توازن استراتيجي محسوب.. رد روسيا على الضربات الأمريكية لمنشآت إيران النووية

https://rasanah-iiis.org/?p=37860

جاء ردّ روسيا على الضربات الأمريكية الأخيرة التي استهدفت منشآت نووية إيرانية قويًا ومُتوَقَّعًا في نبرته، لكن خلف هذا الخطاب الحاد يكمُن توازن دقيق في الحسابات الاستراتيجية. فقد سارعت موسكو إلى إدانة الهجوم، واعتبرته انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، ووصفت الضربات بأنَّها تصعيدٌ متهوِّر يهدِّد الأمن العالمي. غير أنَّ مضمون الرد الروسي كان أكثر تحفُّظًا من لهجته، في إشارة إلى معضلة استراتيجية مألوفة: تأكيد تحالفها مع طهران، والتموضُع في مواجهة واشنطن، مع الأخذ بالحسبان عُزلة دبلوماسية متزايدة وهواجس متعلِّقة بمنع الانتشار النووي.

في بيانٍ رسمي، وصفت وزارة الخارجية الروسية الضربات بأنَّها «انتهاك صارخ» لميثاق الأُمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن، محذِّرةً من أنَّ الهجوم ألحق «ضررًا بالغًا» بمصداقية «معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية |NPT»، وآليات الرقابة التي تعتمدها الوكالة الدولية للطاقة الذرِّية. ودعت موسكو إلى عقْد جلسة طارئة لمجلس الأمن، مطالبةً بعودة فورية إلى المسار الدبلوماسي. كما وصف البيان التحرُّك الأمريكي بأنَّه «غير مسؤول»، مشيرًا إلى خطر تفاقُم عدم الاستقرار الإقليمي. وفي موسكو، أكَّد الرئيس فلاديمير بوتين مُجدَّدًا هذا الموقف خلال لقائه بوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، واصفًا الضربات بأنَّها «عدوان غير مُبرَّر على الإطلاق»، واتّهم الولايات المتحدة بالدفع نحو نشوب نزاٍع أوسع. كما أشار إلى تقارير تُفيد بوجود مناقشات أمريكية-إسرائيلية بشأن تغيير النظام في طهران، واحتمال استهداف القيادات الإيرانية. وعلى الرغم من تأكيده أهمِّية نزع فتيل التوتُّر، لم يُعلِن عن أيّ مبادرات ملموسة في هذا السياق.

وفي الأُمم المتحدة، اتّهم السفير الروسي فاسيلي نيبينزيا واشنطن بأنَّها «فتحت صندوق باندورا»؛ أي بوابة الشرور، وشبَّه مبرِّرات الضربات بتلك التي سبقت غزو العراق عام 2003م. كما رفَضَ التبريرات الأمريكية واعتبرها واهية، محذِّرًا من مخاطر تطبيع العمليات العسكرية الأُحادية الجانب. من جهته، شدَّد نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف على متانة العلاقة بين موسكو وطهران، لكنَّه تجنَّب تقديم تفاصيل دقيقة بشأن أيّ دعْمٍ مباشر، مكتفيًا بالتأكيد على «حق إيران في الدفاع عن نفسها»، وأهمِّية الحلول الدبلوماسية.

وعلى الرغم من الخطاب المتشدِّد، فإنَّ الرد الروسي العملي بقِيَ محدودًا بشكلٍ ملحوظ؛ ما يعكس تراجُع نفوذ موسكو الإقليمي؛ فخسارة نظام الأسد في سوريا شكَّلت ضربةً لموضعها الاستراتيجي في الشرق الأوسط، والآن تأتي التطوُّرات في إيران لتضاعف هذا التحدِّي. وعلى الرغم من أنَّ طهران لا تزال شريكًا مهمًّا، إلّا أنَّها تواجه ضغوطًا متزايدة، والضربات الأمريكية -بصرف النظر عن مدى الضرر الذي ألحقته ببرنامجها النووي- سلَّطت الضوء على محدودية قُدرة روسيا على التأثير في مجريات الأمور بالمنطقة. وهو ما يُثير، بالنسبة لبعض المراقبين، تساؤلات من جديد حول موثوقية موسكو كحليفٍ أمني في لحظات الأزمات.

وتزداد الصورة تعقيدًا بسبب موقف روسيا الحذِر من مسألة الانتشار النووي؛ فقد صرَّح مباشرةً بعد الضربات وزير الخارجية سيرغي لافروف، مؤكِّدًا من جديد موقف بلاده بأنَّ روسيا تؤيِّد حق إيران في الاستخدام السِلْمي للطاقة النووية، لكنَّها لا تدعم أيّ توجُّه نحو امتلاك قُدرات نووية عسكرية، وهو خط فاصل لا تزال موسكو متمسِّكةً به. فاستقرار إطار معاهدة عدم الانتشار النووي يشكل أولوية استراتيجية لروسيا، ليس فقط كمعيار دولي، بل كصمّام أمان في مواجهة عدم اليقين النووي قُرب حدودها. وكان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قد أثار سابقًا احتمال مراجعة وضْع بلاده غير النووي ردًّا على ما تواجهه من تهديدات أمنية، وهي إشارات تُعزِّز بالنسبة لموسكو خطورة أيّ تراجُع في مصداقية الاتفاقيات الدولية الخاصة بمنع الانتشار.

وقد تكون محدودية الرد الروسي ناتجة عن رغبة في الحفاظ على هوامش دبلوماسية مستقبلية، بقدر ما هي انعكاس لسعي موسكو إلى تجنُّب مزيد من العُزلة الدولية. إذ تخضع روسيا أصلًا لتدقيق دولي كبير بسبب حربها في أوكرانيا، وقد ترى في التهدئة الحالية وسيلة للحفاظ على قدْرٍ من مكانتها في النقاشات الجارية بشأن الحد من التسلُّح والعقوبات. وفي الوقت ذاته، تمنحها اللغة الغامضة، كإشارة بوتين إلى «دعْم الشعب الإيراني» دون توضيح، مساحةً للمناورة دون التزام بتصعيد فعلي. هذه المقاربة الحذِرة ليست جديدة على السياسة الخارجية الروسية، التي اعتادت المزج بين خطاب صارم وتحرُّكات محسوبة، خصوصًا في البيئات المتوتِّرة أو غير المستقرَّة. وكثيرًا ما قدَّمت موسكو نفسها كمدافعٍ عن القانون الدولي والتعدُّدية القطبية، بينما تسعى لحماية مصالحها من داخل المؤسسات القائمة. وفي الحالة الإيرانية، يبدو أنَّها تتبنَّى المسار ذاته: تضامُن سياسي، دون مواجهة مباشرة أو التزامات مُكلِفة.

خلاصة القول في هذا الصدد، يتّسِم رد روسيا على الضربات الأمريكية لإيران بمزيج من الإشارات الاستراتيجية، والصياغات القانونية، والحذر الدبلوماسي. فعلى الرغم من الخطاب الداعم لطهران والناقد لواشنطن، فإنَّ غياب الإجراءات العملية يعكس مدى تعقيد الموقف الروسي. فبين الحفاظ على شراكاتها الإقليمية، والحرص على منظومة منْع الانتشار النووي، والسعي إلى بقاء شرعيتها الدولية على الرغم من معارضتها للنفوذ الأمريكي،  تجِد موسكو نفسها أمام هامش مناورة ضيِّق. ومع تطوُّر الأحداث، يبدو أنَّ روسيا تركِّز على حماية مصالحها الأساسية، مع الإبقاء على إمكانية تعديل موقفها، وهي استراتيجية قد تمنحها مرونة، لكنَّها تترك أيضًا مجالًا للتشكيك في مدى التزامها الحقيقي من قِبَل بعض الأطراف الإقليمية.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير