قام الرئيس الصيني شي جين بينغ بزيارة رفيعة المستوى إلى موسكو في مايو 2025م، لحضور عرض «يوم النصر» الروسي (إحياءً للذكرى الثمانين لانتصار الاتحاد السوفيتي على ألمانيا النازية)، مُثيرًا بذلك اهتمامًا واسعًا في الساحة الجيوسياسية. أبرزت هذه الزيارة، وهي الحادية عشرة للرئيس شي إلى روسيا منذ توليه الرئاسة عام 2012م، عُمق الشراكة الإستراتيجية بين الصين وروسيا. وجاءت في الوقت الذي كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يقوم بجولة في الشرق الأوسط، مُقدمًا ديناميات جديدة، ساعيًا إلى تعزيز الاستقرار والازدهار الإقليميين. ويُبرز تقارب هاتين الزيارتين رفيعتي المستوى الرؤى المتضاربة للأقطاب العالمية، ويكشف عن صعوبة تحقيق التوازن الذي تواجهه الدول في ظل مشهد دولي مُتزايد الاستقطاب.
حظي الرئيس شي في زيارته إلى موسكو في 07 مايو الماضي بحفاوة بالغة، أقيمت احتفالات رسمية. واستقبله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الكرملين واصفًا إياه بـ «الصديق العزيز». كانت الزيارة، التي تزامنت مع احتفالات روسيا بــ «يوم النصر»، أكثر من مجرد لفتة احتفالية، فقد كانت تعبيرًا مقصُودًا عن التضامن بين قوتين تسعيان إلى موازنة النفوذ الأمريكي في ظل تصاعُد التوترات العالمية. وأصدر الزعيمان بيانًا مُشتركًا أدانا فيه الرسوم الجمركية الأمريكية و«الإجراءات التقييدية الأُحادية الجانب غير المشروعة»، وتعهدا بتعزيز شراكتهما «اللامحدودة» التي عقدت في فبراير 2022م، وذلك قُبيل أسابيع قليلة من غزو روسيا لأوكرانيا.
بالنسبة لروسيا، كانت زيارة شي نقلةً دبلوماسيةً؛ وقد استضاف بوتين أكثر من عشرين من قادة العالم، بمن فيهم الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، والرئيس السلوفاكي روبرت فيكو. وقد استغل هذه المناسبة لإبِراز أهمية روسيا العالمية، رغم العقوبات الغربية المفروضة عليها، بسبب حربها في أوكرانيا. وقد عزّز حضور شي «ضيفًا رئيسيًا» في العرض العسكري في الساحة الحمراء هذه الرسالة؛ إذ صوّر الصين وروسيا كمدافعتين عن نظام عالمي مُتعدد الأقطاب في وجه الهيمنة الأمريكية. وتضمنت الزيارة مُناقشة قضايا حَساسة، مِثل: التعاون في مجال الطاقة، وتعثُر صفقة خط أنابيب الغاز «قوة سيبيريا 2»، وهي مُهمة جدًا لتعويض روسيا عن خسائرها في الأسواق الأوروبية.
رغم هذه الأجواء الإيجابية، لم يخلُ هذا التجمع من بعض المنغصات؛ فقد تعطل المطار وتوقفت بعض الرحلات الجوية، وأُجبرت رحلة أحد القادة القادمين للمؤتمر على تغيير مسارها. كان ذلك بسبب هجمات المُسيرات الأوكرانية على روسيا، الأمر الذي سلط الضوء على آثار الحرب الدائرة بين الجارتين. من جانبها، انتقدت وزارة الخارجية الأوكرانية، حضور قادة الدول العرض العسكري، مُعتبرة مشاركتهم تقوّض ادعاءاتهم بـ «الحياد»، كما اتهمت كييف بكين بدعم المجهود الحربي الروسي بشكل غير مُباشر، مُشيرةً إلى أسرها مرتزقة صينيين في منطقة دونيتسك الأوكرانية في أبريل 2025م.
وبينما كان الرئيسان بوتين وشي يوطدان شراكتهما في موسكو، خلقت جولة ترامب في الشرق الأوسط وضعًا جيوسياسيًا متناقضًا. فقد هدفت زيارة ترامب، التي تندرج ضمن جهوده الأوسع نطاقًا لإعادة رسم السياسة الخارجية الأمريكية، إلى تعزيز العلاقات مع حلفاء واشنطن الرئيسيين مثل: المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، مع تعزيز أجندته «أمريكا أولًا». وتمحورت زيارة ترامب في الشرق الأوسط حول إبرام اتفاقيات اقتصادية وأمنية، وأفادت تقارير أن المناقشات ركزت على إدارة الملف الإيراني، وضمان أمن الطاقة، وتعزيز الفُرص للشركات الأمريكية.
وعلى عكس زيارة شي المُخطط لها بدقة، كان نهج ترامب قائِمًا على المُعاملات التجارية، مُعطيًا الأولوية للنهج الأحادي على التعاون مُتعدد الأطراف. وقد أدت حربه الجُمركية، التي وصفها وزير الخارجية الصيني وانغ يي بـ «التنمر الأحادي»، إلى نفور دول من الجنوب العالمي وأوروبا، مما أتاح للصين فُرصة لتقديم نفسها كبديل مُستقر. وقد استغلت جولة شي المتزامنة في جنوب شرق آسيا، حيث وقّع عِدة اتفاقيات اقتصادية مع فيتنام وماليزيا وكمبوديا، هذا الاستياء، ورسخت مكانة الصين كشريك موثوق في خِضَم التوترات التجارية مع واشنطن.
