«الناتو» على مفترق طرق.. أبرز مخرجات قمَّة لاهاي 2025م

https://rasanah-iiis.org/?p=37863

في قمَّة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، التي عُقِدت في لاهاي في الفترة من 24 إلى 25 يونيو 2025، أصدر أعضاء الحلف الـ32 إعلانًا مُوجَزًا شدَّدوا فيه على تقاسُم الأعباء، والدفاع الجماعي، والتحدِّيات الأمنية المشتركة. جمعت قمَّة «الناتو» لعام 2025م نحو 45 من رؤساء الدول ووزراء الخارجية والدفاع، إلى جانب 6000 مندوب، في حدثٍ يُعَدُّ الأول من نوعه، الذي تستضيفه هولندا.

وكان أبرز ما خرجت به القمَّة التزام تاريخي بزيادة كبيرة في الإنفاق الدفاعي؛ حيث وافق الحلفاء على تخصيص 5% من الناتج المحلِّي الإجمالي سنويًا للدفاع بحلول عام 2035م، وهو ارتفاع كبير عن المُستهدَف السابق البالغ 2%. وينقسم هذا الإطار الجديد للإنفاق إلى مكوِّنين: 3.5% للنفقات الدفاعية «الأساسية» (بما في ذلك الأفراد والمعدات والجاهزية العملياتية)، و1.5% لجهود أوسع تتعلَّق بالأمن والصمود مثل: الأمن السيبراني، وحماية البنية التحتية، والبحث والتطوير، والدفاع المدني. وأكَّد قادة «الناتو» في بيانٍ مشترك أنَّ هذه الالتزامات ستعزِّز «قُدرات الردع والدفاع في ظل تصاعُد التحدِّيات الأمنية»، لا سيّما، تلك التي تأتي من روسيا والتهديدات الإرهابية. وعلى الرغم من أنَّ هذا الالتزام يعكس نيّة واضحة، إلّا أنَّ الجدوى الاقتصادية له لا تزال محل نقاش، حيث أعربت دول مثل إسبانيا عن تحفُّظات؛ بسبب الضغوط على الميزانية. وتتفاوت الإرادة السياسية بين الدول، إلّا أنَّ القرار يعكس استجابةً للتهديدات المُتصَوَّرة عن روسيا، وقد يؤدِّي إلى تحفيز نمو قطاع الصناعات الدفاعية.

بوجهٍ عام، شكَّلت قمَّة «الناتو» حدثًا بارزًا في مسار التحالف عبر الأطلسي، حيث تناولت قضايا الإنفاق الدفاعي، ودعْم أوكرانيا، والدور القيادي للولايات المتحدة في ظل رئاسة دونالد ترامب. وُصِفت هذه القمَّة بأنَّها «تحوُّلية» و«تاريخية»، إذ أرست معايير جديدة، وأعادت تأكيد الالتزامات بالدفاع الجماعي. وقد نصَّ إعلان القمَّة على أنَّ المساهمات المباشرة في دعْم الدفاع والصناعة الأوكرانية، ستُحتسَب ضمن نسبة الـ5% من الإنفاق؛ ما يعني دمْج أمن أوكرانيا في استراتيجية «الناتو». ويهدُف هذا الإدراج إلى ضمان استمرار دعْم كييف، على الرغم من أنَّ كيفية التنفيذ قد تختلف؛ ما قد يؤثِّر على تقاسُم الأعباء داخل الحلف.

ظهر ترامب، الذي كان سابقًا من أبرز المنتقدين لـ«الناتو» بسبب تدنِّي مستويات الإنفاق، بموقفٍ أكثر مرونة بعد القمَّة، واصفًا هدف الـ5% بأنَّه «انتصارٌ كبير»، مؤكِّدًا على التزام الولايات المتحدة. وقد جاءت هذه القرارات نتيجة ضغوط أمريكية، خاصَّةً من ترامب، إلى جانب التهديدات الروسية المُتصَوَّرة، حيث حذَّر الأمين العام لـ«الناتو» مارك روته، من أنَّ روسيا قد تكون قادرةً على استخدام القوَّة العسكرية ضدّ الحلف خلال خمس سنوات. وعلى الرغم من أنَّ هذا الالتزام يعكس استجابة استراتيجية للتهديدات الأمنية، إلّا أَّن القيود الاقتصادية والخلافات السياسية تُشير إلى أنَّ تنفيذه سيكون تحدِّيًا. وقد شدَّد المستشار الألماني فريدريتش ميرتس على أنَّ هذه الزيادة ضرورية لمواجهة روسيا، وليس فقط لإرضاء الولايات المتحدة؛ ما يدُلّ على تحوُّل في أولويات الأمن الأوروبي.

كما حذَّر القادة الأوروبيون من أنَّ أيّ تقليص كبير في الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا، سيُجبَر الحلفاء على سدّ الفجوات الأمنية الناتجة عن هذا الفراغ المُحتمَل. وفي تصريحات علنية، وصَفَ وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو اجتماع لاهاي بأنَّه «قمَّة ترامب»، معتبرًا أنَّ التزام الحلف المتجدِّد بالإنفاق الدفاعي، جاء كنتيجة مباشرة لمطالب الرئيس المتكرِّرة. وخلال المؤتمر الصحافي، وصَفَ ترامب تعهُّد الإنفاق بأنَّه «نصرٌ عظيم»، معربًا عن أمله في أن يُخصَّصَ جزء كبير من هذه الزيادة لشراء معدّات عسكرية أمريكية. وقد أعرب مسؤولون من الحلف، بمن فيهم الأمين العام لـ«الناتو» مارك روته، عن شكرهم للقيادة الأمريكية على دورها في التوصُّل إلى هذه النتيجة.

أكَّدت القمَّة أيضًا على المبدأ التأسيسي لـ«الناتو»، وهو التضامن الجماعي. وجدَّد القادة التزامهم الراسخ بالمادَّة الخامسة من ميثاق الحلف، مؤكِّدين أنَّ أيّ هجوم على حليف يُعَدُّ هجومًا على الجميع. وعلى الرغم من أنَّ ترامب أثار الشكوك في البداية حول هذا الضمان، قائلًا: «الأمر يعتمد على تعريفك للمادَّة الخامسة»، إلّا أنَّه أعلن في ختام القمَّة: «أنا متمسِّك بها.. ولو لم أكُن كذلك لما كُنت هُنا».

ومن المواضيع الرئيسية الأخرى، استمرار دعْم الحلف لأوكرانيا، وإن لم يشمل ذلك منحها عضوية فورية في الحلف. وعلى الرغم من أنَّ البيان حذَفَ من أجل الإيجاز في القول الجُملة التفصيلية أنَّ انضمام أوكرانيا للحلف «مسار لا رجعة فيه»،  إلّا أنَّه أكَّد على أنَّ «أمن أوكرانيا يُسهِم في أمننا ] أي أمن الحلف[»، وتعهُّد بدعم الحلفاء لأوكرانيا ضمن انفاقهم الدفاعي المشترك. وأوضح الأمين العام روته لاحقًا أنَّ البيان المكوَّن من أربع فقرات ركَّز فقط على القضايا الأساسية، ولا يعكس أيّ تغيير في المبادئ المتعلِّقة بمستقبل أوكرانيا في الحلف. كما تناولت القمَّة جهود الحلف الجماعية لتعزيز التنقُّل العسكري، وتجديد المخزونات الاستراتيجية، وتحسين تكامل الصناعات الدفاعية. وشُدِّد على المبادرات المشتركة في مجالات التكنولوجيا والابتكار، بوصفها عناصر أساسية في تنفيذ خِطَط الردع والدفاع لدى «الناتو».

في الوقت ذاته، هُمِّشت قضايا أخرى كان من المتوقَّع تناولها في القمَّة، مثل: أزمات الشرق الأوسط، باستثناء الصراع الإيراني-الإسرائيلي، والتحدِّيات الأمنية المرتبطة بالصين؛ وذلك من أجل صبّ جُلّ الاهتمام على التضامن عبر الأطلسي والردع. وقد أبرزت الإجراءات الأخيرة للاتحاد الأوروبي (مثل السماح للدول الأعضاء بتجاوز حدود الدَّين لتمويل الإنفاق الدفاعي، وإطلاق صندوق قروض دفاعية بقيمة 150 مليار يورو) مساعي أوروبا لتحمُّل المزيد من المسؤولية عن أمنها. ويعتزم قادة «الناتو» مراجعة التقدُّم المُحرَز نحو تحقيق هدف الـ5% بحلول عام 2029م وإجراء التعديلات اللازمة، لكن الرسالة الأساسية كانت واضحة: ثمَّة صفقة أمنية أطلسية جديدة تتشكَّل، تتمحور حول التزامات جريئة وتجديد الثقة بمبدأ الدفاع المشترك.

وكرَّر قادة «الناتو» نبرة المديح للولايات المتحدة؛  فقد شكَرَ الأمين العام روته ترامب علنًا على أنه «جعل أوروبا تدفع مبالغ ضخمة» للدفاع، واصفًا إياه مازحًا بـ«الأب». فيما استخدم قادة آخرون شعارات ذات طابع مديحي، إذ قال رئيس ليتوانيا على سبيل المثال، إنَّه اقترح شعار «لنجعل “الناتو” عظيمًا من جديد». وباختصار، كانت أجواء القمَّة أكثر ودِّيةً بكثير، مقارنةً بما شهدته قمَّتا 2017م و2018م، في إشارة إلى أنَّ حكومات الحلف تسعى لكسب ودّ ترامب. فهل يشير ذلك إلى تحوُّلٍ حقيقي في موقف ترامب من التحالف؟ رُبَّما جزئيًا فقط. فمن جهة، منَحَ تأكيد ترامب العلني على المادَّة الخامسة ودعمه لنتائج القمَّة نوعًا من الطمأنينة، بعد أشهرٍ من الغموض. ومن جهة أخرى، يحذِّر العديد من المراقبين من أن لهجته الهادئة قد تكون تكتيكية في المقام الأول؛ فإطراؤه المفاجئ للحلفاء يتناقض بقوَّة مع سنوات وصف فيها «الناتو» بأنَّه حلف «مفلس» أو «عفا عنه الزمن».

مثَّلت القمَّة مرحلةً جديدة في مسار التحالف عبر الأطلسي، إذ أنَّ إدراج الدعم المرتبط بأوكرانيا ضمن نسبة الإنفاق الدفاعي المُتَّفَق عليها يعزِّز الاتساق الاستراتيجي لـ«الناتو»، فيما يمنح تغُيّر لهجة ترامب هُدنةً مؤقَّتة من التوتُّرات السابقة. ومع ذلك، فإنَّ الوفاء بهدف الـ5% سيتطلَّب من الحكومات الأوروبية تجاوُز عقبات اقتصادية وسياسية جسيمة، فيما يبقى التزام ترامب على المدى البعيد موضع تساؤل. وبينما يتطلَّع حلف الناتو إلى قمَّته المقبلة في تركيا عام 2026م، فإنَّ قُدرته على تنفيذ هذه الالتزامات ستكون عاملًا حاسمًا في الحفاظ على وحدته وردْع التهديدات الناشئة.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير