زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخَّرًا السعودية، حيث التقى بولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ووقَّع عِدَّة اتفاقيات في قطاعات الدفاع والطاقة والتجارة. وذهَبَ الرئيس الفرنسي في جولة إلى العُلا، والدرعية، وحضَرَ «قمَّة المياه الواحدة»، التي عُقِدت إلى جانب مؤتمر «كوب 16» في الرياض. وتأتي الزيارة في وقت عصيب وتحدِّيات أمنية غير مسبوقة تمُرّ بها المنطقة ، ناهيك عن الأزمة السياسية الداخلية، التي يواجها ماكرون. لذا، تكشف التطوُّرات الأخيرة مدى التعاون الإستراتيجي الوثيق بين فرنسا والسعودية، والإرادة السياسية المشتركة لتوسيع نطاق علاقاتهما.
خلال الزيارة، ناقَشَ الجانبان الوضع الأمني الإقليمي، وسُبُل تعزيز الاستقرار الإقليمي، مع إعطاء الأولوية لوقف إطلاق النار، وتقديم المساعدات الإنسانية إلى غزة ولبنان. وأعلن ماكرون أنَّه وولي العهد الأمير محمد بن سلمان سيرأسان مؤتمرًا في يونيو 2025م، بشأن إقامة دولة فلسطينية، وهو أمرٌ بالغ الأهمِّية لاستتباب الاستقرار العام في المنطقة؛ نظرًا للوضع الأمني الحالي. وستقترن المبادرة بجهود دبلوماسية، لإشراك الحلفاء الأوروبيين وغير الأوروبيين.
وفي بيان مشترك صدَرَ بعد زيارة ماكرون إلى المملكة، شدَّد البلدان على ضرورة تعزيز التعاون في قطاعات مثل الطاقة والصناعة والتعدين والزراعة والرعاية الصحِّية والعلوم والتكنولوجيا. كما أعلنَ البلدان عن خارطة طريق للشراكة الإستراتيجية، ووقَّعا مذكِّرة تفاهُم لإنشاء «مجلس شراكة إستراتيجية» لتعزيز العلاقات الثنائية، الذي سيُعنى بالتنمية المُتبادَلة والأمن ومعالجة التحدِّيات العالمية، مثل تغيُّر المناخ، والحفاظ على التنوُّع البيولوجي، والوصول إلى المياه النظيفة.
تعكسُ العلاقات المتنامية بين فرنسا والمملكة، أجندةَ باريس الأوسع لتعزيز شراكاتها ونفوذها على الساحة العالمية خارجَ إطار الاتحاد الأوروبي. وقد شهِدَت التجارة الثنائية بين البلدين نموًّا مطّرِدًا في السنوات الأخيرة؛ ففي عام 2023م، بلغت صادرات المملكة من السِلَع إلى فرنسا 6.35 مليار دولار، وبلغت الصادرات الفرنسية إلى المملكة 4.23 مليار دولار. ووفقًا للتقارير، نما عددٌ الشركات الفرنسية العاملة في المملكة بأكثر من 43% في السنوات الأربع الماضية، كما وقَّع البلدان صفقات استثمارية بقيمة 2.9 مليار دولار العام الماضي؛ وعمَّقا شراكتهما الاقتصادية، من خلال مجلس الأعمال السعودي-الفرنسي.
تؤكِّد زيارة ماكرون الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية عِدَّة حقائق مهمَّة، نسردها كالتالي:
أولًا: يمُرّ المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط بتغيُّرات متسارِعة، نجمت عنها ارتدادات ستمتَدّ لفترات طويلة لم تستوعبها المنطقة بعد. فقد أدَّى إضعاف «محور المقاومة» الإيراني إلى تغيير ديناميكيات الأمن الإقليمي، وتوازُن القُوى بسرعة؛ إذ تكبَّد حزب الله وحركة حماس انتكاسات كبيرة؛ بسبب الخسائر في القيادة والقُدرات العسكرية، إلى جانب الضغوطات الاقتصادية، وسقَطَ حليف إيران الرئيسي؛ نظام الأسد في سوريا. ومع ضبابية المشهد لعواقِب هذه التغيُّرات، تتصاعد أهمِّية الدور القيادي، الذي تلعبُه المملكة في المنطقة. أمّا فرنسا، فإنَّ تعزيز علاقتها الوثيقة مع المملكة أمرٌ ضروري لحماية مصالحها الإقليمية؛ لذلك ناقشت فرنسا مع المملكة التدابير الرامية إلى تحسين الأمن والاستقرار في لبنان، وحثَّت فرنسا دول الخليج على دعْم القوّات المسلَّحة اللبنانية، ودعت إلى وقْف مبيعات الأسلحة لإسرائيل. وانتقدَ الرئيس ماكرون بنيامين نتنياهو؛ بسبب غاراته على لبنان وغزة. وفي هذا الصدد، تشارك الرياض مخاوفها مع باريس بشأن الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي، إذ تعتبران مثل هذه الأعمال مزعزِعةً للاستقرار في المنطقة، وتتعارض مع الجهود الرامية إلى تحقيق السلام المُستدام. ناهيك عن أنَّ كلا البلدين لديهما مصالح متقاربة في تعزيز الأمن الإقليمي، وضمان استقرار سلاسل التوريد الحيوية، لا سيّما في مجال الطاقة.
ثانيًا: تُشير عودة دونالد ترامب إلى السُلطة إلى احتمالية تراجُع مشاركة الولايات المتحدة في صراعات الشرق الأوسط، وهذا يمهِّد الطريق نحو عقْد صفقات دفاعية، لا سيّما مع محاولة الدول في المنطقة التكيُّف مع المشهد المتغيِّر وتنويع شراكاتها. وفي خِضَمّ هذه التطوُّرات، تعتزم فرنسا تعميقَ شراكتها الأمنية والعسكرية مع المملكة، في ظل مصالحهما المشتركة في المنطقة. وفي هذا الصدد، أورَدت بعض التقارير أنَّ الحكومة السعودية تفاوضت مع فرنسا بشأن شراء طائرات «رافال»، وعلى الرغم من عدم الإعلان رسميًا عن التوصُّل إلى صفقة رسمية، ثمَّة استعدادٌ ملحوظ للسير في الطريق نحو عقْد الصفقة. وهذا يعكس سعيَ المملكة نحو تنويع شراكاتها الدفاعية، وسط ديناميكيات جيوسياسية متقلِّبة، وتطوُّرات أمنية إقليمية، وتنامي التعاون مع القُوى الأوروبية لمعالجة التحدِّيات الإقليمية.
ثالثًا: تُعَدُّ المملكة العربية السعودية واحدةً من أكبر الدول المصدِّرة للنفط إلى فرنسا، إذ تستورد باريس كمِّيات كبيرة من النفط المكرَّر والمنتجات البتروكيماوية منها. وقد أكَّدت زيارة ماكرون على التعاون المتنامي بين فرنسا والمملكة في قطاع الطاقة، مع الاهتمام بالطاقة المتجدِّدة والتكرير والبتروكيماويات. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، يهدُف التعاون الجديد بين «أرامكو السعودية» و«توتال إنرجيز» و«الشركة السعودية الاستثمارية لإعادة التدوير | سرك»، إلى بحْث سُبُلٍ لتطوير معمل لإنتاج وقود الطيران المُستدام في السعودية. تتماشى مثل هذه المبادرات مع أهداف «رؤية 2030» للطاقة المُستدامة، وتلبِّي الطلب المتزايد على النقل الجوِّي الخالي من الكربون. وفي وقت تتسارع فيه التحوُّلات العالمية في مجال الطاقة، تعزِّز المملكة وفرنسا علاقتها في مجال الطاقة، ويتبوآن دورَ الريادة في حلول الطاقة المُستدامة. وفي ظل المخاوف المتزايدة بشأن أمن الطاقة، والحاجة إلى بدائل أنظف، فإنَّ هذه الشراكة مهمَّة، خاصَّةً أنَّ أوروبا تواجه تحدِّيات في مجال الطاقة، وتسعى إلى توسيع تنويع مصادر الطاقة.
رابعًا: تعمل المملكة على تعزيز إمكاناتها السياحية، من خلال زيادة الاستثمار في تطوير البنية التحتية، والمبادرات الثقافية، والمواقع التراثية؛ بهدف جذْب السياح من العالم، لا سيّما أنَّ المملكة تطمح لأن تُصبح مركزًا ثقافيًا وسياحيًا لافتًا على مستوى العالم. وكجزءٍ من الاتفاقيات الموقَّعة مؤخَّرًا، عِمَل البلدان على تعميق التعاون الثقافي لتعزيز التعاون السعودي-الفرنسي في الصناعات الإبداعية. وفي هذا المسعى، أطلقت «الهيئة الملكية لمحافظة العُلا» و«الوكالة الفرنسية لتطوير العُلا»، مؤخَّرًا، مشروع «فيلا الحجر»، الذي يهدُف في جوهره إلى تعزيز الدبلوماسية الثقافية على مستوى عالمي. وحافظت فرنسا على حضورٍ قوي في المجال الإبداعي العالمي، واستخدمت هذه القوَّة الناعمة استخدامًا بنَّـاءً لتوسيع نفوذها. ولدى فرنسا باعٌ طويل في الحفاظ على التراث، وتطوير البنية التحتية الثقافية ذات المستوى العالمي، بما يتوافق مع أهداف «رؤية السعودية 2030». لذا، تحتلّ هذه الشراكة الثقافية مكانةً بارزة في العلاقات الثنائية، ومن المتوقَّع أن تنمو في السنوات المقبلة، خاصَّةً أن المملكة وضعت خِطَطًا متنوِّعة لتعزيز قُدراتها السياحية. ومستقبلًا، من المتوقَّع أن تؤثِّر الشراكة السعودية-الفرنسية المتنامية على الديناميكيات الإقليمية، ففي حين تعمل هذه الشراكة على تعزيز نفوذهما الجيوسياسي، فإنَّها تعمل أيضًا على التقاء مصالحهما لمعالجة التحدِّيات المُلِّحَة، أكان ذلك التصدِّي للتهديدات الأمنية في المنطقة، أو مساعي التحوُّل إلى الطاقة المُستدامة. ومن شأن مشاركة فرنسا في مبادرات «رؤية السعودية 2030»، أن تعزِّز العلاقات الثنائية، كما أنَّ تنامي هذا التعاون الثنائي، من شأنه أن يرسِّخ أدوارهما كقوَّتين محرِّكتين نحو التحوُّل في الشرق الأوسط، وسط تسارُع التقلُّبات الجيوسياسية في المنطقة.