تعكس زيارة شي إلى موسكو وجولة ترامب في الشرق الأوسط نهجين متباينين للقيادة العالمية: تميّز نهج ترامب بدبلوماسية الصفقات المركزة على المصالح الاقتصادية، وهذا يسير عكس نهج شي القائم على الاحتفاء بالتاريخ وتحقيق التوافق الإستراتيجي. تقوم شراكة الصين وروسيا على الضرورة المتبادلة؛ إذ ترى روسيا في الصين طوقَ نجاةٍ اقتصادي للتهرب من العقوبات الغربية، في حين تنظر الصين إلى روسيا على أنها حليف رئيس في تنافسها مع الولايات المتحدة. ويعكس رفضهما المشترك لسياسات الاحتواء الأمريكية هدفًا مُشتركًا يتمثل في تغيير النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، وهي رؤية عبّر عنها شي في عام 2023م.
ولكن مازال تقارب شي مع بوتين محفوفًا بالمخاطر؛ فوقوف بلاده إلى جانب روسيا في حربها على أوكرانيا، يقوض محاولاتها للتودد إلى أوروبا ومناطق أخرى في آسيا، حيث تتنامى الشكوك من نوايا الصين. وقد أعرب القادة الأوروبيون المتخوفون من دعم الصين لروسيا، عن ترددهم في قبول مبادرات شي بالكامل، رغم دعواته إلى تشكيل مُعارضة مُوحدة في وجه الرسوم الجمركية الأمريكية. كما أن توطيد روسيا وكوريا الشمالية اتفاقية الدفاع الموقعة بينهما في عام 2024م، يُثير مخاوف بكين من زعزعة أمنها الحدودي، مما يُعقّد حسابات شي الإستراتيجية.
وعلى عكس الصين؛ عززت زيارة ترامب للشرق الأوسط سياسة إدارته القائمة على دبلوماسية الصفقات. وقد برزت هشاشة العلاقات الأمريكية-الروسية من خلال دفعه نحو اتفاق سلام في أوكرانيا، وهو ما قاومه بوتين، وتهديداته بالتصعيد إذا لم تمتثل موسكو. كان يأمل البعض في واشنطن أن تنتهج الإدارة الأمريكية إستراتيجية «نيكسون العكسية» لإبعاد روسيا عن الصين، لكن إظهار شي وبوتين للوحدة في موسكو بدد هذه الآمال إلى حدٍ كبيرٍ. ورغم أن رسوم ترامب الجُمركية تهدف إلى إعادة التوازن التجاري، إلا أنها تُخاطر بتنفير الحلفاء ودفع الدول المحايدة نحو فلك الصين، كما يتضح من دعم ماليزيا الصريح لبكين.
تعكس الزيارتان المتزامنتان في موسكو والشرق الأوسط، أن العالم أصبحَ على مُفترق طرق. تُشير زيارة شي إلى روسيا إلى توطيد المحور الصيني-الروسي، لكنها تكشف أيضًا عن صعوبة موازنة بكين بين طموحاتها القيادية العالمية، وتحالفها الإستراتيجي مع روسيا في زمن الحرب. هذا الموقف يُقوّض مصداقيتها في أوروبا ويُعرّضها لاحتمال التورط في صراعات موسكو. على الجانب الآخر، تُسلّط جولة ترامب الشرق أوسطية، الضوء على قُدرة الولايات المتحدة على زعزعة الأسواق والتحالفات العالمية، لكنها تكشف أيضًا عن عُزلتها عندما تتبنى سياسات أحادية تنفر حلفائها.
أما الجنوب العالمي، المُحاصر بين هاتين القوتين، فالخيار لن يكون أبيضًا أو أسودًا؛ فدول مثل فيتنام وماليزيا، مع ترحيبها بالاستثمار الصيني، لا تزال حَذِرة من الاعتماد المفرط على بكين، وتسعى إلى الحِفاظ على علاقاتها مع واشنطن. أما الاتحاد الأوروبي، الذي يواجه تداعيات اقتصادية من الرسوم الجمركية الأمريكية، فقد يجد أرضية مُشتركة مع الصين بشأن التجارة، لكنه لا يزال حَذِرًا من تحالفه الإستراتيجي مع روسيا. يمضي بوتين وشي في توطيد ما وصفه الأخير بالصداقة «الفولاذية»، في حين ينتهج ترامب سياسة خارجية غير متوقعة، وفي ظل هذين النهجين المتعارضين من حيث منظورهما للقوة والاستقرار، يُعاد تشكيل النظام العالمي. وعندما نضع زيارة شي لروسيا في سِياق إحياء الولايات المتحدة لعلاقاتها مع الشرق الأوسط، نرى أنها تُشكل مُنعطفًا حاسِمًا في مسَار تشكيل النظام العالمي الجاري الآن. إنها نقطة تحول تُعاد فيها تقييم التحالفات الإستراتيجية، وتترتب عليها آثار كبيرة، خاصة على الاستقرار الدولي.