في سياق التوترات المتزايدة، زار رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا، الولايات المتحدة مؤخرًا، والتقى بالرئيس دونالد ترامب، بهدف إعادة ضبط العلاقات بين البلدين، حيث ناقش مُقترحات تجارية وصفقات معادن حيوية، بما في ذلك إمكانية شراء الغاز الطبيعي المُسال. تُعدُ هذه الزيارة خطوة نحو تحسين العلاقات الثنائية، رغم الخلافات والتحديات المستمرة، ولا سيما التهديد من الولايات المتحدة بمقاطعة القمة المقبلة لمجموعة العشرين، التي ستترأسها جنوب أفريقيا. ومع ذلك، ورغم جهود جنوب أفريقيا لتحسين العلاقات، صرح ترامب بأنه ليس لديه نية لحضور قمة هذا العام.
والجدير بالذكر هنا، أنَّ جنوب أفريقيا تُعدُ أولَّ دولةٍ أفريقيةٍ تترأس مجموعة العشرين، ويركز جدول أعمال هذا العام على النمو الاقتصادي الشامل، والأمن الغذائي، والتنمية المستدامة القائمة على الذكاء الاصطناعي، مع إعطاء الأولوية لتنمية أفريقيا في إطار الجنوب العالمي. وقبل اجتماعه مع رامافوزا، صرّح ترامب بأن قمة مجموعة العشرين لن تكون ذات قيمة دون الولايات المتحدة. وقد يُفاقم قرار ترامب بعدم حضور القمة من التوترات بين الولايات المتحدة والمنتدى، ويقوض فعالية رئاسة جنوب أفريقيا لمجموعة العشرين.
ومنذ عودة ترامب إلى سُدة الحكم، واجهت العلاقات بين الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا تحديات ونكسات مختلفة، كان هذا واضحًا خلال زيارة رامافوزا الأخيرة. ففي المؤتمر الصحافي بالبيت الأبيض، أدلى ترامب بتصريحات مُثيرة للجدل حول مزاعم «الإبادة الجماعية» للبيض والاستيلاء على الأراضي في جنوب إفريقيا، والتي رفضها رامافوزا. وبموجب قرار تنفيذي صدر في فبراير الماضي، جمدت واشنطن المساعدات الأمريكية لجنوب إفريقيا، مما يكشف عن نكسة في العلاقات الثنائية. وقد تفاقم الوضع في مارس بطرد سفير جنوب أفريقيا إبراهيم رسول من الولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك، أثارت قضية «الإبادة الجماعية» التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، انتقادات حادة من الولايات المتحدة، مما وَسع الشرخ بين البلدين. بنظرة شمولية عامة، تُمثل جنوب أفريقيا وجهة نظر الجنوب العالمي في مُعارضة الموقف الأمريكي من حرب غزة، كما تَعكس التطورات الأخيرة في العلاقات بين البلدين حجم التوترات الدبلوماسية بينهما.
وفي ظل هذه التوترات المتنامية، قرر ترامب ألا يحضر قمة مجموعة العشرين لهذا العام (موعد القمة من 22-23 نوفمبر المقبل)، وقبلها، لم يحضر وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت، اجتماع وزراء مالية مجموعة العشرين ومُحافظي البنوك المركزية. وهذا تصرف غير مألوف، إذ عادةً ما تلعب الولايات المتحدة دورًا قياديًا في مُناقشات السياسات المالية والنقدية لمجموعة العشرين. كما لم يحضر وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، اجتماع وزراء خارجية مجموعة العشرين في جوهانسبرغ، وأكد مؤخرًا أن الولايات المتحدة لن تُشارك في قمة مجموعة العشرين المقرر عقدها في نوفمبر من هذا العام. وأشار روبيو إلى أن سياسات جنوب أفريقيا «المُعادية للبيض» وأجندتها «المعادية لأمريكا» دفعت بلاده لعدم حضور القمة.
وصف وزير العلاقات الدولية في جنوب أفريقيا رونالد لا مولا، اجتماعَ وزراء خارجية مجموعة العشرين في جوهانسبرغ بأنه «ناجح»، بالرغم من تغيب روبيو، الذي أثار انتباهًا واسع النطاق. ورفض لا مولا ورامافوزا، تفسير غياب روبيو على أنه «مُقاطعة» من الولايات المتحدة للقمة. وقد قللت حكومة رامافوزا من أهمية غياب روبيو، للتأكيد بأن اجتماع مجموعة العشرين «نجاح دبلوماسي» ولتخفيف حدة التوترات بين البلدين. وقال رامافوزا: «من المهم أن تستمر الولايات المتحدة في لعب دور رئيس… أريد تسليم رئاسة مجموعة العشرين للرئيس ترامب في نوفمبر، وقلت إنه بحاجة إلى التواجد هناك. لا أريد تسليم رئاسة مجموعة العشرين إلى كرسي فارغ». وانتقد زعماء المعارضة الجنوب أفريقية مثل: جوليوس ماليما، رامافوزا لاستسلامه لضغوط ترامب وأساليبه القصرية. وأردف رامافوزا: أن «قمة هذا العام سترُكز على تعزيز الآفاق الاقتصادية لأفريقيا»، مُشيرًا إلى أن رئاسة جنوب أفريقيا تقع في إطار الاستثمار من مكانة البلاد العالمية ومعالجة الانتقادات الداخلية.
وفي ظل احتمالية مُقاطعة واشنطن لقمة العشرين، تواجه مكانة جنوب أفريقيا الدبلوماسية اختبارًا حاسمًا؛ إذ قد يُقوّض تغيب الولايات المتحدة عن القمة شرعيتها ونفوذها، لكن يُمكن لجنوب أفريقيا استغلال هذه اللحظة لتعزيز علاقاتها مع دول الجنوب العالمي الأوسع، من خِلال اعتبار انسحاب الولايات المتحدة ضمنيًا مؤشرًا على تراجُع غربي أوسع عن المشاركة في المنتديات متعددة الأطراف. ومع ذلك، حتى الآن اكتفت حكومة رامافوزا تثبيط أهمية تهديدات ترامب، مُعتبرة إياها سابقة لأوانها، في محاولة لإبقاء القنوات الدبلوماسية مفتوحة وتشجيع ترامب للعدول عن قراره.
ويتسق تهديد ترامب بعدم المشاركة في قمة مجموعة العشرين مع نهجه الدبلوماسي الذي لطالما فَضّل الحوارات الثنائية الشخصية على المنتديات مُتعددة الأطراف. وتعكس قراراته السابقة، مثل الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، واتفاقية باريس للمناخ، واتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، شكوكه الكبيرة تجاه المؤسسات والأُطر الدولية التي لا تتوافق مع أجندته. ولن تُضعف هذه الخطوة فعالية مجموعة العشرين كمنصة حوكمة عالمية فحسب، بل ستُشير أيضًا إلى تراجُع القيادة الأمريكية عن المبادرات متعددة الأطراف الرئيسة. إضافة إلى ما سبق، سيُعرقل انسحاب ترامب الجهود الجماعية الرامية إلى مواجهة التحديات العالمية الملحة، لا سيما في وقتٍ أصبح فيه التعاون مُتعدد الأطراف ضَرورة مُلحة في ظِل تصاعُد التهديدات، وتنامي التحديات التقليدية وغير التقليدية. والآن وفي هذا المسار، لا بُد من التوصل إلى توافق في الآراء في ظل ما يشهده العالم من تحديات جماعية مثل التغير المناخي، وأزمات الصحة العالمية، وعدم الاستقرار الاقتصادي. فهذه القضايا المعقدة تتجاوز الحدود الوطنية وتتطلب استجابات مُنسقة مقرونة بمسؤولية مُشتركة. لذلك، قرار ترامب بالتغيب عن القمة سيقوض حتمًا الحالة التوافقية التي تشكلت من هذه القمة، فدون مُشاركة الولايات المتحدة، ستكون القرارات أقل فعاليةً على أرض الواقع، لا سيما أن الولايات المتحدة لا تزال أكبر اقتصاد في العالم، ومصدرًا رئيسيًا للمساعدات والاستثمارات الأجنبية، وتتمتع بنفوذ هائل في هياكل الحوكمة العالمية.
تعكس التطورات الأخيرة اتساع الفجوة في مقاربات التعامل مع التحديات العالمية، وعُمق الشرخ الجيوسياسي بين شمال العالم وجنوبه، كما تُفاقم هذه التطورات من استقطاب المشهد الدولي، مما يُقوّض آمال التعاون الشامل. ومع ذلك، قد يفتح غياب القيادة الغربية القوية الباب أمام قوى أخرى مثل: الصين وروسيا والهند والبرازيل لتوسيع نفوذها الإستراتيجي. وقد انتقدت الصين بالفعل انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية وتغيبها عن قمة مجموعة العشرين، واعتبرت ذلك دليلًا على الأُحادية الأمريكية، وترى بكين ذلك جزءًا من محاولة واشنطن لإعادة تشكيل النظام العالمي بما يخدم مصالح الولايات المتحدة، وليس من خلال التعاون الشامل. فضلًا عن ذلك، شدّدت الصين خلال الاجتماع الأخير لوزراء مالية مجموعة العشرين، على الحوار بدلًا من المواجهة في النزاعات التجارية، وحذّرت الانزلاق نحو التشرذم الاقتصادي. وقد استغلت بكين نفوذها الدبلوماسي، وعلاقاتها الاقتصادية القوية لمواجهة السياسات القسرية الأمريكية، مُصوّرةً نفسها قوةً بديلةً تدعم التعاون والاستقرار والإصلاح المؤسسي، وتتخذ موقعًا إستراتيجيًا مُعارضًا للولايات المتحدة ونهجها الحمائي الأحادي.
وأخيرًا، في السياق الحالي، يُشكل تهديد ترامب بمقاطعة قمة العشرين مُنعطفًا مُحتملًا. فرغم أن القرار بالمقاطعة تمخض عن خِلافات مع جنوب أفريقيا، إلا أنه يُرسل رسالةً أوسع نِطاقًا إلى دول الجنوب العالمي، ويُثير مخاوف بشأن نهج الولايات المتحدة في منتديات مثل مجموعة العشرين. لذلك ستشهد دول الجنوب العالمي ميلًا متزايدًا إلى رسم سياساتها بناءً على مصالحها الجماعية وأجندتها وأولوياتها، مما قد يُؤدي إلى تشكيل أُطر تعاون بديلة تتحدى المؤسسات والروايات التي يهيمن عليها الغرب.