الحُكم في طهران؛ نظرية ولاية الفقيه، والتي يَعتقد هذا التقرير أنَّها تمُرّ بمأزق شديد، إمّا يؤدِّي إلى الأُفول والانحسار، وإمّا إلى الترميم والإحياء والتصعيد بُغيةَ تعزيز وصاية الفقيه وولاية المرشد، وإمّا إلى مأزقٍ مستمِرّ يتمثَّل في انحسارٍ في الداخل الإيراني وبعض جيوب الخارج دون ذات الفاعلية والنشاط، الذي كانت عليه قبل السابع من أكتوبر. أي تكون غير قادرة على إحداث اضطراب واسع في الإقليم على نحو ما كانت عليه، على الأقلّ في المدى المنظور، حتى تستعيد فاعليتها وعافيتها.   

وتوازي ذلك مع شيخوخة المرشد وقادة المؤسَّسات؛ شيخوخةٌ عُمرية وفكرية، وبالتالي يبدو أنَّ الإستراتيجيين الإيرانيين يواجهون معضلةً حقيقية في دواليب الحُكم، فطبَّقوا كافَّة النظريات، التي اُعتيد أن يتّبِعوها من بعد الثورة، لإخضاع خصومهم وإحداث القلق والفوضى لهم، حتى للأمريكان أنفسهم. إلّا أنَّ كافَّة تلك السيناريوهات ما عادت تُجدي نفعًا، مع ما تمُرّ به إيران من معضلة هذه المرَّة. وإذا كانت طهران تمُرّ بأزمةِ ضعْف محورها في الخارج، فهي تواجه أزمةَ تفتُّت الحواضن الشعبية في الداخل، نتيجةَ تآكُل شعبية «التيّار المحافظ»، وصعود «الإصلاحيين» إلى سدَّة الحُكم وطمعهم في إحداث تغييرات جوهرية في تركيبة الحُكم، لا سيّما في فترة ما بعد خامنئي. بالتالي، فإنَّ ولاية الفقيه أضحت في مأزقٍ حقيقي؛ لأنَّها باتت محصورةً ومقيَّدة بالداخل الإيراني، وما عاد في قُدرة الولي الفقيه أن يطبِّق التهديدات، التي كرَّرها منذ ثلاثين سنة، والتي وجَّهها لخصومه في الإقليم، والإقليم كلّه خصمٌ له.   

إذن، فمأزق ولاية الفقيه والمعضلة، التي تمُرّ بها، لا ينفع معها إلّا إجراء مراجعات حقيقية نظرية وعملية، ومصارحة الذات بالأخطاء والخطايا، التي ارتكبتها طهران في الإقليم، حتى صارت دولةً منبوذةً شعبيًا وسُلطويًا. لكن يبدو هذا مُستبعَدًا في المرحلة الحالية؛ لإصرار المرشد/الولي الفقيه على المُضي قُدُمًا في ذات النهج، فلجأ إلى تبرئة نفسه أولًا من الزجّ بالشباب الشيعي الذي ذهبَ إلى سوريا (ردًّا على اتّهامات له بالتضحية بآلاف الشباب الشيعة في سوريا ثمّ سقَطَ النظام في النهاية)، ثمَّ اتّهم الجيش السوري بالتقاعس، ثمّ اتّهم الميليشيات الشيعية نفسها بالتخاذل عمَّا فيه مصلحتها، أي أنَّه آثرَ تبرئة نفسه وإحياء ولايته أو تبييض وجهه أمامَ حواضن التقليد الشيعية، آثرَ ذلك على إجراء مراجعات حقيقية تحفظ الدولة بالداخل وتنأى بها عن التدخُّل في شؤون الخارج، وفي هذا إشارة إلى نّيةِ المُضُي قُدُمًا في ذات الإستراتيجيات ونفس السياسات، على أمل أن تؤدِّي إلى نتائج مغايِرة لنتائج الماضي.   

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير