مستقبل سوريا بعد سقوط نظام الأسد والتحدِّيات في ظل عمليات إسرائيل العسكرية

https://rasanah-iiis.org/?p=37046

ترك الصراع الذي طالَ أمده في سوريا، البلاد ممزَّقة؛ بين فصائل تتناحر على السُلطة وفواعل أخرى خارجية تتنافس للتأثير على مسار مستقبل البلاد. وفي ظل التطوُّرات الأخيرة، ستُواجه المنطقة تحوُّلًا كبيرًا في دينامياتها، لا سيّما بعد تصعيد إسرائيل غاراتها الجوِّية على سوريا عقِبَ سقوط بشّار الأسد، إذ شنَّت 480 غارةً في الفترة من 8 ديسمبر إلى 10 ديسمبر 2024م، تمكَّنت خلالها من الاستيلاء على أراضٍ سورية. وفي سياق هذا الواقع المضطرِب، يشكِّل سقوط نظام الأسد وانسحاب القوّات الإيرانية وأذرعها من سوريا لحظةً فارقة، من شأنها ألّا تُعيد رسْم وجه سوريا فحسب؛ بل الشرق الأوسط برُّمته.

وفي هذا الصدد، طلَبَ وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل غاتس من جنوده تعزيز وجودهم في المناطق السورية، التي استولوا عليها مؤخَّرًا، وأعدَّ العُدَّة لإرسال تعزيزات وآليات عسكرية، على الرغم من أنَّ الأُمم المتحدة طلبت من إسرائيل التراجع فورًا، واصفةً عملياتها العسكرية انتهاكًا لاتفاقية فّض الاشتباك لعام 1974م؛ إذ أكَّد الأمين العام للأُمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، أنَّ على أطراف الاتفاقية «الوفاء بالتزاماتها، بما في ذلك إنهاء جميع أشكال الوجود غير المصرَّح به في منطقة الفصل، والامتناع عن أيّ عمل من شأنه أن يقوِّض وقْفَ إطلاق النار والاستقرار في هضبة الجولان المحتلَّة».

ومنذ إطاحة «هيئة تحرير الشام»؛ وهي تحالُف من فصائل المعارضة السورية، بنظام الأسد في 8 ديسمبر 2024م، توغَّلت القوّات الإسرائيلية إلى ما بعد هضبة الجولان المحتلَّة، وحتى بعد المنطقة العازلة منزوعة السلاح في سوريا، ودمَّرت الغارات الجوِّية الإسرائيلية معظمَ القوّات والدفاعات الجوِّية السورية. وبحسب مصادر غير مؤكَّدة، من المُحتمَل أنَّ القوّات الإسرائيلية توغَّلت إلى عِدَّة كيلومترات بعد المنطقة العازلة من الجانب السوري، ووصلت إلى بلدة بقسم، التي تبعُد حوالي 25 كم عن العاصمة السورية دمشق.

أمّا المؤكَّد، فإنَّ إسرائيل استولت فعليًا على جبل الشيخ من الجانب السوري، وعِدَّة مناطق إستراتيجية تعدّها القوّات الإسرائيلية في غاية الأهمِّية لاستقرار المنطقة، حسب زعمها. وبارتفاع يرنو عن 2800 متر، يطِلّ جبل الشيخ على المنطقة برُّمتها، فمن قمَّته يمكن رؤية لبنان وسوريا بكُلِّ وضوح، ودمشق التي تبعُد 40 كم عنه.

دخلت القوّات الإسرائيلية الأراضيَ السورية، بعد تلقِّيها أوامر من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 8 ديسمبر، حيث أمرَ الجيش بالاستيلاء على المنطقة العازِلة منزوعة السلاح الواقعة بين هضبة الجولان المحتلَّة وسوريا، التي أُنشِأت بعدما استولت القوّات الإسرائيلية على هضبة الجولان في عام 1967م. وتُظهِر صور الأقمار الصناعية خنادقَ وسواتر ترابية جديدة حُفِرت خلال الأشهر القليلة الماضية، على طول ما يُسمَّى بـ «خط ألفا»، الذي يفصل الجولان المحتلَّ عن الأراضي السورية.  وكانت إسرائيل قد ضمَّت المنطقة من جانب واحد في عام 1981م، لكنَّها لا تزال أرضًا سوريةً محتلَّة بموجب القانون الدولي. والجدير بالذكر أنَّ إسرائيل استغلَّت الفوضى لتدمير ما تبقَّى من القوّات المسلَّحة السورية، فنفَّذت مئات الغارات الجوِّية، ودمَّرت في غضون 10 أيام ما استغرقت سوريا عقودًا لبنائه.

وردًّا على هذا التوغُّل، وصَفت المملكة العربية السعودية خِطَّة إسرائيل تجاهَ هضبة الجولان، بأنَّها تعكس نوياها «لتخريب» سوريا؛ إذ أعربت وزارة الخارجية عن إدانة المملكة واستنكارها قرارَ إسرائيل بالتوسُّع الاستيطاني في هضبة الجولان المحتلَّة، واصفةً هذه الخطوة بأنَّها جزءٌ من مساعي إسرائيل لـ«تخريب فُرَص استعادة سوريا لأمنها واستقرارها» بعد إطاحة قوّات المعارضة بنظام الأسد.

مع سقوط نظام الأسد، يُسدَل الستار على حِقبة في سوريا، وتتمخَّض تحدِّيات جمَّة لمستقبلها؛ فغياب السُلطة المركزية قد يؤدِّي إلى المزيد من التفتُّت بين مناطق تسيطر عليها «هيئة تحرير الشام»، وأخرى تسيطر عليها القوّات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، ومناطق أخرى تسيطر عليها القوّات التركية، ناهيك عن التوسُّع الأخير للقوّات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية. لذا، من المرجَّح أن تتنافس الجِهات الفاعِلة المحلِّية والدولية على النفوذ؛ ما يؤدِّي إلى عدم استقرار البلاد لفترة طويلة. كما أنَّ إعادة بناء سوريا ما بعد الأسد، تتطلَّب مساعدات دولية كبيرة مع التوصُّل إلى مصالحة سياسية بين الأطياف المتنوِّعة.

ويترُك الانسحاب الإيراني فراغًا ستتنافسُ عليه بالأرجح قُوى إقليمية أخرى، تشملُ إسرائيل وتركيا وغيرهما من الدول في المنطقة. ومع غياب الدعم الإيراني، تشهد القُدرات العملياتية لـ «حزب الله» تراجعًا كبيرًا؛ ما قد يثبِّط من نفوذ الحزب داخل لبنان والمنطقة.

وتماشيًا مع هذه التطوُّرات، تطوَّرت أيضًا الإستراتيجية الإسرائيلية؛ فتعهُّد نتنياهو بأن «يغيِّر وجه الشرق الأوسط»، يعكسُ طموحًا إسرائيليًا أوسع لإعادة تشكيل الديناميات الإقليمية. وفي هذا الصدد، توضِّح عمليات إسرائيل الأخيرة من تصعيد غاراتها الجوِّية واستيلائها على أراضٍ سورية، عِدَّة أهداف تسعى إليها إسرائيل؛ أولًا: تهدُف إسرائيل للقضاء على بقايا النفوذ الإيراني، ومنْع جماعات مسلَّحة من التموضع عسكريًا قُرب حدودها، ثانيًا: قد تُقيم إسرائيل باستيلائها على أراضي سورية منطقةً عازلةً جديدة تضمن بها أمنها ضدّ تهديدات عبر الحدود. ثالثًا: بتأكيد هيمنتها العسكرية والسياسية، تسعى إسرائيل إلى إعادة التعريف بدورها أنَّها قوَّة محورية في الشرق الأوسط. وتبقِي هذه العملية العسكرية الإسرائيلية «مؤقَّتة»، ويبقى أن نرى ما هي الشروطـ التي ستقبلها إسرائيل لإنهاء احتلالها في الأراضي السورية.

ومع خروج القوّات الإيرانية وسقوط الأسد، سوف تنشأ تحالفات جديدة لملء هذا الفراغ، من المُحتمَل أن تضُمّ تركيا ودول الخليج والقُوى الغربية. لكن الصراع الدائر والاستيلاء الإسرائيلي على الأراضي، يُثيران المخاوف بشأن مآلات ذلك على المدنيين السوريين، أكان ذلك على حالات النـزوح أو تأمين الخدمات الأساسية. وقد تلجأ الولايات المتحدة وروسيا وغيرهما من القُوى الكُبرى، إلى التوسُّط في اتفاقيات لتحقيق الاستقرار في المنطقة، ومنْع المزيد من التصعيد. ولتحقيق استقرار طويل الأمد في سوريا، لا بُدَّ من تشكيل حكومة تمثيلية تستوعب جميع الأطياف العِرقْية والدينية في البلاد، ولا بُدَّ أيضًا من تظافُر الجهود الدولية نحو الاستثمار وإعادة الاعمار؛ لإحياء الاقتصاد والبنية الأساسية المدمَّرة في سوريا. وفي نهاية المطاف، يجب على دول الجوار السوري والقُوى العالمية التعاون؛ لضمان عدم تحوُّل سوريا إلى أرضٍ خصبة للتطرُّف، أو ساحة معركة بالوكالة.

عمومًا، منذ سقوط نظام الأسد، شهِدَنا تطوُّرات إيجابية، فقد تواصلت دولٌ من المنطقة وعِدَّة قُوى عالمية ومنظَّمات دولية مع الحكومة الانتقالية الجديدة في سوريا. وقد عُقِدت اجتماعات العقبة لمناقشة التطوُّرات الأخيرة في سوريا، وخرجت ببيانٍ هام، إذ قرَّر المشاركون في القمَّة «دعم عملية انتقالية سِلْمية سياسية سورية-سورية جامِعة، تتمثَّل فيها كل القُوى السياسية والاجتماعية السورية، بما فيها المرأة والشباب والمجتمع المدني، بعدالة؛ وترعاها الأُمم المتحدة والجامعة العربية، ووفق مبادئ قرار مجلس الأمن رقم 2254 وأهدافه وآلياته، بما في ذلك تشكيل هيئة حُكم انتقالية جامِعة بتوافُقٍ سوري، والبدء بتنفيذ الخطوات التي حدَّدها القرار، للانتقال من المرحلة الانتقالية إلى نظامٍ سياسي جديد، يلبِّي طموحات الشعب السوري بكُلِّ مكوِّناته، عبر انتخاباتٍ حُرَّة ونزيهة، تُشرف عليها الأُمم المتحدة، استنادًا إلى دستورٍ جديد يُقِّرهُ السوريون، وضمن تواقيت محدَّدة وفق الآليات التي اعتمدها القرار». إنَّ سقوط نظام الأسد وانسحاب القوّات الإيرانية، يشكِّلان نقطة تحوُّل لسوريا والشرق الأوسط، لكن تصعيدَ إسرائيل لعملياتها العسكرية وطموحاتها التوسُّعية يُعقِّد المسار نحو الاستقرار. وعلى الرغم من أنَّ هذه التطوُّرات قد تُضعِف القُوى المعادية، إلّا أنَّها تُطيل من زمن الاضطرابات، وتفاقُم الأزمات الإنسانية. لذلك، إنَّ دور المجتمع الدولي مهمّ جدًّا لإقامة سوريا ما بعد الأسد؛ سوريا تستطيعُ النهوض من الصراعات، وإعادة بناء نفسها دولةً موحَّدةً ذات سيادة.  

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير